عدم استعداد أقوام الأنبياء ل تصديقهم و عذاب السماء
  • خلفية هلاك قوم ما في الموعد الذي يحدده نبيهم.
  • سبب رمي النبي المصطفى بالجنون.
__
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (5)

شرح الكلمـات:

قرية: اسمٌ للموضع الذي يجتمع فيه الناس؛ وللناس جميعًا؛ ويُستعمل في كل واحد منهما؛ قال الله تعالى وَسْئَلِ القريةَ .. قال كثير من المفسرين: معناه أهل القرية؛ وقال بعضهم: بل القرية ههنا القوم أنفسهم. (المفردات)

والواو في ولها واو الحال، قال القاضي منذر: هذه الواو تفيد أن المذكور بعدها في اللفظ هو مقدَّم في الزمن، ومنه قوله تعالى: إذا جاءوها وفُتحت أبوابها . (راجِع البحر المحيط)

وكلمة كتاب معلوم تعني المدة التي يعيّنها النبي لنـزول العذاب بتوجيه من الله تعالى. والمراد من القرية هنا القوم الذين يصيبهم العذاب نتيجةً لمعارضة النبي. ولكنهم لا يتعرضون للعذاب إلا بعد أنباء واضحة.

التفسـير:

اعلم أن كلمة القرية هنا لا تعني معناها العام، وإنما المراد منها القوم الذين يُبعث إليهم نبي من الأنبياء. وهذا مصطلح قرآني حيث يطلق القرآن الكريم كلمة القرية على كل القوم الذين تكون رسالةُ نبي موجَّهةً إليهم. ذلك أن أول من يخاطبهم النبي هم أهل قريته أو بلدته، أما الذين سواهم فإنهم يندرجون بينهم تلقائيًّا.

كما أن القرآن يسمّي قريةَ النبي أمَّ القرى، لأن الأم إذا ماتت مات أولادها لعدم توافر الغذاء. والقرية المشار إليها في قوله تعالى وما أهلكنا من قرية هي تلك التي يُبعث فيها النبي، أما القرى الأخرى التي يكون النبي مرسلا إليها أيضًا فلم يذكرها القرآن لأنها تكون تابعة للقرية الأم. وإن قوله تعالى من أمةٍ الوارد في الآية التالية دليل آخر على صـحة موقفي هذا.

يعترض البعض قائلين: لقد هلك أهل القرية الفلانية، ومات سكان البلدة كيت وكيت، فأَرُونا أيَّ نبي بُعث إليهم؟ والحق أن قولهم هذا باطل تمامًا بموجب هذه الآية. حيث تخبرنا أنه حينما يُبعث نبي من الأنبياء في مكان ما فإن جميع قرى القوم الذين تكون رسالته موجّهة إليهم تصبح تابعة لقريته، وبالتالي يستحقون العذاب إذا رفضوه وإن لم تطأ قدما النبي تلك القرى. وإذا كان مبعوثًا إلى الدنيا كلها فأهلها جميعًا يستوجـبون العـذاب برفضهم له.

كما تنبهنا الآية أن حلول العذاب بقرية ما لا يعني بالضرورة ظهور نبي فيها، وإنما العذاب الذي يكون علامةً على ظهور نبي لا يحل إلا بالمنطقة الواسعة التي تكون رسالته موجهّة إلى أهلها. فإذا كان النبي مبعوثًا إلى قوم فالعذاب القومي يشكل دليلا على صدقه، وإذا كان مبعوثًا إلى العالم كله فالعذاب العالمي يكون هو الدليل على صدق ذلك النبي. فمثلا لم يكن صدق أنبياء بني إسرائيل متوقفًا على عذاب ينـزل بقرية معينة، وإنما كانت علامة صدقهم ذلك العذاب القومي الذي يحل بالأمة الإسرائيلية عمومًا. ولم تكن علامة صدق النبي الكريم أن يحل العذاب بقوم معين، بل كانت علامة صدقه تلك الكوارث الشاملة التي وقعت في العالم كله، لأنه مبعوث إلى العالم كله. والتاريخ شاهد على أن العذاب حل بالعرب خاصةً عند بعثته (البخاري: التفسير: الدخان)، كما أنزل الله آفات عالمية أيـضًا بعد بعـثة النبي بفترة وجـيزة.

وكلمة كتاب معلوم تعني المدة التي يعيّنها النبي لنـزول العذاب بتوجيه من الله تعالى. والمراد من القرية هنا القوم الذين يصيبهم العذاب نتيجةً لمعارضة النبي. ولكنهم لا يتعرضون للعذاب إلا بعد أنباء واضحة.

