اصطلاح النبوة في كلام المسيح الموعود عليه السلام تاريخا

اصطلاح النبوة في كلام المسيح الموعود عليه السلام تاريخا

هاني طاهر

  • النبوة التامة الحاملة لوحي الشريعة قد انقطعت
  • النبوة التي ليس فيها إلا المبشرات باقية إلى يوم القيامة
  • المحدث يستمد النور من سراج النبوة المحمدية ولايكون نبيا مستقلا بحد ذاته بل ينال العلم ببركة نبيه

__

الملخَّص: المسيح الموعود أعلن أنه محدَّث فور إعلان أنه المسيح، أي في عام 1890، ووضَّح فورا أن المحدَّث نبيّ. أي أن حضرته أعلن النبوة في عام 1890 وليس في عام 1901.. لذا لا يصح القول أن حضرته أعلن النبوة في كتاب “إزالة الخطأ” في عام 1901، بل إن حضرته في كتاب “إزالة الخطأ” قد وضّح فقط ما كان قد أعلن عنه سابقا.

المحدَّث هو النبي الذي من الأمة، وهو النبي التابع، وهو النبي الظلّي، وهو النبي البروزي، وهو النبي المجازي، فالقضية اصطلاحية لا أكثر.. أي أن المسيح الموعود قد استعمل اصطلاحات عديدة لنبوته، ولكن المضمون هو هو لم يتغير منذ أعلن أنه المسيح عام 1890 وحتى وفاته ؛ ففي بداية إعلان أنه المسيح أعلن أنه محدَّث، وأعلن أن المحدَّث نبيّ، ولكن بعد سنوات من ذلك استعمل اصطلاحات أخرى، مثل النبي الظلي أو النبي من الأمة، وغيرها. وبيّن حضرته أنّ الخلاف لفظي اصطلاحي، وأن لكلّ أن يصطلح، والمهم هو المضمون. لذا لا يصح القول أن حضرته قد تطور في دعواه من أنه المسيح إلى أنه نبيّ.. بل هي مرحلة واحدة ودعوى واحدة وفي نفس العام.. وإن كان هناك تطور في الاصطلاح، ولعل سببها رسوخ مفهوم مقيَّد للنبوة في أذهان الناس.

وفيما يلي أدلة ذلك:

في عام 1890 كتب المسيح الموعود في توضيح مرام:

إن طُرح هنا اعتراض: أنه يجب أن يكون مثيل المسيح الناصري أيضا نبيا؛ لأن المسيح كان نبيا؛ فالجواب الأول على هذا الاعتراض هو أن سيدنا ومولانا لم يشترِط نبوة المسيح الآتي، بل قال صراحة إنه سيكون مسلما وملتزما بشريعة القرآن الكريم مثل بقية المسلمين، ولن يفعل شيئا أكثر من ذلك لإظهار إسلامه وكونه إمامَ المسلمين.  (حضرته يتحدث عن النبوة المستقلة هنا أو التشريعية)

وبالإضافة إلى ذلك، فإنني دون أدنى شكٍ قد جئت من الله تعالى، محدَّثا في هذه الأمة، والمحدَّث أيضا يكون نبيا من وجهٍ. ومع أن نبوته ليست تامة، لكن فيه جزء من النبوة لأنه يحظى بشرف مكالمة الله تعالى. وتُكشف عليه أمور غيبية، ويُنـزَّه وحيُه من تدخّل الشيطان مثل وحي بقية الرسل والأنبياء. ويُكشف عليه لبُّ الشريعة، ويأتي مأمورا مثل الأنبياء تماما. ويكون واجبا عليه مثل الأنبياء أن يُعلِن عن نفسه، وإن منكره يستوجب نوعا من العقاب؛ ولا معنى للنبوة إلا أن تتحقق فيها الأمور المذكورة آنفًا.

ولو قُدِّم عذرٌ أن باب النبوة مسدود، وأن الوحي الذي ينـزل على الأنبياء قد انقطع؛ لقلت: لم يُغلَق باب النبوة من كل الوجوه ولم ينقطع الوحي أيضا من كل نوع؛ بل إن باب الوحي والنبوة الجزئية مفتوح للأبد على هذه الأمة المرحومة. ولكن يجب الانتباه جيدا إلى أن النبوة التي بابها مفتوح إلى الأبد ليست نبوة تامة، بل كما قلت قبل قليل: إنها نبوة جزئية وتسمى بتعبير آخر “المحدَّثية” التي تُنال بالاقتداء بالإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع كمالات النبوة التامة؛ أي سيدنا ومولانا محمد المصطفى .

