العزة .. طاعة الله والعمل الصالح
كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(217)

التفسير:

لا تعني هذه الآية أن الصحابة كانوا يكرهون القتال جُبنا منهم –معاذ الله، وإنما سبب كرههم للحرب أن المؤمن يكون مسالما، ويسعى كل السعي ليتجنب الحرب، ويحسم الأمر في نطاق السلم والصلح؛ وإذا حارب العدوَّ فمضطرا. كان الصحابة رضوان الله عليهم –مسالمين، وكانوا يريدون القضاء على هذه الفتنة بدون قتل ولا إراقة دماء إن أمكن؛ ولكنهم اضطروا للحروب. فليس في ذلك ذم ولا لوم، وإنما هو مديح وثناء عليهم. فكراهيتهم للحرب منقبة لهم، إذ إنهم رغم الشرور والفتن من قبل الأعداء يريدون حسم الأمر بالصلح، ويرونه أفضل.

يقول الله تعالى: إنكم لا تحبون القتال، مع أن العدو يعتدي عليكم ويؤذيكم، ولكنني أعلم أن هذا العدو لن يرتدع ويكفّ عن هذه الفتنة بدون أن يكون بينكم وبينه قتال. فالوسيلة الوحيدة لإصلاحه هي الحرب، وأن يعاقَب على ما فعل.

لقد انخدع المسيحيون بهذه الآية وقالوا: لما كان المسلمون يخافون الحرب فلا شك أنهم كانوا جبناء (تفسير القرآن لويري، تحت هذه الآية). ولكن هؤلاء النصارى الذين يرمون الصحابة بالجبن لا ينظرون إلى شجاعة الحواريين عندهم! أيّ شجاعة وبسالة أبدوا عندما تم القبض على المسيح! الإنجيل شاهد على أنه لم يكن أحد من هؤلاء التلاميذ لينصر المسيح بشجاعة، بل إن واحدا منهم أنكر المسيح ثلاث مرات، وأما الآخرون فخذلوه ساعة العسرة هذه. فالنصارى الذين يقدسون الحواريين الذين هذا هو مبلغ إيمانهم وشجاعتهم-إذا طعنوا في الصحابة أثاروا العجب. دأبهم غريب عجيب. إذا ذُكر خروج الصحابة للحرب يعترضون عليهم. وإذا قيل لم يكن الصحابة يريدون الخروج يعترضون عليهم أيضا. وإذا كان هناك ذكر للغنائم قالوا: هم طامعون يقاتلون لسلب أموال الآخرين. أما هنا فيصمونهم بالجبن والخوف من الحرب. إذا كان الصحابة يحاربون رغبة في سلب الأموال ونهب الناس.. فلماذا يكرهون القتال؟ وإذا كانوا يكرهون القتال.. فأين رغبتهم في إراقة الدماء؟

الحقيقة أن الإنسان عندما يُلبس الكلام تفسيرا خاطئا فإنه يقع في وحل من التناقض هكذا. فليس المعنى الصحيح إلا ما ذهبتُ إليه من أن المؤمن يكون دائما مسالما، وإذا أجبر على الحرب يحارب، وإلا فإنه يؤثر ألا تضيع الأرواح وتزهق النفوس.

قوله (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم). الحقيقة أن علم الإنسان وعقله محدودان جدا. ولذلك أحيانا يخطئ الإنسان ويرى الشيء الضار نافعا، وأحيانا يرى الشيء النافع ضارا. ويرجع السبب في كلا الحالين إلى المحبة الزائدة أو الكراهية الشديدة.. أي أحيانا لا يستطيع الإنسان بسبب حبه المفرط لشيء رؤية ما فيه من أضرار، وأحيانا أخرى لا يستطيع رؤية ما في الشيء من منافع بسبب كراهيته المفرطة له. فلا يستطيع أن يأخذ قرارا يقينيا عن شيء هل هو نافع له أم ضار. وإلى هذه الحالة في الإنسان يشير الله تعالى ويقول: (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم).. أي أنكم أحيانا تجمعون الأسباب للانتفاع من شيء، ولكن تكون النتيجة فسادا، والسبب أن هناك بعض الأسباب التي كان من الممكن أن تأتي بنتيجة صالحة.. ولكنها اختفت عن أنظاركم. وما دام هذا هو حال الإنسان، فلا يستطيع في بعض الأحيان أن يجني من الشيء النتائج المرجوة، وإنما يرى النتائج المعاكسة.. فماذا يفعل؟ علاج ذلك أن يخرَّ بين يدي الله ويتوسل إليه في ضراعة وتواضع: (اهدنا الصراط المستقيم).. يا رب، دُلَّني على طريق صحيح سَوِيّ في كل أمر، سواء كان من أمور الدين أو من أمور الدنيا.. حتى أتجنب الخطأ. يجب ألا يعتمد الإنسان على حبه أو كراهيته للشيء وإنما يتسامى عن عواطف الحب والكراهية، وينظر إلى الله تعالى فقط، ويتوسل ويدعوه أن يهديه إلى طريق صحيح سليم، وأن يجعل نيته تابعة لمشيئته الإلهية. وعندئذ سوف ينال النجاح تلو النجاح، وسوف تنفتح أمامه أبواب الخير والبركة.

ثم قال (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).. الله عليم بأحوال وأمور لا تعرفونها. تظنون أن قتال الكفار يتنافى مع الرحمة، ولكن أحيانا يتحتم إنزال العقوبة بالشرير، أما إذا عُفيَ عنه تضرر وأضر بالآخرين. وما دام هؤلاء لن يرتدعوا عن الفساد بدون الحرب، فيجب أن تتصدوا لهم.

ولكن هؤلاء النصارى الذين يرمون الصحابة بالجبن لا ينظرون إلى شجاعة الحواريين عندهم! أيّ شجاعة وبسالة أبدوا عندما تم القبض على المسيح! الإنجيل شاهد على أنه لم يكن أحد من هؤلاء التلاميذ لينصر المسيح بشجاعة

يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ومنْ يرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دينِه فَيَمُتْ وَهوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ في الدُّنْيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (218)

التفسير:

يقول الله تعالى : يسألك هؤلاء عن القتال في الأشهر الحرم. وهي المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة، فما هي خلفية هذا السؤال.

عندما هاجر النبي من مكة إلى المدينة لم يهدأ غضب الكفار، وإنما بدؤوا يهددون أهل المدينة بأنكم أويتم أعداءنا، فليس لكم إلا أن تقتلوهم جميعا أو تطردوهم من المدينة، وإلا فقَسَما سوف نهاجمكم ونقتلكم ونسبي نساءكم وذراريكم. ولم يكتفوا بالتهديد وإنما أخذوا يعدون عدتهم للهجوم (أبو داود، الخراج). أما الرسول فقد كان يبيت الليالي ساهرا يترقب، وكان الصحابة يقضون الليالي والسلاح في أيديهم، حتى لا يفاجئهم هجوم العدو في ظلمة الليل، ونظرا لذلك شرع النبي يعقد الاتفاقيات مع القبائل المجاورة للمدينة. كما أنه بناء على أخبار استعداد قريش لمهاجمة المدينة بعث اثني عشر من صحابته بقيادة عبد الله بن جحش في السنة الثانية الهجرية إلى مكان يُدعى نخلة، وأعطاهم رسالة وأمرهم أن يفتحوها ويقرؤوها بعد يومين. ولما فتح الرسالة وجد فيها أمر النبي أن أقيموا في نخلة وأفيدونا بإخبار قريش. وتصادف أن قافلة تجارية لقريش قادمة مع أموال التجارة من الشام مرت بهؤلاء فقام عبد الله بن جحش –باجتهاد شخصي منه- وشنَّ الهجوم على القافلة، فقتل من الكفار عمرو بن الحضرمي وأسر اثنين منهم واستولى المسلمون على الغنائم، وعندما رجعوا إلى المدينة، وعرف النبي منهم بما جرى سخط عليهم سخطا شديدا وقال: لم أسمح لكم بقتالهم، ورَفَض قبول الغنائم منهم (تاريخ الخميس، غزوة بدر الأولى).

وذكر ابن جرير رواية عن ابن عباس تقول إن عبد الله بن جحش وأصحابه ظنوا خطأ أنهم لا يزالون في الثلاثين من جمادى الثانية. مع أن شهر رجب كان قد بدأ. فأثار المشركون ضجة بأن المسلمين لا يحترمون الشهور المحرمة التي يمتنع فيها القتال (تفسير الطبري). فردّ الله هنا على اعتراض الكفار وقال: صحيح أن القتال في هذه الشهور المحرمة أمر كريه حقا وإثم عند الله، ولكن الأشد من ذلك كراهةً وإثما هو أن يصدّ أحد غيره عن صراط الله تعالى، ويرفض وحدانية الله، ويهتك حرمة المسجد الحرام، ويخرج أهله منه دون جريمة إلا أن يقولوا ربنا الله الواحد الأحد. تفكرون في أمر واحد، ولا تفكرون فيما تأتونه من جرائم كبيرة من كفر بالله ورسوله، وانتهاك حرمة المسجد الحرام، وإخراج أهله منه بدون جريمة. وما دمتم ترتكبون هذه الأمور الشنيعة القبيحة، فكيف تلومون المسلمين وتعترضون عليهم؟ إنهم وقعوا في خطأ سهوا ونسيانا، ولكن ما تفعلونه عمد مقصود.

قوله (والمسجد الحرام). قال العلامة أبو البقاء إنه بدون تكرار حرف الجر هنا لا يمكن جر “المسجد الحرام”، لذلك يرى تقدير محذوف هنا هو وصد عن المسجد الحرام . وذكر صاحب الكشاف أيضا هذا التقدير (الإملاء، الكشاف). ولكن بعضهم قالوا المسجد الحرام معطوف على (به) أي كفر به وبالمسجد الحرام (روح المعاني). أما العطف بدون إعادة حرف الجر فيجوز، ومن أمثلة ذلك قول العرب: ما فيها غيرُه وفرسِه “.. أي ليس في الدار غيره وغير فرسِه. فكلمة (فرسه) هنا معطوف بدون حرف جر ظاهري.

قوله تعالى (والفتنة أكبر من القتل). الفتنة المذكورة هي نفس الفتنة التي أشير إليها في قوله تعالى (ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) فقد أطلق كلمة الفتنة هنا على ما يقوم به الكفار من أعمال للضغط على المسلمين كي يرتدوا، واعتبر هذه العملية أشد وأخطر من القتل. يعني أن الكفار لا يستطيعون ردكم إلى الكفر، ولكن الغرض الحقيقي من محاربتهم إياكم هو ردكم عن دينكم. وفعلا نرى أن الله تعالى خيّب نوايا الكفار هذه. فلم يتمكنوا من التغلب على المسلمين . وإذا وقع أحد من المسلمين في يد الكفار بذلوا كل جهودهم ليردوه عن دينه. وما حدث مع بلال وأبي جندل وياسر يلقي ضوءا كافيا على هذه الحقيقة (السيرة النبوية لابن هشام). عن هذه الأنشطة الجبرية لإخراج المسلمين عن دينهم قال الله تعالى (والفتنة أكبر من القتل).. أي أن إيذاء أحد بسبب دينه أخطر وأشد إثما عند الله من القتل والحرب.

ثم يقول (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة). يعترض البعض على جملة (حبطت أعمالهم) هنا قائلا: ما دام قد قام بعمل فكيف يضيع عمله؟(تفسير الرازي).

الحقيقة أنهم أثاروا هذا الاعتراض لأنهم لم يدركوا معنى (حبطت). وهناك آية أخرى توضح معنى (حبطت) وهي (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا، إليه يصعد الكلم الطيب،والعملُ الصالح يرفعه) (فاطر: 11).. أي أن من طلب العزة فعليه أن يطيع الله ويصلح عمله، لأن كل أنواع العزة عند الله تعالى، فإليه تصعد الأرواح الطاهرة، ويرفعها إليه العمل الذي يتم بحسب الإيمان. تبين من هذه الآية أن ضياع الأعمال يعني أنها لا تحظى بقبول من الله تعالى، ولا تقرِّب الإنسان إليه.. فـ(حبطت أعمالهم) تعني أنهم لم يقوموا بهذه الأعمال لوجه الله، لذلك لن تحظى بالقبول لديه، ولن تصعد أرواحهم إلى السماء.

كذلك تعني أنه لو وفِّق أحد للقيام بخدمات عظيمة للإسلام بعد الإيمان ، ولكنه مات على الكفر فإن خدماته هذه تضيع، لأنه أثبت بكفره أن خدماته كانت باطلة، فلن تنفعه أعماله هذه في الآخرة لأن عاقبته كانت سيئة.

(وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).. أولئك الذين سوف يُلقون في جهنم، لأنهم أوقدوا في الدنيا نارا للفتنة والفساد بارتدادهم.

     

 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(219)

 التفسير:

في الآية السابقة ذكر الله الذين يموتون وهم في حال الارتداد، وبيّن أنهم لن يفلحوا في مساعيهم لمحو الإسلام. والآن ذكر أولئك الذين وُفقوا للتوبة بعد الارتداد وعادوا للإسلام مرة أخرى. ولما كانت وصمة الارتداد قبيحة للغاية، لذلك لم يشترط الحق تبارك وتعالى للتوبة الإيمان وحده، بل قال: إنما نقبل التوبة فقط ممن يؤمن من جديد ثم يهاجر.. أي يترك العادات القبيحة من الجبن وإخفاء الإيمان، أو يترك الأماكن التي يُمارَس فيها الجبر في الدين، ثم يصبح في سبيل الله سيفا مسلولا، ويقوم بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس. فإذا فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما.

يذكر التاريخ أنه بعد وفاة سيدنا أبي بكر جاء سيدنا عمر-رضي الله عنهما –للحج في مكة، وبعد أداء فريضة الحج جلس يستقبل الناس. وكان منهم جماعة من الشباب من أبناء أسياد مكة وكبراء قريش، فرحب بهم أمير المؤمنين بالتوقير والاحترام، وتحدث معهم في شتى الأمور.. حتى دخل عبد من أصحاب النبي ، وكان آباء هؤلاء الشباب في بداية الإسلام يضربونه بنعالهم ويجرونه في الطرقات لإسلامه حتى يدمونه. فعندما دخل هذا الصحابي قال عمر للشباب: تنحوا قليلا، وأفسحوا المكان لهذا فهو صحابي للرسول . فتأخروا واقترب الصحابي من عمر وأخذ يتحدث معه، وجاء صحابي آخر، فأمر سيدنا عمر أن يتنحوا ويفسحوا له فهو من أصحاب النبي . وتكرر هذا الأمر إلى أن اضطر هؤلاء الشباب للجلوس في مكان النعال. فقاموا وخرجوا من المجلس وقد اغرورقت عيونهم بالدموع.

كذلك تعني أنه لو وفِّق أحد للقيام بخدمات عظيمة للإسلام بعد الإيمان ، ولكنه مات على الكفر فإن خدماته هذه تضيع، لأنه أثبت بكفره أن خدماته كانت باطلة، فلن تنفعه أعماله هذه في الآخرة لأن عاقبته كانت سيئة.

قال بعضهم لبعض: هل يمكن أن نتصور رؤية يوم نهان فيه هكذا؟ لقد قُدِّم علينا الذين كانوا يفتخرون بحمل نعالنا، وأجلسوا أمامنا. ودفعوا بنا إلى الخلف حتى جلسنا في مكان النعال، كأنما عزّ الأذلاء وذل الأعزاء. خرجت هذه الكلمات من أفواههم رغم كونهم مؤمنين.. بسبب الغضب وحماس الشباب. ولكن شابا منهم، كان أقواهم إيمانا، فقال: أيها الإخوة، صدقتم، ولكن من هو المسؤول عن ذلك؟ من الذي جعل آباءنا يرفضون محمدا ويعارضونه؟ إن آباءنا عادوه، ولذلك رأينا هذا اليوم المشئوم.. إذ اضطررنا للتأخر في المجلس. أما الذين خدموا النبي ، وضحوا لأجله بأرواحهم وأموالهم.. فقد قتل بعضهم، ولكن الباقين منهم لهم كل الحق في التكريم والتبجيل والجلوس في المقدمة قبلنا. قالوا: صدقت، ولكن هل هناك سبيل لمحو هذه الوصمة من الذلة والعار؟ هل هناك تضحية تكون كفارة لذنوبنا؟ فقال الشاب: تعالوا نذهب إلى أمير المؤمنين عمر ونسأله العلاج لذلك.

فذهبوا إلى بيت عمر وطرقوا الباب، وكان المجلس قد انتهى، فدعاهم عمر وقال: ما وراءكم؟ قالوا: ألم تر كيف عوملنا اليوم؟ قال عمر: كنت معذورا، لأن هؤلاء الذين جاءوني عندئذ كانوا من أصحاب النبي ، وكان من واجبي أن أعزهم وأكرمهم. قالوا: نحن ندرك ذلك جيدا، ونعرف أن آباءنا قد جلبوا على أنفسهم ذلة وعارا بمخالفتهم النبي ، ولكن هل من سبيل لمحو هذه الوصمة من جباهنا؟ ولما كان سيدنا عمر من أسرة شهيرة بمعرفة أنساب العرب، ويعرف ما كان يتمتع به آباء هؤلاء الشباب من عز وجاه دنيوي، حتى أن هؤلاء الكبار لو أعطوا الأمان لأحد المسلمين في زمن ضعف الإسلام لم يجرؤ أحد على إيذاء هذا المسلم. جرى مسلسل هذه الأحداث أمام سيدنا عمر حلقة حلقة، وأخذته الرقة بتذكرها، ولم يستطع الكلام، فأشار بيده إلى الشمال حيث كانت الحرب دائرة بين المسلمين والمسيحيين في الشام ليقول لهم: إن علاجكم هناك. فهذه الوصمة لن تزول إلا إذا ذهبتم إلى هناك واشتركتم في القتال، وضحيتم بأنفسكم.. وعندئذ سوف ينسى الناس تلقائيا تلك الأمور المؤلمة. فخرجوا من فورهم، وركبوا الإبل إلى الشام. وكان عددهم سبعة، واشتركوا في الجهاد للتخلص من وصمة العار القديمة. ويذكر التاريخ أنه لم يرجع أحد منهم إلى مكة وإنما استشهدوا جميعا في هذه الحرب (سيرة عمر للجوزي، باب38).

فكما نال هؤلاء الشباب رضوان الله بالتضحية بنفوسهم.. كذلك إنما تُقبل التوبة حقا بعد الارتداد ممن يعلن الإيمان بلسانه ثم يقوم بالهجرة.. ظاهرة أو معنوية، ثم يجاهد الكفار في سبيل الله. هذه هي الوسائل التي تجعله موردا لرحمة الله تعالى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك