في عالم التفسير
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيـمُونَ الصَّـلاةَ وَمِمَّا رَزَقْـنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (البقرة : 4)

قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ : لقد بيّنّا عند شرح الكلمات أن الرزق إنما يعني العطاء، أي تقديم أي شيء للآخر، وليس مجرد تقديم الطعام له. فقولهم رَزَقَه لا يعني أنه أطعمه، بل يعني أنه أعطاه شيئًا أيا كان. وهناك في العربية كلمات عديدة بمعنى تقديم الشيء لأحد، وقد استخدم القرآن منها السبعة التالية: الرزق والهبة والعطاء والمنّ والإحسان والإنعام والإيتاء.

وفأما الإيتاء فيعني مجرد تقديم الشيء لأحد، لأنه مِن “أتاه”، أي جاءه، والإيتاء يعني الإتيان بالشيء إلى أحد، ثم ضُمِّن معنى تقديم الشيء لأحد، لأنه إذا جاءه بشيء فهو يقدمه له غالبا؛ فلفظ الإيتاء يعني مجرد تقديم الشيء لأحد سواء كان الشيء سيئا أو جيدا، صغيرا أو كبيرا. وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم بهذا المعنى مرارا.

أما العطاء فهو أخصُّ من الإيتاء، لأنه لا يُستخدم بمعنى تقديم الشيء العادي للآخر، بل يعني تقديم ما يعتبره المتلقي نعمة عظيمة ويأخذه بشوق ولهفة. فهذا اللفظ إنما يستخدم لتقديم ما هو نافع ومفيد. ومن معاني العطاء الخدمة، وتعاطى يعني: أخَذ الشيءَ واقفًا على أطراف أصابع الرجلين مع رفع اليدين إليه (الأقرب).

أما المنّ والإحسان والإنعام فيدل غالبًا على فعل المعروف، ولا يشير إلى وصف في المتلقي، وإنما يدل على حسن نية المعطي.

أما الهبة فتدل على العطاء من غير رغبة في عوض أو بدل.

أما الرزق ففيه معنى الإيتاء وسدّ حاجة المتلقي، مما يعني أنه يدل على حاجة المتلقي وسدّها أيضا. ولأن الإنسان يحتاج مرة بعد أخرى فأُطلق الرزق على عطاء ينزل مرة بعد أخرى بقدر الحاجة. فقد ورد في المفردات ما معناه: الرزق: يقال للعطاء الجاري، ويقال للنصيب أيضا. ويسمى الرزق نصيبا لأنه يكون بقدر الكفاية. والنصيب أيضا يقال فيما يجده المرء حسب ضرورته. قال الله تعالى وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ (الذاريات 23)، أي أن الله تعالى قد هيأ الأسباب بحسب حاجة كل جنس.

هناك فكرة خاطئة بين الناطقين بالأردية أن الرزق لا يعني إلا ما يؤكل ويُشرب، مع أن المعنى الأساس للرزق هو تهيئة الأسباب بقدر الحاجة. لا شك أن معنى الرزق يدل على الغذاء أيضا لأنه ضروري للإنسان، ولكنه ليس هو المعنى الأساس للرزق، وليس مقصوراً عليه، وإنما هو مفهومٌ ضمنيّ.

وعليه فالمراد من قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أنهم ينفقون جزءًا من كل ما آتيناهم من علم وعزّ وعقل ومال وثراء وما إلى ذلك، وليس المراد أن ينفقوا على الفقراء مما يأكلون ويشربون فقط، فإن الله تعالى لم يذكر الفقراء هنا، ولم يحدد الشيء الذي أمر بإنفاقه، فلا يحق لنا أن نحدد ما لم يحدده الله تعالى. لقد قال الله تعالى إنهم ينفقون مما آتيناهم بحسب حاجتهم، وما يؤتاه المرء قد يكون علمًا أو عقلاً أو جرأة أو غيرة أو وفاء أو خدمةً مِن أحد؛ باليد أو الرجل أو العين أو الأنف أو المال. فكل ما يمكن القول إن الله قد آتانا إياه لسدّ حاجةٍ من حاجاتنا فنحن مأمورون بالإنفاق منه. فالذي ينفق من ماله على الآخرين ولكنه لا يطعمهم مثلا، أو يطعمهم ولكن لا يكسوهم، أو يكسوهم ولكن لا يُسكنهم، أو يهيئ لهم السكن ولكن لا يخدمهم بيده، أو يخدمهم بيده ولكن لا ينفعهم بعِلمه، فهو لا يعمل بهذه الآية حقًّا.

كذلك يتضح من هنا أنه لا يعمل بهذا الحكم مَن ينفق من ماله على الفقراء فقط، بل إن الذي ينفع الناس بعلمه، ومن يتفقد أحوال الأرامل واليتامى، والجندي الذي يخرج إلى ساحة القتال دفاعا عن الوطن، والمخترع الذي يخترع شيئا لنفع الناس ببذل الجهود ليل نهار، كل هؤلاء هم مِن الذين ينفقون مما رزقهم الله.

إن مَن يتدبر في هذه الآية يسعى دومًا لنفع الآخرين بما أُعطيَ من قوة أو مال وغيره من النعم. ولقد أصاب الفقهاء كبد الحقيقة حين أفتوا بأن لا زكاة على الحُليّ التي تعيرها المرأة للفقيرات ليلبسنها في مختلف المناسبات. هذه حقيقة إسلامية عظيمة، لأن هدف الزكاة تزكية المال، ومَثل المال الذي يُنفق كمثل الماء الجاري الذي لا يفسده شيء، والمال الذي ينفع اليوم أحدًا وفي الغد أحدا آخر فهو كالعين الجارية التي يكون ماؤها الآن هنا ويصل بعد دقيقة هناك، ولذلك لم ينهَ الإسلام عن الزراعة والتجارة وغيرهما، ولكنه نهى عن جمع المال وكنز الذهب والفضة، ذلك لأن التجارة والزراعة وغيرهما من المهن تنفع أصحابها كما تنفع الآخرين، ورأس مالهم يُنفَق بهذا الطريق، ولكن المال الذي يجمعه المرء لا ينفع به غيرَه ولذلك قد عدّه الإسلام آثما، حتى قال الله تعالى إن هذا المال سوف يُحمى به على نار جهنم وتُكوى به جباه أصحابه وأيديهم (التوبة 35).

والأمر الثاني هو أين ينفق المرء مِن رزقه؟ لم تصرح الآية هذا الأمر، إذ ليس فيها أي ذكر للفقير أو المسكين، إنما قال الله تعالى إنهم ينفقون مما أوتوا لسدّ حاجتهم. بل لا تذكر هذه الآية ما إذا كانوا ينفقون على الأغيار أو الأحباب أو على أنفسهم، وعليه فلا يعمل بهذه الآية مَن ينفق من ماله على الفقراء فحسب، بل إن الأب الذي ينفق على أولاده، والأُمّ التي تُرضع وليدها، والزوج الذي يسد حاجات زوجته، والأولاد الذين ينفقون على والديهم، كلهم يُعَدّون ممن يعمل بحكم من أحكام هذه الآية؛ لأنها تشمل هذه النفقات كلها، بل يندرج في مفهومها ما ينفقه المرء على طعامه ولباسه وغيرهما من حاجاته. وكل مَن يبخل على نفسه ولا يأكل حسب حاجته للحفاظ على صحته فهو يخالف هذه الآية مهما أنفق على الآخرين من ماله، فالآية لا تقول أنفِقوا على الفقراء، بل تذكر الإنفاق مطلقًا، وهكذا يندرج في هذا الإنفاق ما ينفقه المرء على نفسه أو زوجته أو أولاده أو أحبابه.

