الأعمى من يتعامى عن الحقائق والبصائر الإلهية
  • الأعمى الروحاني وتجاهله عن البصائر الإلهية.
  • إفشال الله لمخططات الكفار، ونصره لنبيه.
  • نوايا الكفار دليل على تردي أخلاقهم.
__
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (73)

التفسير:

أي من لم يبصر بعيونه الروحانية في الدنيا لن يعطَى العيونَ الروحانية في الآخرة، وسيبقى محرومًا من رؤية الله تعالى. ولقد أكّد القرآن هذا المعنى في أماكن أخرى منها:

1- قد جاءكم بصائِرُ من ربِّكم فمَن أَبصرَ فلِنفسِه ومَن عَمِيَ فعليها (الأنعام: 105).

2- والذين إذا ذُكِّروا بآياتِ ربِّهم لم يَخِرُّوا عليها صُمًّا وعُمْيانًا (الفرقان: 74)..

أي إنما المؤمنون الذين إذا ذُكرتْ أمامَهم آياتُ ربهم لم يعاملوها كالصُّمّ والعميان، وإنما أصغَوا إليها بملء آذانهم وعيونهم. إذن فقد أَطلق الله تعالى هنا اسم العميان على من يصدّقون الأمور دونما فحص وتحقيق.3- ومَن أَعرَضَ عن ذِكري فإنّ له معيشةً ضَنْكًا ونحشُره يومَ القِيامة أَعمَى (طه: 125).. فالأعمى هنا من يتعامى عن الحقائق والبصائر التي تأتي من عند الله تعالى، ولأنه ارتضى لنفسه أن يكون أعمى في هذه الدنيا فلن يتمكن من رؤية الله تعالى في الآخرة.وليس المراد من هذه الآية أن المصابين بالعمى المادي في الدنيا سيُبعثون في الآخرة كذلك عميانًا، ذلك أن النقائص البدنية ستزول كلها لدى البعث بعد الموت، لأن الجسم المادي سيبقى في هذه الدنيا. إذن فالمقصود عَمًى روحاني.

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (74)

رسل الله تعالى لا يقتربون من أي معصية، وأما معصية الافتراء على الله سبحانه وتعالى فحتى المؤمن الضعيف أيضًا لا يقترب منها، بَلْهَ أن يقترفها فعلاً! فأرى أن هؤلاء المفسرين، سواء الجدد أو القدامى، قد ارتكبوا هنا خطأً فادحًا.

شرح الكلمات:

خليلاً: الخليل: الصديقُ المختص؛ وقيل: هو الذي صادقتَه بعد إذ جرّبتَه (الأقرب).

التفسير:

لقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية روايات مفادها أن الكفار قالوا لرسول الله : تعالَ تَمَسَّحْ آلهتَنا باحترام، ندخُلْ معك في دينك. فقال رسول الله في نفسه – والعياذ بالله: وما عليَّ لو فعلتُ، واللهُ يعلم مني خلافَه؟ فأنـزل الله تعالى هذه الآيات (فتح البيان، والدر المنثور).لكن ليس في الآية مفهوم من هذا القبيل أبدًا، كما أنه منافٍ لمقام النبي ، ومتناقض مع معنى الآيات التالية أيضًا.

ولنعلم أن «كادَ» إذا اقترنت بالنفي فتعني أن الفعل المذكور بعدها قد وقع، وإذا لم تقترن بالنفي فتعني عدم وقوع ذلك الفعل (المفردات). وبما أن (كاد) قد وردت هنا بدون نفي فالمعنى أن فعل الفتنة المذكور في قوله تعالى لَيَفتِنونك لم يقع.

علمًا أن الفتنة تعني إلقاء أحد في الابتلاء أي في الاختبار أو العذاب (أقرب الموارد). فلو فسّرناها بالابتلاء فالمراد أنهم أوشكوا أن يلقوك في الابتلاء، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك. وأما إذا فسّرناها بالعذاب فالمراد أنهم أوشكوا أن يُلقوك في العذاب، ولكنهم لم يقدروا على ذلك.