فاعلم أرشدك الله أن النبي محدَّث والمحدَّث نبيٌّ؛ باعتبار المحدَّثية نوعا من أنواع النبوة.  وقد قال رسول الله : لم يبق من النبوة إلا المبشرات، أي لم يبق من أنواع النبوة إلا نوع واحد؛ وهي المبشرات من أقسام الرؤيا الصادقة والمكاشفات الصحيحة والوحي الذي ينـزل على خواص الأولياء، والنورُ الذي يتجلى على قلوب قوم موجَع.  (المسيح الموعود)

فاعلم أرشدك الله أن النبي محدَّث والمحدَّث نبيٌّ؛ باعتبار المحدَّثية نوعا من أنواع النبوة.  وقد قال رسول الله : لم يبق من النبوة إلا المبشرات، أي لم يبق من أنواع النبوة إلا نوع واحد؛ وهي المبشرات من أقسام الرؤيا الصادقة والمكاشفات الصحيحة والوحي الذي ينـزل على خواص الأولياء، والنورُ الذي يتجلى على قلوب قوم موجَع. فانظر أيها الناقد البصير، أَيُفهَم من هذا سد باب النبوة على وجه كلّي؟ بل الحديث يدلّ على أن النبوة التامة الحاملة لوحي الشريعة قد انقطعت، ولكن النبوة التي ليس فيها إلا المبشرات فهي باقية إلى يوم القيامة، لا انقطاع لها أبدا. وقد علمتَ وقرأتَ في كتب الحديث أن الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءا من النبوة، أي من النبوة التامة. فلما كان للرؤيا نصيبا من هذه المرتبة، فكيف الكلام الذي يوحى من الله تعالى إلى قلوب المحدَّثين. فاعلم، أيدك الله، أن حاصل كلامنا أن أبواب النبوة الجزئية مفتوحة أبدا. وليس في هذا النوع إلا المبشرات أو المنذرات من الأمور المغيّبة أو اللطائف القرآنية والعلوم اللدنِّية. وأما النبوة التي هي تامة كاملة جامعة لجميع كمالات الوحي؛ فقد آمنا بانقطاعها من يوم نزول فيه:

مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ .” (توضيح مرام)

في هذا النص يوضّح حضرته أنّه محدَّث، وأنّ المحدث نبي. ويقول بانقطاع النبوة التشريعية. وهو القول ذاته ظلّ حضرته يقوله حتى آخر حياته من غير تغيير.

في عام 1891 كتب المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام:

“صحيح أيضا أن المسيح الآتي قد ذُكر كنبي، ولكنه إلى جانب ذلك ذُكر كفرد من أفراد الأمة أيضا. بل أُخبِر أفراد الأمة أنه سيكون منكم، وإمامكم منكم. ولم يُكشف بالقول فقط أنه فرد من الأمة، بل أُثبت بالفعل أيضا أنه سيتّبع ما قال الله وما قال الرسول مثل بقية أفراد الأمة، ولن يحُلَّ المعضلات الدينية بنبوته، بل باجتهاده، وسيصلي وراء غيره. فيتبين من هذه القرائن كلها أنه لن يكون متصفا بصفة النبوة التامة بصورة حقيقية، غير أنه سيتحلى بنبوة غير كاملة، تسمَّى بتعبير آخر؛ المحدَّثية، وفيها شأن من شؤون النبوة التامة. إذن، فإن في تسميته فردًا من أفراد الأمة ونبيا أيضا، إشارة إلى أنه سيتحلى بكِلتا الصفتين، أيْ سيكون فردا من الأمة وسيكون نبيا أيضا، كما يجب وجود كِلتا الصفتين في المحدَّث. أما صاحب النبوة التامة فيتحلى بصفة واحدة فقط هي صفة النبوة. فزبدة القول إن المحدَّثية تكون متصبِّغة بصبغتين اثنتين، لذا فقد سماني الله تعالى في “البراهين الأحمدية” فردا من الأمة، ونبيا أيضا.. (إزالة الأوهام)

وهذا واضح جدا في إعلان حضرته النبوة، وهذه العبارات لا تختلف شيئا عما كتبه حضرته في حقيقة الوحي في عام 1907: “إني لست نبيا فقط، بل نبي من ناحية وتابع للنبي ومِن أُمته من ناحية أخرى”. فالجوهر هو هو: نبي ومن الأمة، محدَّث، نبي ظلي، نبي بروزي.

وفي نفس الكتاب وفي نفس العام وهو 1891 كتب حضرته:

فقد ورد في صحيح مسلم أن المسيح سيأتي وهو نبيّ. فإذا كان المراد من المسيح أو ابن مريم هو شخص من الأمة مثيلا، ويحظى بمرتبة المحدَّثية؛ فلا يحدث أيّ خلل، لأن المحدَّث أيضا نبي من وجه، ولكنه يستمد النور من سراج النبوة المحمدية، ولا يكون  نبيا مستقلا بحد ذاته، بل ينال العلم ببركة نبيه. (إزالة الأوهام)

فهنا أعلن نبوته، كما وضّح معناها بدقة، والذي لم يغيّره قط.

في عام 1892 كتب المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام:

“تشير ألفاظ النبي المباركة إلى أن المحدَّث يكون نبيا من حيث القوة. ولولا انسداد باب النبوة لكان في كل محدَّث قوة واستعدادا ليكون نبيا. فمن منطلق هذه القوة والاستعداد يجوز حمل المحدَّث على أنه نبي، بمعنى أنه يجوز القول: “المحدَّث نبي”. (مرآة كمالات الإسلام)

وبما أنّه محدَّث، والمحدَّث نبيّ، فهو نبيّ بوضوح تام. وهذا ما جعل الناس يتهمون حضرته بأنه يدّعي النبوة، والتي تتضمن عندهم أنه يأتي بدين جديد، لذا فقد ركّز بعدها على نفي النبوة التشريعية أو المستقلة.

لذا فإن نصوص انقطاع النبوة فيما بعد جاءت ردًّا على من اتهم حضرته بادعاء النبوة المطلقة بناء على النصوص السابقة، فقال المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عام 1893:

فاعلموا أن الله قد أرسلني لإصلاح هذا الزمان، وأعطاني علم كتابه القرآن، وجعلني مجددًا لأحكم بينكم فيما كنتم فيه مختلفين… ووالله إني لا أدّعي النبوة ولا أجاوز الملة، ولا أغترف إلا من فضالة خاتم النبيين. وأؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأصلي وأستقبل القبلة، فلِم تكفّرونني؟ ألا تخافون الله رب العالمين؟ (سر الخلافة)

النبوة المنفية هنا هي التي تتجاوز الملة.. أي النبوة التشريعية، أو المستقلة عموما.

النبوة بالقوة والنبوة بالفعل والمحدثية:

في عام 1894 كتب المسيح الموعود :

ولا شك أن التحديث موهبة مجردة لا تُنال بكسبٍ البتّة.. كما هو شأن النبوة، ويُكلِّم الله المحدَّثين كما يُكلِّم النبيين، ويرسل المحدَّثين كما يرسل المرسل، ويشرب المحدَّث من عين يشرب فيها النبي، فلا شك أنه نبي لولا سد الباب، وهذا هو السر في أن رسول الله إذا سمى الفاروق محدَّثا فقفّى على أثره قوله: لو كان بعدي نبي لكان عمر، وما كان هذا إلا إشارة إلى أن المحدث يجمع كمالاتِ النبوة في نفسه، ولا فرق إلا فرق الظاهر والباطن، والقوة والفعل. فالنبوة شجرة موجودة في الخارج مثمرة بالغة إلى حدها، والتحديث كمثل بذر فيه يوجد في القوة كلُّ ما يوجد في الشجر بالفعل وفي الخارج. وهذا مثال واضح للذين يطلبون معارف الدين، وإلى هذا أشار رسول الله في حديث: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، والمراد من العلماء المحدَّثون الذين يُؤتَون العلم من لدن ربهم ويكونون من المكلَّمين.

وقد استصعب الفرق بين التحديث والنبوة على بعض الناس، فالحق أن بينهما فرق القوة والفعل كما بينتُ آنفا في مثال الشجرة وبذرها، فخُذْها مني ولا تخفْ إلا اللهَ، وادعُ الله أن تكون من العارفين. هذا ما قلنا في بعض كتبنا استنباطًا من الأحاديث النبوية والقرآن الكريم، وما قال بعض السلف فهو أكبر من هذا، ألا ترى إلى قول ابن سيرين أنه ذُكر المهدي عنده وسئل عنه هل هو أفضل من أبي بكر فقال: ما أبو بكر؟ هو أفضلُ من بعض النبيين!

