الجن.. في القرآن الكريم

الجن.. في القرآن الكريم

محمد حلمي الشافعي

كاتب

الجن بين الحقيقة والخرافة (7)

سورة الصافات

وفي سورة (الصافات) يقول الله تعالى:

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (الصافات:159-161)

افتتحت السورة الكريمة بقَسَم يؤكد على أن الله تعالى إله واحد. والقسم استشهاد واستدلال على صدق القضية. فلو أن أحد أقسم قائلاً: والله إني فعلت كذا.. فمعنى ذلك أنه يستشهد بالله ذي العلم والقدرة على أنه صادق فيما قال، ولو أنه كذب لعلم الله كذبه، وهو قادر على عقابه إذا حنث. ولا بد أن يكون السامع متفق مع الحالف في استشهاده هذا.. وإلا كان اليمين لغوًا لا قيمة له. والله تعالى عندما يُقسم فإنه يدلل للمخاطبين بالقرآن على صدق جواب القسم، ويكون ذلك بتقديم حقيقة كونية أو حدث مستقبلي سوف يقع.. ليكون دليلا يُقاس عليه للتعرف على صدق ما ورد في القسم.

وفي هذه السورة أقسم الله بالجماعة الإسلامية المحمدية الأولى وترابُطها القوي، ووقوفها في وجه أعداء الله، واستمساكها بالمنهج القرآني.. كدليل على وحدانية الله تعالى الذي تكونت هذه الجماعة بعونه، وتحت رعايته، وجاهدت باسمه.

وأشارت الآيات إلى أن المصطفى وأصحابه وخلفاءه المجددين.. شهبٌ كتلك التي تحمي السماء الدنيا من أن يخترقها أحد. إنهم شهب روحانية، يحمون سماء الوحي الإلهي من التحريف والتزوير.. بفعل الشياطين المتمردة على منهج الله..من المنافقين والكفار والمشعوذين والدجالين.

وأنذرت الآيات الكافرين من عذاب الله الأليم، ووجهت أنظارهم إلى ما جرى للأمم السابقة التي رفضت أنبياءها، ووقفت في سبيل دعوتهم.. مثل أقوام نوح وإبراهيم وموسى وإلياس ويونس ولوط. وأخبرت السورة بما ينتظر الأمة الإسلامية من خير عظيم. واستنكرت السورة تقديس الأصنام والأوثان وقُوى الطبيعة، وتقديس البشر أو الملائكة على وجه الخصوص، وتستنكر القول بأن لهذه الكائنات صلةَ بُنُوةٍ أو قرابة بالله تعالى. فهناك من زعم أن لله ولدا، أو أن الملائكة بنات الله!!

كيف تكون لهذه المخلوقات صلة نسب بالله تعالى، وهم جميعا يعلمون أنهم خاضعون لقهر الله وسلطانه؟ إن الملائكة جند الله المسخرون لأمره، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وقوى الطبيعة مخلوقات تسير وفقا لقَدره.. ولا تملك من أمرها شيئا. وقادة الضلال وسدنة الأوثان ومن على شاكلتهم من الزعماء الفاسدين والقادة المضلين ورجال الدين المنحرفين.. يعلمون جميعا أنهم خلق ضعيف عاجز أمام قدر الله وسُنته الجارية في مخلوقاته.. من حياة وموت ومرض وصحة وجوع وشبع.. وإن تظاهرت بغير ذلك فخداع وكذب، ولكنهم في حقيقة أمرهم وقرارة أنفسهم يعلمون ذلك. فالجن جميعا خلق الله -جل وعلا- وليس له صلة نسب عضوي بأحد من خلقه.

وأشارت الآيات إلى أن المصطفى وأصحابه وخلفاءه المجددين.. شهبٌ كتلك التي تحمي السماء الدنيا من أن يخترقها أحد. إنهم شهب روحانية، يحمون سماء الوحي الإلهي من التحريف والتزوير.. بفعل الشياطين المتمردة على منهج الله..من المنافقين والكفار والمشعوذين والدجالين.

سورة فصلت

وفي سورة (فصلت)، وتسمى أيضا (حم السجدة)، قال تعالى:

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِين (فصلت: 26-30)

تناولت السورة إعراض بعض الناس عن القرآن الكريم، وتغاضيهم عما يحمله لهم من تبشير ووعيد، وساقت بعض مظاهر قُدرة الله تعالى وخضوع الكون كله لمشيئته، وضربت أمثلة لأمم سابقة عارضت منهج الله فنزل بهم عقاب استأصل شأفتهم ونجى الله المؤمنين ونصرهم.

وكشفت الآيات عن السبب الرئيسي وراء فساد هؤلاء فقالت إن أئمة الشر وجدوا لهم أصحابا شجعوهم على الفساد.. بالنفاق والمديح وتزيين الباطل، وسلَّموا لهم قيادهم، واكتفوا بالتصفيق والهتاف لهم. وقنعوا ببعض الفتات من مُتع الدنيا، فاستحقوا جميعا عقاب الله: الأئمة منهم والمقلدون.

ولقد سعى المفسدون من أعداء الإسلام أن يصرفوا الناس عن نبع الماء الشافي من أمراض الكفر، النبع الذي يحمل لهم سر الحياة الأبدية السعيدة. أرادوا أن يصرفوا الناس عن كلام ربهم وهديه وتوجيهاته وتعليمه في كتابه المجيد وقرآنه العظيم.. فحرَّضوا شياطينهم وأذنابهم، وتواصوا فيما بينهم على إثارة الضجيج والضوضاء كلما تواجدوا في مجلس للقرآن الكريم.. حتى لا يدعوا فرصة للحاضرين أن يتدبروا معانيه. وهي فكرة شيطانية لا ريب.. دبرها القادة ونفذها الأتباع. ويوم الحساب يدفع الجميع حسابهم .. من خطَّط ومن نفّذ ومن ضلَّ بضلالهم. وتحت لهيب النار يود الضحايا لو كان كبار المدبرين (الجن) وأذنابهم من المنافقين (الإنس) تحت الأقدام تشفيًّا منهم وإذلالا لهم.. جزاء وفاقا لجرائمهم.

وإذا رجعنا إلى أحداث التاريخ، وجدنا زعماء الكفر من أمثال أبي لهب وأقرانه من زعماء قريش (الجن).. كانوا يحرضون صعاليكهم (الإنس) ليسخروا ممن يقرأ القرآن. ويحولوا بينهم وبين من يريد الإنصات لهم.. إما بالتكذيب أو بالهزء أو بالتهديد والوعيد. ويوم (بدر) نزل عقاب الله بهم جميعا، فلم ينج منه صناديد قريش، ولم يسلم منه الأتباع والموالي. لقد هلك يومئذ جِنُّهم وإنسهم. فقد لقي رؤوس الكفر مصرعهم مع الأذناب والأتباع.

ولنتذكر جيدًا أن السورة تعلن في آياتها الأولى لمن يخاطبهم القرآن:

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ… (فصلت: 7)

ولو كان الجن من خلق يختلف عن البشر لما صلح للنبي أن يخاطب الجن ليقول لهم أنه بشر مثلكم.. إلا إذا كان الجِن صنفا من البشر. وإذا اقتصر الخطاب على الإنس وحدهم فأين بلاغه للجن؟ وكيف يعرفون أنهم مكلفون بالاستماع إلى القرآن والعمل بما جاء فيه.. والخطاب لا يشملهم؟ وكيف يدخلون الإسلام.. وكتابه لا يخبرهم شيئا ولا يوجه إليهم حديثا.. اللهم إلا التهديد بالنار والوعيد بالعذاب؟!!

سورة الأحقاف

أما سورة (الأحقاف) فقد تحدثت عن الوحي القرآني، وفنّدت عبادة الأوثان، بناء على أن الإله الذي يستحق العبادة والطاعة والمحبة.. ينبغي أن يكون إلها خالقا رازقا قديرا عزيزا. أما الأصنام فهي جمادات لا يعترف بها عقل، ولا سند لها من كتاب سابق، ولا دليل عليها من تجربة إنسانية. إن المعبود الذي لا يملك إجابة دعاءـ أو دفع بلاء، أو هداية ضال.. لا جدوى منه.

والوحي المحمدي ليس أمرًا مبتدعا، فقد جاءت الرسل من قبل لكل الأقوام، ومنهم قوم موسى، وكان لهم كتاب مثيل للقرآن.. إماما ورحمة، وذكرت السورة ثواب الذين استقاموا على منهج الله، وعقاب الذين تنكروا لفضل الوالدين وأنكروا وعيد الله وحسابه.. فتقول:

أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون (الأَحقاف: 19-20)

يقول بعض أدعياء العلم أو المتعالمين إن الجن حقا مكلَّفون بعبادة الله واتباع رسول الإسلام، وإنهم إذا أخفقوا في تحقيق المطلوب فجزاؤهم النار تماما كالبشر، ولكنهم إن أطاعوا وعبدوا الله وأصلحوا فيكفيهم من الأجر أن ينجوا من النار، ولا يدخلوا الجنة!!! ما قدروا الله حق قدره .. إذ يتطاولون على عدله ورحمته، وينسبون إليه هذا الحيف والظلم المبين!! وها هي الآيات هنا تقرع آذانهم أنه (لكلّ درجات مما عملوا).. ومجرد النجاة من العذاب ليست درجات؛ و لَيُوَفيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ .. وليس من الوفاء مجرد النجاة من النار؛ و هُمْ لا يُظْلَمُونَ . أوليس من الظلم أن تُهدر أعمالهم ولا ينالون جزاء إلا مجرد النجاة من النار؟

إن الجن والإنس سواء في نيل الدرجات؛ سواء في توفيتهم أعمالهم؛ سواء في نصيبهم من عدالة الله ورحمته. وفي مواضع أخرى من القرآن الكريم نجد الدلائل البينة على أحقية الجن في النعيم وحسن الجزاء، كما أن لهم استحقاقهم من العقاب إن هم أجرموا.

وقصّت السورة أيضا ما جرى لبعض الأقوام من عقاب أليم نتيجة اغترارهم بقوتهم وعلمهم، فأهلكهم الله، ولم تنفعهم تلك النعم التي جحدوها، ولم تنقذهم آلهتهم الباطلة من الهلاك. وقصّت السورة أيضا مثلا من الأمم العاقلة الذين نفعتهم الذكرى، وتفهَّموا آيات الله، واستجابوا للحق لما قرع آذانهم.

إنهم جماعة يعرفون الكتاب، ذوو خبرة بدين سماوي.. مرّوا ذات يوم بمكة، وسمعوا عن النبي القرشي.. محمد بن عبد الله الهاشمي، وبلغهم ما يُنزله به قومه من اضطهاد وأذى، وكيف يحولون بينه وبين الناس بكل سبيل، فأرادوا أن يلقوه ويسمعوا منه، وتقابلوا معه خفية.. بعيدا عن أعين قريش، وسعوا إلى خارج مكة تحت ستار الظلام. وتلا عليهم النبي الكريم بصوته العذب الندي آيات من التنزيل السماوي.. من القرآن المجيد. وأنصت القوم بإجلال وأدب، وتلقت قلوبهم الواعية كلام الله من فم نبيّه بما يستحق من التقدير، فأخذ بمجامع عقولهم، ونفذ من فوره إلى أفئدتهم، وعرفوا صدقَه وحقيقتَه ومصدره. ومضوا في طريقهم مجتنبين أهل مكة.. وقد وطدوا عزمهم على أمر ما.

إن هذا النفر الجليل.. هو الرعيل الأول من الأنصار، وهم الجناح الثاني مع المهاجرين.. الذين حلَّق بهم الإسلام في أجواء العالم، وحملوا مسئولية نشر هدي السماء تحت قيادة المصطفى . نعم إنهم النفر العظيم الذين سجل القرآن والتاريخ أمجادهم.. وفازوا برضى الله ومغفرته، ونَجوا ونجّوا قومهم من عذاب أليم.

تكشف لنا أقوالهم -كما أبلغنا العليم الخبير- أن القوم كانوا على معرفة بموسى وبالكتاب الذي أُنزل عليه. ويرى بعض رجال التفسير أنهم كانوا من أهل نصيبين بالشام أو نينوى من العراق. وأنهم سمعوا بأن نبي آخر الزمان قد ظهر في مكة.. وأنه جاء برسالة السماء التي تحيي الموتى وتجدد السماء والأرض. ولا بأس بهذا القول، ولكن قلبي يحدثني بأن سياق السورة يتضمن نبأً غيبيا عظيما.. يُمنَّ فيه الله على نبيه الكريم بذلك الفضل الكبير. اسمعوا ماذا تقول السورة:

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الأَحقاف: 30-33)

أي .. وتذكر يا محمد وقت أن سُقنا إليك نفرا. والتذكير هنا تنبيه إلى فضل الله وتوفيقه. والتنكير لكلمة “نفر” لتعظيم شأنهم.

ويتلخص النبأ القرآني في اقتناع ذلك النفر من الجن بصدق الرسول ، وأن رسالته سماوية المصدر، إلهية المضمون. وعزمِهم الفعلي المؤثر على دعوة قومهم إلى ما آمنوا به. ويطمئن القلب -أشد الاطمئنان- إلى أن هذا النفر الكريم.. هم وفد “يثرب” الذين جاءوا مكة في موسم الحج. وسمعوا من الرسول ، ووفقهم الله إلى أن يلتقوا به بعيدا عن عيون قريش، حتى لا يحتكوا بهم ويحدث بين الفريقين ما لا تحمد عقباه. وعاد هذا النفر النبيل إلى المدينة ليبشر أهلهم من الأوس والخزرج.. أن نبي آخر الزمان الذي طالما توعدهم به جيرانهم اليهود.. قد ظهر في مكة في شخص النبي الهاشمي وعاد النفر إلى مكة في موسم الحج التالي وقد تضاعف عددهم، وما هي إلا فترة وجيزة حتى أقاموا جماعة إسلامية في يثرب، ودَعوا الرسول ليهاجر إليهم، ويفر بدينه من مشركي مكة.. الذين قطعوا على أنفسهم العهد أن يقتلوه، ويقفوا حجر عثرة في طريق دعوته. إن هذا النفر الجليل.. هو الرعيل الأول من الأنصار، وهم الجناح الثاني مع المهاجرين.. الذين حلَّق بهم الإسلام في أجواء العالم، وحملوا مسئولية نشر هدي السماء تحت قيادة المصطفى . نعم إنهم النفر العظيم الذين سجل القرآن والتاريخ أمجادهم.. وفازوا برضى الله ومغفرته، ونَجوا ونجّوا قومهم من عذاب أليم. وكان صَرْفُ الله لهم لسماع القرآن فألاً حسنًا وبشارة طيبة للرسول الكريم.. تستحق الإشادة والذكر، وتستوجب الحمد لصاحب النعمة جل وعلا. وبعد هذا توجَّهت السورة إلى الرسول تطمئنه وتشد أزره.. فقالت:

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ.. (الأَحقاف: 36).

وكلُّ رسل الله بلا  استثناء من أولي العزم، ودَعْك مما يقول به المساكين الذين لا يفقهون حكمة الله وسُننه.. فيزعمون أن فلانا وفلانا هم أولو العزم وسواهم ليس كذلك. الله أعلم حيث يجعل رسالته، وما اصطفى لهذه المهمة الشاقة إلا رجال صِدقٍ من أُولي العزم. وهذا التوجيه الإلهي متكرر في القرآن المجيد ليربط على قلب المصطفى، ويطمئن فؤاده إلى ذكر الله وإن طال الانتظار لبعض الوقت. جاء في موضع آخر بعد ذكر ثمانية عشر رسولا. آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة.. قول الله تعالى:

أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ (الأَنعام: 91).

مع أنه كان خيرتهم وخاتمهم. وصبر الرسول وجماعته صبرًا جميلا. وصدق الله رسوله البشرى. فما هي إلا لحظات بمقياس التاريخ.. إلا وهلك أعداء الله، وقام العهد الجديد ينير الدنيا ويملؤها خيرًا وسعادة وسلامًا. وأطلقت السورة وصف (الجن) على ذلك النفر -سواء كانوا من أهل يثرب أو من غيرها.. لسببين: الأول -أنهم استتروا من أهل مكة عند لقائهم بالنبي ، والثاني -لأنهم من الصفوة المختارة الذين يندر لقاء أمثالهم في زمنهم، بل وفي كل زمن.

Share via
تابعونا على الفايس بوك