تميز الإسلام عن سائر الأديان
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(220)

إذن فبعد مرور ثلاثة عشر قرنا انكشف اليوم للعالم صدق القرار القرآني الذي أعلن أن أضرار الخمر أكثر من نفعها، وقد تحقق هذا وثبت علميا. والذين يتمتعون بعادة قبول كل ما هو خير وحسن ولا يكترثون بما في مجتمعهم من تقاليد وعادات وأفكار ومبادئ.. شرعوا الآن يهتمون بإصلاح أخطائهم، والله تعالى أعلم إذا كانوا سيفلحون في مساعيهم هذه أم أن أصحاب العادات والتقاليد والأفكار الدينية القديمة هم الذين سيتغلبون. إلا أنه قد أصبح من الواضح البيّن أن هذه المساعي والبحوث العلمية الجديدة تشكّل دليلا قاطعا على أن تعاليم القرآن الكريم تتفوق تفوقا عظيما على تعليم الديانات الأخرى كلها.. حتى أن العالم قد احتاج إلى البحث لمدة أربعة عشر قرنا ليعرف حقيقة بعض الأحكام الإسلامية والتي عارض فيها الأديان كلها، وبعد هذا البحث الطويل والمضني، وبعد كل هذه المتاعب توصل العالم إلى أن ما يقوله الإسلام هو الصحيح.

وأود الآن بيان أن الإسلام لا يتفوق على جميع الأديان والحركات المهتمة بأخلاق الناس من حيث تعليمه في صدد الخمر فحسب.. بل يتفوق عليها من حيث تأثير تعليمه في أتباعه في هذا الشأن. فمن درس أحوال مدمني الخمر دراسة فاحصة، أو تعامل معهم، يدرك جيدا أن مدمن الخمر يتعذر عليه التخلي عن هذه العادة. فمن خصائص الخمر التي تميزها عن المسكرات الأخرى أن مدمنيها إدمانًا شديدا يولعون بها وَلَعًا جنونيا ينتقل بالوراثة إلى أولادهم، ولا يجدون راحة ما لم يكونوا في ثمالة وسكر، ولا يرتدعون عن ارتكاب أشنع الجرائم للحصول على الخمر، فكفُّ الإسلامِ أتباعَه عن تعاطي الخمر ليس بأمر هيّن.

لقد بيّنت من قبل أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي نهى أتباعه عن الخمر وتعاطيها نهيا رائعا مصحوبا بالدليل والحكمة، أما الأديان الأخرى فهي لا تنهى أتباعها عن الخمر، بل إن بعضها قد أدخل الخمر في طقوسها الدينية. إنني أرى من الضروري بيان أنه على الرغم من ترخيص وأمر بعض هذه الأديان بتعاطي الخمر.. إلا أن زعماءها وقاداتها لما رأوا أضرار الخمر أدركوا أن الناس لو استمروا في شربها هكذا فإن الشعوب سوف تنهار صحيا وخلقيا. فنجد في التاريخ، منذ بداية العالم، رجالا دعوا الناس إلى التقليل من استخدام الخمر والاعتدال في تعاطيها في كل حال. إن تاريخ البلاد الشرقية كلها، وهي البلاد التي كانت حاملة لواء الحضارة والمدنية في العصور القديمة، شاهد على أنه منذ أقدم العصور لم ينفك علماء الدين والفلاسفة والمشرعون في الهند وإيران والصين والشام ومصر واليونان وقرطاجة يبذلون جهودهم لإبعاد الناس عن السكر. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كل ما حصل أن امتنع بعض الناس عن تعاطي الخمر لفترة، ثم اندفع الجميع إلى إنعاش أرواحهم بماء الحياة هذا. خذوا على سبيل المثال أمريكا، كم من جهود بذلتها الحكومة هناك لكفّ الناس عن شرب الخمر! ولكن لما كانت قلوب الناس فارغة من الإيمان، وليس وراء النهي عن الخمر سوى قانون حكومي، لذلك فشلت هذه المحاولات، ومات الآلاف لأنهم _شفاءً لغليلهم إلى الخمر_كانوا يشربون الكحول الذي يحتوي على مزيج من السموم. فهلك كثير من المتعاطين وأصيب كثير بالعمى. وعمل كثير من الأمريكان في تهريب الخمر من الخارج. وسنّت الحكومة قانونا يمنع الحصول على الخمر إلا بتصريح من طبيب، فعمد كثير من الأطباء إلى تقاضي المال نظير إعطاء شهادات طبية تصرح لحامليها بالحصول على الخمر، للعلاج، وكان آلاف الأطباء يعيشون على إصدار هذه الشهادات، وجنوا منها ثروات كبيرة.

يبين هذا الحادث مدى تأثير الإسلام على قلوب الناس، فبينما هم في مجلس الشراب قد ثملوا من تعاطي الخمر.. يأتيهم شخص بخبر عن تحريمها، فيسكبونها دون أن يتحروا عن حقيقة الخبر، هذا ليس أمرا عاديا

وإذن لم تؤدّ جهود أحد من هؤلاء الفلاسفة والمفكرين والواعظين والمشرعين في أي بلد إلى التزام الناس بالتقليل من تعاطي الخمور وفاء لهذه الأفكار المضادة للخمر. فلو أن جماعة قللت من تعاطي الخمر فإن غيرها سدّت هذا الفراغ وأكثرت من تعاطيها، وبقيت الخمر على مكانتها في المجتمع لا يزعزعها أحد.

الآن تعالوا نقارن هذا بما كان يتمتع به الإسلام من تأثير ونفوذ على أتباعه فيما يتعلق بالقضاء على تعاطي الخمر. لقد ظهر الإسلام في وقت لم يكن في الدنيا رواج كبير للعلوم. كانت العلوم اليونانية بعد بلوغها الذروة قد توارت في زاوية الخمول نتيجة لمساعي القسس المسيحيين، ولم يكن يعرفها إلا قلة من الناس. وكانت آسيا الصغرى خاصة، التي كان لها سهم كبير في ترقية هذه العلوم تغطيها ظلمات الجهل. أما الفلسفة الهندية فكانت في طريقها إلى الزوال. أما فارس فكانت تنحط أخلاقيا وعلميا. وأما العرب فكانت حالهم سيئة ومؤسفة للغاية. و كانت القراءة والكتابة هي أكبر علم عند عرب الحجاز، وكان الواقفون على هذا الفن منهم قلّة. أما علم الأخلاق لديهم فكان يتمثل فيما نظمه الشعراء في قصائدهم، وكان كل ما عندهم من علم الطب هو ما كانت تحكيه العجائز من وصفات طبية عائلية على مر العصور. وعلم الأخلاق الذي ذكره الشعراء يقول إن الخمر تحسن أخلاق الإنسان وتجعله شجاعا وجوادا. وكان العرب يهتمون بهذين الخلقين.. الشجاعة والكرم، ويرون أن علم الأخلاق يرتكز على هاتين الصفتين. وكان علم الطب عندهم يحثهم على أن كأسا من الخمر علاج لكل داء.

فلم تكن العرب، بناء على علومهم، كارهين للخمر، بل كانوا مولعين بها. وكان كل عربي مدمنا للخمر، بحيث كان شرب الخمر هو شغلهم الشاغل في حياتهم اليومية، اقرءوا شعر العرب، قلّما تخلو قصيدة من ذكر الخمر وشربها ومجالسها. قال طرفة بن العبد، وهو من شعراء الطبقة الأولى في جمال لغته وسمو أفكاره بين العرب:

فإن تَبْغِني في حلقة القوم تُلْفِني

وإن تَقْتَنِصْني في الحوانيت تَصْطَد

>

كريم يروّي نفسه في حياتـه

ستعلم إن متنا غـدا أيُّنـا الصَّدي

أي إن أردت لقائي فسوف تجدني في مجلس الشورى للقوم-رغم صغر سنه، وقد مات في العشرين-وإذا أردت أن تضمن لقائي ففي حوانيت الخمر. أنا كريم شريف أروي نفسي من الخمر في حياتي، وبعد الموت ستعرف من منا العطشان. ولم يكن طرفة يقول أي كلام، بل كان يقول ما يفعل. عندما هجا طرفةُ في بعض قصائده ملكَ العرب عمرو بن هند، غضب عليه الملك وأمر واليه على نجران أن يقتله وهو لا يزال في عنفوان الشباب. فلما أسَرَه طلب منه أن يختار الطريقة التي يموت بها، فاختار أن يوضع معه الكثير من الخمر فيشرب منها، وأثناء ذلك ينزفون الدم من أحد عروقه حتى الموت.