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون (6)

شرح الكلمـات:

أجل: الأجل: مدّةُ الشيء والوقتُ الذي يحلّ فيه (الأقرب).

أمة: الأمة: الجماعة؛ الجيل من كل حي (الأقرب).

التفسـير:

لقد قال المفسرون في معنى قوله تعالى ما تسبق وقوله تعالى وما يستأخرون أقوالاً لا تسمن ولا تغنى من جوع، وأرى أن المراد منها أنه من المستحيل أن تفلت أمة من الأمم من العذاب بعد أن ينـزل الوعيد به.. أي لا يمكن أن يحلّ العذاب في موعده ومع ذلك لا يضرهم ولا يهلكهم. فهذا محال حتمًا. كما أنه لا يمكن أن يتأخر العذاب دائمًا دون أن يصيبهم. لا شك أن معارضي الأنبياء يُعطَون المهلة لبعض الوقت لتُتاح الفرصة لمن كان الهدى من نصيبه، ولكن يستحيل أن يُمهَلوا في كل مرة، دون أن ينـزل العذاب في حياة ذلك النبي أو أتباعِه.

فالآية تحذّر الكفار بألا يظنوا أنهم في مأمن من العذاب، إذ من المحال أن يكونوا في مأمن من الهلاك إلا بأحد الطريقين: الأول أن يحل بهم العذاب دون أن يدمّرهم، والثاني أن يؤجَّل العذاب دائمًا ولا يصيبهم أبدًا؛ ولكن لن يحدث أي من هذين الأمرين، فيجب ألا يتجاسروا على المعارضة مغترّين بالمهلة.

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (7)

شرح الكلمات:

الذكر: التلفظُ بالشيء وإحضارُه في الذهن بحيث لا يغيب عنه؛ الصيتُ، ومنه: له ذكر في الناس؛ الثناءُ؛ الشرفُ، وفي القرآن: إنه لذكرٌ لك ولقومك؛ الصلاةُ لله تعالى والدعاء، يقال: إذا حَزَبَه أمرٌ فَزَعَ إلى الذكر؛ الكتابُ فيه تفصيل الدين ووضعُ الملل. والذِكرُ من الرجال: القويُّ الشجاع الأبيُّ. والذكرُ من المطر: الوابلُ الشديد. والذكرُ من القول: الصلبُ المتين. (الأقرب)

مجنون: جُنّ الرجل جَنًّا وجُنونًا: زال عقلُه، وقيل: فسد. وجُنَّ الشيءُ عنه: استتر. والجنون: مصدر جَنَّ؛ زوالُ العقل، وقيل: فساده. والمجنون: من زال عقله أو فسد. (الأقرب)

والجِنّة: جماعة الجن، قال تعالى من الجِنّة والناس ، وقال تعالى وجعلوا بينه وبين الجِنّة نسبًا . والجِنّة: الجنونُ، قال تعالى ما بصاحبكم مِن جِنّة .. أي جنون. والجنون: حائلٌ بين النفس والعقل. وجُنّ فلانٌ: قيل: أصابه الجنُّ، وبُني فعلُه على فُعِلَ كبناء الأدواء نحو: زُكِمَ ولُقِيَ وحُمَّ؛ وقيل: أصيبَ جَنانُه؛ وقيل: حيلَ بين نفسه وعقله فجُنّ عقله بذلك. (المفردات)

هذا ما ذكره صاحب المفردات من آراء الناس حول ماهية الجنون. مما يدل على أن قولهم: (فلان مجنون) لا يعني بالضرورة أنه أصابه الجن، بل معناه الحقيقي أن عقله قد فسد. فالذين يتبعون الأوهام يفسرونه بأن جِنيًّا من الجِنة غضِب عليه فأفسد عقله، وأما الذين يعتبرون الأحاسيس والعواطف مصدرًا للأسقام والأمراض فيفسرونه بأن قلبه أصيبَ بصدمة. والذين لهم إلمام بالطبيعيات يقولون إن خللاً حصل بعقله. وبالاختصار فإن كلمة (الجنون) لا تعني إصابة الجن، وإنما يرى البعض أن إصابة الجن سبب من أسباب الجنون.

ويضيف صاحب المفردات فيقول: معلَّمٌ مجنونٌ .. أنْ ضامَّه مَن يعلِّمه مِن الجنّ. وكذلك قوله تعالى: أَئِنا لَتارِكو آلهتِنا لشاعرٍ مجنون .

والحق أن صاحب المفردات قد ذكَر هذا المعنى تحت تأثير التفاسير الأخرى، وإلا فهو غير موجود في القواميس الموثوق بها، التي تقول إن المجنون هو من أصابه مرض الجنون.

وورد في القاموس العصري تحت كلمة المجنون:Mad, Crazy, Insane, Fool, Foolish.

التفسـير:

لقد أنبأ الله من قبل أن الكفار سيقولون في أنفسهم مرة بعد أخرى: ليتنا كنا مسلمين، والآن يخبر أنهم عند سماع نبأ هلاكهم سيقولون في استغراب شديد: لا شك أنك مجنون حيث تدّعي بهذا، ولسوف ترى قريبًا كيف نسحَقك مع أتباعك سحقًا.

أما إذا اعتبرنا كلمة ربما تفيد المستقبل بمعنى أن الكفار سوف تتملكهم الحسرة لدى رؤية ازدهار الإسلام، فيقولون: ليتنا كنا مسلمين، أو ليتنا لم نحارب المسلمين، أو ليتنا سلّمنا نحن أيضًا أمرنا إلى الله متوكلين عليه.. فتعني هذه الآية: أنهم لدى سماع هذا الإعلان سيعتبرونه دعوى رجل مجنون، ويقولون: إنه لمجنون من يدّعي بهذه الدعاوى العريضة، إذ من المستحيل أن تتولد عندنا نحن أعداء الإسلام مثلُ هذه الرغبة، وأنَّى لهذا النبي ولأتباعه أن يحقّقوا الرقيّ بحيث نغبطهم عليه.

“الذِكر” اسم من أسماء القرآن الكريم، ويعني الشرف كما قال الله تعالى لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذِكركم .. أي شرفكم. وكان هذا الاسم معروفا لدى الكفار، وقد استخدمه الكفار هنا تعييرًا للمسلمين. ذلك أن الحديث هنا يدور عن ازدهار المسلمين وعزتهم وهلاك الكفار وهوانهم. ويشبه قولهم هذا قولَ الله تعالى لشخص من أهل النار: ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم (الدخان: 50).. بمعنى: انظُرْ إلى أين أوصلتك عزتك وكرامتك.

قال بعض الكتّاب المسيحيين – بناءً على قول الكفار: إنك لمجنون – أن هذا يؤكد كون محمد مصابًا بنوع من الجنون وإلا لما سمّاه العرب مجنونًا، إذ لا أحد ينسب الجنون إلى شخص سليم العقل!

وقد أخطأ هؤلاء في تحديد معنى الجنون سعيًا منهم لاتهام النبي . فقد ترجم المسيحي جورج سيل هذه الآيةَ كالآتي:

“Thou art certainly possessed with a devil.” (تفسير القرآن لـِ “ويري”).. أي لا شك أن شيطانًا قد استحوذ عليك.

وكتب المستشرق رودويل ما يلي:

“Thou art surely possessed by a djinn.” (ترجمة القرآن لرودويل).. أي أنه قد أصابك أحد من الجن.

وقال القسيس بامر: “Verily thou art possessed.” (ترجمة القرآن لبامر).. أي لا شك أنك واقع في قبضة روح شريرة.

وكأن المجنون عندهم من كان واقعًا تحت تأثير شيطان أو جنّ. ولكن هذا المعنى لا ينطبق هنا أبدًا، بل إن المجنون هو من اختل عقله كما هو ثابت ومسجل في القواميس المذكورة أعلاه.

الواقع أن الكتّاب المسيحيين قد حاولوا إلصاق هذه التهمة فرارًا من التهمة الموجَّهة إليهم هم، حيث ورد في أناجيلهم أن اليهود كانوا يتهمون المسيح بأن فيه شيطانًا. ولكن هؤلاء النصارى لم يفكروا أن التهمة ضد المسيح كانت من قِبل اليهود، وأما هذه – ضد النبي – فهي من قِبل مشركي مكة؛ وكان اليهود يؤمنون أن الجن روح شريرة، وأن من لَزِمَتْه تلك الروحُ الشريرة يصير شخصًا شريرًا؛ ولكن المشركين كانوا يعبدون الجن، ولم يقصدوا بقولهم ضد النبي ما أراده اليهود ضد المسيح ، ولو كان الأمر كذلك لما عارضوا الرسول بل لخافوه وهابوه.

والظلم الآخر الذي ارتكبه المعترضون النصارى أنهم قالوا: ما دام أهل مكة قد رمَوا محمدًا بالجنون فلا بد أن هناك سببًا لذلك. ثم لفّقوا هذا السبب من عند أنفسهم وقالوا أن محمدًا كان مصابًا – والعياذ بالله – بنوبات الصرع. ثم استشهدوا على قولهم بذلك الحادث الذي ذكره بعض المؤرخين، والذي قد وقع للنبي عندما كان صبيًّا عند السيدة حليمة. ذات مرة كان النبي مع صبيان كبار يرعون الغنم في البرية إذ أتاه شخصان بلباس أبيض برّاق، فألقياه على الأرض، وشقّا صدره، ثم أخذا منه شيئًا أسودَ اللون ورميَا به بعيدًا (راجِعْ مسند أحمد، مسند الشاميين، حديث عتبة بن عبد السلمي رقم 16990). يستدل هؤلاء النصارى من هذا الحادث أن محمدًا الذي كان صبيًّا عندئذ لا يمكن أن يكون قد كذب على أهله ملفّقًا القصة منه، بل لا بد أن هذا قد حدث به فعلاً، وكان ذلك نوبةً من نوبات الصرع!

إنني لا أدخل الآن في النقاش ما إذا كان المصاب بالصرع يستطيع – أثناء نوبات الصرع – أن يفكّر في مثل هذه المشاهد ويراها ويحفظها أم لا، غير أنني قد طالعت كتب الطب التي تتناول مرض الصرع بكل تفاصيله وأعراضه، ولم أقرأ في أحد منها أبدًا أن المصاب به يمكن أن يرى مثل هذا المشهد أثناء نوباته ثم يحفظه بنفس الترتيب والتفصيل.

كما أن عيون المصاب بهذا المرض وصورته وحالته العقلية وأعراضه الأخرى نفسها تدل بكل وضوح أن هذا الشخص مريض بالصرع، إذ تجده دومًا كثير الشكوى بلا داع، يشكو من كل أذى بسيط، فارغ الذهن حائر الجنان، وعصبي المزاج يغضب غضبًا شديدًا عند كل صغيرة وكبيرة. ولكن النبي لم يكن به شيء من هذا القبيل أبدًا.

واعتراض النصارى يبدو أكثر غرابة وبشاعة حين نجد الآية التالية تبيّن لنا سبب رمي الكفار النبي بالجنون، فإنهم ما كانوا يطلقون عليه هذه التسمية لنوبات الصرع، بل لأنهم كانوا يستبعدون دعاويه ويعتبرونها خارجة على العقل والقياس. والحق أن كل الأنبياء مشتركون في هذا الأمر، فما من نبي إلا وقد ادعى بما لم يكن أهل زمنه مستعدين لتصديقه.

يقول لنا هؤلاء النصارى: إذا لم يكن هناك سبب كهذا فلماذا كان كل القوم يسمّون محمدًا مجنونًا؟ وأنا أقول: لقد خلق الله في الدنيا شخصًا آخر اسمه يسوع، وقال الناس عنه أيضًا إنه فريسة للشيطان ومجنون حيث جاء: “فحدَث أيضًا انشقاق بين اليهود بسبب هذا الكلام، فقال كثيرون منهم: به شيطان وهو يهذي. لماذا تستمعون له” (يوحنا 10: 19-20). كما ورد عن أحد تلاميذ هذا العبد المختار واسمه بولس: “وبينما هو يحتجّ بهذا قال فَسْتُوسُ بصوت عظيم: أنت تهذي يا بولس. الكتب الكثيرة تحوِّلك إلى الهذيان”. (أعمال الرسل 26: 24)

فأقول لهؤلاء النصارى: قبل أن تتّجهوا إلى سيدنا محمد بمثل هذه الترهات عليكم أن تُثبتوا أولاً أن نوباتِ الصرع هي التي كانت وراء رمي اليهود المسيحَ وبولس بالهذيان، لأن من واجبكم أن تسوّوا القضية أوّلاً في بيتكم.

يا ليت هؤلاء المسيحيين أنصفوا وفكّروا بتأنٍّ ليدركوا أنه إذا كان ممكنًا أن يُرمى المسيح بالهذيان والجنون بمجرد وعظه للقوم دون أن يكون مصابًا بنوبات الصرع.. فكيف لا يُتوقع من الجاهلين بالعالم الروحاني أن يسمّوا سيدنا محمدًا مجنونًا حين ادّعى هذه الدعوى الكبيرة: ربما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ؟

واعتراض النصارى يبدو أكثر غرابة وبشاعة حين نجد الآية التالية تبيّن لنا سبب رمي الكفار النبي بالجنون، فإنهم ما كانوا يطلقون عليه هذه التسمية لنوبات الصرع، بل لأنهم كانوا يستبعدون دعاويه ويعتبرونها خارجة على العقل والقياس. والحق أن كل الأنبياء مشتركون في هذا الأمر، فما من نبي إلا وقد ادعى بما لم يكن أهل زمنه مستعدين لتصديقه.

Share via
تابعونا على الفايس بوك