التأني في الإجابة وعدم التسرع في الجزْم

التأني في الإجابة وعدم التسرع في الجزْم

هاني طاهر

  • التفكر والاستفسار لا يجديان ما لم ينور الله تفكيرنا.
  • مهما كثر ظهور المسحاء فإن المسيح الحق ينصره الله

__

يتبنى بعض الناس بعض العقائد من غير دليل، ثم توقعهم في حرج حين يتبين عدم دقتها، وقد يرتد جزء منهم، ومنهم من يملأ الشكُّ قلبه، ومنهم من يضطر للتراجع عن خطئه مما يجرِّئ الخصم.

الواجب في الردّ على أيّة مسألة لستَ على يقين منها هو قولُ “لا أعرف”، أو “قد يكون”، أو “لعلّ للمسألة زوايا أخرى للنظر منها” وليس التسرع بالإجابة القاطعة.

هناك مَن لديه معلومات كثيرة وقلبٌ قاسٍ ويسعى للإيقاع بالطيبين من قليلي المعلومات، فمثلا قد يبدأ معهم الحوار بقوله: هل يمكن أن تؤمن بنبي قتل مئات الناس إعداما بعد استسلامهم في معركة؟ فيسارع قليل المعلومات بقوله: حاشا لله، هذا مستحيل، وهذا ليس نبيا، فالنبي يعفو ولا يقتل المئات… فيأتيه هذا المخادع بقصة بني قريظة.

لا عيب في أن تكون معلوماتنا بسيطة جدا، فالناس لم يولدوا متعلمين، لكن العيب هو التسرع في الجزم بالجواب مهما ظنَنَّا أن معارفنا كبيرة. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .

فصاحب هذه الإجابة قد أوقع نفسه في ورطة، إذ عليه أن يقول: لا أجيب على هذا السؤال؛ فقد يكون هؤلاء المستسلمون خونة، أو قد يكون هناك شيء ما غامض لا أعرفه؛ فالذي أعرفه أن قتل الأسير لمجرد أنْ كان مقاتلا في جيش العدو جريمة، أما قتل الخائن فلا بأس به حتى لو أُسر، فيمكن الحكم عليه بالإعدام. لذا فإن سؤالك متشعب ولا يُجاب عليه بنعم أو لا.

لا عيب في أن تكون معلوماتنا بسيطة جدا، فالناس لم يولدوا متعلمين، لكن العيب هو التسرع في الجزم بالجواب مهما ظنَنَّا أن معارفنا كبيرة.

وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ .

وقد يتعرض أحمدي جديد لسؤال: هل يمكن أن تصدق بنبي يتلقى وحيا لا يفهمه؟ فيسارع بقوله: كلا، فهذا يتعارض مع حكمة الله وقدرته، فهل يعجز الله أن يُفهِم رسوله؟ وما الحكمة من وحي لا يُفهم؟

فهنا قد قصَر إجابته على زاوية ضيقة فتسرّع وجزم، مع أنه كان يمكن أن يقول: لا أعرف إن كان هناك ما يمنع من إنزال بعض عبارات الوحي بلغة أخرى غير مفهومة فيفهمها آخرون لتكون معجزة، أو برموز تبقى غامضة حتى تُحلّ لاحقا، فتكون معجزة مستقبلية، أو لعل ذلك ممكن من أجل الرد على القائلين بأن الوحي مجرد خواطر وأفكار، فنـزوله بلغة لا يفهمها النبي يؤكد استحالة أن تكون من خياله وخواطره وهواجسه وتفكيره. وقد تكون هناك احتمالات أخرى لا أعرفها، والله أعلم.

أو لو سأله: هل يمكن أن يخطئ النبي في فهم مسألة أو نبوءة؟ فسارع وقال: حاشا وكلا، ويستحيل أن يتركه الله تعالى ليخطئ فيها من دون تصحيحه الفوري وقبل أن يُبلِّغها للناس! فهنا قد وقع في خطأ الجزم المتسرِّع، وكان يمكنه أن يقول: لا أعلم، فالمسألة بحاجة إلى مزيد من التفكير والنظر من مختلف الزوايا، ولا يمكنني الجزم. أما الذي أجزم به فهو أنّ النبي لا يكذب قط، ولا يتعمد المعصية قط، وأنه طاهر نقيّ من بدايات حياته.

ثم بعد ذلك يذهب عند أهل الذكر ويسألهم عن المسألة وسيجد إجابات متأنية تقول “إنه ما من نبي إلا وصدر عنه خطأ فيما يتعلق بالاجتهاد في فهم النبوءات؛ فإنْ لم يَسْلَم مِن الخطأ أفضلُ الأنبياء قاطبة؛ إذْ كان سفره إلى الحديبية خطأً اجتهاديا، كما كان اعتبارُه اليمامةَ مكانَ الهجرة خطأً اجتهاديا أيضًا، فأي مجال للاعتراض على غيره؟ يمكن للنبي أن يخطئ في اجتهاده، ولكن لا خطأ في وحي الله. ويمكن أن يخطئ النبي في فهم الوحي إذا لم يكن في أحكام الشريعة كعدم إدراك النبي ملاخي أنّ نزول النبي إيليا من السماء لا يُحمَل على الحقيقة، بل هو استعارة. أما بنو إسرائيل فلم يستطع نبي منهم الإدراك من نبوءة التوراة أن النبي الأخير سيكون من بني إسماعيل. كذلك أخطأ عيسى أيضا في الاجتهاد إذ تيقَّن بأنه سيكون ملكًا حتى اشتُري السلاحُ ببيع الألبسة، وأُعطِي يهوذا الإسخريوطي عرش الحكومة أيضا. ثم وعد وعدا أكيدا بالعودة من السماء، وفي نهاية المطاف ثبت عدم صحة هذه الأنباء كلها”. (حقيقة الوحي)

«لقد قدّر الله صدور الخطأ الاجتهادي من الأنبياء لكيلا يُتَّخَذوا معبودين، ولكن هذا لا يغيِّر في إتمام حجتهم شيئا، لأن صدقهم يتبين بكثرة المعجزات….

وقد يُسأل المرء: لماذا يخطئ النبي في فهم بعض النبوءات؟ فإن لم يعرف الإجابة فليقل: الله أعلم، ثم يسأل أهل الذكر، فيجدهم يقولون: “لقد قدّر الله صدور الخطأ الاجتهادي من الأنبياء لكيلا يُتَّخَذوا معبودين، ولكن هذا لا يغيِّر في إتمام حجتهم شيئا، لأن صدقهم يتبين بكثرة المعجزات…. إذ توجد فيهم أنوار الصدق والبركاتُ والمعجزاتُ والتأييد الإلهي بكثرة بحيث يقطِّعُ حَدُّ صدقهم عدوَّهم إرْبا، وتموج ألوفٌ من آياتهم كالبحر الزخّار. (حقيقة الوحي)

نتعرض أحيانا لأسئلة حول تحقق بعض نبوءات المسيح الموعود ، فنقول: لم نسمع بهذه القصة من قبل، ولا بد لنا من معرفة التفاصيل قبل الإجابة، ولكن الذي نجزم به أن آلافَ نبوءاتِ حضرته قد تحققت، وأن هذه النبوءة لا بد أن تكون قد تحققت وإنْ كان بطريقة لا نعلمها، ولا نرى ضرورة بالغة لأنْ نعلم كيف تحققتْ، فقد عَرض علينا الخصوم عددًا من النبوءات زاعمين أنها لم تتحقق، وقد تبيّن لنا أنها تحققت بأفضل ما يمكن.. فعلى ذلك نقيس.

انتهى هذا المقال الآن، ولكن خطرت ببالي للتوّ شبهة تقول أنه كان هناك قسيس في لندن اسمه بيغوت أعلن أنه المسيح الإله، فكتب له المسيح الموعود إعلانا وُزِّع في أوروبا أنه لا بد أن يموت في حياة المسيح الموعود، ولكن هذا القسّ ظلّ حيا حتى عام 1927.. وبهذا لم تتحقق نبوءة من نبوءات المسيح الموعود .

مع أن هذه الشبهة يجب أن تُعتبر دليلا من أدلة صدق المسيح الموعود من عدة جوانب، فهو مثال على أن ذلك العصر كان عصر إعلان كثير من الناس أنهم المسيح أو المهدي، سواء في أمريكا أو أوروبا أو البلاد الإسلامية حيث أعلن رجل من السودان أنه المهدي، وكذلك في إيران أعلن البعض شيئا شبيها بهذا. ولم يكن لدينا أي مثال على أوروبا، فجاءت هذه الشبهة لتؤكد أن هذه الدعوى قد اجتاحت العالم، مما يؤكد أن تلك الفترة هي فترة بعثة المسيح المهدي.

والجانب الآخر من الدليل هو شهادةُ الخصم والعالم على هلاك هذا المدّعي، ليكون مثالا آخر على حقيقة هلاك المفترين والمتجرئين على الله، وليكون آية دامغة على صدق المسيح الموعود الذي لم تزل جماعته تزدهر منذ بعثته.

والجانب الثالث من دليل صدق المسيح الموعود في هذه القضية هو ثقته المطلقة بنصر الله له وبإهلاكه تعالى للمفترين.

وقد نشرت جريدتا بدر والحكم التابعتان للجماعة في ذلك الوقت ما يلي:

“عندما توجّه المسيح الموعود في قضية بيغوت ودعا الله تعالى رأى في الرؤيا أن هناك كتبًا قد كُتب عليها: “تسبيح تسبيح تسبيح”. ثم تلقى الوحي التالي: ”والله شديد العقاب إنهم لا يحسنون”.

وقد شرح المسيح الموعود هذا الوحي فقال:

 “يتضح من هذا الوحي أن حالته الموجودة فاسدة، أو أنه لن يتوب بعد ذلك. ومن معاني هذا الوحي: أنه لا يؤمن، ومن معانيه أنه لم يحسن صنعا، وإنما افترى على الله واختلق. أما جملة (والله شديد العقاب) فتوضح أنه لن يكون مصيره خيرا، وسيحلّ به عذاب الله. والحقّ أنها جسارة كبيرة أن يدعي أحد  الألوهية” (التذكرة، نقلا عن جريدة البدر، مجلد 1، عدد 4، بتاريخ 21-11-1902ص25، وعن جريدة الحكم، مجلد 6، عدد 42 بتاريخ 24-11-1902 ص6)

فالوحي يفيد أن بيغوت سيعاقَب عقابا شديدا وأنه لن يؤمن قط وأنه لن يُحسن.. وواضح أن النبوءات في هذا الوحي قد تحققت كلها بطريقة لافتة معجزة؛ فقد ثبتت تهمة الزنا بحق هذا القس، وهذا هو أشدّ أنواع الهلاك، وهو أشد هلاكا من الموت ومن الإعدام.. ولتقريب هذا إلى الذهن ضعوا في أذهانكم رجلَ دينٍ كبيرا جدا يُضبط في مثل هذه التهمة!

فالحق أن بيغوت هلك في زمن المسيح الموعود ، ثم سرعان ما أصدرت الكنيسة قرارا بطرده، وانتهى كليا، ولم يبقَ له أي أتباع إلا شرذمة ليشهدوا على هلاكه المتواصل حتى النهاية التامة بحيث انقطع أتباعه كلية بعد سنوات من موته.

الآن، نربط قصة بيغوت بموضوعنا، فلو عُرضت شبهة عدم تحقق نبوءة موته أولّ مرة من غير أن نسمع بها من قبل فنقول: لا بد أن تكون نبوءة وعيد مشروطة، والوعيد يُلغى أو يؤجل في حالة التوبة أو التراجع. أو لعلّ هناك حلقة مفقودة في القضية كلها، وننتظر حتى نعرفها.

وقد اطلعتُ على مقال نُشر قبل أسابيع في جريدة الفضل ملخصه أن بيغوت توقف عن إعلان أنه المسيح أو ادعاء الألوهية بعد عام 1902 وحتى وفاة المسيح الموعود ، وحيث إن النبوءة مشروطة فلم يمت هذا القسّ في حياة حضرته. وقد تتبع الأخ آصف باسط كاتبُ المقال منشوراتِ هذا القس وأقوالَه في تلك الفترة بعد أن تعرف على حفيدته العجوز وزارها، فثبت لديه ذلك قطعًا.

لا بد أن تكون نبوءة وعيد مشروطة، والوعيد يُلغى أو يؤجل في حالة التوبة أو التراجع. أو لعلّ هناك حلقة مفقودة في القضية كلها، وننتظر حتى نعرفها.

على كل حال، يقول المسيح الموعود في الإعلان: “إنني أحذره (بيغوت) من خلال هذا الإعلان، فإذا لم يتب عن ادعائه فسوف يُدمَّر عما قريب حتى في حياتي”.. فالذي حصل أنه توقف عن إعلان الألوهية بعد ذلك.

وأما العبارة المطلقة التي وردت في الصفحة الثانية من الإعلان وفيها أن بيغوت سيموت في حياة المسيح الموعود فهي تابعة لهذه العبارة المشروطة الواردة في الصفحة الأولى.

Share via
تابعونا على الفايس بوك