ويقول أبو محجن الثقفي يوصي ابنه:

إذا متّ فادْفِنّي إلى أصل كرمة

تُرَوِّي عظامي بعد موتي عروقُها

>

ولا تَدْفنَِنّي في الفلاة فإنني

أخاف إذا ما مِتّ ألاّ أذوقها

.. يريد الشاعر أن يُدفن عند شجرة عنب حتى يرتوي من خمر عصيرها، ويخشى إذا دفن في أرض قفر أن يُحرم من ذوق الخمر (الشعر والشعراء لابن قتيبة).

وعلاوة على كلام شعراء العرب فإننا نجد في لغتهم ما يدل على ولعهم الشديد بالخمر. ففي اللغة العربية يجد الإنسان أسماء كثيرة للخمر بحيث يتحير من كثرتها، ولا تجد نظيرا لذلك في لغة أخرى. والحضارة العربية شاهدة على أن العربي لم يكن خاملا في تعاطي الخمر؛ بل سبق العالم كله في هذا المضمار. جاء في الموسوعة البريطانية: “يبدو أن الناس منذ قديم الزمان يعرفون صناعة الخمر، فكان العرب في زمن الظلام يصنعون الخمر”(تحت كلمة الخمر). وتدل هذه الشهادة التاريخية على أن العرب كانوا سبّاقين للأمم الأخرى فيما يتعلق بصناعة الشراب وتعاطيه. وقد أصبحت الجزيرة العربية سوقا وحيدة في العالم للخمر المعتق شديد التأثير.

في مثل هذه البلاد بُعث سيدنا محمد ، وهذه هي الأمة التي أراد كفّها عن شرب الخمر. فما هي الأساليب التي اتبعها لتحقيق هدفه؟ وما هي النتيجة؟ هذا حادث تاريخي بهر العقول وأدهش الحكماء العقلاء. إلى هؤلاء القوم الذين كانوا لا يكادون يفيقون من سكرة الخمر، ويرونها الوسيلة الوحيدة لتسليتهم.. إلى هؤلاء القوم خرج النبي في يوم من الأيام يبلغهم رسالة الله بكلمات وجيزة، ولكنها واضحة بيّنة، فقال: ما دامت مضار الخمر أكثر من منافعها لذلك حرّمها الله عليكم من الآن، وعلى كل مسلم أن يجتنبها، فيمتنع عن صنعها وبيعها وشرائها وشرابها وسقيها. وبسماع هذا الأمر، خضعت رؤوس هؤلاء المولعين بالخمر طاعة، ولم يخرج من فم أحد منهم كلمة احتجاج، وإنما تقبَّل الأمر في انشراح صدر، ولم يقرب بعد ذلك كأس الخمر من شفته! إنهم لم يطالبوا بمهلة طويلة أو قصيرة، ولم يسألوا عن شرب قليل أو كثير.. لأن الرسول قد سبق وقال لهم أن ما يحرُم كثيره يحرُم قليله أيضا. فلا يحتاج الرسول إلى إلقاء خطب طويلة لتوضيح الأمر لهم، ولا لترسيخ مضارها في أذهانهم، لأن الإسلام قد صقل أذهانهم، وخلّصهم من التعصب والأنانية حتى كانت أخطاؤهم تتراءى لأعينهم تلقائيا. فلم يكونوا بحاجة إلى خطاب خطيب أو لصور الفانوس السحري، وإنما تكفيهم إشارة وجيزة وكلمة قصيرة إلى الحق، حتى يتضح وينكشف الأمر لهم تماما. كانت نفوسهم هي واعظهم، وكانت خلايا مخهم هي الشاشة التي يستطيعون بكل سهولة أن يروا على صفحتها مشاهد السّكر والعربدة والهمجية التي تنجم عن تعاطي الخمر. كانوا لا يحتاجون إلى صور كاذبة مزورة، وإنما تكفي الصور الحقيقية لهدايتهم. والحادث التالي خير مثال لبيان ما تركه هذا الأمر الإلهي من تأثير عليهم.

يروي أنس الأنصاري خادم رسول الله  (ص) أن أناسا كانوا يشربون الخمر في بيت أبي طلحة، وكنت ساقيهم. فبدءوا يترنحون من الثمالة، فنادى منادٍ أن الخمر قد حُرّمت، فقال بعض القوم: ليذهب أحدنا ويعرف صحة الخبر. وقال آخرون: لا، بل نهريق الخمر أولاً ثم نتحرى عن الخبر. وأمروني بكسر آنية الشراب وإراقة ما فيها، فكسرت جرة الشراب بالعصا، ولم يقترب هؤلاء من الخمر بعد ذلك (مسلم، الأشربة؛ ومسند أحمد ج3 ص189).