غير أن معنى الابتلاء يُوهِم وكأن النبي أوشك أن يغيِّر القرآن جراءَ ضغط الكفار، ولكنه لم يفعل ذلك.  وغني عن البيان أن هذا المعنى أيضًا يتنافى مع مقام نبينا الكريم ؛ إذ لا يقال عن الرجل الشريف مثلا: كاد يسرِق، أو: كاد يظلِم، أو: كاد يضرِب أُمَّه، فهذه التعبيرات إساءة إليه بلا شك. فمن الخطأ الفاحش وأيضًا من المخالفِ للواقع أن يقال عن رسول الله أنه كاد أن يفتري على الله تعالى، ولكنه لم يفعل. فلا يكفي لهؤلاء المفسرين أن يقولوا: ما دام النبي لم يرتكب هذا الخطأ فلا بأس في تسجيل الرواية المذكورة أعلاه. ذلك أن رسل الله تعالى لا يقتربون من أي معصية، وأما معصية الافتراء على الله سبحانه وتعالى فحتى المؤمن الضعيف أيضًا لا يقترب منها، بَلْهَ أن يقترفها فعلاً! فأرى أن هؤلاء المفسرين، سواء الجدد أو القدامى، قد ارتكبوا هنا خطأً فادحًا.

وأرى أن الفتنة في قوله تعالى وإنْ كادوا لَيَفتِنونك عن الذي أوحينا إليك يعني العذابَ، وأن عن هنا تعليليةٌ كما في قوله تعالى وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك (هود: 54)؛ والمراد: لقد أوشك الكفار أن يُلقُوك في العذاب بسبب ما أوحينا إليك لكي تفتري علينا غيرَ ما آتيناك في القرآن من تعليمات. ولا جرم أن هذا المعنى خال من أي إساءة إلى الرسول ، إذ يخبر الله به رسولَه الكريم أن الكفار كانوا يكنّون ضدك نوايا خطيرة جدًّا، وأرادوا أن يُلقوك في العذاب الشديد، ليُكرِهوك على أن تترك القرآن وتقولَ ما يُرضيهم، ولكنا أفشلناهم. وهذا المفهوم لا يعزو إلى النبي أي فعل سيئ أو نيّةَ فعل سيئ، وإنما يعزوه إلى الكفار وحدهم، ويخبر أن الله تعالى قد أحبط مؤامرتهم هذه، فمنعهم من أن يحققوا حتى هدف تعذيب رسوله الكريم، ناهيك أن يصرفوه عن القرآن فعلاً.وقد أشار الله تعالى إلى نواياهم هذه في موضع آخر من القرآن الكريم حين قال وإذْ يمكُر بك الذين كفروا لِيُثبِتُوك أو يقتُلوك أو يُخرِجوك ويمكُرون ويمكُر اللَّهُ واللَّهُ خيرُ الماكِرين (الأنفال: 31). وقولُه لِيُثبِتوك أي يأسِروك، وقولُه والله خير الماكرين يعني أن كيد الله هو الغالب في آخر الأمر.

فهذه الآية أيضًا توضح أن الكفار كانوا ينوون – للضغط على النبي – أَسْرَه أو قتلَه أو نفيَه، ولكن الله تعالى أفشلَهم في مراميهم الخبيثة كلها. وهذا ما تعنيه أيضًا الآية التي نحن بصدد تفسيرها، حيث أخبرت أن الكفار خابوا وفشلوا في ما كانوا يهدفون إليه من تعذيب النبي . وقد يقال هنا: لا شك أنهم لم يفلحوا في أسره وقتله، ولكنهم نجحوا في نفيه من الوطن!.

إن نواياهم هذه دليل على تردِّي أخلاقهم، وإن محاولاتهم هذه برهان على أنهم معترفون بعظمتك في قرارة نفوسهم، ولذلك يريدون أن يكسبوا تأييدك بأي طريق ممكن؛ ولكن لا يفرح بمثل هذا التأييد والرضا إلا أصحاب الرذائل.

والجواب أنهم في الواقع قد فشلوا في هذا الهدف أيضًا، إذ لم يكونوا يريدون نفيه من البلد فحسب، لأن هذا لا يحقق هدفهم، وإنما كانت نيتهم أن يطردوه من بينهم ذليلا مهانًا، ليفضحوه أمام الدنيا. ولكنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعًا، لأن الله تعالى نبّأ رسوله بمؤامرتهم قبل أن ينفذوها، فهاجَرَ من بينهم؛ وكانت هجرته خلاف ما ينوون، ولذلك تجد أنهم حين عرفوا أنه قد خرج من بينهم معافًى معزَّزًا خرجوا على أثره يلاحقونه، ولما فشلوا في إلقاء القبض عليه بأنفسهم جعلوا لمن يأتيهم به أسيرًا جائزة قدرها مائة إبل (البخاري: كتاب المناقب، باب هجرة النبي ). فلو كان هدفهم مجرد طرده من بينهم لفرحوا بهجرته، بدلاً من أن يطاردوه ويجعلوا جائزة لمن يأتيهم به أسيرًا. فثبت أن الكفار ما كانوا يريدون مجرد خروجه من بينهم، وإنما كانوا يريدون طرده من بينهم صاغِرًا مُهانًا، لكي يتخلى – والعياذ بالله – عما جاء به، أو يذهب حيثما يذهب بوصمة العار والهوان؛ ولكن الله تعالى خيّبهم في نواياهم الشريرة كلها.

وباختصار إن هذه الآية لا تعني أبدًا ما ذهب إليه بعض المفسرين مِن أن الرسول أوشك بالفعل أن يتخلى عن موقفه، أو كان هناك احتمال من هذا القبيل. ذلك أن هذه السورة نـزلت قبيل هجرة النبي حين عجز الكفار عن مقاومته تمامًا، فصمّموا يائسين أن يحولوا دون تبليغه رسالةَ القرآن الكريم بإلقاءِ القبض عليه أو تهديدِه بالقتل أو طردِه من بينهم ذليلا مهانًا، وإذا لم يتأثر من تهديدهم يقضون على حياته المادية أو المعنوية والأخلاقية تحقيقًا لهدفهم. ولكن الله تعالى خيّب آمالهم كليةً. وأما قوله تعالى وإذًا لاتخذوك خليلاً فيعني أنهم لو نجحوا في ردّك عن الحق بالتعذيب لاعتبروك صديقًا حميمًا لهم.

هذه الجملة أيضًا تشير إلى الحالة الأخلاقية المتردية لدى الكفار، وليس إلى أي ضعف في موقف الرسول . لقد طالبه الكفار مرارًا أن يتخذ من أجلهم موقفًا لينًا في تعليمه – ولو قليلاً – ليجعلوه سيّدًا عليهم، حتى بعثوا ذات مرة وفدًا قال لعمّه أبي طالب: لا نطالب محمدًا الآن أن يُشرك آلهتنا مع الله تعالى، كل ما نريد منه هو ألا يذكر آلهتنا بسوء، ولو فعل ذلك من أجلنا لاتخذناه سيدًا علينا (السيرة النبوية لابن هشام: باب مباداة رسول الله قومَه وما كان منه). وإلى هذا الأمر نفسه يشير قوله تعالى وإذًا لاتخذوك خليلا ، أي أنهم لما فشلوا في تحقيق مآربهم بإغرائك قرّروا أن يُكرهوك على ما يريدونه بالظلم والعدوان، ولكننا أفشلناهم وسنُفشلهم في المستقبل أيضًا. إن نواياهم هذه دليل على تردِّي أخلاقهم، وإن محاولاتهم هذه برهان على أنهم معترفون بعظمتك في قرارة نفوسهم، ولذلك يريدون أن يكسبوا تأييدك بأي طريق ممكن؛ ولكن لا يفرح بمثل هذا التأييد والرضا إلا أصحاب الرذائل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك