الأهلة في الإسلام
ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (189)

شرح الكلمات:

تأكلوا –أكل: تناول الغذاء والطعام، ولكن إذا استخدمت كلمة الأكل لغير الطعام فتعني أفنَى الشيء وأهلكه.

تُدلوا –أدلى إدلاء: أرسل الدلو في البئر. أدلى فلان في فلان: قال فيه قبيحا.

وأدلى بحجته: أحضرها واحتج بها. وأدلى إليه بمال: دفعه إليه (الأقرب). وقوله (وتُدلوا بها) يعني ولا تدلوا بها. والمراد أولا لا تأخذوا أموال الناس إلى الحكام، أي لا تسلبوهم أموالهم بإقامة القضايا الكاذبة ضدهم. وثانيا: لا تعطوا الحكام الرشاوى.

التفسير:

الإنسان لا يسلب مال نفسه، فالمراد لا تأكلوا أموال بعضكم عن طريق الباطل. الإنسان يأكل مال غيره بعدة طرق: أولا بالكذب، ثانيا: بسلبها عن طريق غير شرعي، ثالثا: عن طريق الربا، رابعا: الرشاوى. كل هذه الأمور تندرج تحت كلمة (الباطل).

وبقوله (تدلوا بها إلى الحكام) بيّن أنه كما هو حرام أكل مال بعضكم البعض، كذلك لا تُغروا الحكام بالمال لتأكلوا به أموال الآخرين، فالآية تنهى عن تقديم الرشوة للمسؤولين وتحرمها.

والمعنى الثاني: لا تأخذوا أموالكم إلى الحكام لتأكلوا أموال الآخرين بالإثم.. أي لا تقيموا ضدهم قضايا باطلة ظنًّا أن الحاكم أو القاضي إذا حكم لكم بهذا المال بناء على قانون البلد يجوز لكم أن تأخذوه. كلا، فهناك محكمة سماوية فوق المحاكم الدنيوية، وما دامت هذه المحكمة السماوية قد حرمت عليكم بقانونها مثلَ هذا المال.. فمهما قضت المحاكم الدنيوية لكم به فهو حرام غير جائز لكم. وقد قال النبي : “فمن قطعتُ له من حق أخيه شيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار” (البخاري، الأحكام). كذلك روي عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن الرسول سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: “إنما أنا بشر يأتيني الخصم، ولعل بعضكم أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها “. (البخاري، الأحكام،ومسلم، الأقضية).

ولو فُرض أداء الحج في شهر شمسي لتقيدت هذه العبادة بشهر واحد من السنة ولاسْتَحال على العديد من الناس أداؤه، ولكن ربط عبادة الحج بشهر قمري يجعل موسمه يحل في مختلف فصول السنة مما يتيح للناس السفر إلى بيت الله حسب أحوالهم ليتمتعوا من بركات الحج.

 

يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (190)

شرح الكلمات:

الأهِلَّة-جمع هلال، قيل يسمى هلال لليلتين أو ثلاث أو إلى سبع (الأقرب).

المواقيت –جمع ميقات، وهو الوقت، وقيل الوقت المضروب للشيء، والموعد الذي جعل له وقت. وقد يستعار للموضع الذي جعل وقتا للشيء (الأقرب).

التفسير:

لما رأى الصحابة أن الله تعالى يتقرب منهم في رمضان ويستجيب لدعائهم بكثرة.. اشتاقت قلوبهم لسؤال النبي عن باقي الشهور، ليتمتعوا ببركاتها أيضا. فيقول الله: إنهم يسألونك عن الأهلة، فقل لهم: هي مواقيت للناس، أي هي وسيلة ليعرف الناس بها الوقت. بمعنى أن الشهور القمرية لم تتحد بدورة القمر لأن لكل منها علاقة بأمر من أمور الشرع، إنما ارتبطت بالقمر ليعرف الناس موعد أمر أو عمل في المستقبل أو في الماضي، وأشار بقوله (للناس) إلى أن عامة الناس يمكن أن ينتفعوا بالشهور القمرية، أما الحساب الذي يتأسس على دوران الشمس فإنما ينتفع به أهل العلم دون العامة.

وقال (والحجِّ).. أي هناك فائدة أخرى للشهور القمرية إذ لها علاقة بالحج، فبما أن فريضة الحج تؤدّى في شهر قمري معين، وفي كل مرة يتغير موعده فهذا يمكّن ذوي الطبائع والبلاد المختلفة حارة أو باردة.. أن يشتركوا في هذه العبادة بحسب طبائعهم وأحوالهم. ولو فُرض أداء الحج في شهر شمسي لتقيدت هذه العبادة بشهر واحد من السنة ولاسْتَحال على العديد من الناس أداؤه، ولكن ربط عبادة الحج بشهر قمري يجعل موسمه يحل في مختلف فصول السنة مما يتيح للناس السفر إلى بيت الله حسب أحوالهم ليتمتعوا من بركات الحج.

ويجب ألا يُظن من قوله (قل هي مواقيت للناس) أن الإسلام يعتبر أن القمر وحده وسيلة لتحديد الوقت، لأن القرآن الكريم ذكر في آيات أخرى أن الشمس أيضا وسيلة لمعرفة الوقت وتقديره، فقال: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازلَ لتعلموا عددَ السنينَ والحسابَ)(يونس:6). ومعنى (ضياء) أن ضوءها ذاتي غير مكتسب، ومعنى (نورا) أن القمر يكتسب ضوءه من الشمس. وقال أيضا: (فالِقُ الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا. ذلك تقدير العزيز العليم) (الإنعام: 97).. فذكر بقوله (حسبانا) أن الشمس والقمر وسيلتان للحساب. وقال: (الشمس والقمر بحسبان) (الرحمان: 6). أي أن الشمس والقمر يعملان وفق حساب ونظام، وحركتهما تابعة لقانون معين. ثم قال (والنجم والشجر يسجدان) (الرحمان: 7). ونتيجة لهذا القانون المحدد فإن نبات الأرض وأشجارها تتبع دورة الشمس والقمر في نموها وإثمارها، وتتأثر بتأثيراتها.

يتبين من هذه الآيات أن للشمس والقمر علاقة بالتواريخ والحساب ولولاهما لم تظهر هذه العلوم، ولم يمكن تقدير السنين والأيام.. ذلك لأن تقدير الشيء ومعرفة المسافة بين شيئين يتطلب وجود نقطة ثابتة. فمثلا رجال المساحة عندما يقيسون المسافة فيقولون إن الأرض الفلانية تبعد كذا مترا عن بئر كذا أو شجرة كذا.

فمعرفة المسافة غير ممكنة بدون نقطة لبداية القياس. لذلك نقول لولا الشمس والقمر ما استطاع الناس قياس السنين والأيام.

وقد ربط الإسلام مواقيت عبادته بكل من الشمس والقمر. فمثلا ربط بالشمس مواعيد الصلاة وبداية الصوم ونهايته. ولكن العبادات التي ترتبط بشهر خاص فهي تابعة للقمر، فاختار الشهور القمرية لرمضان وأيام الحج لكي تمضي هاتان العبادتان برحلة على مدار السنة، فيجد كل مؤمن شرفا وسعادة أن الله تعالى مكَّنه من عبادته في كل جزء من السنة. فصيام رمضان ترتبط مواقيته بالشهور القمرية، ويُكمل رحلته على مدار السنين في ثلاث وثلاثين سنة، وهكذا يهل رمضان أحيانا في يناير أو في فبراير أو سائر شهور السنة الشمسية.. ليرجع مرة أخرى إلى يناير بعد 33 سنة، وهكذا يكون المؤمن قد صام في كل يوم من أيام السنة وهي 365. ولكن لو كان الصيام مرتبطا بالسنة الشمسية، وكان في شهر يناير مثلا لجاء كل عام في نفس الشهر، ولم تتسع هذه العبادة. فلتوسيع رقعة عبادة الصوم، ولكي يستطيع كل الإنسان قضاء كل لحظة من السنة في عبادة الله رُبطت بشهر قمري. ولكن فيما يتعلق ببداية السنة ونهايتها فإن العقل الإنساني يطمئن إلى الشمس أكثر.

(وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها). يقال إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أحرم أحدهم للحج ثم مسته الحاجة لدخول بيت لم يدخله من الباب. وإنما تسلق الجدار من الخلف ودخله (البخاري، التفسير).

وقد يكون نزول هذه الآية نهيا عن هذا الأمر، ولكنني أرى أنه لم يسبق الآية ذِكر دخول البيوت من ظهورها.. فلا تعني هذا المعنى الظاهري، وإنما المراد منها أنه لإنجاز أي عمل هناك أسلوب محدد فاختاروه واتبعوه وإلا لن تفلحوا في مرامكم. كان السؤال من قبل أننا تحملنا المشقة في رمضان وتقربنا إلى الله، والآن دُلّنا على طرق إذا اتبعناها في شهور أخرى تمَكَّنا من قمع النفس. فقال الله: صحيح أن نيتكم سليمة وطيبة، ولكن تَذَكروا أن الإنسان لا يصل إلى الله بتحمل المشقة الزائدة، وإنما الوسيلة الحقيقية للرقي الروحاني هي اتباع طرق عيَّنها الله لذلك. فإذا فعلتم هذا تمتعتم بقرب الله، وإذا لم تفعلوه فمثلكم كمثل خادم يدعوه سيده فيتأخر، وإذا سأله: لماذا تأخرت؟ يجيب: لم آت من الباب وإنما تسلقت الجدار، وهذا ما أخرني! فهل تظنون أن سيده يفرح بجوابه ويجازيه ويرفع مكانته، ويقول له: لقد أرهقت نفسك في تسلق الجدار لأجلي.. لذلك أرفع مكانتك؟

فليس من البر أن يتكبد الإنسان المشقة عبثا، ويبتدع طرقا تضيع وقته وتبدد قواه، وإنما البر أن يلبي نداء الله ويختار الطرق التي حددها له في الشرع. لو حاولتم الوصول إليَّ بالطرق التي بينتها لكم فسوف تصلون إليَّ، أما إذا سلكتم سبلا أخرى فسوف تبذلون جهودا أكثر، وتتحملون مشقة أكبر، ومع ذلك لن تصلوا إليّ. فبعض الهندوس يعلّقون أنفسهم من الأقدام لمدة طويلة، وبعضهم يرفعون أيديهم حتى تجف. ولكن هذا لا يكسبهم رضوان الله تعالى. وعلى النقيض يقوم المسلمون بعبادات تقل مشقة عن أفعال الهندوس كثيرا، ومع ذلك يفوزون برضوان الله.

فاختار الشهور القمرية لرمضان وأيام الحج لكي تمضي هاتان العبادتان برحلة على مدار السنة، فيجد كل مؤمن شرفا وسعادة أن الله تعالى مكَّنه من عبادته في كل جزء من السنة. فصيام رمضان ترتبط مواقيته بالشهور القمرية، ويُكمل رحلته على مدار السنين في ثلاث وثلاثين سنة، وهكذا يهل رمضان أحيانا في يناير أو في فبراير أو سائر شهور السنة الشمسية.. ليرجع مرة أخرى إلى يناير بعد 33 سنة، وهكذا يكون المؤمن قد صام في كل يوم من أيام السنة وهي 365.

وللأسف أن المسلمين في زمن الفَيْج الأعوج أيضا حمّلوا أنفسهم مشقات شديدة، وسلكوا طرقا خاطئة، واخترعوا من عند أنفسهم أنواع الاعتكافات، وابتدعوا عشرات الأذكار، ولو أنهم –بدلا من تحمل المشقة الشديدة –عملوا بما أمر الله به في القرآن من تعاليم.. لقطعوا من منازل القرب الإلهي في أيام ما لم يستطيعوا قطعها في سنين. لقد مات نتيجة لهذه المشقات الكثير منهم بأمراض كالسُّلّ والحمى، وأصيب العديد بالجنون والصرع.

وبين الله في قوله (وأتوا البيوت من أبوابها) أن الإنسان إنما ينال الفلاح والنجاح بالدخول من الأبواب. وإن لم تفعلوا ذلك وتسلقتم الجدران فلن تفلحوا أبدا. فمثلا في أيام الحرب.. لو لم تتدربوا على استخدام السلاح، ولم تتعلموا فنون القتال، وخرجتم للقاء العدو متهورين طائشين فلن تفوزوا، ولكن لو كان بيدك سلاح، ولو بسيط، أو تعلمت استخدام العصا لنفعت القوم، فلا بد إذن للنجاح من أخذ الأسباب واتباع الطرق التي حددها الله لذلك.

ثم يقول (واتقوا الله) ليشير إلى أن التساهل في أخذ الذرائع والأسباب يُعتبر انتهاكا لقانون الله ونظامه، فاتقوا الله واتبعوا فقط الطرق التي وضعها الله لنيْل أي شيء، ولا تتبعوا طرقًا جديدة من عند أنفسكم. مثلا، الصوم في الشهر الصيام حسنة عظيمة، لكن لو قاس الإنسان على ذلك، وبدأ يصوم في شهر آخر ثلاثين يوما، وظن أنه سوف يُرضي ربه بهذا.. فمثله كمثل الذي لا يدخل من الباب، بل يتسلق الجدار، ويقول انظروا: كيف تحمَّلتُ المشاق لوصولي إليك! لن يمدح الناس مثل هذا الإنسان وإنما يلومونه ويذمون ما فعل.

Share via
تابعونا على الفايس بوك