المقتسمون.. الكفار الذين قسموا فيما بينهم أعمال المكر و الكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم

المقتسمون.. الكفار الذين قسموا فيما بينهم أعمال المكر و الكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم

حضرة الحاج مرزا بشير الدين محمود أحمد (رضي الله عنه)

حضرة الحاج مرزا بشير الدين محمود أحمد (رضي الله عنه)

الخليفة الثاني للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • توجيه الاهتمام بتربية جماعة المؤمنين.
  • الله كافل أمر المؤمنين

__

لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (89)

شرح الكلمات:

لا تَـمُدَّنَّ: مدَّ نَظَرَه إليه: طمَح ببصره إليه (الأقرب).

التفـسير:

لقد قال بعض المفسرين: جاءت إلى المدينة مرةً سبعُ قوافل من بُصرى وأذْرِعات ليهودِ قريظةَ والنضيرِ في يوم واحد، فيها البُرُّ والطِّيب والجوهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوَّيْنا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنـزل الله ولقد آتيناكَ سَبْعًا مِن المَثاني والقرآنَ العظيمَ . (تفسير القرطبي)

ولكن هذا التفسير باطل، والدليل الأكيد على زيفه وبطلانه أن سورة الحِجر هذه مكية كلها بإجماع سائر المفسرين، حتى إن المستشرقين المسيحيين أنفسهم لم يجدوا بدًّا من الاتفاق مع هذا الرأي (تفسير القرآن لـِ “ويري”، وترجمة القرآن لرودويل). إن المسلمين لم يروا رخاء هذه القبائل اليهودية القاطنة بالمدينة المنورة إلا بعد هجرتهم إليها من مكة، فكيف يمكن أن يُذكَر في السورة المكية ما وقع في المدينة بعد الهجرة؟

ويجب أن نتذكر أيضًا أن الخطاب هنا موجه إلى الرسول دون الصحابة، وأرى أن نسبة مثل هذا المفهوم الخطير إليه لا يجوز بحال من الأحوال، بل هو إساءة بشعة في حقه . مع الأخذ في الاعتبار أن المحور الأساسي لهذه السورة هو تأكيد الله تعالى لرسوله بكل قوة وتكرار: إننا نحن الذين سوف نهيئ الظروف والأسباب لرقي المسلمين، فتوكَّلْ علينا دائمًا؛ فكيف يمكن – رغم هذا التأكيد الإلهي المتكرر – أن تتولد هذه الفكرة الدنيئة في قلب الرسول فيقول: يا ليت كانت عندنا أيضًا أموال كما عند اليهود.

الواقع أن قولـه تعالى وإن الساعة لآتية تضمَّن الإشارة إلى سقوط حكم الكفار عاجلاً، وكان هذا الخبر يمثّل صدمة طبيعية للنبي إذ كان يحمل بين جنبيه قلبًا رقيقًا شفيقًا مفعمًا بالنصح لقومه، فلا بد أن يكون قد فكّر أن قومه أو الصناديد منهم سوف يُهلَكون محرومين من الإيمان، وبالتالي لا بد أن يكون متأسفًا عليهم قائلاً: ليتهم لم يهلكوا، وليت الله جعلهم كبارًا في الدين كما جعلهم كبارًا في الدنيا. وهذه أمنية نبيلة للغاية، والحق أن أنبياء الله تعالى لا يفرحون في الواقع بهلاك أحد من أعدائهم، بل يتمنون أن يكون الجميع مؤمنين. وقد اشتدت هذه الرغبة بالنبي بحيث كاد يُهلك نفسه أسفًا عليهم حتى خاطبه الله قائلاً: لعلّكَ باخِعٌ نفسَكَ ألا يكونوا مؤمنين (الشعراء:4). فنظرًا إلى أحاسيسه المرهفة خفّف الله عنه قائلاً: لا شك أن خبر هلاكهم شاقٌّ عليك، ولكن هذا هو القرار الملائم في شأنهم، فلا تتأسف على أئمة الكفر هؤلاء طامعًا في إسلامهم نظرًا إلى مكانتهم العالية، لأن أموالهم وشوكتهم الدنيوية لا تزيدهم في التقوى بل تحول دون إحرازها، لذلك سوف نجعلهم أقزامًا صاغرين بل سوف نستأصلهم. فبدلاً من الطمع في إيمان هؤلاء وَجِّهْ عنايتك إلى تربية المؤمنين الذين سيأخذون مكان الذاهبين، لأن رقي العالم ليس منوطًا الآن بنجاة السادة القدامى، وإنما يتوقف على تربية أتباعك تربية سليمة.

