العقل الذي يغيب فجأة

العقل الذي يغيب فجأة

هاني طاهر

  • العقل السليم يدحض التفسير الخاطئ
  • التفسير الصحيح لآية “ما دلهم على موته إلا دابة الأرض” ومسائل أخرى
  • استنكار المعاندين وبقاء العقل السليم

__

حدثنا صديقُنا عن عمه الذي عاش سبعين سنة من غير زواج، وحين وافته المنية في منـزله في السعودية لم يعرف أحد بوفاته إلا بعد أربعة أيام.

استغرب الحضور من هذا الزمن الطويل. فقلت: هذا زمن قصير جدّا! فالرجل لا أهل له ولا ولد، وهو في بلاد الغربة. لكن، ما قولكم بمن توفي بين أهله وعمّاله وموظفيه، وظل متكئا على عصاه من غير أن يعرف أحد بموته إلا بعد سنة؟!

قالوا: هذا مستحيل! قلت: هذه حقيقة عند بعض الناس. قالوا: لعلك تقصد بالموت الموتَ الروحاني؟ قلت: كلا، بل الموت الذي ماته عمّ صديقنا. قالوا: نرجوك، أخبرنا بهذا اللغز!

قلت: هو تفسير خاطئ لآية قرآنية، وهي قوله تعالى:

  فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (سبأ: 14)،

حيث قال عدد من المفسرين:

“كَانَ سُلَيمانُ نبيُّ الله إذَا صَلَّى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك؟ فتقول كذا، فيقول لأي شيء أنت؟ فإن كانت تُغْرَسُ غُرسَت، وإن كان لدواءٍ كُتبتْ، فبينما هو يصلي ذاتَ يَومٍ إذ رأى شجرةً بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عمِّ على الجن موتي؛ حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنَحَتَها عصا فتوكَّأ عليها حولا ميتًا، والجن تعمل، فأكلتها الأرضة، فسقط، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين”. قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، قال: فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء. (تفسير الطبري ج 20 / ص 372).

بعد سرد مضمون هذه الرواية قال بعض الحضور: ما تفسيرك إذن؟

قلتُ: يجب أولا أن نعلم أن هذا التفسير لا يمت للنبي بصلة، فالروايات هذه لا تصح عنه ، بل وضعت على لسانه. وثانيا لا بدّ من معرفة شيء عن خصائص اللغة العربية التي تعشق المجاز والكناية، ففي قوله تعالى (قضينا عليه الموت) يعني: على ملكه، أي أنه ذكر الشخص وأراد ملكه، كما في قوله تعالى (واسأل القرية)، فذكر القرية وأراد أهلها. ومثل هذا كثير. وفي قوله تعالى (دابة الأرض) أي الإنسان الأرضي المنحط، وهو شخـص سيـعمل على انهيار ملك سليمان بسبب أخلاقه المنحطة، وثابت تاريخيا أنه ابنه الذي انقسمت في عهده مملكة سليمان. وقوله تعالى (تأكل منسأته) يعني تُضعف ملكه. والمنسأة هي العصا، والمقصود بالعصا الملك. ومعنى (فلما خرّ)، أي لما سقطت الدولة. ومعنى (تبيّنت الجن) أي علم العمال الغرباء الذين عملوا في بناء هيكل سليمان. والعرب كانت تطلق على الغريب جنًّا. وهذه إحدى استخدامات القرآن لهذه اللفظة؛ فلم يكن هنالك أشباح لدى سليمان .

في هذه اللحظة بدأت تدور تساؤلات في ذهن الحضور، مثل: “أتنكر معجزة شق البحر؟ أوتنكر معجزة خروج النبع من صخرة بسبب ضرب موسـى إيـاها؟ وماذا عن عصافير إبراهيم التي قطعها وأحياها الله أمامه”؟

قلت: اقرءوا الآيات بتمعن، ولن نحيد عن الآيات قيد أنملة، وسنرى من الذي يلوي النص ليًّا! فعصافير إبراهيم لم تُقطّع كما تقولون، بل قال الله له: فصُرهن إليك، ولم يقل فقطعهن. وجاء في كتب اللغة: وقرئ قوله تعالى: “فَصِرْهُنَّ إلَيْك “بضم الصاد وكسرها. قال الأخفش: يعني وَجِّهْهُنَّ. يقال: صُرْ إليَّ وصُرْ وجهك إليَّ، أي أَقْبِلْ عليَّ. وصُرْتُ الشيءَ أيضاً: قطَّعْتُهُ وفصَّلته…فمن قال هذا جعل في الآية تقديماً وتأخيراً، كأنَّه قال: خُذْ إليك أربعةً من الطير فصُرْهُنَّ. ويقال: عُصفور صَوَّارُ، للذي يجيب إذا دُعِيَ. الصحاح في اللغة – (ج 1/ ص 400)

هذا التفسير لا يمت للنبي بصلة، فالروايات هذه لا تصح عنه ، بل وضعت على لسانه. وثانيا لا بدّ من معرفة شيء عن خصائص اللغة العربية التي تعشق المجاز والكناية…

وقال صاحب تهذيب اللغة: وكلهم فسروا  “فصُرْهُن” أَمِلْهُنَّ، وأما “فصِرْهنَّ” بالكسر فإنه فُسر بمعنى قَطِّعْهن. قال: ولم نجد قطّعهن معروفة، وأراها إن كانت كذلك من صريت أَصرِي، أي قَطَعْتُ، فقدمت ياؤها، كما قالوا: عَثيت وعثت. وقال الزجاج: قال أهل اللغة: معنى “صُرْهُنَّ إليك” أمِلْهُن إليك واجْمَعهنَّ. (تهذيب اللغة ج 4/ ص 219).

قلتُ: واضح أن معنى (فصُرهن) أملهن باتفاق اللغويين، أما (فصِرهن) فإن لها المعنى نفسه. والذين قالوا بمعنى التقطيع فإن قولهم مردود لثلاثة أسباب؛ أولها: أن هذا المعنى غير معروف في اللغة، وثانيها أنه يضطرهم للقول بالتقديم والتأخير، أي: خُذْ إليك أربعةً من الطير فصُرْهُنَّ.. بدلا من خُذْ أربعةً من الطير فصُرْهُنَّ إليك.. فكلمة (إليك) متعلقة بـ (صرهن) وليس بـ(خذ)، أي صُرهن إليك، وليس خذ إليك. فلا داعي لتأويلهم البعيد. فلو شاء الله أن يكون المعنى فخذ إليك، لقال هذا، ولم يقل فصرهن إليك. وثالثها: إن عبارة (فخذ إليك) لا معنى لها، فكل أخذ يمارسه الإنسان هو أخذ إليه، وبالتالي تصبح كلمة (إليك) زائدة، وحاشا لكلام الله البليغ أن يحوي زيادة.

وقبل ذلك كله، فإن التفسير التقليدي يتضمن إساءة لنبي الله الذي شكّ وأراد لقلبه أن يطمئن. ثم إنه لم يرَ كيفية الإحياء، أي أن الله لم يستجب دعاءه. أما حسب تفسيرنا، فإن إبراهيم قد دعا الله قائلا: يا رب، لقد عهدتَ إليَّ بمهمة إحياء الموتى (موتى القلوب)، فحقِّق لي هذه المهمة، وأرِني كيف تنفخ الروح في قومي. لقد أصبحت شيخا كبيرا، والمهمة ضخمة. فقال الله: ما دمنا قد وعدناك فلسوف يتحقق هذا الوعد. قال إبراهيم: أعلمُ أن هذا سوف يتحقق، ولكن أسألك على سبيل الاطمئنان، كيف تتغير هذه الأحوال غير المواتية؟ قال الله: عليك بتربية أربعة من أولادك، ليلبوا نداءك، ويكملوا مهمتك من إحياء القوم. وهؤلاء الطيور الأربعة الروحانيون هم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام. لقد تمت تربية اثنين منهم على يد إبراهيم مباشرة، وتربية اثنين بطريق غير مباشر، والمراد من وضعهم على الجبل أن يربيهم في مستوى رفيع. وفي هذا أيضا إشارة إلى أنهم ذوو درجات عالية، ويبلغون الذُّرى في الروحانية. والمراد من وضع كل واحد منهم على جبل منفصل.. أن هذا الإحياء لأمته سوف يتم على فترات أربعة منفصلة، وبذلك كشف الله له صورة للإحياء القومي الذي كان سيتم قريبا من بعده. كما أشير فيه أيضا إلى أربعة أدوار من الرقي تأتي على قوم إبراهيم على المدى البعيد…. (التفسير الكبير، ج2، لحضرة بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني للمسيح الموعود ).

فأي التفاسير أقرب إلى روح الدين واللغة والعقل والمنطق؟ وأيها تعشق الغرائب والإساءة للأنبياء؟

فالتفسير الخاطئ نسب الشك إلى إبراهيم، وتفسيرنا نسب إليه الرغبة في الطمأنينة والقلق على قومه. والتفسير الخاطئ فسَّر (فصُرهن) بمعنى لا تحتمله، أو افترض تقديمًا وتأخيرًا عبثيا. ولا يمكن للتفسير التقليدي الخاطئ أن يبرر العدد أربعة، أو الوضع على الجبال، أو لماذا أتت الطيور ساعية، مع أن الأصل فيها أن تطير لا أن تأتي ماشية. والتفسير التقليدي يجعل الآية بلا معنى، فإبراهيم لم ير كيفية الإحياء المادي على فرض أنه سأل عنها، فلم يرَ الروح كيف تدخل الأجساد.

باختصار، أي التفسيرين يحترم اللغة والأنبياء والعقل؟ وأي الفريقين أحق بالأمن؟

كثيرة هي الآيات التي يظنون أنهم يلتزمون اللغة في تفسيرها، ويظنون أنهم يحترمون المقدسات في تناولها، ولكن هيهات!

وتبقى مشكلتهم: تقديم أقوال السابقين حتى لو هدمت اللغة والعقل والدين!

Share via
تابعونا على الفايس بوك