الشاعر الزاهد أبو العتاهية

الشاعر الزاهد أبو العتاهية

أبو جلال المغربي

لطالما جاد التاريخ علينا في مختلف العصور بشخصيات تمسكت بالفضيلة، حاملةً لواءها، وصادحة حناجرها بالحق، معتمدة على مقوماتها الذاتية المحدودة وما وهبها الله من ملكات فكرية لنشر الخير والصلاح بين الناس، مستثمرةً إياها لإيصال رسالة الفضيلة وصوتها وبث روح الحياة في مجتمعات اسُتبدلت فيه القيمُ، وخرست فيه الألسنُ، وعجزت فيه صفوة المجتمع على أداء ما عليها من واجب ومسؤولية.

نتناول في هذا المقال إحدى هذه الشخصيات القيمة التي بلورت رؤيتها ولبّت نداء ضميرها الحي، في زمن سادته مفاهيم مقلوبة ونظرة معاكسة لما هو سائد لدى غالبية أبناء مجتمعها؟؟ ومدى التضحية والمعاناة التي تكابدها هذه الشخصيات نتيجة ثباتها على الحق والفضيلة، وبسبب نزوعها إلى الخروج على الواقع الأليم.

أبو العتاهية (130-211 هـ) هو إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني، والمكّنى بأبي إسحاق، والشهير بلقب أبي العتاهية، شاعر وصانع وزاهد كرّس مواهبه الشعرية للدفاع عن الفضائل وترسيخها، وآمن بصدق مقاصد توجهه، ثابتًا على الموقف، ناشدًا التغيير رغم ما واجهه من تحديات ومظالم.

ولد في بلدة تدعى (عين التمر) جهة الكوفة سنة 130هـ/748م بين عائلة فقيرة كانت تكسب قوتها من صناعة الخزف وبيع الجرار. عايش مخاضات عصره السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية منذ صغره إلى شبابه، فتبلورت رؤيته لحال المسلمين وانحطاطهم وفتن زمانهم، ولا شك أن هذه الظروف من العوامل الهامة واللبنات التأسيسية في تكوين شخصيته ونموها، والتي ألقت بظلالها على حياته ومن حولها فيما بعد. امتهن صناعة الخزف وبيع الجرار، ومع هذا لم يتخلف عن حضور ومتابعة مجالس الحكمة والأدب والشعر والنهل من معين المعرفة. صقلته هذه التجارب وتملكته موهبة شديدة في نظم القصائد والتغني بها، فصار موهوبًا  بالشعر يتذوقه ويقرضه، فنال بذلك إعجاب الكثيرين الذين كانوا يترددون إليه لشراء ما صنعه من فخار الخزف، وقد أوردت بعض المراجع التاريخية في هذا الباب أن الأحداث والمتأدبين كانوا يأتونه، وهو جرّار، فينشدهم أشعاره، فيأخذون ما تكسر من الخزف فيكتبونها فيها (كتاب الأغاني).

انتقل أبو العتاهية إلى بغداد وسكن فيها وتاجر ببيع الجرار، فعُرف فيها بلقب الجرار، وعلت مكانتُه بين الناس بسبب نوعية وغزارة أشعاره وتأثيرها الفعال، مما جعله يحظى برضى حكام عصره، ينشدهم مما تجود به قريحته من شعر. ومما يجدر التنبيه إليه هو أنه لم يتخذ الشعر مكسبًا للعيش والاسترزاق كما كان حال العديد من شعراء عصره المتملقين للدراهم والعطايا من الأمراء والخلفاء، وإنما كان يتخذ من حرفته مورد رزق له، مما جعل خصومه يعيبونها عليه تحقيرًا وازدراءً!

لقد عانى أبو العتاهية الكثير من شباك الحبائل التي أُريد له أن يقع فيها محاولةً لإقصائه وكبت صوته. سُجن وذاق الأمرين بسبب بعض آرائه ومواقفه، وقد أنشد في وصف تجربته:

أيا ويحَ نفسٍ، ويحَها، ثم ويحها

أما مِن خلاص من شِباك الحبائلِ؟

.

أيا ويحَ عيني قد أضرَّ بها البكا

فلم يُغن عنها طِبُّ ما في المـَكاحلِ

حاول أبو إسحاق (أبو العتاهية) أن ينعزل عن البلاط ورجالاته، ويبتعد عن فخاخ خصومه المتربصين به، وبعد فترة تنسّك وبدت عليه سِمات الزُّهد، وسار على هذا النهج متخذًا من شعره دعوة لإصلاح المجتمع والتزهد في زخرف الحياة وملذاتها الفانية. فمن بين معالم زهده وصدق طويته ما أوردته كثير من المراجع من روايات أثبتت تحوله المفاجئ إلى زاهد عابد، حيث نقرأ في أحدها ما يلي: “تنسّك أبو العتاهية ولبس الصوف..!!” كما ورد في روايات أخرى أنه في فترة زهده أمره الرشيد أن ينشد له شعرًا في الغزل، فامتنع؟؟ فسُجن بسبب ذلك. وفي رواية أخرى أيضًا ورد فيها: “أقسم أبو العتاهية ألا يتكلّم سَنَةً إلا بالقرآن وبالشهادتين”.

تعددت الكتابات التي اهتمت بأبي العتاهية وملابسات سجنه، فمنهم من ذهب رأيُه أن ذلك بسبب توجهه نحو الزهد وتزايد المتعاطفين معه والمتابعين له ولزهدياته القصائدية، وهذا في نظر هذه الكتابات أقوى سبب لإبعاده من أوساطه الشعبية المتجاوبة معه حتى لا تتأثر بآرائه مع ما في زهدياته من تلميحات تَعتِبُ على الملوك تَرَفهم وتعاليهم، وتُذكِّرهم بتساويهم في الآخرة بالبسطاء والمساكين؟؟ وهذا دليلٌ كاف في تحليل الباحثين إذ يرى فيه الملوك والأثرياء ما يقلل من هيبتهم في أعين الناس ويكسر مباهاتهم المتعالية.. ونقتبس من أبيات أبي العتاهية في هذا المضمار ما يلي:

يا من تشرّف بالدنيا وطينتها

ليس التشرّف رفع الطين بالطين

.

إذا أردت شريف الناس كلّهم

فانظُرْ إلى ملكٍ في زيّ مسكين؟؟

.

هذا الذي عَظُمت في الناس هَيْبَتُهُ

وذاك يصلُح للدنيا والدينِ؟؟

وفي مقطع آخر:

ماذا ترجى بقوم إنْ هُمُ غضبوا

جاروا عليك، وإن أرْضيتهم مَلّوا

,

وإن نصحتَ لهم ظنّوك تخدَعُهم

واستثقلوك كما يُستثقل الكَلُّ

,

فاستغنِ بالله عن أبوابهم كرمًا

إنّ الوقوف على أبوابهم ذُلُّ

لم تنحصر دعوة أبي العتاهية الإصلاحية في طبقة دون أخرى إذ توجه بقصائده المؤثرة إلى جميع الشرائح الاجتماعية، ينشد منها الصلاح ويبرز العيوب السائدة متبنيًا قضايا الضعفاء والمحرومين والمظلومين، دفاعًا ونصرة لحقوقهم. ومن أشعاره في ذلك:

أخي قد أبى بخلي وبخلك أن يرى

لِذي فاقةٍ مني ومنك مواسيَا

.

كِلانَا بَطينٌ جَنْبُهُ ظاهرُ الكِسَا

وَفي النّاسِ مَن يُمسِي وَيُصْبحُ عارِيَا

وأيضًا:

وَأَرَى المـَكَـاسِبَ نَزْرَةً

وَأَرَى الضَّرُورَةَ فَاشِيَهْ

.

وَأَرَى غُمُومَ الدَّهْرِ رَائِحَةً

تَمـرُّ وَغَـادِيَهْ

.

وَأَرَى المـَرَاضِعَ فيهِ عَنْ

أَوْلادِهَا مُتَجَافِيَـهْ

.

وَأَرَى اليَتَـامَى وَالأَرَامِلَ

فِي البُيُوتِ الخَـالِيَهْ

.

يشكون مجهدة بأصوات             ضعـــــــــــــــــاف عــــــــالـيــــــــــــه

.

مَن يُرتجى في الناس                   غيرَك للعيون الباكيـه

.

مَن للبطون الجائعات                  وللجسوم العـــــــاريه

.

يا ابنَ الخلائفِ لا فُقــــــــــــد          تَ ولا عدِمْتَ العافيـــــهْ

ألقيتُ أخبـاراً إليـك

من الرّعيةِ شافيهْ

.

ونصيحتي لك محضةٌ          ومودّتي لك صافيـهْ

ومن زهديات أبي العتاهية الشعرية المعبِّرة عن ميولاته الصوفية نقتبس له:

قَطّعْتُ مِنْكِ حبَائِلَ الآمالِ

وحطَطْتُ عن ظهرِ المطيِّ رحالِي

.

ووَجَدْتُ بَرْدَ اليَأسِ بَينَ جَوانحي

وأرحْتُ مـن حَلِّي ومن ترحالِي

.

الآنَ عَرَفْتُكِ يا دُنْيا؟ فاذهَبي

يا دارَ كُلِّ تَشَتُّــتٍ وَزَوَالِ؟؟

.

وفي مطلع آخر:

يَا خَاطِبَ الدُّنْيَا إلى نَفْسِهَا

إِنَّ لَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ عويلْ

,

مَا أَقْتَلَ الدُّنْيَا لِأزواجـها

تعدّهم عدًّا قتيلاً قتيلْ

.

أسئْلُ عن الدنيا وعن ظلها

فإنّ في الجنّة ظلاً ظليل

اتُّهم أبو العتاهية في عصره بالزندقة وأفتى بهذا بعض مشائخ عصره مشككين في مقاصده واعتقاده، لعلهم ينالون من مكانته بين الناس، وأشار كثير من مخالفيه إليه بالهرطقة وعزو تفكيره إلى مذهب الفلاسفة الجاحدين للبعثِ والجنة والنار؟؟ وفي رده على مزاعم خصومه أكثر من دليل على بطلان ما يتهم به حيث أنشد:

فلـــو أنّا إذا متنـا تُركنا

لكان الموت غايةَ كل حيِّ

.

ولكنّا إذا متنا بُعِثْنا

ونُسأَلُ بعده عن كل شيءِ

وفي رد آخر:

ألا إنّ لي يومًا أُدانُ كما دِنتُ

ليُحصي كتابي ما أَسأتُ وأحسنتُ

.

ألم ترَ أنَّ الأرض منزِلُ قُلعةٍ

وإن طالَ تعميري عليها وأزمنتُ

وفي انتقاده لمشائخ عصره:

يا ذا الذي يقرأُ في كتـبهِ

ما أمَـرَ الله  وَلا يَعْمَلْ

.

قد بيَّنَ الرحمـنُ مقتَ الذي

يأمرُ بالحقِّ ولا يفعلْ

.

مَنْ كانَ لا تُشْبِهُ أفْعَالُهُ

أقْوالَهُ  فصَمْتُهُ أجْمَـلْ

لقد اتخذ الشاعر الزاهد من منظوماته الشعرية منبرَ وعظٍ للمجتمع بجميع فئاته وطبقاته حاكمًا ومحكومًا، وهذا يفسر نظرته وموقفه في قول الحق وتبليغ العظة بالكلمة الطيبة، وتأكيدًا لموقفه من الإنسان الذي يراه واحدًا في الجوهر مجرِّدًا إياه من الألقاب الفخرية التي قد تجعله يتعالى على الناس تحقيرًا كما هو حال كثير من المجتمعات. ومن الأخبار بالغة الدلالة على قوة أشعاره في التأثير على النفوس مع ما تحمله من نبرة وعظ وتحريك للعاطفة ما حدث من مشهد أثناء وقوفه بين يدي الرشيد، حيث ورد أنه في أيام سجنه أخرجه الخليفة ليسمع من شعره وينشد الغزل. وكان الرشيد محاطًا بثلة من المغنّين من حوله ليغنوا له ما يسمعونه من أبي العتاهية، لكن الشاعر الزاهد نظم لهم من الشعر ما يذكِّرهم بالآخرة ويحذِّرهم من الغفلة؟؟ فلما سمع الرشيد ذلك أخذ يبكي وعيناه تنهمران دمعًا. وإن دلّت هذه الرواية على شيء فإنما تدلُّ على قوة زهديات قصائد الشاعر.

وعلاوة على ما ذكر من زهده وتنسكه في مختلف الكتابات القديمة والمعاصرة، بين مادح ومنتقد لسيرته، يبقى أن نذكر أن أبا العتاهية لم يزكِّ نفسه أو يتفاخر بزهده ادعاءً أو مكابرةً وإنما اعتبر نفسه إنسانًا بسيطًا ككل الناس يتملكه ما يتملكهم من ميولات ونوازع، إلا أنه يبرز فارقًا وحيدًا بينه وبينهم ألا وهو مجاهدته للنفس تزهيدًا، كما نقرأ له عن نفسه ونكران ذاته:

أَلا مَن لِنَفسي بالهَوى قَد تَمادَتِ

إِذا قُلتُ قَد مالَت عَنِ الجَهلِ عادَتِ

.

تَزاهَدتُ في الدُنيا وَإِنّي لَراغِبٌ

أَرى رَغبَـتي مَمزوجَـةً بِزَهادَتي

وفي الأخير أقول لقد صوّر لنا هذا الشاعر الزاهد حالَ عصره أحسن تصوير وهو عصر ما بعد خير القرون كما ورد عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا ما أقرّ به الشاعر حينما أنشد:

طغى الناس من بعد النَّبي محمـدٍ

فقد دُرِستْ بعد النَّبيِ الشرائعُ

.

وصارت بطونُ المـرمِلاتِ خميصةً
وأيتامُها منهم طريدٌ وجائعُ

.

إن بطونَ المـُكثراتِ كأنّـما

يُنقنِقُ في أجوافِهِنَّ الضفـادعُ

.

فما يعرف العطشانُ من طال رَيُّهُ

ولا يعرف الشّبعانُ مَن هو جائعُ

.

توفي أبو العتاهية ببغداد سنة 211هـــ/626م، وكان قد أوصى أن يُكتب على شهد قبره مقطعًا من زهدياته لتكون عبرة وموعظة وهي:

أُذُنُ حَـيٍّ تسمَّعي

اسمعي ثمّ عِي وَعــي

.

أنــا رهْنٌ بمَصرَعـي

فاحذرِي مثلَ مصـرعِي

.

عِشتُ تِسعينَ حِجَّةً

أسلمـتْني لمـَضجَعِي

.

كَم ترى الحـيَّ ثابتـــًا

في ديـار التزعزعِ

,

ليس زادٌ سِـوَى التُّقى

فخُذِي منه أو دَعِي

المراجـع:

* “أخبار أبو العتاهية” – ابن عماد الثقفي أحمد بن عبيد الله.      * “أبو العتاهية في شعره وأخباره” –للمعاصر برانق محمد أحمد.     * “الأغاني” – أبو الفرج الأصفهاني.

* “أسطورة الزهد عند أبي العتاهية” للدكتور محمد عبد العزيز الكفراوي، القاهرة: دار نهضة مصر.    * “ديوان أبي العتاهية” – بيروت: دار الكتب العلمية.

* “الأنوار الزهدية في ديوان ابي العتاهية” – دار الكتب بمصر.    * كتابات المستشرق “غولدتسيهر”.

Share via
تابعونا على الفايس بوك