وهذا المعنى الذي قد بينته تدعمه أيضًا الجملةُ التالية في الآية ولا تحزَنْ عليهم .. أي لا تحزن على هلاكهم، ولكن لو أخذنا برأي المفسرين بألا تنظر إلى اليهود طامعًا في أموالهم، فلا ينسجم معه إطلاقًا قولُه: ولا تحزَنْ عليهم ؛ بل يصبح الكلام عندئذ لغوًا والسياقُ غير منسجم، ويحدث التعارض بين الجملتين، إذ كيف يمكن لمن يريد الاستيلاء على أموال الآخرين أن يتأسف على هلاكهم، لأن أمنيته هذه تمثّل في الواقع دعاءً عليهم بالهلاك. ولكن لدى قبول المعنى الذي بيّنتُه لا يحدث أي خلل في المفهوم ولا في السياق.

كما أن قوله تعالى واخْفِضْ جَناحَك للمؤمنين أيضًا يؤكد موقفي، لأننا لو أخذنا برأي المفسرين لصار مفهوم الآية هكذا: لا تتمنَّ أن تصير أموال الكفار في حوزتك، ولا تتأسف على هلاكهم، بل وجّه اهتمامك إلى المؤمنين؛ وهكذا ستصبح كل جملة من الآية غير منسجمة مع الأخرى ومتعارضةً مع السياق.

ويبدو أن قولـه تعالى واخفِضْ جناحَك للمؤمنين كان ينطوي على إيماءة لطيفة إلى هجرة المسلمين. ذلك أن خفض الجناح للمؤمنين – أي تربيتهم وتوعيتهم بشكل كامل – كان يتطلب نظامًا، وكان من المستحيل في مكة العملُ بأحكام القرآن المتعلقة بالنظام. إذن فقوله تعالى لرسوله بأن عليك الآن توعية المسلمين حتى يكونوا جاهزين لإدارة النظام القادم كان يحمل في طيّاته نبأً للرسول بأن الله تعالى سوف يذهب بك إلى حيث تتمكن من تربية أتباعك كما ينبغي.

وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِين (90)

التفسـير:

أي أَعلِنْ للكفار بأنني أنا الذي عهد الله إليه الإنذارَ والتحذير، وها إني أقول علنًا بأمر من الله تعالى أن ساعة هلاككم قد اقتربت وحانت.

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (91)

شرح الكلمات:

المقتسمين: اقتسَموا المالَ بينهم: أخَذ كلٌّ قسمَه (الأقرب). وتقاسَمَا المالَ: اقتسماه بينهما. فالاقتسام والتقاسم بمعنى واحد (التاج).

التفسـير:

لقد فسّر عامة المفسرين هذه الآية مع التي قبلها بأني أنا النذير المبين بالعذاب مثلما أنـزلناه على المقتسِمين (تفسير الرازي). ولكني أرى أن كما هنا تعليلية وليست لبيان المماثلة. وورود (كما) من أجل التعليل ثابت عن العرب (انظر “تاج العروس”)، ووردت في القرآن الكريم أيضًا بهذا المعنى مرارًا كقولـه تعالى واذكروه كما هداكم (البقرة: 199).. أي اذكروا الله تعالى لأنه هداكم. وعليه فقوله تعالى وقُلْ إني أنا النذير المبين كما أنـزلنا على المقتسمين .. يعني: قُلْ لهم يا محمد: إني أنا النذير الذي لا خفاء في تحذيره، لأن الله تعالى قد قرّر الآن إنزال العذاب على المقتسمين. ولا شك أن هذا المعنى واضح جلي لا لبس فيه، ولكن المفهوم الذي يذكره المفسرون الآخرون غير واضح، ولذلك قد واجهوا صعوبة كبيرة في شرح هذه الآية، ولجأوا إلى تأويلات كثيرة.

فبدلاً من الطمع في إيمان هؤلاء وَجِّهْ عنايتك إلى تربية المؤمنين الذين سيأخذون مكان الذاهبين، لأن رقي العالم ليس منوطًا الآن بنجاة السادة القدامى، وإنما يتوقف على تربية أتباعك تربية سليمة.

كما أن المفسرين قد عانوا في تفسير كلمة المقتسِمين   عناءً كبيرًا، حيث فسروا المقتسِمين بمعنى الحالفين بإيذاء النبي (الكشاف؛ والقرطبي). كما ورد هذا المعنى في البخاري أيضًا (انظر البخاري: كتاب التفسير). ولكن الاقتسام لا يعني القَسَم لغةً، بل يعني التقسيم، كما سبق أن أثبتنا لدى شرح الكلمات.

وهنا ينشأ سؤال: كيف وقع المفسرون في هذا الخطأ؟ والجواب أن هناك كلمة أخرى هي التقاسم، وعندما قرأوا قول أهل اللغة إن التقاسم والاقتسام بمعنى واحد حيث يقال تقاسما المال أي اقتسماه بينهما.. ظنوا خطأً أن الاقتسام أيضًا يعني القَسم والحلف، مع أنه لا يعني إلا التقسيم فقط، على عكس التقاسم الذي يعني المعنيين أي التقسيم والقَسم. وقد انخدع بهذا التشابه حتى عالم كبير كالزمخشري أيضًا.

ولقد ارتكب صاحب تاج العروس في هذا الصدد خطأً آخر حيث استشهد على هذا المعنى الخاطئ بقول ابن عرفة القائل: “هم الذين تقاسموا وتحالفوا على كيد الرسول ” (التاج). والظاهر أن هذا المعنى لا سند له من اللغة، وإنما نقله صاحب التاج بتأثير المفسرين.

بعد هذا البيان التمهيدي أقول: إن المقتسمين المذكورين هنا هم أولئك الكفار الذين كانوا قسَموا فيما بينهم أعمال المكر والكيد بالرسول ؛ فمنهم من أخذ على عاتقه أن يقف بأنقاب مكة وطرقها ليقول لكل قادم إليها ألا يغترّ بكلام محمد، ومنهم من أثار الضجة داخل مكة بأن محمدًا لو كان صادقًا لكنا أَولى بتصديقه لأنه من أقاربنا، ومنهم من آذى المسلمين، ومنهم من تولى التعتيم ضده في القبائل المجاورة لمكة. وقد أعلن الله تعالى هنا أننا قد قررنا الآن عذاب هؤلاء جميعًا.

ومن المفسرين من قال أن هؤلاء المقتسمين هم أولئك الكفار الذين قسَموا القرآن فيما بينهم.. أي كانوا يؤمنون ببعض القرآن ويكفُرون ببعضه. (فتح البيان، والقرطبي )

مما لا شك فيه أن القرآن الكريم سجّل في موضع آخر قول الكفار عن القرآن الكريم: نؤمن ببعض ونكفُر ببعض، ولكن تفسير هذه الآية بهذا المعنى غير سليم، لأن الاقتسام لا يحتمل معنى الإيمان ببعض والرفض ببعض.

Share via
تابعونا على الفايس بوك