هذا ما كتب صاحب “فتح البيان” صدّيق حسن في كتابه “الحُجَج”، ومثله أقوال أخرى ولكنا نتركها خوفا من الإطناب. (حمامة البشرى)

إذن، لا فرق بين المحدثية والنبوة إلا بالاسم، ولا فرق في الحقيقة.. وإلا فبينهما تشابه من كل الوجوه التي ذكرها حضرته. فالمحدثية هي نبوة، ولكن لا يُطلق هذا الاصطلاح على إطلاقه لأن النبوة المطلقة انقطعت، وبقي أن يُبعث نبي ويكون من الأمة تابعا، وهي النبوة التابعة، فالمحدثية هي النبوة التابعة.

غير أنه سيتحلى بنبوة غير كاملة، تسمَّى بتعبير آخر؛ المحدَّثية، وفيها شأن من شؤون النبوة التامة. إذن، فإن في تسميته فردًا من أفراد الأمة ونبيا أيضا، إشارة إلى أنه سيتحلى بكِلتا الصفتين، أيْ سيكون فردا من الأمة وسيكون نبيا أيضا،  (المسيح الموعود)

في عام 1900 كتب المسيح الموعود :

وأراد من هذا القول أن المسيح الموعود الذي يأتي من بعد خاتم الأنبياء هو محمد من حيث المضاهاة التامة، ورفقاؤه كالصحابة، وإنه هو عيسى الموعود لهذه الأمّة، وعدًا من الله ذي العزّة في سورة التحريم والنور والفاتحة.. قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لنبي أن يأتي بعد خاتم الأنبياء إلاّ الذي جُعِل وارثه من أمّته وأُعْطى من اسمه وهويّته ويعلمه العالمون. فذلك مسيحكم الذي تنظرون إليه ولا تعرفونه وإلى السما أعينكم ترفعون. أتظنّون أن يردّ الله عيسى ابن مريم إلى الدنيا بعد موته وبعد خاتم النبيين؟ هيهات هيهات لما تظنون! وقد وعد الله أن يُمسك النفس التي قضى عليها الموت والله لا يُخلف وعده ولكنكم قوم تجهلون. أتزعمون أنه يُرسل عيسى إلى الدنيا ويوحي إليه إلى أربعين سنة ويجعله خاتم الأنبياء وينسى قوله:

وَلَكِنْ رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ؟

سبحانه وتعالى عما تصفون! إن تتّبعون إلاّ ألفاظا لا تعلمون حقيقتها ولو رددتموها إلى حَكَمٍ من الله الذي أُرسِل أليكم لكان خيرا لكم إن كنتم تعلمون. (الخطبة الإلهامية، 1900)

هنا يكرر حضرته نفس الأمر، فهناك نبي يمكن أن يُبعث، وهو الذي جُعِل وارثا للرسول ومن أمّته وأُعْطى من اسمه وهويّته.. وهي نفسها المحدثية، وهي نفسها النبوة الظلية التي ستأتي بعد عام.

فهذه عدد من النصوص الواضحة قبل عام 1901.

أما في عام 1901 فقد كتب المسيح الموعود :

“حيثما أنكرت نبوتي ورسالتي فبمعنى أنني لست حامل شرع مستقل، كما أنني لست بنبي مستقل. ولكن حيث إني قد تلقيت علمَ الغيب من الله تعالى بواسطة رسولي المقتدى ، مستفيضًا بفيوضه الباطنة، ونائلا اسمَه، فإنني رسول ونبي، ولكن بدون أي شرع جديد. ولم أنكر قط كوني نبيًّا من هذا المنطلق، بل إن الله تعالى قد ناداني نبيًّا ورسولاً بنفس هذا المعنى. لذلك لا أنكر الآن أيضا كوني نبيًّا ورسولاً بهذا المفهوم”. (إزالة خطأ)

إذن، قُضي الأمر بقوله : “ولم أنكر قط كوني نبيًّا من هذا المنطلق”.. أي أن حضرته لم ينكر نبوته هذه منذ عام 1890.

وقال في أول صفحة من كتاب إزالة خطأ:

إن البعض من جماعتنا – ممن ليس لديهم معرفة كافية بدعوانا وأدلتنا، ولم تتيسر لهم قراءةُ كتبنا بإمعان، كما لم يستكملوا معلوماتِهم بالمكوث في صحبتنا لمدة كافية – يرُدّون أحيانًا على اعتراضات المعارضين ردًّا مخالفًا للواقع كليةً، فيتندمون رغم أنهم من أهل الحق؛ فقبل بضعة أيام وُجّه إلى أحد الإخوة اعتراضٌ بأن الذي بايعتَ على يده يدعي بأنه نبي ورسول؟! فأجاب عليه هذا الأخ بالنفي التام، مع أن هذا الجواب ليس بصحيح”. (إزالة خطأ).

ولو كان حضرته لم يعلن أنه نبي من قبل لما بدأ هذه البداية التي يلوم فيها هذا الأحمدي هذا اللوم، بل لقال: ولكني أعلن من الآن فصاعدا أنني نبي.

ثم إن حضرته ظلّ إلى آخر يوم يكتب ذلك، ويؤكد في الوقت نفسه أنه ليس نبيا على إطلاقه، فقد كتب في عام 1907:

إني لست نبيا فقط، بل نبي من ناحية وتابع للنبي ومِن أُمته من ناحية أخرى لكي تَثبُت قوةُ النبي القدسيةُ وكمالُ فيضه. “. (حقيقة الوحي)

أي أن حضرته ظلّ يوضح قصده، فكان يؤكد على نبوته التابعة، وفي الوقت نفسه يؤكد على نفي النبوة المستقلة المطلقة أو التشريعية، ولكل سياقه، فيحدث الخلط لدى الناس بسبب دقة المسألة.

فقد كتب أيضا في عام 1907:

“إن كثيرًا من الناس ينخدعون لدى سماع كلمة “نبي” في دعواي، ظانين وكأنني قد ادعيت تلك النبوة التي نالها الأنبياء في الأزمنة الخالية بشكل مباشر. إنهم على خطأ في هذا الظن. أنا لم أدّعِ بذلك قط، بل – تدليلا على كمال الفيوض الروحانية للنبي – قد وهبتْ لي الحكمةُ الإلهية هذه المرتبةَ، حيث أوصلتني إلى درجة النبوة ببركة فيوضه . لذلك لا يمكن أن أُدعى نبيًّا فقط، بل نبيًّا من جهة، وتابعا للنبي ومِن أُمته. وإن نبوتي ظلٌّ لنبوة النبي ، وليست بنبوة أصلية. ولذلك فكما أنني سُمِّيتُ – في الحديث الشريف وفي إلهاماتي – نبيًّا كذلك سُمِّيتُ تابعا للنبي ومن أمته أيضًا، إيذانًا بأن كل ما يوجد فيّ من كمال إنما كان بسبب اتّباعي للنبي وبواسطته”. (حقيقة الوحي)

فحضرته هنا ينفي النبوة التي ظلّ ينفيها سابقا. وأما ما هي النبوة، فنجد معناها في كتاب الاستفتاء وهو الذي كتبه المسيح الموعود سنة 1907:

ولا يقول هذا العبد إلا ما قال النبي ، ولا يُخرج قدمًا من الهُدى. ويقولُ إن الله سماني نبيًّا بوحيه، وكذلك سُمِّيتُ من قبل على لسان رسولنا المصطفى. وليس مُراده من النبوة إلا كثرةُ مكالمة الله وكثرة أنباءٍ من الله وكثرة ما يُوحَى. ويقول: ما نَعني من النبوة ما يُعْنَى في الصحف الأولى، بل هي درجةٌ لا تُعطَى إلا مِن اتّباع نبينا خير الوَرى. وكل مَنْ حَصُلَت له هذه الدرجة.. يُكلّم اللهُ ذلك الرجلَ بكلام أكثَرَ وأجلى، والشريعةُ تبقى بحالها.. لا يُنقَصُ منها حكم ولا تزيدُ هُدًى. (الاستفتاء)

وقد بيّن حضرته أن القضية ليست أكثر من اصطلاحات، فقال في عام 1907:

“لقد استخدم الله تعالى في وحيه كلمةَ النبوة والرسالة في حقي مئاتِ المرات، ولكن المراد من هذه الكلمات هو تلك المكالمات والمخاطبات الإلهية التي هي كثيرة ومشتملة على أنباء الغيب، لا أكثر من ذلك ولا أقل. لكل أن يختار في حديثه مصطلحًا، لقولهم: لكل أن يصطلح. فهذا مصطلَح إلهي حيث أطلق هو كلمةَ النبوة على كثرة المكالمة والمخاطبة. أي تلك المكالمات التي تحتوي على أخبار غيبية كثيرة. واللعنة على من يدعي النبوة متخلّيًا عن فيض النبي . ولكن نبوتي هذه ليست بنبوة جديدة، بل هي نبوة النبي في الحقيقة، وتهدف إلى نفس الهدف وهو إظهار صدق الإسلام على الدنيا”. (جشمه معرفت (أي عين المعرفة)، الخزائن الروحانية ج 23 ص 341)

الدليل الأهم على ذلك هو استخدام فعل: “أرسل” و”بعث” كثيرا وفي مختلف الكتب والسنوات، وهي التي تُستخدم بحق أنبياء الله تعالى، سواء كانوا تشريعيين أم مستقلين أم تابعين، ولا تُستخدم بحق الأولياء أو الصدِّيقين.. وحيث إن العبرة بالمضمون لا بالشكل فهذا يعني أن حضرته ظلّ يعلن نبوته منذ وقت مبكّر جدا.

وفيما يلي بعض النصوص:

في عام 1891 قال في بيتين من الشعر ما تعريبه:

لماذا تَطْعَنُني بسكين لسانك؟ لم آتِ من تلقاء نفسي، بل الله أرسلني

أنا مأمور ولا خيار لي في ذلك، فاذهب واسأل ربي عن أمري، فهو الذي أرسلني (إزالة الأوهام)

في عام 1892: قال حضرته: “لقد أنزل عليّ بركاته كاملةً، وأرسلني بفطرة متحمسة في اتّباع النبي لكي أعلّم الناس سبل الإتباع الحقيقي وأُخرجهم من الظلمة” (مرآة كمالات الإسلام)

في عام 1893: قال حضرته: “وقد بعثني الله فيهم حكما فما عرفوني وحسبوني من الملحدين”. (التبليغ)

في عام 1893: قال حضرته: “أرسلني ربي لدعوة الخلق، وآتاني من آيات بينة، لأدعو خلقه إلى دينه، فطوبى للذين يقبلونني ويذكرون الموت، أو يطلبون الآيات وبعد رؤيتها يؤمنون”. (التبليغ، ص 90)

في عام 1893: قال حضرته: ” أرسلني ربي لدعوة الخلق، وآتاني من آيات بينة، لأدعو خلقه إلى دينه، فطوبى للذين يقبلونني ويذكرون الموت، أو يطلبون الآيات وبعد رؤيتها يؤمنون”. (التبليغ، ص 90)

في عام 1893: قال حضرته: ” أرسلني الله في زمان غلبة التنصّرِ غيرةً من عنده…. وقد كان وعده إرسالَ المسيح عند تطاول فتنة الصليب”. (التبليغ، ص 13)

في عام 1893: قال حضرته: “فوالذي بعثني لإلزامكم وإفحامكم، لقد سألتُ الله أن يحكم بيني وبينكم، ويوهن كيد الكاذبين. وما عرضت عليكم درهمًا ودينارًا إلا اختبارًا، فإن ناضلتموني تفسيرا ونظما، فهو لكم حتما. واعلموا أن الله يُخزيكم، ويُرِي الخَلْقَ جهلكم، ويريكم ما كنتم تكذبون وتستعلون مستكبرين”. (كرامات الصادقين)

في عام 1893: قال حضرته: “فاعلموا أن الله قد أرسلني لإصلاح هذا الزمان، وأعطاني علم كتابه القرآن، وجعلني مجددًا لأحكم بينكم فيما كنتم فيه مختلفين. فلِمَ لا تطيعون حَكَمَكُم ولِمَ تصولون منكرين؟” (سر الخلافة، ص 105)

في عام 1894: قال حضرته: “قد أُلقِيَ في قلبي أن قول: عيسى عند المنارة دمشق، إشارةٌ إلى زمان ظهوره، فإن أعداد حروفه تدل على السنة الهجرية التي بعثني الله فيه”. (حمامة البشرى)

في عام 1896: قال حضرته: “فاعلموا أن الله ليس كقصّاب يعبِط الشاةَ بغير جريمة، بل هو حليم عادل لا يأخذُ من غير إتمام حجّة، وهو الذي أرسلني من حضرته العليّة، فإياكم وحُجُبَ الجهل والعصبية”. (مكتوب أحمد، ص 36-37)

وفي عام 1896: قال حضرته: “ومن آلائه أنه لما رأى القسيسين غالين في الفساد، ورأى أنهم علَوا في البلاد، أرسلني عند طوفان فتنهم وتراكُمِ دُجْنهم، وقال: “إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ” (مكتوب أحمد)

في عام 1897: قال حضرته: “فالله أرسلني لأُحييَ دينهُ … … حقٌّ فهل من راشدٍ يستسلمُ (حجة الله، ص 127)

في عام 1900: قال حضرته: “يا عباد الله، رحمكم الله، اعلموا أني عبد من عباد الله الملهَمين المأمورين. بعثني ربي لأُقيم الشريعة وأُحيي الدين، وأُتمّ الحجّة على المنكرين”. (لجة النور)

شبهات في أنّ حضرته لم يعلن النبوة إلا في عام 1901

الشبهة الأولى:

قد يقول قائل: ما المشكلة في أن يكون المسيح الموعود قد نفى النبوة عن نفسه في البداية وأوّلها بالمحدّثية، ثم أعلنها حين أخبره الله بذلك بالتواتر كما حصل في قوله بحياة المسيح في السماء؟

والجواب: هذا قياس مع الفارق، ثم إن حضرته قد حسم الأمر بقوله: “ولم أنكر قط أنّي نبيّ من هذا المنطلق”. ثم إننا نظرنا فرأينا حضرته يصف نفسه بالأوصاف نفسها، بَدْءا من عام 1890 حتى آخر يوم في حياته، وإنْ حدث من بعض الفروق فهي في الاصطلاح لا أكثر. ثم إن المسيح الذي ينزل في هذه الأمة لا بد أن يكون نبيا، وإلا كيف يكون مسيحًا وهو ليس بنبي، فإعلان أنه المسيح تتضمن أنه نبيّ، وإنْ كانت نبوة أخرى، لأن النبوة المستقلة قد انقطعت.

الشبهة الثانية:

قد يقال إنّ وصْف المسيح الموعود للمحدثية أحيانا لا يتضمّن معنى النبوة التابعة، بل معنى القرب من الله أو ما شابه ذلك، مثل قوله:

كَمْ محدِثٍ مستنطِقِ العِيدانِ…….. قد صار منك محدَّث الرحمنِ

فهو هنا يصف الصحابة بأنهم محدَّثون.

والجواب: أن المحدَّثية هنا بمعناها اللغوي العام لا الخاص.. أي صاروا يتلقون الوحي من الله.. أي يحدِّثهم الله ويكلّمهم، وليس بمعناها الخاص الذي هو النبوة الظلية التابعة.

الشبهة الثالثة:

فَهْمٌ غير دقيق لقول المسيح الموعود التالي: “ولكن الوحي الذي نـزل عليّ بعد ذلك كالمطر لم يتركني ثابتًا على العقيدة السابقة، وأُعطيتُ لقب “نبي” بكل صراحة، ولكن نبيًّا من جهة، وتابعا للنبي ومِن أُمته من جهة أخرى. وقد كتبت بعض الفقرات في هذا الكتاب نموذجا من إلهامِ الله يتبين منها أيضا ما قال الله فيَّ مقابل المسيح بن مريم “. (حقيقة الوحي، الخزائن الروحانية 22 ص 153 – 154).. وقد يُظنّ أنّ حضرته قد عنى بقوله “العقيدة السابقة” هو قوله بعدم نبوته، ولكن هذا ليس صحيحا، بل العقيدة السابقة هي تفضيل ابن مريم على نفسه، حيث إن العبارة السابقة لهذه العبارة هي قوله: “أين أنا من المسيح ابن مريم؟ فإنه نبي ومن كبار المقرّبين لدى الله تعالى، ولو وُجد هناك (في وحيي) ما يشير إلى فضلي، فكنتُ أعتبره فضلا جزئيًا.” وهذا لا يتضمن أن السبب أنه لم يكن يعتبر نفسه نبيا. والعبارة اللاحقة توضح أن المقصود هنا هو التفاضل، حيث يتابع حضرته فيقول: “وقد كتبت بعض الفقرات في هذا الكتاب نموذجا من إلهامِ الله يتبين منها أيضا ما قال الله فيَّ مقابل المسيح بن مريم”؛  فالقضية المقارنة بين حضرته وبين ابن مريم عليهما السلام، وليست القضية في النبوة، وإنْ كان النصّ يحتملها، لكنه ليس قاطعا فيها، بل يجب حمله –كما بينتُ- على التفاضل بين المسيحَيْن عليهما السلام، لأن المسيح الموعود قد تحدّث في توضيح مرام وفي المرآة وفي الخطبة الإلهامية عن نبوته كما تبيّن سابقا.

ما كان لنبي أن يأتي بعد خاتم الأنبياء إلاّ الذي جُعِل وارثه من أمّته وأُعْطى من اسمه وهويّته ويعلمه العالمون. فذلك مسيحكم الذي تنظرون إليه ولا تعرفونه وإلى السما أعينكم ترفعون. أتظنّون أن يردّ الله عيسى ابن مريم إلى الدنيا بعد موته وبعد خاتم النبيين؟ (المسيح الموعود)

الشبهة الرابعة:

وأما قوله في عام 1899: “لا يتوهمنّ أحد هنا عني فيظن أنني بهذا البيان قد فضّلتُ نفسي على المسيح . لأن هذا الفضل فضل جزئي، إذ يمكن أن يكون لغير النبي فضل جزئي على النبي” (ترياق القلوب). فهنا يشير حضرته إلى أنه ليس نبيا بالمعنى السائد للنبوة. وهذا قد تكرر مرارا ووضَّحه حضرته في “إزالة الخطأ” حين قال: ” حيثما أنكرت نبوتي ورسالتي فبمعنى أنني لست حامل شرع مستقل، كما أنني لست بنبي مستقل”.

الشبهة الخامسة:

قد يقال إنه ما دام قد فضّل المسيح على نفسه فهذا يتضمن نفي نبوته، فالمحدَّث أقل درجة من النبيّ!

وللرد نقول: لا شك أنه في البداية كان يرى أن الأنبياء السابقين أفضل منه درجة، وهذا لا يعني أنه لا يرى نفسه نبيا، بل يعني أنه كان يرى أن النبيّ  الظلّي لا فضل له على الأنبياء السابقين إلا جزئيا، لكنه لاحقا بيّن أنه أعلى مقاما من المسيح ؛ فالنبي التابع من هذه الأمة أعلى مقاما من أنبياء الأمم السابقة.  وهذا لا يلزم منه أنه لم يكن يرى نفسه نبيا ظليا.

باختصار، حيثما أنكر حضرته النبوة فالمقصود النبوة التشريعية أو المستقلة. وقد ظلّ منذ عام 1890 يعلن أنه محدَّث ويعلن أن المحدَّث نبي، أي يعلن أنه نبيّ. بل أعلن في الخطبة الإلهامية أنه نبيّ.

فليس هنالك أي تناقض في كلام حضرته، فقد ظلّ ينكر النبوة حتى آخر أيام حياته، وهذه هي النبوة التشريعية أو المستقلة، كما ظلّ يؤكد على أنه نبي ومن الأمة منذ عام 1890، وإن استعمل أكثر من اصطلاح لذلك.

والقضية الثانية التابعة لهذه القضية أن تفسير خاتم النبيين يعني آخرهم ويعني أكملهم في الوقت نفسه؛ فهو آخر الأنبياء المستقلين، وهو أكمل الأنبياء جميعا. فحيثما فسّر المسيح الموعود   خاتم النبيين بآخرهم، فقد قصد أنه آخر الأنبياء المستقلين، وحيثما فسّر الختم بختم الكمالات فقد قصد أنه أكمل الأنبياء جميعا. لذا لا ينبغي أن ننكر أن من معاني خاتم النبيين آخرهم، بل هو أحد معانيها. وعلينا أن نركز أن الفكر التقليدي يرفض أن الرسول آخر النبيين، بل يرى عيسى   آخرهم، كما أنه يرفض أن يكون الرسول   أكمل النبيين، بل يرى عيسى أكملهم، لأنه الوحيد في السماء، والوحيد الذي يحيي ويخلق وغير ذلك من كمالاته وميزاته التي انفرد بها عندهم. لذا لا داعي لأنْ نؤكد على أن خاتم المضافة إلى جمع العقلاء تعني الأكمل دوما وفي كل حين، بل قد تعني الآخر، ولا بأس أن تعني الآخر. فالمسيح الموعود استخدمها مرارا بمعنى الآخر، كما استعملها مرارا بمعنى الأكـمل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك