إحسان الظن بتاريخنا و الثقة به

إحسان الظن بتاريخنا و الثقة به

هاني طاهر

  • حسن الظن بالدين الإسلامي و تاريخه.
  • تبرير اقوال السابقين و الدفاع عنها.

__

واضح للعالم أنّ جماعتنا تسعى لتنـزيه الله تعالى وكتابه ورسله، وهذا ما يشهد به المنصفون منهم، لكن الذي ينبغي إضافته إلى هذا أنّ جماعتنا تسعى لتنـزيه ماضينا الإسلامي أيضا، بما يشمل ذلك جيل الصحابة والتابعين وأئمة الحديث والتفسير، والمجتهدين عبر مختلف العصور. وكلما كان زمن هؤلاء أقرب إلى الرسول ازداد سعينا لتنزيههم والدفاع عنهم، وإحسان الظنّ بهم وبأقوالهم وحملها على محمل يتضمن تقواهم وورعهم وفقههم.

لذا ليس مقبولا أن يُنسب إليهم القول بقتل الأبرياء والعدوان على الآمنين والقول بإلغاء أحكام قرآنية وإباحة الكذب وعدم بذل قصارى جهدهم لتنقية الحديث الصحيح من الموضوع، وغير ذلك.

وإذا كان المسيح الموعود قد أكّد أن القرآن الكريم هو الحكَم وأنّه لا بدّ من عرض أحاديث الآحاد عليه فما وافقه أخذنا به وإلا فلا. وأنه لا بد من حمل  الحديث على أفضل محمل. فإنّ حضرته وخلفاءه وعلماء جماعته لم يقتصروا على الأحاديث النبوية في حملها على أفضل محمل، بل توسعوا في ذلك إلى حمل أقوال السابقين عموما على أفضل محمل. وهذا هو المنهج الذي علينا التقيّد به.

وبهذا نكون قد نزّهنا ماضينا، وازدادت ثقتنا به، ووجدنا أسوة حميدة في كل أمر، وسعَينا للاقتداء بهذه الأجيال العظيمة.

أما إساءة الظنّ بالماضي فإنها تقسي القلب وتهزّ الثقة بالدين كله، وتؤدي إلى البحث عن قدوة في فلاسفة الغرب ومناهجه العمياء؛ مما يقرّب من الإلحاد.

وفيما يلي أضرب أمثلةً على منهج الثقة وإحسان الظنّ بالسابقين:

1. جهاد الطلب..

الفقهاء القدامى كانوا يقسّمون الجهاد إلى: جهاد الدفع وجهاد الطلب، فبدلا من تفنيد جهاد الطلب باعتباره قتالا للمعتدين والمسالمين ينبغي أن يُقال أنّ هذا التقسيم لا بأس به، وأنّ المقصود بجهاد الطلب هو البدء بمهاجمة القبائل التي تعلن عن نيّتها حرب المسلمين، فالذي يعلن الحرب لا ننتظره ليغزونا، بل نغزوه أوّلا. أما تفنيد قول الفقهاء فيتضمن اتهامًا لهم بأنهم يقولون بالعدوان على المسالمين مستهترين بقوله تعالى:

  وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة 191)..

وهذا غير جدير بمَن ينادي بإحسان الظنّ.

2. قتل المرتد وحديث “من بدّل دينه فاقتلوه”.

فبدلا من تضعيف هذا الحديث يمكن تفسيره بأنه خاص بالمرتد المحارب، وحيث إنّ كل مرتد كان محاربا في ذلك الزمن فيمكن تعميمه. لكن الوضع الآن مختلف، وكثير من المرتدين غير محاربين، فلا قتل لكل مرتد. وبهذا برّأنا عموم فقهائنا السابقين من القول بقتل الناس لمجرد تغيير عقائدهم، وبرأناهم مِن الجهل بقوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة 257)، ومن آيات كثيرة تحمل المعنى ذاته.

3. النسخ في القرآن الكريم

علينا أن نسعى لإثبات أن الصحابة لم يكونوا يقولون بالنسخ الذي صار شائعا في وقت متأخر، وأن نحاول أن ندافع حتى عن القائلين بالنسخ، مبررين قولهم بأنهم لم ينتبهوا إلى أَبعاد ذلك جيدا، واختلط عليهم الأمر في نسخ استقبال القبلة، حيث إنه ليس نصا قرآنيا أولا عدا عن وضوحه ثانيا. فالنسخ لا بأس به مبدئيا لو كان المنسوخ واضحا ومنصوصا عليه، وكذلك ناسخه. أما الإشكال فهو في أن ننسب إلى كتاب الله الذي لا ريب فيه مِثْل هذا النسخ الذي كله ريب. وقد صار توضيح هذه المفاهيم ضروريا جدا في وقت خروج الدجال هذا، بينما لم يكن الأمر كذلك قبل مئات السنين.

4: إباحة الكذب

وقول ابْن شِهَابٍ “لَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا” (مسلم)

فبدلا من شطب هذا القول واتهام القائلين به بإباحة الكذب، نقول: إن هناك حالات ليست من الكذب، وإنْ كان ظاهرها مخالفا للحقيقة، فتنميةُ الخير ليست من الكذب، ومجاملةُ الزوجة والناس ليست من الكذب، والخططُ العسكرية وإخفاؤها عن العدو والتمويه عليه ليس من الكذب.. وهذا هو قصد أصحاب هذا القول. فهذا الذي يجب أن نذهب إليه بدل أن نقول: إن القائلين بذلك ينادون بإباحة الكذب الذي هو مثل عبادة الوثن؛ لأن هذا اتّهام باستحلال الكذب لهؤلاء الناس ثم للرواة ثم لكبار أهل الحديث الذين نقلوا هذه الرواية في كتبهم! وهم المعروفون بالتقوى والورع، وهم الذين يقرأون قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (الحج 31) ويَعُونَه جيدا.

5. التعامل مع كتب التفسير:

بدلا من التركيز على القول الخاطئ في كتب التفاسير علينا القول إنّ كتب التفاسير تذكر كلَّ الأقوال، وأنّ فيها ما هو جيد وما هو غير ذلك، وأنّنا نحسبهم كانوا يريدون جمع الأقوال كلها، وهذا لا يعني أنهم يؤيدون هذه الأقوال.

6. أحاديث البخاري ومسلم

لا يصحّ القول أنّ في البخاري ومسلم أحاديث غير صحيحة، بل نقول: قد تكون كل أحاديثهما صحيحة، وهذا ما نأمله، وهذا ما سنبذل قصارى جهدنا من أجله، وذلك بمحاولة التوفيق بين هذه الأحاديث وبين القرآن الكريم. وهذا هو منهج المسيح الموعود .

وكنتُ قد أفردتُ قبل عشر سنوات حلقة في برنامج “نظرات في الفكر الإسلامي” بعنوان “هل كل ما في البخاري ومسلم صحيح” حيث كان التركيز فيها مُنْصَبًّا على نقض فكرة القول بصحة كلّ ما فيهما، لأنّ بينهما تناقضا واضحا في عدد من القضايا التي يستحيل الجمع بينها.

وقد كان منطلق هذه الحلقة هو نقض إصرار السلفيين على منهجهم، وذلك بنقضه من أفواههم.. أي إلزامهم بما يؤمنون به، فكانت الحلقة منصبّة على هدم ما عندهم لا بناء ما عندنا.. والمعلومات التي وردت فيها مفيدة في هذا الإلزام، لكنها ليست وفق منهج المسيح الموعود في التعامل مع الروايات ولا مع جهود السابقين.

بل إن علينا أن نقول بالنسبة إلى قاعدة عرض الحديث على القرآن الكريم أنّ الفقهاء عمومًا متفقون على أهمية عرض الحديث على القرآن الكريم، وإنْ لم يصرِّحوا عموما بذلك، لأنّ المسألة لم تكن قد ظهرت أهميتها لهم.

7. شعار: “السنة قاضية على القرآن”

هذا الشعار يمكن حمله على محمل مقبول، وهو أن السنة تفسر القرآن وتوضحه.. وسنحسن الظنّ بالقائلين به عبر التاريخ، ونقول: إنهم كانوا يردّون على مَن يرفض الحديث كله، فرفعوا مثل هذا الشعار الذي لا يعنون به أنّ الحديث أهمّ من القرآن الكريم ولا على أنه على مستوى واحد معه، ولن نسيء بهم الظنّ حتى نتهمهم أنهم قصدوا ذلك.. بل سنسعى أن نحمل كل شعار سابق على محمل حسن ونضعه في سياقٍ ينسجم مع إحسان ظنّنا بتاريخنا وسلفنا.. فالسابقون هم أجدادنا لا أجداد خصومنا، ونحن السلفيون لا هم، ونحن إيجابيون لا سلبيون، بناءون لا هدامون.

8. قتل الزاني رجما أو بأي طريقة أخرى

بدل القول بنفي هذا الحكم كليًّا علينا أن نخصصه بالذين يحترفون ممارسته ويسعون لنشره لإفساد المسلمين، فهذا الحكم يُستدل عليه من قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا (المائدة 34)، ومن قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (الأحزاب 61-62).

وبهذا القول نحسن الظنّ بعلمائنا السابقين، ونقول إن جزءا منهم على الأقل كان يرى أن الرجم خاص بفئة من الزّناة، وليس خاصا بمجرد زنا المتزوج. ذلك أنّ حكم الزنا المجرّد واضح في قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (النور 3).. ويُستبعد أن يخالف سلفنا الصالح هذا الحكم القاطع. والرجمُ نوعٌ من القتل. وطريقة القتل يحددها القاضي.

والأمثلة كثيرة على هذا المنهج الذي هو منهج المسيح الموعود من خلال كتبه ومناظراته وأقواله.

وهذا لا يتناقض مع إيماننا بأنّ الفساد عمّ القرون المتأخرة حتى صار “العلماء شرّ مَن تحت أديم السماء؛ مِن عندهم تخرج الفتنة وإليهم تعود”، وأننا نرى أنّه كلّما قرُبت الأجيال السابقة من هذا الجيل الأخير قلّ صلاحها، وقلّتْ دافعيتنا للدفاع عنها.

إنّ صدق المسيح الموعود لا يحتاج أن ننقض شيئا من تاريخنا وأقوال سلفنا، بل علينا أن نركز على أن الماضي خيرٌ في مجمله، وأنّ الانحراف بدأ بعد القرن الثالث الهجري وبعد جمع الأحاديث لا قبلها.. وأنّ الانحراف بدأ شيئا فشيئا وببطء، وأنّه حتى في أحلك أحواله كان هناك متقون ويحسنون الفهم.

فيا أيها الإخوة، قولوا الحقّ كلَّه بأفضل أسلوب، وأحسِنوا الظنّ، متَّبِعين في ذلك المسيح الموعود الذي أكّد أن الأئمة الأربعة بمنزلة جدران الإسلام الأربعة، وظلّ يؤكد على أهمية إحسان الظنّ بتاريخنا وتقديره، ولم يتكئ على سلبيات التاريخ للتدليل على دعواه قطّ، بل ظلّ يحاول تبرير أقوال السابقين والدفاع عنها ووضعها في سياق مناسب.

Share via
تابعونا على الفايس بوك