يبين هذا الحادث مدى تأثير الإسلام على قلوب الناس، فبينما هم في مجلس الشراب قد ثملوا من تعاطي الخمر.. يأتيهم شخص بخبر عن تحريمها، فيسكبونها دون أن يتحروا عن حقيقة الخبر، هذا ليس أمرا عاديا. إن الأمم المدمنة على الخمر تستطيع أن تدرك أهمية هذا الحادث أكثر من غيرها، ذلك لأنه ما دام الذين لا خبرة لهم بتعاطي الخمر يندهشون ويتحيرون من هذا الحادث لهذه الدرجة، فإن الذين لهم خبرة في هذا المجال لا بد أن تكون قلوبهم أكثر إدراكا لأهميته وعظمته. قارنوا هذا التأثير مع تأثير الأديان والحضارات الأخرى.. ألا تجدون بينهما بعد السماء عن الأرض؟ اليوم وقد أثبتت العلوم الطبيعية مضار الخمر ومفاسدها، ويأمل الناس أن ينهض ترك الخمر بالبلاد وأن يحقق لهم رخاء ماديا.. إلا أنهم غير مستعدين للإقلاع عنها. ولكن المسلم العربي السكران.. ما أن يسمع صوت منادٍ واحد يسير في الطريق قائلا: لقد حُرّمت الخمر، يهبُّ من مجلسه ويكسر الجرار ويجري نهرا من الخمر في شوارع المدينة! اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلم إنك حميد مجيد!

والشيء الثاني الذي نهى الله عنه هنا هو القمار. كان القمار بالنسبة للعرب أول ما تتفتح عليه عينا الوليد. فكلما أرادوا إقامة وليمة كبيرة جمعوا نفقاتها بالقمار. فكان علية القوم وكبراؤهم يلعبون القمار، ومن خسر تحمل نفقات الوليمة. كما كانوا يقترعون عند التجهز للحرب، ومن يخرج سهمه تعيّن عليه تجهيز الطعام للجنود، كما يهيئ لهم الخمور. وكأن الميسر وسيلة لجمع نفقات الحرب.

ولكن الله تعالى نهى المسلمين أيضا عن القمار، لأنه كالخمر.. هي تدمر جسم الإنسان وأخلاقه وروحانيته، والقمار يدمر الأخلاق والحضارة. إن عادة القمار تؤدي إلى خراب آلاف من البيوت والأسر. ثم إن المقامر يعتاد على إضاعة ماله وعقاراته غير مكترث، وقلَّما يوجد مقامر يحافظ على أمواله. فهو من ناحية يدمر الآخرين، ومن ناحية يضيع أمواله أيضا ولا ينتفع بها، لأنه لا يبذل جهدا بنّاء لكسب المال. ثم إن القمار يُضعف عقل الإنسان وفكره. والمقامرون عموما مستعدون لتدمير وإضاعة ما لا يُقدم على إضاعته أحد من العقلاء.

قوله تعالى (ويسألونك ماذا ينفقون). عندما نُهي المسلمون عن تعاطي الخمر، وهي أكبر ذريعة لدفع الجنود إلى التهور والاندفاع في الحرب؛ وكذلك نُهوا عن القمار، وهو طريق لسلب أموال الناس لتغطية نفقات الحرب.. لم يشعر المسلمون في قلوبهم بانقباض أو ضيق، وإنما تقدموا خطوة أخرى في مجال التضحيات، وبدءوا يسألون عن أموالهم التي اكتسبوها بطرق شرعية، ويقولون: أي قدر ننفق منها في سبيل الله، سبق أن مر سؤال مشابه في الآية 216، لنتذكر أنه كان سؤال عن أقسام الصدقة، أما هنا فالسؤال عن مقدار الصدقة. لما نُهوا عن القمار أدركوا أنه سوف يُفرض عليهم المزيد من التضحيات، فسألوا: سوف ننفق، ولكن بأي مقدار؟ فردّ الله عليهم فقط بكلمة: (العفو).

ويعني العفو ما يزيد من المال على الحاجات الضرورية للإنسان، ولا يشقُّ عليه إنفاقه. ويعني أيضا خيار الشيء وأجوده. ويعني ثالثا ما يُعطى بدون سؤال. ولقد اختلف المفسرون في معاني قول الله هذا.. فمنهم من قال إن المراد من الإنفاق هنا هو الإنفاق في القتال في سبيل الله تعالى، وليس في الصدقات. والمعنى أنه إذا دعت الحاجة للحرب في سبيل الله فقدّموا من أموالكم. ومن المفسرين من قال إن الإنفاق ليس للحرب، وإنما هو للصدقات.

