الشجرة الخبيثة.. أبعاد ودلالات
  • الدين الصحيح يوصل أتباعه للمكالمة الإلهية
  • مؤسسو الأديان الباطلة يغيرون تعاليمهم حسب مصالحهم الذاتية
  • ثمرة الكلمة الطيبة هي ثبات المؤمن وإلهام ربه له.
  • الفوز بقطف ثمار الشجرة الطيبة من خلال الانفاق في سبيل الله والالتزام بالصلوات الخمسة
__
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ   (الآية 27)

شرح الكلمات:

خبيثة: الخبيثُ: النجِس؛ الرديءُ المـستكرَه؛ كلُّ حرام. وفي “التاج”: الخبيثُ نَعْتُ كل شيء فاسدٍ، ومنه: كلامٌ خبيث. والحرامُ السُّحتُ يُسمى خبيثاً، والمالُ الحرامُ والدمُ وما أشبههما مما حرّمه الله. يُقال في الشيء الكريه الطَّعم خبيثٌ مثل الثوم والبصل والكُرّاث، ولذلك قيل: مَن أكلَ من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنَّ مجلسنا (الأقرب).

فالمراد من كلمة خبيثة :

1) كلام قبيح رديء لا يستطيع الإنسان سماعه.

2) كلام يولّد النفور في النفس.

3) كلام يأمر الله باجتنابه.

4) كلام لا يأتي بنتائج جيدة.

5) كلام اختلط فيه الحسن بالقبيح، بحيث ينفع الفرد ولكن لا ينفع القوم.

اجتُــثَّتْ: اجتثَّه: اقتلعه، ومنه ومثلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثة اجتُثّت من فوق الأرضِ أي استُؤصِلتْ (الأقرب)

قَرار: قرَّ بالمكان قراراً: ثَبَت وسكَن. والقَرارُ: ما قُرَّ فيه؛ المستقَرُّ الثابت (الأقرب).

التفسـير:

لقد ذكر الله هنا علامات الديانات الباطلة أو غير الصالحة للعمل بها وهي كما يلي:

1- أنها تكون قبيحة المنظر.

2- تخلط بين التعاليم السامية والتعاليم الرديئة.

3- لا تأتي بنتائج مُرضية سامية، بمعنى أنها غير قادرة على أن تُمكّن العاملين بمبادئها من الوصال بالله تعالى.

خذوا مثلاً “البهائية” التي قد مضى على تأسيسها ما يقارب 90 سنة، وذلك بدءاً من دعوى “الباب”، ولكن ليس بين أتباعها حتى ولا شخص واحد يمكن أن يُعلن بأنه استطاع عن طريق العمل بمبادئ البهائية أن يصل إلى الله تعالى وأن الله تعالى يشرِّفه بالحديث معه. بينما على النقيض من ذلك نجد مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية الذي بعثه الله إماماً مهدياً ومسيحاً موعوداً للأمة الإسلامية، فإنه لم يمضِ على بعثته إلا وقت قصير جداً، وها نحن اليوم يمكن أن ندل على مئات الأشخاص من أتباعه الذين يتشرفون بكلام الله تعالى.

إن فعل اجتُثّتْ جاء لبيان علامات الكلمة الخبيثة أي الديانة الباطلة على النحو التالي:

1- إنّ كتاب تلك الديانة يتحدث عن أمور سطحية جدّاً مما يعرفه الناس عموماً، وليس عن أمور روحانية دقيقة.

2- إنّ تعاليمه تكون مؤقتة لا تعرف الدوام والثبات. وهذا هو حال تعاليم البهائية. لقد أجاز “البهاء” الزواج بامرأتين (الأقدس)، ولكن جاء “عباس” بعده وألغى هذا الحكم.

3- إن أحكامه لا تصمد أمام النقد. فإذا اعترضت على مبادئه ترى أتباعه لا يجدون الجواب عليه، فيضطرون للانسحاب من موقفهم لاتخاذ موقف مُغاير. وهذا هو حال التعاليم البهائية أيضاً. إنهم لا يتمسكون بموقف واحد، بل يغيرون موقفهم دائماً عند مواجهة النقد والاعتراض.

4- إن تأثير تعاليمه قصير الأمد وتنفر منه القلوب سريعاً. لكن التعليم الحق هو ما يُكتب لهُ الخلودُ بسبب تأثيره البعيد. ومثال هذا التعليم الباطل في فجر الإسلام ما عَرَضَه مسيلمة الكذاب وغيره من تعاليم. ومثاله في هذا العصر ما علّمه “البهاء”، لأن أتباعه أنفسهم لا يعملون بتعاليمه، حتى إنه لا يوجد في أي من القرى البهائية جماعة من البهائيين تعمل بحسب تعاليم البهاء.

5- إنه لا يتلقى دعماً سماوياً .. بمعنى أنّ أتباعه لا يتشرفون بالوحي السماوي.

6- إن فروع شجرته الروحانية لا تكون عالية باسقة، بمعنى أنه لا يعلّم الأخلاق السامية الفاضلة، ولا يتحدث عن كل القضايا الحيوية التي تهُمّ الإنسانية جمعاء.

أما قوله تعالى ما لها من قرار فقد أشار به إلى مزيد من العلامات للدين الباطل وهي:

أ- إنه لا يتمكن من تثبيت جذوره في أية أرض.. بمعنى أنه تعالى لا يسمح لمثل هذه الديانات بأن تتوطد في أي بلد فيختبر الناس تعاليمها بالعمل بها، بل تموت هذه الديانة دونما تجربة واختبار.

ب- إن أهل هذا الدين يضطرون لتغيير مبادئه وأصوله من حين لآخر. لقد أعلن الإسلام منذ البداية أنْ “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، ولم يحدث فيه أي تغيير ولا تبديل بعد ذلك أبداً. ولكنّ الديانة الباطلة تضطر دائماً لإحداث التغيير في مبادئها. فلو أخذنا البهائيين مثلاً فإنهم يغيّرون أصول البهائية من بلد إلى آخر. فإذا زرت البهائيين في إيران بلاد الشيعة، تجدهم يقدّمون لك مبادئ البهائية وتعاليمها بشكل مغايرٍ تماماً لما يقدمونه إلى أهل بلاد إسلامية  من السنيين.كذلك تختلف مبادئهم في أمريكا عمّا هي عليه في إنجلترا، ذلك لكي يجتذبوا أهل هذه البلدان  إليهم ولو على حساب أصول البهائية. فعندما زرت إنجلترا جرى حوار بيني وبين سيدة بهائية في أحد المجالس فسألتها: ما هو الجديد الذي قدّمه “البهاء”؟ قالت: إنه أمرَ بالزواج من امرأة واحدة فقط. قلت: ولكنه نفسه تزوج باثنتين؟ فقالت: لقد تزوج بالأخرى قبل إعلان دعواه. قلت: ما دام “البهاء” كان يدّعي بكونه إلهاً، فلا فرق بين أن يتزوجها قبل الدعوى أو بعدها، لأن الإله العليم يجب أن يعرف منذ البداية ماذا سيعرض على الناس من أحكام وتعاليم، فيجب ألا يخالفها بنفسه! ثم إن البهاء قد سمح لابنه عباس بالزواج بسيدة أخرى، لأن زوجته الأولى لم تقدر على الإنجاب!

قوله تعالى وآتاكم من كلِّ ما سألتموه يعني أن الله تعالى قد هيّأ للفطرة الإنسانية كلَّ ما كانت بحاجة إليه، وليس المراد منه أنه تعالى آتى الناسَ كل ما سألوه…

وكانت هناك سيدة بهائية إيرانية، فهمستْ هذه في أذن صاحبتها الإنجليزية بأن “البهاء” كان اتخذ زوجته الأخرى أختاً له بعد الدعوى، فأعادت السيدة الإنجليزية نفس الكلام. فقلت لها: ولكن “البهاء” رُزق الأولاد من الامرأتين كلتيهما، وذلك بعد دعواه أيضاً. فهل تظنين أنه كان ينجب الأولاد من أخته؟! فأخذتْها الدهشة واتجهت إلى صديقتها الإيرانية تسألها: هل هذا صحيح؟ فقالت: نعم. فضحك الحضور جميعاً.

وباختصار، فإن البهائيين يُغيّرون أصولهم ومبادئهم في كل بلد جديد. ونفس الحال بالنسبة للمسيحية، حتى إن المسيحيين ينشرون كتباً يوصون فيها دعاتهم كيف يجب أن يقدِّموا المسيح أمام شعب معين في بلد معين. وقد حدث في أوائل تاريخ المسيحية، أن الرومان عندما طالبوا القسيسين المسيحيين أن يجعلوا “السبت” يوم الأحد بدلاً من يوم السبت الحقيقي، رضخوا لطلب الرومان، وحوّلوا السبت أحداً.

أَمَّا الإسلام، فإن جميع تعاليمه ثابتة قائمة على أصلها الواحد دونما زيادة ولا نقصان.

يُثَبِّت الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ  (الآية 28)

شرح الكلمات:

يُثبِّت: ثَبَتَ الأمرُ عند فلان: تحقق وتأكد. ثَبَتَ فلانٌ على الأمر: داوَمَه وواظَبَه. ثبَّته وأثبَتَه: جعله ثابتاً في مكانه (الأقرب)

يُضلّ: أضلَّه: أهلَكَه (الأقرب)

التفسـير:

القول الثابت الذي يُثَبِّتُ به الله المؤمنين هو ثمرة الكلمة الطيبة، بمعنى أن الله تعالى يؤيدها بالإلهام إلى العاملين بها.

لقد وصف الله هذا القول “ثابتاً” لأن هذا الإلهام يتلقاه هؤلاء اليوم وسيتلقاه أجيالهم غداً، ولن تنقطع سلسلة الإلهام هذه أبداً.

وهناك سبب آخر أيضاً لوصف هذا القول “ثابتاً” وهو أن هذا الوحي ينفع العاملين به في هذه الدنيا، وكذلك سينفعهم في الآخرة، ولكن ما يخترعه المدعون كذباً لا ينفع أحداً بعد الموت.

وقوله تعالى ويضلُّ الله الظالمين .. فاعلمْ أن الظالمين هم أولئك الذين يريدون إحداث العِوج في كلام الله تعالى، ويصـدون عن سـبيلـه.

ويعني   قوله تعالى: ويفعل الله ما يشاء أن الله تعالى لا بدّ أن ينجز وعده فيما يتعلق بنشر رسالة القرآن الكريم وتوطيدها في العالم وهلاك أعدائه.

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ   (الآية:29)

شرح الكلمات:

البَوار: بارَ يبور بَوْراً وبَواراً: هَلَك. بارَت السوقُ والسِّلعةُ: كسَدَت. بارَ العملُ: بطَلَ. بارت الأرضُ بَوْراً: لم تُزرَع. بارَ زيدٌ عمراً: جرَّبه واختبره، ومنه: كنّا نبورُ أولادَنا بحـبِّ عليٍّ. والبَـوارُ: الهلاكُ؛ الكَسـادُ (الأقرب)

فالمراد من دار البَوار : دار الهلاك والخراب؛ دار الاختبار والامتـحـان؛ دار الكسـاد والخـسران.

التفسـير:

المراد من قوله تعالى وبدّلوا نعمة الله كفراً هو أن الله تعالى خصّهم بالنعم ولكنهم جحدوها، وصنع بهم معروفاً بإعطائهم “الكلمة الطيبة” ولكنهم تنكروا له وتسببوا في هلاك القوم.

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (الآية:30)

 شرح الكلمات:

القرار: (راجع شرح الكلمات للآية رقم 27 من هذه السورة)

التفسـير:

أي أن إنكار الكلمة الطيبة يؤدي بصاحبه إلى الهلاك حتماً، وأن هذا الهلاك مؤلم يحرق قلب المنكر دائماً.

وَجَعَلُوا لله أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ  (الآية: 31)

شرح الكلمات:

أنداداً: جمعُ النِّد وهو: المِثلُ، ولا يكون إلاّ مخالفاً، يُقال: ما له ندٌّ أي ما له نظيرٌ (الأقرب)

التفسـير:

اعلم أن كلمة أنداداً لا تعني هنا كما يُوهم معناها اللغوي أن هؤلاء الشركاء يخالفون الله في الواقع أو أن المشركين يزعمون أن هؤلاء الشركاء يعادون الله تعالى، وإنما المراد أن وجود شركاء لله يتنافى مع عظمة الله تعالى، لأن الإنسان إذا اعتقد بوجود شركاء مع الله ، لم يَعُدِ الله إلهاً. وكأنه تعالى يقول لهم: لماذا تُعرضون عن الكلمة الطيبة وتقعون في هذه الأعمال العابثة التي لا معنى لها.

وتذكّروا أنه عندما يجدُ أبناء الجماعة الإنفاقَ على أنفسهم صعباً، بينما يجدونه في سبيل الدين سهلاً وكأنه عاطفة طبيعية.. عندها هذا ستنفتح على جماعتنا أبواب الرُّقي والازدهار.

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خِلَالٌ  (الآية:32)           

شرح الكلمات:

خِلال: جمعُ خُلَّة. خالَّه مُخالَّةً وخِلالاً وخَلالاً: صادَقه وآخاه. الخُلَّةُ: المحبةُ والصداقةُ لا خَلَل فيها (الأقرب)

التفسـير:

أي قل يا محمد للمؤمنين بأنهم إذا كانوا يودّون أن تسرع لهم الكلمة الطيبة بثمارها فعليهم أن يؤدوا الصلاة دوماً، مراعين شروطها كلَّها، وأن ينفقوا أموالهم في سبيل الله سرّاً وعلانية.

وأرى بناءً على هذا الأمر الإلهي أن من ترك الصلاة متعمداً ولو صلاةً واحدة، فلا يمكن أن يسمّى مُصلياً حقيقياً.

الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَار* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار  (الآيتان: 33و34)

شرح الكلمات:

دائبَين: دَأَبَ في عمله يَدأَبُ دأْباً ودأَباً: جدَّ وتعب واستمرّ عليه (الأقرب)

التفسـير:

لقد تحدّث الله هنا عما مَنَّ به على العباد من نِعَم وبركات ليذكّرهم أنه خلق هذه الأشياء والظواهر لمنفعتهم، ولو أنهم بدأوا في عبادتها جهلاً منهم، بدلاً من أن يسخّروها لمصالحهم، فسوف يُعتبرون ناكري الجميل وسوف تُنـزع هذه النِعَم من أيديهم.

كما بيّن لهم إن هذه النِعَم مِلكٌ لنا، فلذا سوف نُمَتِّع بها الآن الذين يتبعون كلمتنا. وبالفعل فقد سخّر الله هذه النِّعَم لخدمة الإسلام والمسلمين حتى ملكوا الأيام ولياليها والبحارَ وسفنها.

لقد ورد في الآية السالفة أمران هما: يقيموا الصلاة ويُنفقوا مما رزقناهم ، وعلاقتهما بهاتين الآيتين هي أن إقامة الصلاة تعني نفيَ الشِرك، وكأن الله تعالى حذّر المسلمين سلفاً بأننا سوف نمنحكم عن قريب نِعَماً كثيرة، فحذارِ من أن تتوانوا في الصلاة بسببها وتقعوا في الأعمال الوثنية.

كما أمرهم في الآية السالفة وينفقوا مما رزقناهم وكأنه حذّرهم أن لا يكونوا كالذين يتخذون بعض هذه النِّعم آلهةً، ويعتبرون بعضَها مِلكاً لهم فقط. بل لقد سخّرناها كلّها لخدمتكم ومنفعتكم جميعاً، فلا تتخذوها آلهةً، كما لا تحرموا الآخرين منها، ظانّين أنها مِلكٌ لكم فقط، بل شارِكوا فيها كل المخلوقات، وآتوا كل واحد نصيبه منها، لأننا قد خلقناها لمنفعة الجميع وليس لطائفة معينة.

وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (الآية:35)

 التفسـير:

قوله تعالى وآتاكم من كلِّ ما سألتموه يعني أن الله تعالى قد هيّأ للفطرة الإنسانية كلَّ ما كانت بحاجة إليه، وليس المراد منه أنه تعالى آتى الناسَ كل ما سألوه، لأن الله تعالى لا يحقق للإنسان دائماً ما يريده منه، ولكن كلَّ ما تقتضيه الفطرة الإنسانية فإنه يهيئه لها دائماً. فمثلاً إذا كان الله تعالى قد أودع فطرةَ الإنسان مَلَكَة التأثير فإنه تعالى قد خلق هناك في الخارج أشياء تؤثر في الإنسان، وإذا كان خلق فيه مَلَكَة التأثير فإنه قد جعل هناك أشياء تقبل تأثيره. فإذا جعل الله للإنسان العين ليرى بها، فإنه قد جعل إزاءها النور الخارجي الذي تبصر به، والمناظر الخلابة التي تتمتع بها. وجعل له الأذن ليسمع بها، وخلق إزاءها الهواء الذي يوصل الأصوات إلى الأذن، كما خلق ألحاناً جميلةً عذبةً يتمتع بها. وخلق في المرء الحيوانات المنوية القادرة على الإخصاب، وجعل إزاءها في المرأة ما يقبل هذه المادة فتنجب. وخلاصة القول إن الله قد لبّى كلَّ مقـتضًى للفطرة الإنسانية. وهـذا هو المـراد مـن الآية.

وأما إذا قلنا إن الفعل الماضي في قوله تعالى وآتاكم من كل ما سألتموه قد جاء بمعنى المضارع تأكيداً، فالمراد أن ما نعدكم به اعتبِروه وكأنه قد تمّ الوفاء به.. بمعنى أيها المؤمنون المضطهدون بأيدي الكفار في مكة -مع العلم أن هذه السورة مكية- تتمنون أن نعطيكم أرضاً لتتمكنوا من نشر تعاليم القرآن فيها بحرية، وتوطّدوا رسالته فيها دون عائق، فها قد حققنا لكم هذه الأمنية، وسوف نسخّر لخدمتكم كل ما في السماء وما في الأرض، ونهيئ لكم كل سبب وسهولة. سوف نعطيكم أرضاً تتمتعون فيها بحرية، وتعملـون فيها بتعـاليم دينكـم، لنكتـب للإسـلام الازدهـار.

وإننا نعيش اليوم أيضاً في عصرٍ قد تعذر فيه العمل بتعاليم القرآن الكريم بصورةٍ كاملةٍ وبحريةٍ تامة. بل إن هناك بلاداً كالبلاد الروسية التي لا يُسمح فيها للمسلم أن يعيش حياته بحسب الشرع الإسلامي. وهناك مناطق أخرى في العالم يصعب فيها تبليغ رسالة القرآن، بل أرى أنه من المستحيل أن ننشر الحق الخالص.. أعني الإسلام بدون الشوائب.. في أي مكان من العالم، إذ إن علماء المسلمين وأعيانهم وأسيادهم وأتباعهم كلهم قد غيّروا أحكام الدين بحسب رغباتهم وأهوائهم، ولو أردنا نشر الإسلام منزَّهاً عن هذه الزيادات والشوائب والبِدع التي أدخلها هؤلاء في التعاليم الإسلامـية  لما استطعنا إلى ذلك سبيلاً في أي بلد. ولذلك فعلى كل مؤمن أن يعمل بالوصية الربانية القائلة: “ويقيموا الصلاة”، ويدعو الله تعالى إلى أن يتيح له الفرص لتبليغ رسالة القـرآن وتوطيد الإسـلام في العـالم.

إنَّ مَن تهاون في خدمة الإسلام بعد التمتع بهذه النِّعم يكون ظلوماً وكفّاراً. سيكون ظلوماً لأنه يتسبب في خراب العالم الروحاني الطاهر الذي خلقناه عن طريق الإسلام، وسيُعتبر كفّاراً لأنه يتنكر لنا بعد أن آتيناه كلَّ هذه النِّعم والأفضال والبركات.

واعلموا أن الله تعالى إنما يتقبل هذه الأدعية من الذين يقيمون الصلاة.. أي الذين يواظبون على أدائها دون انقطاع، أما الذين يتخلفون عن أداء الصلاة بالجماعة دون أي عذر حقيقي شديد فلا يُستجاب دعاؤهم إلا قليلاً. كذلك لن يستجاب الدعاء لنشر الإسلام إلا مِن الذين يقومون بالتضحيات المالية أيضاً في سبيل نصرة الإسلام. لا شكَّ أن جماعتنا تؤدي التضحيات المالية في إطار التبرعات العامة، ولكن يجب أن تعلموا أن هناك بَوناً شاسعاً في هذا الشأن بيننا وبين صحابة الرسول . فإنهم كانوا يؤثرون الفقرَ لينفقوا من أجل الدين. وما لم ننفق بهذه الروح فإن رُقِيَّنا مستحيل. لقد أمرنا الله تعالى بالإنفاق، وقدّم كلمة سرّاً على علانيةً ليبيّن لنا أن الإنفاق الحقيقي إنّما يتم بشكل طبيعي تلقائي لا تشوبه شائبة من الرياء والسمعة وغيرهما. والمعلوم أنه في حالة الإنفاق الطبيعي التلقائي لا يحتاج الإنسان لإرغام نفسه، بل يتم ذلك بطريق تلقائي، بل وقد يحاول الإنسان إخفاء ما ينفق. فالآية تدعونا إلى هذا الإنفاق الطوعي التلقائي، وليس إلى أن ننفق على أنفسنا ومن أجل راحتنا بكل شوق ورغبة، بينما تنقبض نفوسنا ونحتاج إلى حث الآخرين لكي ننفق في سبيل الله. وتذكّروا أنه عندما يجدُ أبناء الجماعة الإنفاقَ على أنفسهم صعباً، بينما يجدونه في سبيل الدين سهلاً وكأنه عاطفة طبيعية عندها ستنفتح على جماعتنا أبواب الرُّقي والازدهار.

وقوله تعالى وإنْ تعدّوا نعمةَ الله لا تُحصوها لا يعني أنكم لا تستطيعون أن تُحصوا نِعَم الله الظاهرة المتوفرة لديكم، لأن هذا المعنى بسيط يعرفه كل إنسان، حتى إن النِّعَم المتمثلة في أجسامنا أيضاً تخرج عن حدِّ الإحصاء. الحق أن الآية إشارة إلى النِّعم والأفضال التي سيمنحهم الله إيّاها في المستقبل، ويقـول الله تعـالى: سوف نمطـر عليـكم نِعماً وبـركات تفـوق توقعاتـكم وتصـوراتـكم.

وأشار بقوله تعالى: إنّ الإنسان لظلومٌ كفّار   إلى أن مَن تهاون في خدمة الإسلام بعد التمتع بهذه النِّعم يكون ظلوماً وكفّاراً. سيكون ظلوماً لأنه يتسبب في خراب العالم الروحاني الطاهر الذي خلقناه عن طريق الإسلام، وسيُعتبر كفّاراً لأنه يتنكر لنا بعد أن آتيناه كلَّ هذه النِّعم والأفضال والبركات.

Share via
تابعونا على الفايس بوك