وهناك حديث لرسول الله وهو أفضل شرح لهذه الآية؛ فقد رُفعت إليه قضية شخص يصوم النهار ويقوم الليل ويظلّ غافلا عن أداء واجباته تجاه زوجته وأولاده، فقال له النبي : “إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ” (الترمذي، أبواب الزهد، باب في إعطاء حقوق النفس والرب والضيف والأهل).

لقد أبطل الله بهذه الآية كل أنواع الرهبانية التي ترى أن عيشَ الإنسان ملوَّثا بالأوساخ وجائعًا ومهمِلاً حقوقَ الأقارب هو العمل الحسن. فالمتقي عند الله إنما هو ذلك الذي ينفق من كل ما آتاه الله، ويعمّ إنفاقه نفسَه وأقاربَه وأصدقاءَه وجيرانَه، والفقراءَ والأغنياء، والمعارف والأجانب، وأهل البلد والمسافرين الذين أتوا من أماكن بعيدة، والناسَ كلَّهم، وحتى الحيوانات، لأن الله تعالى يأمر هنا بالإنفاق من كل شيء وفي كل ما هو ضروري.

ومما يُستدل من هذه الآية أن الله تعالى قد أمرنا هنا بإنفاق جزء مما آتانا، وليس أن ننفقه كله. وثمة آية أخرى توضح بأن على المرء ألا ينفق إنفاقا يصيبه بالإفلاس، فهذا عمل غير صالح، قال الله تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (الإسراء:30)، أي لا تُمْسِكْ عن إنفاق نعم الله تعالى كليةً ولا تنفقها بحيث يضيع كل ما بيدك فتصبح ملومًا عند الناس ومحروما من أسباب كسب المال، فالمحسور من ضاعت قوته وظهر ضعفه، ومعناه هنا مَن حُرم أسباب الرقيّ في المستقبل.

ورب سائل يسأل: يمكن أن يُعتبر إنفاق المال كله سيئا، ولكن هذه الآية تأمر بالإنفاق من العلم والفهم أيضًا، فهل يعني هذا ألا يعلّم المرء غيرَه كل ما عنده من العلم، أو لا ينفعه بعقله وذكائه كلِّه؟

الجواب: إن العلم والعقل والفهم تزداد بالإنفاق، والمراد من الإنفاق منها أن ينفق المرء من علمه أو فهمه وعقله بحيث لا يضر بمنبعها ولا يفسده، فعليه ألا يرهق نفسه بحيث تتدهور صحته أو يهلك أو يختلّ عقله، فينقطع نفعه للآخرين بالعلم والفهم. إنما عليه أن ينفق من علمه وفهمه وعقله على الآخرين بحيث لا يجفّ منبعها؛ أما من أنفق من علمه وعقله وذكائه لنفع الآخرين أو لنفعه بحيث أفسد منبعها فقد خالف هذه الآية.

ولو قيل: هل يُعتبر آثما مَن ينفق كل ماله في سبيل الله تعالى؟

فالجواب كما أن للعلم والعقل والفهم منبع يُعتبر رأس مالها، كذلك هناك منبع للمال، والمراد من إنفاق المال كله إنفاق ذلك المنبع أيضا. فعلى سبيل المثال: شخصٌ رأسُ ماله قوّتُه وعقله ومهارته، فلو أنفق كل ما عنده من ثروة في سبيل الله تعالى فلن يُعدّ آثما، لأن رأس ماله، أي عقله وفهمه ومهارته، محفوظ عنده، وسوف يكسب بها مزيدا من المال. أما الذي رأس ماله ليس عقله وقوته ومهارته، بل هو بحاجة إلى المال لكسب القوت، فلا يجوز له أن ينفق كل ما عنده من مال.

كان سيدنا أبو بكر شديد الذكاء في أعمال التجارة، وكان يكسب كثيرا من المال بعقله وذكائه فقط، فإنه لما خرج مهاجرا من مكة ضاع ماله كله تقريبا، ولكنه كسب المال في المدينة مرة أخرى. وذات مرة دعا النبي أصحابه إلى الإنفاق دعوةً خاصة، فجمع أبو بكر كل ما عنده من مال وجاء به النبيَّ ، فسأله: ماذا تركتَ في بيتك؟ قال: الله ورسوله (الترمذي، أبواب المناقب، مناقب أبي بكر). فمثل هذا الإنسان لا يُعَدّ آثما إذا أنفق كل ماله، لأن رأس ماله، أي عقله وذكاءه، محفوظ عنده، ومن أجل ذلك نجد أن سيدنا أبا بكر لم يمدّ يده إلى أحد بعد هذا الحادث، بل كسب المال ثانيةً، وعاش محترمًا دون سؤال الآخرين. إذاً، فتعريف “إنفاق المال كله” يختلف من شخص إلى آخر؛ فهو يختلف من صاحب مهنة إلى تاجر عادي رأس ماله بسيط، إلى تاجر ذكي لا تعتمد تجارته على ماله فقط، بل على خبرته الواسعة التي يكسب بها مزيدا من المال بسهولة، بل يأيته الآخرون ويضعون عنده رؤوس أموالهم لعلمهم أنه سيستثمر أموالهم بخبرته وذكائه.

ويُستدل من قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أن على المرء أن ينفق مما كسبه من الحلال، إذ الإنفاق من المال الحرام أو الأشياء المحرمة ليس بحسنة. إن بعض الناس يجمعون المال بالرشاوى وبعضهم بالسرقة وقطع الطرق ثم يوزعونها على الفقراء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، مع أن السيئة إنما تؤدي إلى سيئة، لا حسنة، فهؤلاء إنما يضعون الأساس للسيئات. ما كان عليهم إلا أن ينفقوا مما أعطاهم الله، أما مَن أنفق على الآخرين من مال غيره الذي لا حق له فيه فلا يعمل بهذه الآية، لأنه لم ينفق مما رزقه الله، بل أنفق مما لم يرزقه الله، بينما يعلن الله في هذه الآية أنهم ينفقون مما آتيناهم.

ويتضح من هذه الآية أن الخوف من الإنفاق يتنافى مع العقل، لأن الله تعالى قد سمّى نعمتَه رزقًا، والرزق هو العطاء الجاري الذي لا ينفد مرة واحدة؛ فبكلمة الرِّزْق قد أشار الله تعالى أن الذي ينفق بحسب حُكمه فسوف يزداد ماله ولن ينقص، لأن الله تعالى سينعم عليه مرة بعد أخرى.

إن زيادة العقل والفهم والعقل والقوة البدنية بإنفاقها أمر مفهوم، لأننا نرى أن الذي ينفع بعمله الآخرين بالتعليم والتدريس يزداد علما ولا ينقص، كذلك من ينفع الآخرين بعقله وفهمه يزداد عقلًا وفهما، ومن استعمل قوته البدنية بطريق صحيح فلا يضعف بل يزداد قوة. كذلك المال يزداد بالإنفاق، فمثلا من أنفق جزءا من ماله على نفسه ازداد قوة، فقدر على الكسب أكثر، كذلك من أنفق على زوجته وأولاده إنفاقا صحيحا ازدادت عنده الأيدي العاملة الكاسبة، ومن أنفق على جيرانه وأحبابه ازداد عدد معاونيه ومساعديه، ومن أنفق على الفقراء تحسنّت حالة قومه الاقتصادية مما يعود عليه بالنفع ويزيده مالا. باختصار، إن الإنفاق الصحيح للمال يزيده دائما ولا يضيّعه أبدا. فإضافةً إلى أن الإنفاق يتسبب في نزول الأفضال الروحانية على صاحبها، فإن قوانين الطبيعة أيضا تساعد على زيادة ماله عند الإنفاق لا على نقصانه، ولا يخاف من الإنفاق إلا قليلو العقل إذ لا يدرون أن تصرفهم هذا يضر بأموالهم ولا يحفظها.

ولعل معترضا يقول هنا: لماذا أمر الله العباد بالإنفاق على الآخرين، ولماذا لم يعط الجميع نصيبهم مباشرة؟

الجواب: هذا الاعتراض راجع إلى قلة تدبّر صاحبه، لأن من الخطأ القول أن بعض الناس ينفقون والآخرون يعيشون على معونتهم. كلا، بل الجميع ينفق بعضهم على بعض. لا شك أنه يبدو من أول وهلة أن الأثرياء ينفقون أموالهم على الفقراء، لكن الواقع أنّ الفقراء أيضا ينفقون على الأثرياء، فإن الثري الذي يعيش في قرية إنما تبقى ثروته محفوظةً بسبب وجود مئات الفقراء حوله، وإلا لسلَبها اللصوص والصعاليك. إذا كان اللصوص لا ينهبون بيته فليس سببه حرّاسه، إنما سببه أهل القرية كلهم الذين يخافهم اللصوص. ثم إن ثراء الثري لا يبقى محفوظا من دون مساعدة الفقراء، لأنه يكسب المال بمساعدة الأجراء، ولولاهم لما كانت عنده أي ثروة. فثبت أن الغني لا يساعد الفقير فقط، بل الفقير أيضا يساعد الثريّ. والحق أن الله تعالى قد أقام في الدنيا نظام التعاون والحبّ بين الناس، فجعل نصيبا للآخرين في مال كل إنسان، ليزدادوا من خلال التعاون والمواساة حبًّا وتمدُّنًا. لو كان كل إنسان حرًّا وغنيًا عن غيره لما ازدهرت المدَنية ولما تطورت تلك العلوم التي تميّز الإنسان عن الحيوان. فهناك حكمة عظيمة في جعْل رزق العباد مشتركًا ومخلوطا.

وأودّ هنا بيان أحكام القرآن عن الإنفاق بشيء من التفصيل لكي تترسخ في الأذهان هذه الأحكام بشكل إجمالي.

إن الإنفاق في القرآن الكريم أنواع:

1: الزكاة، وهي فرض.

2: الصدقة، وهي نفل، وأمرُها متروك لتقوى الإنسان. وهذه الصدقة نوعان: أ: ما يُنفَق منها على الذين يذكرون حاجاتهم للناس، ب: ما يُنفَق على الذين لا يذكرون حاجاتهم لأحد، وهم نوعان: أولهم: الذين يمتنعون عن إظهار حاجاتهم لأحد، وثانيهم: الذين لا يستطيعون ذكرها لأحد أصلا.

3: ما يُنفق على حاجات الأمة.

4: ما يُنفق شكرًا لله تعالى.

5: ما يُنفق فديةً.

6: ما يُنفق كفّارةً.

7: ما يُنفق لتطوير النظام الاجتماعي والمدني.

8: حق الخدمة والأجرة.

9: ما يُنفق إحسانا.

10: ما يُنفق هديةً.

هذه عشرة أنواع من الإنفاق المذكورة في القرآن، ومَن ترك أحدها في محلّه لم يعُدْ من العاملين بهذه الآية وضعفتْ تقواه. إن كثيرا من الناس يُحرَمون ثوابًا عظيمًا لعدم إدراكهم لهذا التقسيم من النفقات.

1: الزكاة

هي نفقة قد فُرضت في القرآن الكريم وقد بيَّن الله حِكمتها بأن الجميع يكسبون مالهم بمساعدة الآخرين، ويظل في أموالهم حق للناس غالبًا وإنْ أدوا حقوق البعض بشكل فردي. فعلى سبيل المثال: إذا دفَع الثريُّ الذي ينتفع من منجمٍ أجرةَ الأجراء فهو لم يدفع سوى أجرتهم، ولكنَّ لهم نصيبًا في مِلْكية هذا المنجم بحسب القرآن الذي يُعلن أن كل كنوز الدنيا قد خُلقت للناس جميعا، وليست لشخص معيّن، فمع أن صاحب المنجم يدفع أجرة الأجراء إلا أن نصيبهم في ثروة المنجم كشركاء في مِلكها يبقى غير مدفوع لهم، وليس السبيل إلى أدائه لهم إلا أن يُعطَوا المزيد. ولو دفَع لهم هذا المزيدَ فإنه لم يدفع لبقية الناس حقهم في المنجم الذي هو للناس أجمعين، ولذلك أمَره الإسلام بدفع جزء من أموال المنجم للحكومة كزكاة، لكي توزّعه على كل الناس توزيعًا مشتركا.

أما المـُزارع الذي يكسب رزقه من أرضه فلا شك أنه يأكل ثمار جهوده، إلا أنه ينتفع من الأرض التي خُلقت للناس جميعا، فيأمره القرآن أن يدفع جزءا من دخله للحكومة لتنفقه لمنفعة الناس جميعا.

والتاجر لا يستثمر إلا ماله في الظاهر، ولكن تجارته تتوقف على أمن البلاد الذي يساهم فيه كل مواطن، ولذلك قد فرض عليه الإسلام الزكاةَ ليُدفَع للناس حقهم في ماله لتتولى الحكومة توزيعه عليهم.

أما الذي يكنز ماله بعد ذلك، فإنه يحرم الآخرين من الانتفاع بماله الذي هم شركاء فيه منذ الأزل، ولذلك فرَض عليه الشرع الزكاة على ماله هذا. لا شك أنه يكون قد دفع جزءًا من ماله للمرة الأُولى عندما كسبه، ولكنه قد دفعه كحقّ للآخرين في ماله، أما الزكاة التي يدفعها عليه فإنما سببُه أنه حرم الناسَ من الانتفاع منه بجمعه وكنزه.

وأحكام الزكاة هذه كلها مذكورة في القرآن وقد شرح بعضَها النبيُّ ، وسوف يأتي ذكرها في محلها في هذا التفسير إن شاء الله. بيد أني أشير هنا إلى الحُكم الإجمالي للزكاة الذي يبيّن الحكمة وراءها، وهو قوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (التوبة 103)، أي خُذْ مِنْ جميع المؤمنين القاطنين في الدولة الإسلامية صَدَقَةً لكي تُطَهِّر قلوبهم وتطهّر أموالهم من نصيب الآخرين فيها، وتمهّد لرقي الأمة.

فالصدقة هنا تعني الزكاة المفروضة. علمًا أن للصدقة مفاهيم كثيرة -بالإضافة إلى معناها المعروف- منها الزكاة المفروضة. وقد بيّن الله تعالى هنا أن أموال الناس لا تتطهر من دون إخراج هذه الزكاة منها، لأن مال المرء يظل غير طاهر ما لم يؤد منه حق الآخرين، كما أن تقوى صاحبه تبقى ناقصة بدون ذلك. وهذه الزكاة تأخذها الدولة، وهي التي تتولى إنفاقها. وإذا لم تكن هناك دولة فإن نظام الإسلام له الحقّ بجمعها وإنفاقها، كما هو واضح من كلمة خُذْ .

2: الصدقة

أما الصدقة المعروفة فأساسها الرحمة والشفقة، ولم تُفرض بمقدار محدد، بل أمرُها متروك لمقدرة الإنسان ومستوى تقواه ولحاجات المحتاجين مِن حوله. ولأن الحكمة في هذا الإنفاق خلقُ عاطفة التعاون المتبادل بين الناس، فلا يتم هذا الإنفاق عن طريق الحكومة، بل نُصح كل فرد أن ينفقه بنفسه. وقد جاء ذكره إجمالاً في قوله تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (البقرة 275). علمًا أن قوله تعالى وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني أنهم لا يخافون مما يخفيه لهم المستقبل ولا يحزنون على ما صدر منهم في الماضي من تقصير.

وواضح من هذه الآية أنها لا تتحدث عن الزكاة المفروضة التي تُدفع للدولة، ذلك أن الزكاة لا يمكن إنفاقها سرًّا، فثبت أن الحديث هنا عن صدقة النفل التي ينفقها المرء بنفسه، تارةً سرًّا وأخرى علانيةً. ينفقها سرًّا لكي لا يعرّض المتصدَّق عليه للخجل، وينفقها علانيةً حثًّا للآخرين المقصّرين فيها، لا طلبًا للشهرة. وقد وعد الله مثل هؤلاء بأجر عظيم من عنده.

لقد ذكرتُ من قبل أن هذه الصدقة تنفق بطريقين:

1: تنفق على الذين يطالبون بسدّ حاجاتهم، مثل الفقراء الذين يسألون الناس ولا يرون فيه عارًا، فقد أمَر الإسلام بالإنفاق عليهم بحسب المقتضى، قال الله تعالى وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ (الذاريات 20)، أي في أموال المؤمنين حق للذين يسألون.

علمًا أن “السائل” في التعبير القرآني لا يعني المتسول الذي يحترف التسول، لأن الإسلام لا يحبّذ السؤال، ولا مكان لمثل هذا في النظام الإسلامي، فالقرآن الكريم يحثّ على التوكل على الله حثًّا كبيرا، والسؤال يتنافى مع التوكل كلية. ثم إن القرآن الكريم يحثّ الإنسان على تمضية حياته بشكل نافع، أما السائل المحترف فإنه يدمّر حياته.

لقد نهى رسول الله عن السؤال بشدة، أما سيدنا عمر فكان صارمًا في تطبيق هذا الأمر النبوي، فإذا رأى أحدا من السائلين المحترفين رمى ما جمَعه وأمَره بالكسب بجهده.

وليس المراد من السائل هنا المعاق والعاجز الذي لا يقدر على كسب شيء، لأن الإسلام قد جعل مسؤوليته على الأمة والمجتمع، حيث يُنفق عليه من أموال الزكاة.

فالتدبر في أحكام الإسلام الأخرى يكشف لنا أن المراد من السائل في هذه الآية مَن يكسب بجهده وعرق جبينه ولكن ماله لا يكفيه، أو أن عياله كثيرون فيضطر لأن يسأل معارفه وأصدقاءه. فمع أن الإسلام يكره السؤال إلا أنه لا يمنع منه؛ لأن السائل يبذل جهده للكسب إلا أنه لا يكفي حاجته، فسؤاله الآخرين غير محبّذ، ولكنه ليس حرامًا ولا ممنوعا، لأن الإخوان يحمل بعضهم حمل بعض.

والمصرف الثاني لهذه الصدقة هو المحروم المذكور في قوله تعالى وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات:20). والمراد من المحروم قوم لا يسألون الناس مع فقرهم، فلا ينتبه إلى ضيق يدهم مَن لا يتفقد أحوال جيرانه بدقة. وقد جاء ذكرهم في قوله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا (البقرة 274)، أي: أيها المؤمنون، أنفِقوا من أموالكم على قليلي المال الذين يعكفون على خدمة الدين أو الملّة فلا يستطيعون أن يكسبوا ويزيدوا في مالهم. إنهم مع ضيق يدهم يتجنبون لوثة السؤال ويظلون صامتين، فيظنهم الذي لا يعتاد تفقُّد أحوال الناس بدقةٍ ميسوري الحال، مع أنك إذا نظرت إليهم عرفت حالهم من آثار وجوههم. إنهم لا يسألون الناس إلحافا. علمًا أن قوله تعالى لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا لا يعني أنهم يسألون الناس ولكن برفق دون إلحاح، كلا، لأن الله تعالى قد ذكر من قبل تعفُّفهم عن السؤال، إنما المراد أنهم لا يلتقون بالأثرياء إخفاءً لفقرهم، وهكذا يُحرمون من النفع الذي يمكن أن يصيب الفقير الذي تدل هيئته على ضيق يده. وقد حثّ القرآن الكريم على الإنفاق على هؤلاء حثًّا كبيرا.

ومن معاني المحرومِ غيرُ القادر على السؤال، وعليه فيندرج في المحروم العجزة مثل البكم والعرج أو النساء اللاتي يقْرَرْنَ في بيوتهن أو الأطفال الصغار، أو الحيوانات إذ هي محرومة من النطق، فالإنفاق على كل هؤلاء صدقة.

والثابت من القرآن أن الصدقة تردّ البلاء، وقد حثّ الإسلام على إخراجها عند حلول المصائب والآفات حثًا متكررا، وتشمل الصدقة كل النفقات التي تُنفق لردّ البلاء الذي نزل ويُخاف نزوله، ولنزول فضل الله تعالى. ومن هذه النفقات النذْرُ، والفرقُ بين الصدقة المعروفة والنذر أن الصدقة تُخرَج ردًّا لبلاء قد نزل، أما النذر فهي الصدقة أو العبادة التي يَعِد المرء بإخراجها أو القيام بها لو رُدَّ عنه البلاء أو فازَ في مقصده، وقد جاء ذكره في قوله تعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ (الإِنْسان 8)، أي أن المؤمنين يوفون بعهدهم كلما عاهدوا الله تعالى بإخراج صدقةٍ أو فعلِ خيرٍ إذا ما كشف عنهم كربهم أو حقّق مقصودهم.

ويرى بعض كبار صلحاء الأمة أنه رغم وجوب الإيفاء بالنذر باعتباره عهدًا يقطعه العبد مع الله تعالى، إلا أنّ الأفضل أنْ يخرج الصدقة متوكلا على الله تعالى بدلًا من أن يساوم الله تعالى بأنه إذا كشف عنه الهمّ أو حقق له المراد فيُخرج كذا من الصدقة. ولا شك في صواب هذا الرأي.

وقد نقل البخاري عن الإمام مالك عن عائشة رضي الله عنها عن الرسول قال: “مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ”. (البخاري، كتاب الأيْمان والنذور، باب النذر في الطاعة).

3: النفقات الجماعية والدينية

والنوع الثالث من النفقات الثابتة من القرآن الكريم ما ينفقه الصلحاء وأهل الخير لسد حاجات القوم والملة، وهي لا تسمى صدقة لأنها لا تُنفق على سدّ حاجات الفقراء والمساكين، بل يعود نفعها على الفقير والغني، بل على الأمة كلها أحيانا. فمثلا إذا خرج المرء مِن بيته للجهاد أو زوّد مقاتلا بطعام أو راحلة، فإنه ينفق على القوم وليس على الفرد، لأنه لا يقاتل من أجل نفسه بل لمصلحة الأمة والدين، ولا يطلب الراحلة أو الزاد لبضعة أيام ليذهب إلى ساحة القتال ويزهق نفسه هناك هدرًا.

لقد حثّ الإسلام على هذه النفقات أيضا، وهي لا تندرج في بند الزكاة ولا الصدقة. قال الله تعالى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة:41)، أي اخرجوا للجهاد في كل حال سواءً كنتم خفافًا ، أي كان عندكم راحلة، أو كان في بيتكم زادٌ كافٍ لسدّ حاجات أهلكم في غيابكم، أو كنتم ثِقالًا ، أي لم يكن عندكم راحلة بل ستحملون أثقالكم بأنفسكم، أو لم يكن في بيتكم ما يسدّ حاجات أهلكم على ما يرام؛ فاخرجوا وجاهِدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله تعالى، فهذا خير لكم إن كنتم تعلمون.

والإنفاق بالنفس والمال لا يكون على الآخرين بالضرورة، بل مَن هيَّأ لنفسه راحلة ليخرج عليها للقتال، أو اشترى سيفا ليقاتل به العدو، أو اشترى طعاما ليتناوله أيام الجهاد فإنما ينفق على نفسه، لذا فهذه النفقة لا تكون كالصدقة المعروفة، إذ ينتفع بها المرء بنفسه، ولكنه لا ينفقها على نفسه جلبًا للذة، وإنما خدمةً للدين والملة معرّضًا نفسه للخطر، لذا فتُعتبر نفقته لابتغاء مرضاة الله تعالى، وتجعله مستحقا لثواب جزيل.

كذلك إذا أنفق المرء على أخيه الذي يريد الخروج للجهاد أو لأي خدمة اجتماعية أخرى فإنفاقه ليس صدقة بالمعنى المعروف، لأنه لم يسدّ حاجة شخصية لأخيه، وإنما يسد بها حاجة القوم.

فهذا النوع الثالث من الإنفاق ليس زكاة ولا صدقة، ولكنه ضروري جدا، ويكفل لصاحبه ثوابا عظيما. ولم يعُد الجهاد اليوم بالسيف، لذا فكل ما يُنفق لنشر الإسلام أو التعليم أو لإرساء نظام الجماعة أو غيرها من الأعمال والمشاريع فهو يندرج في هذا البند، ومن أنفق هذه النفقة فقد عمل بنصف الحُكم الوارد في قوله تعالى وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (التوبة: 41)، أما العمل بنصفه الآخر، أي الجهاد بالنفس، فلا يمكن إلا إذا اشترك المرء بنفسه في أعمال التبليغ أو التعليم والتربية من أجل رقي الأمة، ولو على حساب أعماله الشخصية.

4: والنفقة الرابعة التي رغّب فيها الإسلام وأمَر بها هي نفقةُ الشكر، والفرق بينها وبين الصدقة أن الصدقة تُنفق دفعًا لمصيبة أو رغبةً في تحقيق غاية، أما نفقة الشكر فتنفق شكرًا لله تعالى بعد زوال مصيبة أو تحقُّقِ غاية، وقد جاء ذكرها في قوله تعالى كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ (الأَنعام 142). والمراد من قوله تعالى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ : أنفِقوا منه في سبيل الله تعالى أداءً لحقّ قطف الثمر أو حصاد الزرع، أي شكرًا على أنه صار في حوزتكم.

لقد قال البعض أن هذه الآية تتحدث عن الزكاة، وقال آخرون أن هذا الحكم قد نسخ حُكمَ الزكاة، ولكن الواقع أن هذه الآية لا تتحدث عن الزكاة ولا تنسخها كما سنفصل ذلك عند تفسير هذه الآية لاحقا، وإنما بيّن الله هنا أنه إذا أنزل فضله على أحد وأعطاه ثمرة جهوده فعليه أن ينفق منها على عباد الله الفقراء شكرًا له .

لقد أهمل المسلمون العمل بهذا الحكم تمامًا، مع أنها نفقة فطرية يجب ألا ينساها المرء، بل عليه أن يُخرج من ماله عند إحراز نجاح وتحقيق غاية شكرًا لله تعالى، فهو حمدٌ عمليٌّ لله تعالى على إحراز النجاح.

5: والنفقة الخامسة التي ذكرها القرآن الكريم هي الفدية. والفدية تعني الصدقة، ومعناها الأساسي إنفاقُ شيء في سبيل الله تعالى تلافيًا لتقصير في عمل صالح. فقد قال الله تعالى في سورة البقرة (الآية 197) في معرض بيان أحكام الحج أنّ على المحرِم ألا يحلق رأسه، ولو اضطرّ للحلق لمرض في رأسه فعليه إخراج مال أو صوم أيام أو تقديم أضحيةٍ فديةً. فثبت أن الفدية نفقةٌ يقدّمها المرء تلافيًا لتقصير في عبادة.

6: والنوع السادس من النفقة حسب القرآن الكريم هو الكفّارة، ومن معانيها: عملٌ يدفع البلاء، ولكنه يعني في اصطلاح القرآن: نفقة أو عبادة يقوم بها المرء دفعًا لوبال معصية ارتكبها. وقد جاء ذكرها في الآية (90) من سورة المائدة. والفرق بين الكفّارة والفدية أن الفدية تُدفع عندما يترك الإنسان برخصةٍ من الله تعالى أمرًا لا بد من العمل به في الظروف العادية، أو يقوم بعمل يظنّ أنه قد قصّر فيه، فيخرج صدقة تلافيًا للتقصير. أما الكفّارة فتُدفع عند صدور معصية منه، أو عند اقترابه منها دون ارتكابها. والهدف من الكفّارةِ النجاةُ من وبال الإثم أو التأكيد على التوبة عمليًا، وسوف نتناول هذا الموضوع مفصلا عند تفسير الآيات المتعلقة به.

وجدير بالذكر أن الكفّارة عند القرآن الكريم هو تأكيد التائب توبتَه عمليًا بدفْع تضحية مالية أو بدنية بالإضافة إلى ندامته في القلب واعترافه باللسان، أما الكفّارة (الفداء) عند المسيحيين فمفهومها أن كائنًا عظيما ضحّى بنفسه حتى قبل ولادة الآثمين، مما يعني أنه لا علاقة للفداء المسيحي بالتوبة، لأن فداء المسيحيين قد تم قبل ارتكاب الآثام، بل قبل وجود الآثمين، وواضح أن مثل هذه الكفارة لا تمتّ إلى التوبة من قريب ولا بعيد.

7: والنوع السابع للنفقات بحسب القرآن الكريم ما يُنفِقه المرء على زوجته أو أولاده لرقيّ النظام الاجتماعي، وهي نفقة ضرورية وفريضة على المرء في القرآن، ومَن لم يدفعها صار آثما، ومن واجب الحكومة الإسلامية أو النظام الإسلامي إكراهه على أدائها. وسوف نتناول تفاصيل هذه النفقة في مكانها إن شاء الله.

8: والنوع الثامن من النفقات الثابتة من القرآن الكريم هو الأجرة، أي إذا عمل لك امرؤ عملا فعليك أن تدفع له أجرا مناسبا وتحسن إليه، ومثاله في القرآن الكريم ما أمَر الله به بحق الـمُرضع، فقال إنكم إذا أردتم أن ترضع المرضعة أولادكم فلا حرج في ذلك إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ (البقرة 234)، أي شريطة أن تدفعوا لها ما وعدتموها به من أجرة بحسب العرف واقتصاد البلد وحالتكم الاقتصادية.

لقد بين الله تعالى هنا أنه لا بد من: (1) أن يؤدي المرء الأجرة من دون مماطلة أو تأخير، ويجب أن يعد بها وكأنه قد أداها.

2: أن يؤدّى هذا الحق بحسب العرف، أي: أ: أن يُدفع بالنظر إلى اقتصاد البلد فلا يكون قليلا بحيث لا يكفي لسدّ حاجات المـُرضع. ب: هذا أقل ما يجب على المرء، والأفضل أنه إذا كان ميسور الحال فيدفع حسب وضعه الاقتصادي.

اعلم أن القرآن الكريم قد بيّن هنا مبدأً ذهبيا بحيث لو تحدّدَت الأجرة على ضوئه لانتهت كل الخصومات الحاصلة بين الأجير والمستأجر. بيد أننا سنتناول هذا الموضوع مفصلاً في الآية المشار إليها وغيرها من الآيات.

9: والقسم التاسع للنفقات حسب القرآن الكريم هو ردّ الإحسان، كخدمة الوالدين والإحسان إليهما، فخدمتهما لا يمكن أن تسمى أجرة، ذلك لأن الوالدين لا يقومان بخدمة الولد، بل يربيانه بدافع فطري، ولا يستخدم الولد ولا أحد غيره والديه على تربيته، ولا يتمنيان أجرًا على سهرهما عليه، فثبت أن معاملتهما للولد ليست خدمة بل إحسان، وإذا فعل بوالديه أي معروف عندما يكبُر، فإنه لا يؤدي لهما حق الخدمة، وإنما يسعى لرد إحسانهما لهما. قال الله تعالى وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ…. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (لقمان: 15). فبكلمة الشكر قد بيّن الله تعالى أن على الإنسان ألا يظنّ أن ما يسديه لوالديه من معروف هو إحسان إليهما، بل الحق أنهما قد أحسنا إليه، فحسنُ معاملته إياهم إنما هو تعبير عن شكره لهما اعترافًا بإحسانهما.

لقد أطلق القرآن الكريم لفظ الإحسان على حسن معاملة الوالدين، كقوله تعالى وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (البقرة: 84)، لكن ينبغي ألا يظن أحد بسبب ذلك أن خدمة الوالدين إحسانٌ إليهما بمعناه المعروف، لأن الإحسان ورد هنا بمعنى آخر؛ فمن أساليب اللغة العربية استعمال الكلمة بمعنى الجزاء بمثله، فمثلاً يسمّى جزاء الظلم ظلمًا، كذلك هنا قد أطلق الله على خدمة الوالدين لفظ الإحسان، أي أنه جزاء لإحسانهم، بينما استخدم القرآن الكريم لفظ الإحسان بحق الآخرين بمعناه المعروف.

فهناك أمثلة أخرى لكلمات تُستخدم بمعنى الجزاء بمثله، كقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (البقرة 195). والبديهي أن جزاء الاعتداء بحسب قدره ليس اعتداء، وإنما وَرَد الاعتداء هنا بمعنى الجزاء فقط وليس بمعنى الاعتداء والظلم.

كذلك إذا أُمرنا بالإحسان إلى المحسن فمعناه أن نردّ إليه إحسانه وليس أننا نمنّ عليه بمنّة زائدة.

والأمر بالإحسان إلى الوالدين يشمل حسن معاملة الأساتذة وأولادهم وغيرهم ممن يحسنون إلى المرء. وعملاً بهذا الأمر الرباني كان الصحابة يسعون جاهدين لردّ إحسان النبي بالصلوات والأدعية وأنواع الخدمة الأخرى. وعندي أن الحكمة في تحريم الرسول الصدقةَ على أولاده (مسلم، كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله وآله) هي أن يبيّن لأمته بأن الإحسان إلى أولاد هذا المحسن العظيم لا يُعتبر صدقة، وإنما هي محاولة متواضعة لردّ جميله.

وإنني أستغرب دائما أن المسلمين يركّزون كثيرا على أن النبي كان شديد الزهد ولذلك حرّم على أولاده الصدقة، ولكنهم لا يفكّرون أنهم قد أصبحوا ناكرين للجميل بحيث لا يسعون أدنى سعي لردّ إحسان هذا المحسن العظيم الزاهد في الدنيا. لا شك أن المحسن لا يفكّر في أي جزاء ومقابل، ولكن أليس من مقتضى المروءة أن يشكر المرء إحسانَ المحسِن إليه عمليا؟ وأرى أن الله تعالى قد علّم المسلمين بهذا الحكم أدبًا من آداب السلوك بأنهم إذا وجدوا أحدًا من أولاد الرسول في ضيق، فليحسنوا إليه تذكُّرًا لإحسانه إليهم؛ إذ لا يجوز التصدق على أولاده بحال من الأحوال، فمتى يتصدق الأخ على أخيه؟! إذاً، أليس واجبهم أن يحسنوا إلى أولاد أبيهم الروحاني كما يحسنون إلى إخوتهم؟ من المؤسف أن المسلمين يخالفون أحد هذين الأمرين لجهلهم بهذه الحكمة، فإما أنهم لا ينفقون على “السادات”، نسلِ الرسول ، أموالَ الصدقة والزكاة، أو لا يخدمونهم أصلاً. ومن فضل الله عليَّ أنه قد فهّمني هذه الحقيقة، ووفّقني مرارا لخدمة فقراء “السادات”، لا صدقةً عليهم، بل محاولةً عمليةً متواضعة للاعتراف بالإحسان العظيم الذي أسداه إلينا ذلك المحسن العظيم ، فالحمد لله على ذلك. ليت المسلمين يدركون هذا الأمر، ويتجنبون ارتكاب جريمتين قبيحتين؛ أعني إنفاق الصدقة على “السادات”، أو الغفلة عن معاناتهم كليةً، ولو تجنبوا ذلك فعسى الله تعالى أن يعامل أولادهم برحمة.

10: والقسم العاشر للنفقات المذكورة في القرآن الكريم هو الهديّة، أي إهداء المرء لأخيه شيئًا -في مناسبة- من دون إحسان سابق منه، لا تصدقًّا عليه بل ليزدادا حبًا. وأفضل طريق لتقديم الهدية هو الضيافة؛ فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في معرض الحديث عن النبيَّين لوط وإبراهيم عليهما السلام.

والضيافة إنما هي إحدى طرق الهدية، وهناك طرق أخرى للعمل بهذا الحكم القرآني. وللأسف أن المسلمين قد نسوا هذا الحكم أيضا، ولا يهتمّون بضيافة المسافرين إلا قليلا. أما أهل المدن فقد حُرموا العملَ بهذا الحكم تماما، مع أن الرسول قد حثّ على الضيافة حتى اعتبرها حقًّا للضيف، فقال: إذا قصّر أهل قرية في أداء حق الضيافة فيمكن أخذُه جبرا. وسوف نذكر تفاصيل هذا الحق في محله، أما هنا فأكتفي بذكر حديث للرسول جاء شرحًا لهذا الحق، حيث قال: “تَهادوا تحابّوا” (المعجم الأوسط للطبراني، الحديث رقم 7448، والبيهقي)، وقال أيضا: “مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتّى ظَنَنْتُ أنّه سيُورِّثه” (الترمذي، أبواب البِرّ والصلة، باب ما جاء في حق الجوار)

وهذه النفقة ليست من الصدقة، بل هي من أساليب التعبير عن الإخوّة والحبّ، وهي الأحكام الضرورية لازدهار التمدّن.

خلاصة الكلام أن قوله تعالى وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ لا يعني الصدقة المعروفة فقط، بل يشمل كل أنوع النفقات المذكورة آنفًا. إذاً، هذه الآية تحوي أحكامًا لطيفة للغاية بالنسبة إلى الفقير والغني والصغير والكبير كلهم، وهي ضرورية لإرساء التقوى.

نظرة إجمالية على مواضيع هذه الآية

لقد اشتملت هذه الآية على ثلاثة أحكام، فأولاً قد أمَر الله فيها بالإيمان بالحقائق المستترة عن أعين الناس، حيث بيّن أن الإيمان بالمحسوسات ليس ذا قيمة، لأن أغبى الأغبياء أيضا يؤمن به، والمتقي أسمى مكانة من ذلك، فإنه يسعى للإيمان بالحقائق الخفية على الناس أيضا. وهذه هي علامة الكمال في الروحانية؛ إذ لا قيمة لاعتراف المرء أن النهر نهر والجبل جبل، فمِثلُ هذا لا يسمى ذا علم ولا ميزة، وإنما العالم مَن ينظر إلى ما وراء هذا النهر، ويفكر في منبعه، وكيف صار نهرًا، وما هي التغيرات التي جعلته يمتلئ ماءً، وما هي المنافع التي يمكن أن يجنيها بمائه، وإلى أي جهة يجري وأين يصبّ. إنما الفرق بين الجاهل والعالم أن الجاهل يعلم ظاهر النهر، أما العالم فيعلم غائبه أيضا، وهذه المعرفة هي التي تساعده على الانتفاع به نظريًا وعمليا، كما ينفع به الآخرين. وهذا هو شأن العالِم العامل، أو العالِم المتقي فيما يتعلق بالروحانيات؛ فإنه لا يقنع بما هو ماثل أمام أعينه من هذا الكون، وإنما يبحث عن مبدئه ومنتهاه، وعما فيه من كنوز خفية، وهذا ما يسمى الإيمان بالغيب. كما هو غير خاف على أحد، فمن المحال أن يكتمل العلمُ أو العمل من دون هذا النوع من البحث والتحقيق. فثبت أن الإيمان بالغيب ضروري جدًّا لتكميل الإنسانية، ولا يغضّ النظر عنه إلا جاهل.

بعد التأكيد على ضرورة الإيمان بالغيب وأهميته لفت الله الأنظار إلى نتائجه الحتمية، فذكَر أولاً أن الإنسان حين يفكّر في مبدأ هذا العالم ويعرف خالقَه بالأدلة والبراهين، فإنه يهتمّ بإنشاء علاقة متينة به، وبتعبير آخر يتوجه إلى العبادة أو إقامة الصلاة. وإذا توطدت علاقته الروحانية بمبدأ الكلّ، أي بالله تعالى، فلا بد أن يهتمّ بخلْقه ويسعى لخيرهم، لأن صلته المتينة بمبدأ الكل تملأ قلبه حبًّا لمخلوقه، فمن شأن الإنسان محبة إخوته بسبب علاقتهم جميعًا بأبويهم. فالواجب الثاني للمتقي بعد العبادة وإقامة الصلاة أن يصبح من الذين قال الله فيهم وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون .

لقد تبيّنَ من هذا الشرح أن ذكر إقامة الصلاة ثم الإنفاق من الرزق ثم الإيمان بالغيب هنا ليس صدفةً، بل قد وردت هذه الأمور بترتيب حكيم جدا.

وجدير بالتذكر هنا أن الله تعالى قد قدّم إقامة الصلاة على الإنفاق من الرزق ليبيّن أن علاقة المرء بالله تعالى في العالم الروحاني مقدّمة على علاقته بخلق الله، وهذا هو الترتيب الطبيعي والسليم، إذ يستحيل أن يحب المرء خلق الله حبًّا كاملا من دون علاقته الكاملة به .

وهناك اختلاف بين موقف الإسلام وآراء الفلاسفة في هذه القضية، حيث يقول الفلاسفة -ويؤيدهم في ذلك أصحاب العلاقة الناقصة مع الدين- بأن الإنسان إذا صار على علاقة بخلق الله تعالى توطدت علاقته بالله تلقائيا، ومَن أصلح أموره مع الخلْق صلح أمْرُه مع الله تعالى تلقائيا، فالأهم هو الاهتمام بالمخلوق.

ولكن أدنى تأمل يكشف بطلان هذا الزعم. لا شك أن الإحسان إلى المخلوق جزء من عبادة الله تعالى، ولكن لا يصح القول بأن الإحسان إلى المخلوق يؤدي إلى التعلق بالله تعالى، إنما الحق أن العلاقة بالله تعالى تؤدي إلى حب المخلوق. والذين يخالفون هذا الرأي لا يرَون ما يؤكده الواقع، فليتهم رأوا الفارق الكبير بين سيرة قوم أحبوا الخلق نتيجة وصالهم بالله تعالى وبين سيرة قوم ادّعوا وصال الله تعالى نتيجة حبهم لمخلوقه، إذا وُجدوا أصلاً. أما الذين أحبوا خلق الله تعالى نتيجة وصال بالله فكان منهم إبراهيم وموسى وعيسى وكرشنا ورام شندر وزرادشت، بل بوذا وكونفوشيوس عليهم السلام أجمعين، وعلى رأسهم سيدنا محمد . إن سيرتهم جميعًا معروفه للجميع، فمتى وُجد عند الفئة الأخرى نظير لما قام به هؤلاء من خدمات للإنسانية وغيرها من مخلوقات الله؟ من المحال أن يقدَّم إزاءهم مثال واحد لشخص وصل إلى الله تعالى من خلال حب المخلوق. الأمر الواقع أنه لا يوجد في التاريخ مثال شخص واحد ادعى أنه أحبّ المخلوقَ فوصل إلى الله تعالى، بينما نجد مئات الآلاف الذين ادعوا أنهم وصلوا إلى الله تعالى فأحبّوا مخلوقه نتيجة حبّه سبحانه وتعالى. وما دام الواقع والمشاهدة يدلان على وجود مئات الآلاف الذين أحبّوا المخلوق نتيجة وصالهم بالله تعالى، بينما لا نجد أثرًا لشخص واحد وصل إلى الله تعالى نتيجة حبّه للمخلوق، فما الفائدة من تقديم هذا الزعم الذي لا يستند إلى دليل؟

والجانب الثاني للنظر في هذه القضية هو العقل، فلو فحصنا عقلاً هذه الدعوى بأن على الإنسان أن يحب المخلوقَ أولاً فيصل إلى الله تلقائيا لوجدناها باطلة أيضًا. الحق أن وصول العبد إلى الله تعالى نتيجة حب المخلوق أمرٌ مستحيل عقلاً، ذلك لأن حبّ المخلوق راجع إلى حب الوطن أو لِلِينِ الطبع، وواضح أن حب المرء للوطن يمكن أن يدفعه لمعاداة من ليسوا من وطنه، فلا يبقى هناك أي سبب يوصله إلى الله تعالى، بل ستكون هناك دوافع كثيرة تبعده عن الخالق وتجعله متخبطا في مصالحه بدلا من وصوله إليه . وأما إذا كان يحب الآخرين للين طبعه فليس هنالك سبب يصرفه إلى الله تعالى، لأنه لا يحسن إلى الخلْق لسبب عقلي، وإنما للين طبعه، فلا يهديه عقله إلى أي طريق آخر ولا يمكن أن يهديه.

يقول البعض هنا: ليس حب الوطن بل حب الإنسانية هو ما يدفعه إلى الإحسان إلى الناس، ومثل هذا الإنسان لا بد أن يترفع عن المصالح الأنانية.

والحق أنها دعوى بلا دليل، إذ إن كل فعل يكون وراءه دافعٌ طبيعي، وهو ما يصرف مجرى أفكار المرء، فما هو الدافع الطبيعي لمن يحسن إلى الناس حبًّا للإنسانية؟ وواضح أنه إذا لم يكن دافعه حب الله، فإنما يكون دافعه تفكيره بأن الآخرين أناس مثله فيجب أن يحبهم، ومن الواضح الجلي أن الذي يحبّ الآخرين لأنهم أناس مثله إنما يحبّ نفسه في الواقع؛ فحبُّه لذاته لن يصرفه إلى مَن فوقه عز وجل، فتكون نهايته وبدايته سواء، فلا يمكن أن يهتدي إلى الله تعالى من خلال حب الإنسانية فقط.

فلم يبق الآن إلا سبيل واحد، وهو أنّ الذي يحب المخلوق فإن الله تعالى يجذبْه إليه بسبب إحسانه إلى خلْقه، ولكن هذه حالة نادرة، لأن هذا لن يتحقق إلا لمن يحب الخلْق حبًا كاملا دون أن يكون له علم بالله تعالى؛ أما الذي عرف بوجود الله عقلاً، ثم أعرض عنه مكتفيًا بخدمة المخلوق، فقد أنكر حقيقة عظمى، فهو لا يستحق الهدى. إنما يستحق الهدى في هذه الحالة فقط مَن لا علم له بالله تعالى ولكنه يستعمل كفاءاته الفطرية استعمالا صحيحا، ومع أن الخالق ظل مستترا عنه إلا أنه عمل على تقوية صلته بما كان باديًا له أيْ بخلق الله، ولا شك أن مثل هذا الإنسان حريٌّ بأن يهتدي إلى الله مع أنه قد بدأ علاقته بخلق الله أولاً، ذلك أنه قد عمل بالقدر الذي كان ممكنا له بحسب عِلمه. ولا ننكر مثل هذه الحالات الاستثنائية، كما لا يخالفها القرآن الكريم، بل يتضح من القرآن بكل جلاء أن الذي يغتنم ما تيسر له من أسباب الهدى فإن الله تعالى يوفّر له المزيد من أسبابه، وإن شهادة النبي أيضًا تؤكد ذلك، فقد ورد في الحديث أن رجلا جاء النبيَّ وقال يا رسول الله، كنتُ أحسن إلى خلق الله قبل إسلامي، فهل أجزى عليه؟ فقال : “أسلمتَ على ما أسلفتَ” (مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده)، أي أن حسناتك لم تضع، بل هي التي ساعدتك على اعتناق الإسلام، وبتعبير آخر إن الأعمال التي قمت بها قبل علمك بالله صارت مقبولة لديه تعالى، مع أنك لم تعمَلْها ابتغاء مرضاته، ولكن لم يكن ذلك تقصيرا منك؛ فإحسانك إلى خلق الله هو الذي قد أرشدك إلى معرفة الله والإيمان به.

ولكننا لا نناقش هنا هذه الحالة الاستثنائية، أعني أننا لا نناقش هنا أنه إذا لم يكن للمرء علم بالله تعالى فكيف يعامله الله على حسناته، بل نناقش هنا: إذا كان المرء على معرفة بوجود الله تعالى فهل عليه أن يحاول إصلاح نفسه بالاتصال به تعالى، أم عليه خدمة خلق الله معرضًا عنه تعالى مدّعيًا أن هذا سيوصله إلى الله تعالى؟ لا أظن أي عاقل سيؤيد أن يُعرض الإنسان عن الله تعالى مع علمه به ويعكف على خدمة خَلْقه مدّعيًا أن هذا هو الطريق الطبيعي للوصول إلى الله تعالى. كلا، بل سيقول كل عاقل أن إعراضه عن الله تعالى في هذه الحالة لن يساعده على الهدى، وإنما يتسبب في ضلاله.

باختصار، إن وصول الإنسان إلى الله تعالى عبر خدمة المخلوق حالة استثنائية، ولا يتحقق ذلك لأحدٍ إلا مَن لم يكن له علم بالله تعالى. أما حب المخلوق بعد وصال الله تعالى فهو حالة طبيعية، لأن الذي يجد الله ويعبده فلا بد أن يحب مخلوقه أيضا، لأن وصال الله تعالى يعني معرفةً كاملة بصفاته تعالى، ومن اطلع على صفات الله مثل رب العالمين والرحمن الرحيم ومالك يوم الدين، فسوف يسعى للاتصاف بها فيعامِل عبادَه كما يعاملهم ربهم، وإلا فلا يمكن أن يتصبّغ بصبغة الله. فالإحسان إلى العباد نتيجة حتمية لوصال الله تعالى، وعلامة على علاقة العبد بربه، وللإشارة إلى هذا الأمر الطبيعي قد ذكر الله إقامة الصلاة قبل قوله

وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ .
Share via
تابعونا على الفايس بوك