ثم نظراً لاختلافهم في معنى العفو قالوا:

أولا_ أن العفو ما يزيد عن حاجة الإنسان. كان المسلمون في أول الأمر مأمورين بالإنفاق في سبيل الله كان ما يزيد عن حاجتهم لسنة، ولكن بعد نزول آية الزكاة أُلغي هذا الأمر ونَسخت آيةُ الزكاة هذه الآية.

وثانيا_أن هذا الأمر هو عن الزكاة، وذُكر هنا مُجملا، وجاء تفصيله في موضع آخر من القرآن الكريم.

وثالثا_أن العفو يعني المال الذي لا يشقّ على الإنسان إنفاقه.

ورابعا_أن العفو هو إنفاق وسَط، لا يكون قليلا جدا ولا زائدا عن الحد.

وخامسا_أن العفو هو خير المال وأطيبه، فلا تعطوا في سبيل الله مالاً قديما رديئا، أو ما أخذتم من أموال الآخرين.

وسادسا_أن تنفقوا في سبيل الله صدقات وخيرات بانشراح صدر دون أن تُسألوا. والجماعة التي قالت إن معناه ما يزيد عن الحاجة فهُم أيضا طبقوا قول الله هذا على الجهاد أو اعتبروه منسوخا. وكانوا مكرهين على ذلك لأنهم رأوا عمل الصحابة والأمة مخالفا له. كما أن الأحاديث لا تأمر أن ينفق الإنسان كل ما يزيد عن حاجته ويفرّقه على الناس. فقد ورد في الحديث أن النبي قال(يعمد أحدكم إلى ماله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس. إنما الصدقة عن ظهر غنًى) (الدارمي، الزكاة). وكذلك قال في حديث آخر (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) (الترمذي،الوصايا). كذلك ورد أن سعد بن أبي وقاص_رضي الله عنه_أراد أن يوصي بجميع ماله في سبيل الله، ولكن الرسول نهاه عن ذلك. فقال أوصي بنصفه؟ فمنعه النبي عن ذلك. فقال: بثلث المال؟ فسمح له النبي بذلك وقال الثلث، والثلث كثير (المرجع السابق).

فالظن بأن الإسلام يأمر بأن ينفق الإنسان في سبيل الله ما زاد عن حاجته ظنّ يتنافى مع تعاليم الإسلام ويخالف عمل الصحابة؛ لأن بعضهم ترك لورثته إرثا يبلغ الآلاف (أسد الغابة، ذكر عبد الرحمن بن عوف). ثم لو كان هذا تعليم الإسلام ما كانت هناك حاجة لتشريع الزكاة. ما دام الناس كانوا ينفقون كل ما يزيد عن حاجاتهم في سبيل الله تعالى .. فما الداعي للأمر بأداء الزكاة؟

ثم إن اصطلاح ما يزيد عن الحاجة أيضا اصطلاح مبهم، فبعض الناس لو وقعت في أيديهم الأموال بالآلاف ينفقونها ويرون أنه ليس عندهم مال يزيد عن حاجتهم، وهناك أناس يستثمرون كل أموالهم في التجارة، ولا يبقى بعد الضروريات شيء من المال الزائد.

كما أن العقل أيضا يثبت بطلان هذه الفكرة، لأنه لو لم يكن هناك جماعة من الأثرياء في المجتمع لن يتم الرقي العام للبلد، وأيضا يتضرر الفقراء. لا شك في أن بعض الناس الروحانيين يبذلون أموالهم قدر المستطاع على الفقراء، والإسلام لا يمنع من ذلك بل يحبذه، ولكن الخطأ القول بأن الإسلام يأمر بإقامة مساواة اقتصادية بين الناس، ويُلزم كل إنسان بإنفاق ما يزيد عن حاجته. ولو سلمنا بما يقولون لوجب أن يتم تحديد الضرورة نظرا للحالة الاقتصادية العامة للبلد، وإلا لو أُعطي كل إنسان الحرية لتحديد ضرورته فلن تتم أيضا أي مساواة مالية بين الناس.. ذلك لأن المرء لو احتفظ بالمال لأطعمةٍ شهية وثياب بهيّة وديار واسعة مزخرفة ورياش ناعمة ومروج جميلة وبساتين مثمرة.. ثم أنفق ما بقي عنده على الفقراء لم يكن في نصيبهم إلا أخشن اللباس وأسوأ المساكن.

الحقيقة أن تعاليم الإسلام تفرض على الحكومة المسلمة ألا يبقى أحد من رعاياها جائعا، وان يجد من الثياب ما يستر به عورته.. أي أن تحافظ الحكومة على حياة الناس حفاظا كاملا، ولذلك فإنها تأخذ الزكاة من أموال الأثرياء وتنفقها على الفقراء. أما إذا أراد الثري أن ينفق أكثر من ذلك فله ما يريد. وإذا رأى أحدهم بعد أداء الزكاة أن شخصا يموت جوعا فمن واجبه أن يسعى بماله لإنقاذ حياته. والدليل على ما ذهبنا إليه موجود في الحديث النبوي. فقد جاء النبيّ شخص وسأله: ما الإسلام؟ فذكر النبي له مبادئ الإسلام ومنها الزكاة أيضا. فلما سمع ذلك قال لن أنقص من ذلك ولا أزيد عليه. فقال النبي : لقد أفلح إن صدق (مسند أحمد، ج1 ص250). فتبين من هذا أنه ليس من واجب الأثرياء أن ينفقوا على الفقراء أكثر من الزكاة، ولكن من أنفق أكثر منها فهذا حسن يثاب عليه.

والحقيقة أن (العفو) يتضمن ثلاثة أحكام لثلاث طبقات من الناس. فالحكم الأول لمن هم على درجة أدنى من الإيمان، فقيل لهم: أنفقوا بالقدر الذي لا يحدث ضررا بإيمانكم ودينكم. لقد رأينا البعض يتحمسون فينفقون في سبيل الحاجات الدينية مالا كثيرا، ولكن عندما يقعون في مشاكل دنيوية يلومون الدين. فالله تعالى يأمر هؤلاء قائلا: بدلا من أن تضيعوا إيمانكم غدا.. عليكم ألا تبسطوا أيديكم اليوم بإنفاق يسبب عثرة لكم.

الحقيقة أن تعاليم الإسلام تفرض على الحكومة المسلمة ألا يبقى أحد من رعاياها جائعا، وان يجد من الثياب ما يستر به عورته.. أي أن تحافظ الحكومة على حياة الناس حفاظا كاملا، ولذلك فإنها تأخذ الزكاة من أموال الأثرياء وتنفقها على الفقراء

والحكم الثاني لمن هم على درجة وسطى من الإيمان، فقال لهم: أنفقوا من خير أموالكم في سبيل الله.

والحكم الثالث لمن هم على درجة عليا من الإيمان، فقال لهم: أنفقوا أموالكم في سبيل الله من دون سؤال من أحد. وكأن عليهم أن يكونوا دائما متنبهين إلى الحاجات الدينية والقومية، متأهبين لإنفاق أموالهم في هذه السبيل.

وقوله (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة). الـ “كاف” في (ذلك) ضمير للواحد، مع أن (لكم) خطاب للجماعة. يتبين من ذلك أن القرآن بعض الأحيان يستخدم صيغة الواحد بينما يعني الجمع. يقول أبو حيان اللغوي: وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد (البحر المحيط). ويقولون: قد كثُر الدراهم والدينار.. أي الدنانير، وكذلك: فقلنا أسلموا إنا أخوكم.. أي إخوتكم، وأيضا: كلوا في نصف بطنكم تعيشوا.. أي بطونكم (الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس ص180).

هنا بيّن أنه لما كانت الأحكام الشرعية تؤثر على الحياة الدنيوية وكذلك على الحياة الأخروية.. لذلك نبين لكم أوامرنا بوضوح لكي تتفكروا فيها وتفهموها وتأخذوا كل خطوة على وجه البصيرة، ولا تقبلوا شيئا قبولا أعمى.

وقد يكون قوله (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) إشارة إلى قوله تعالى (وإثمهما أكبر من نفعهما)، فقال هنا: صحيح أن هناك بعض المنافع في الخمر والميسر.. ولكن مضارها أكثر من الناحية الدنيوية وكذلك من الناحية الدينية، ولقد أعطيناكم الأوامر الأخرى أيضا لمنفعتكم، فعليكم إعمال الفكر والتدبر لتتخيروا طريقا يؤدي إلى النجاح في الدنيا والآخرة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك