في عالم التفسير
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (85).

التفسير:

في هذه الآية أيضًا يوجه الله أنظار اليهود إلى عيبين آخرين من عيوبهم الاجتماعية التي كانت متفشية فيهم على وجه الخصوص في عهد النبي . والمراد من (تسفكون دماءكم) هو قتلهم أفرادا من شعبهم، وقد جاء بهذه الكلمات لبيان أن من قتل أحد أفراد شعبه فكأنما قتل نفسه. لأن هلاك أو قتل أفراد من الشعب يؤثر على الشعب ككل. كذلك كلمة (تخرجون أنفسكم من دياركم) لا تعني خروجهم هم من بيوتهم، وإنما تعني إخراجهم أفرادا من شعبهم من بيوتهم كما يتبين من الآية التالية أيضًا، وإلا فليس أحد يخرج نفسه من بيته بنفسه. ولقد جيء هنا بكلمة أنفسهم وديارهم أيضًا لنفس الغرض … أي لتبين حمقهم وجهلهم. ومعنى الآية أننا نهيناكم عن أن يقتل بعضكم بعضا، ولا يخرج بعضكم بعضا من داره… ولكنكم خالفتم أيضًا هذا الأمر. والآية التالية تبين نفس المعنى.

استهل سبحانه وتعالى هذه الآية بكلمة (وإذ أخذنا ميثاقكم) بينما في الآية السابقة بدأها بقوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل)…. مع أن العهدين كليهما أخذا من بني إسرائيل أنفسهم، فما الحكمة في ذلك؟

إن من فضائل القرآن- وهناك آلاف الشواهد على كونه منقطع النظير- أنه بتغير بسيط في الكلمات يأتي بمفاهيم مختلفة واسعة، ويعبر ببضع كلمات عما لا يعبر عنه إلا في جمل. هنا، أيضًا، جاء القرآن بالضمير (كم) بدلا من بني إسرائيل ليوجه الأنظار إلى أمر هام.. هو بيان أن المساوئ المذكورة في الآيات السابقة كانت متفشية في بني إسرائيل كلهم في ذلك الزمان، ولكن المعاصي المذكورة في هذه الآية والتي بعدها كانت متفشية بصفة خاصة في القبائل اليهودية التي كانت تقطن المدينة وما حولها. فجاءت كلمة ’بني إسرائيل‘ عامة، ووردت كلمة ’كم‘ للتعبير عن اليهود في جزيرة العرب فقط لأنهم منغمسون في تلك المعاصي خاصة.

وقوله تعالى(ثم أقررتم وأنتم تشهدون) يوضح بأن المرء في بعض الأحيان يقبل شيئا بسبب الاحترام.. ولكن قلبه يبقى غير مطمئن فيما يتعلق بسموه وأهميته، أما أحكامنا هذه فقد كانت من السمو والأهمية بمكان، فصدقتموها بألسنتكم واعترفت أيضًا قلوبكم بصلاحها وجودتها… ومع ذلك لم تبالوا بهذا الاعتراف ولم تكترثوا بشهادة قلوبكم، وبدأتم الحرب ضد إخوانكم.

 

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (86).

شرح الكلمات:

خزي– الخزي: الهوان، العقاب، البعد، الندامة (أقرب الموارد)

التفسير:

تبين الآية أن اليهود فسدوا لدرجة أن الشريعة كانت نـهتهم عن هاتين السيئتين.. ومع ذلك كانوا يقتل بعضهم بعضا ويخرج بعضهم بعضا من بيته.

والمراد من الإخراج من الديار إما نفي الناس من البلاد أو استعبادهم وحيث إن العبد يكون تابعا لصاحبه يذهب به حيث يشاء.. لذلك أرى أن الإخراج من الديار هنا يعني الاستعباد. خاصة وقد ذكر قبله سفك الدماء الذي يشير إلى الحرب، وهي التي تؤدي إلى أسر الناس وتعبيدهم.

ولقد ورد النهي عن قتل بعضهم البعض حيث قيل”لا تقتل”(الخروج13:20).. وجاء النهي عن إخراج الناس هكذا: ” ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يديه يقتل قتلا” (الخروج16:21).

كما ورد النهي عن اتخاذ أي إسرائيلي عبدا حيث قيل “وإذا افتقر أخوك عندك وبيع لك فلا تستعبده استعباد عبد. كأجير كنـزيل يكون عندك. إلى سنة اليوبيل يخدم عندك. ثم يخرج من عندك هو وبنوه ويعود إلى عشيرته. وإلى ملك آبائه يرجع”. (لاويين25: 39-41) وأيضًا جاء “وان لم يفك بهؤلاء يخرج في سنة اليوبيل هو وبنوه معه” (لاويين 54:25). وما فهمه اليهود من هذه التعاليم ظاهر في سفر النبي نحميا، حيث أعتق العبيد الإسرائيليين سواء أكانوا تحت الأمم الأخرى أو في أيدي الإسرائيليين أنفسهم. (نحميا8:5)

وفي زمن التلمود[1] أجمع اليهود على أنه لا يجوز استعباد يهودي. فقد ورد: “ادخل في الدستور التلمودي قرار أنه لن يتخذ أبدا أي من اليهود عبدا، حتى أن السارق الذي كان يباع بسبب جريمته أيضًا لم يكن يعتبر عبدا. وعندما أسر كثير من اليهود في حرب السلوقيين والبطالسة فقد اعتبر تحريرهم فرضا عليهم وعملا يثابون عليه (الموسوعة الكتابية ج 4 تحت كلمة Slavery).

ويتبين من هذه التعاليم أن استعباد اليهود، وهو كإخراج الناس من ديارهم، كان أمرا منكرا بحسب التوراة. وكانت هناك أحكام بتحرير الأسرى بأسرع ما يمكن.

كان ثمة طريقان لاستعباد اليهودي: الأول- أن يبيع أحدهم نفسه لغيره. وهذا الأمر لا تجيزه الشريعة الإسلامية ولكنه كان جائزا في شرعهم، فكان لهم أن يبيعوا أنفسهم بسبب ديون أو جناية أو ضائقة مالية.

والثاني: أن تبيعه المحكمة لأحد نظير دين عليه أو جناية أدت إلى إلحاق الخسارة بالمجني عليه.. مثل السرقة والسطو على أموال الناس وغير ذلك. وكانوا في كلتا الحالتين يكرهون جدا أن يقع أحدهم عبدا في أيدي غير اليهود، حتى أن المحكمة نفسها كانت لا تبيع أحدا من اليهود لمن ليس يهوديا.

في هذه الآية يقول الله تعالى لليهود: إنكم رغم هذه التعاليم تقتلون أنفسكم … أي يحارب بعضكم بعضا، كما أنكم تخرجون فريقا منكم من ديارهم … أي أن فريقا منكم يتخذون عبيدا بسبب هذه الحروب، وهكذا تناصرون الأعداء ضد بعضكم البعض ظلما وإثما، مع أن شرعكم يحرم عليكم القيام بمثل هذه الأنشطة ضد إخوانكم. ثم إذا يؤتى بهم إليكم أسارى تحررونهم بالفدية.. مع أنه محرم عليكم إخراجهم من ديارهم. أي أن الأمر الأول وهو الحرب التي تسبب أسرهم فتضطرون لتحريرهم بالفدية أيضًا، هذه الحرب نفسها كانت حراما عليكم، ولكنكم ترتكبون هذا الحرام أيضًا، مما يعني أنكم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.

في هذه الآيات يشير الله إلى نشاطات اليهود التي كانوا يقومون بها بالاشتراك مع قبائل المشركين القاطنين في المدينة المنورة. كان في المدينة- قبل هجرة النبي إليها –فريقان من المشركين هما الأوس والخزرج، وكانت بينهما حرب نشبت قبل بعثة النبي بفترة قصيرة. وكان اليهود قد هاجروا إلى المدينة واستوطنوها بنية الإيمان بالنبي الموعود عند ظهوره في هذه البلاد (السيرة النبوية لابن هشام)، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو النضير. وكان الانحياز والتحزب إلى أي فريق هو مدار الأمن بحسب دستور ذلك الزمان.. وبدونه ما كان الناس يعتبرون أنفسهم في أمان. ولما كان الأوس والخزرج في حرب فإنهم تحالفوا مع قبائل اليهود، فصارت بنو قريظة وبنو قينقاع حلفاء الأوس بينما انحازت بنو النضير إلى الخزرج، وعند نشوب الحرب بينهما كان اليهود يشتركون فيها لمساندة حلفائهم بموجب المعاهدة. وهكذا كانت كل قبيلة يهودية بعملها تضطر نظيرتها أو أختها للخروج من الديار للحرب، وعندما كان اليهود المنهزمون يقعون أسرى مع الآخرين في يد الفريق المنتصر.. كانوا يلتمسون من الفريق المنتصر إطلاق سراح أسراهم.. لأن دينهم لا يسمح باستعباد أي يهودي، ويؤدون الفدية في مقابل ذلك، وكانوا يجمعون المال بالتبرعات لتحرير إخوانهم من ربقة المشركين (المرجع السابق).

فالله تعالى يدين اليهود بعملهم هذا ويقول: كنا نهيناكم عن الأمرين كليهما- عن التحارب، وعن استعباد إخوانكم- ولكنكم تتحاربون فتتسببوا في وقوع إخوانكم أسرى في أيدي أمم أخرى ولا تفكرون وأنتم تدفعونهم للأسر أنكم تخالفون أمر الله. ثم إنكم بعد أسرهم تتظاهرون بالصلاح فتحاولون تحريرهم بالفدية.. محتجين بأن الله قد حرم في شر عنا استعباد اليهود. فما أشنعها من جريمة.. تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض! تُحررون إخوانكم من الأسر بعدما دفعتموهم بأيديكم دفعا إلى هذا الأسر.. مع أنه ليس هناك أي خلاف بينكم وإنما تفعلون كل ذلك ولاء للقبائل المشركة!

وتذكر كتب التاريخ أن قبائل العرب عندما كانوا يعيرون اليهود بذلك.. كانوا يردون عليهم قائلين: لا شك في حرمة التحارب فيما بيننا. ولكن الخجل من حلفائنا يدفعنا إلى الحرب في صفهم.. لذلك نحررهم بعد الحرب بالفدية (تفسير البحر المحيط تحت قوله: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم)

فقوله (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) يبين أن العامل ببعض الكتاب يعترف عمليا بصدق كل الكتاب، فتركه للبعض الآخر لا يدل إلا على فساد باطنه.

وقوله (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب).. أي قد أتيحت لكم فرص للإصلاح مرارا، كما أنكم كنتم على علم بأوامر الله تعالى.. فليست عقوبة أمثالكم على هذه الجرائم إلا الخزي والهوان في الدنيا، وأما في الآخرة فسوف تذوقون عذابا أشد من هذا.

الواقع أن هناك مرضا شديدا وخطيرا ومدمرا لروح الإنسان.. ألا وهو أن كثيرا من الناس يرون الكفاية في العمل بما يجدونه من التعاليم الدينية موافقا لأفكارهم وأهوائهم وميولهم؛ ولا يبالون مطلقا بأن هناك الكثير من التعاليم التي هم معرضون عنها بكل جسارة. ولما كان المرء تتغير عاداته بتغير الظروف والبيئات المحيطة به.. لذلك فإن لكل واحد ذوقا خاصا، فيعمل بما يوافق ذوقه ويهمل مالا يتناسب معه. فمثلا لو نظرنا إلى أهل المناطق المختلفة من بلادنا لرأينا أهل منطقة يواظبون على أداء الصلوات بكل حرص ولكنهم كسالى في الصوم. بينما يهتم أهل منطقة أخرى اهتماما خاصا بأداء الزكاة ولكنهم لا يبالون بالصلاة والصوم. وفي منطقة ثالثة يداومون على الصلاة والصوم ولكنهم غافلون عن أداء الزكاة. وفي منطقة رابعة نجدهم لا يحجون وان استطاعوا إلى الحج سبيلا. وفي منطقة خامسة نجدهم يذهبون إلى الحج ولكنهم قلما يصلون حتى أثناء سفرهم للحج. ومثل هذه الصلاة والزكاة والصوم والحج لا يمكن أن تسمى طاعة لأوامر الله.. ذلك لأنهم لو أطاعوا الله بصدق لأدركوا أن الذي أمرهم بالصلاة هو الذي أمرهم بالصوم، وأن الذي أوصاهم بالزكاة هو الذي أوصاهم بالحج..ولكن عملهم بأمر وإعراضهم عن أمر آخر لدليل على أن ما يسميه هؤلاء انقيادا وطاعة لله ليس في الحقيقة كذلك، وإنما هو خداع في نفوسهم.. لأن الطاعة لله والانقياد له سبحانه إنما يتحققان إذا انقاد المرء لكل أمر من أوامر الله انقيادا تاما.. سواء أكان هذا الأمر موافقا لأهوائه وأفكاره وتقاليده أو مخالفا لها.

كما أن هناك كثيرا من الناس الذين لا يوجد في طباعهم شيء كالغضب، فإذا كلمهم أحد بما يثير الغضب يتلقونه بكل هدوء وانبساط. وإذا كان هؤلاء في موقف يتطلب منهم الغضب في سبيل الله تعالى لم يغضبوا، بل عفوا وصفحوا. ويتبين عندئذ أن عفوهم وصفحهم ليس من طاعة الله في شيء، ذلك أنه لو كان عفوهم نابعا من طاعتهم لأمر الله ومشيئته لما عفوا في موقف يمنع الله فيه من العفو. فليست الطاعة أن يتبع المرء من أمر الله تعالى ما يحلو له ويتناسب مع ذوقه، وإنما الطاعة أن يعمل الإنسان بكل ما أمر الله به …. وان كان يتنافى مع ذوقه وعاداته.

هنا أيضًا يخبر الله عن اليهود أن هذا هو حالهم. فأما الكبائر فكانوا يأتونها غير مكترثين، وأما الصغائر فكانوا يتجنبونها قائلين لقد نهانا الله عنها. يقول الله تعالى: كيف نرضى بطاعتهم هذه: يتبعون من الأوامر ما يجدونه موافقا لأهوائهم ولا يتبعون ما ليس كذلك؟ إننا سوف نخزي هؤلاء … لأنهم عندما يرون من أوامري الهامة ما لا يتناسب مع أهوائهم يضربون به عرض الحائط، وعندما يجدون ما يتفق مع أهوائهم ينفذونه… مع أن المؤمن الحقيقي هو ذلك الذي لا يريد إلا وجه الله ورضاه في كل صغيرة وكبيرة.

كان الخليفة الأول لسيدنا المهدي والمسيح الموعود- عليه الصلاة والسلام- يقول أنه كان ذات مرة يعظ أحد الزناة بالامتناع عن هذه المعصية فقال: لقد وعدت هذه المرأة أن أبقى وفيا معها….فهل تريدني أن أرتكب جريمة إخلاف الوعد؟! فكأن الرجل رأى إخلاف الوعد ذنبا ومعصية، ولكنه لم ير في الزنا أي معصية!

فعلى المؤمن أن يكون على الدوام حذرا يقظا، فلا يسخر كاليهود بأوامر الله فيعمل بما يشاء منها ويهمل ما يشاء. لقد أنبأ النبي أنه سيأتي على المسلمين زمان يتبعون فيه آثار اليهود شبرا بشبر وذراعا بذراع (صحيح البخاري-كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة)، وفي رواية يشبهون اليهود حذو النعل بالنعل. وقد تحقق قوله حيث رأينا انه لما أخذ المسلمون في الانحطاط تسربت إليهم كل تلك المساوئ اليهودية معصية تلو معصية؛ فقد قيل لليهود (لا تسفكون دماءكم)أي لا تحاربوا ضد فريق من أمتكم ولا تسفكوا دماءهم فتذهب ريحكم. وقد وجه نفس هذا النصح للمسلمين أيضًا.. ولكن تاريخ زمن انحطاط المسلمين شاهد على أنهم بأيديهم سفكوا دماء إخوانهم المسلمين، ولجئوا للقضاء على الحكومات الإسلامية إلى كل نوع من المكائد السرية والمؤامرات الخفية، وتعاهدوا وتآمروا مع الدول المسيحية للإطاحة بعروش الدول المسلمة، فقد اتفقت الدولة المسلمة في الأندلس مع ملك روما المسيحي للقضاء على الحكومة العباسية، وتم الاتفاق بين العباسين وبين الإمبراطور الفرنسي لإسقاط الملوك المسلمين في الأندلس. لقد لطخوا أيديهم بدماء إخوانهم غير مكترثين بما يصيب الإسلام من أضرار فادحة بسبب إقحامهم المسيحيين في السياسة الإسلامية. وكذلك عندما كان صلاح الدين الأيوبي يتصدى لهجمات أوروبا كلها تآمر المسلمون مع الدول المسيحية لاغتياله، بل اختاروا لقتله رجلا مسلما هجم عليه ليغتاله وهو يصلي، ولكن عناية الله تداركته فنجا من القتل. ثم إن الله ذم سياسة اليهود المزدوجة وقال إنكم من ناحية تحاربون إخوانكم ومن ناحية أخرى تحررونهم بأداء الفدية. وهذا ما فعله المسلمون أنفسهم حيث إنهم أبان الحرب العالمية الأولى انضموا إلى صفوف أعداء الأتراك إخوانهم في الدين وحاربوهم ولكنهم حينما أُسروا سعوا إلى تحريرهم بالفداء. فالمسلمون أيضًا ساروا على نفس الدرب الذي سار فيه اليهود.. مع أن الله تعالى لم يسرد هذه الأحداث عن اليهود إلا تحذيرا للمسلمين حتى لا يسمحوا لهذه المساوئ أن تتسرب إليهم. وفيما يتعلق بمصطلح أهل الكتاب … فلا شك أن اليهود والنصارى هم أهل الكتاب ولكن من ينكر أن المسلمين أيضًا من أهل الكتاب؟ بل لا أحد يستحق اسم أهل الكتاب حقيقة سوى المسلمين … لأن الله تعالى قد وهبهم كتابا كاملا في حين أن الأمم الأخرى ليس لديها أي كتاب كامل مبرء من كل عيب مثل القرآن. لذلك كان من واجب المسلمين –لكونهم أهل الكتاب الحقيقيين – أن ينظروا بعيون مفتوحة حذرة إلى مفاسد اليهود والنصارى حتى لا تتسرب إليهم.

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (87)

التفسير:

ذكر في هذه الآية أن اليهود آثروا الدنيا على الدين، وعقابا على ذلك سينتزع منهم السلطان الدنيوي، ولن يخفف عنهم هذا العذاب إلا إذا آثروا الدين مرة أخرى. وقد يعني قوله (فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون)، أنه لا يخفف عنهم العذاب السماوي كما أن أمم العالم أيضًا لن ترحمهم في الدنيا؟

إن من أساليب القرآن في ترتيبه أنه يعيد في آخر الموضوع ذكر ما بدأ به إيذانا بانتهائه وبداية موضوع جديد، فكان ذكر في البداية زَعْمَ اليهود (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) والآن جاء هنا بقوله (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون).

ذلك ليشير أن الآيات السابقة أيضًا تبحث في نفس الموضوع، وقد انتهى الآن بهذه الآية فحذر اليهود أنكم بسبب اتخاذكم أحكام الشرع لعبة لن تبرحوا هدفا لعذاب الله في مختلف الصور ولن ينصركم أحد. فادعاؤكم (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ادعاء باطل، وسوف تعذبون عذابا لن يخفف عنكم بمعنى أنكم سوف تلتاعون وتتألمون من شدته لزمن طويل.

كما كانوا يزعمون أيضًا أنهم من أولاد الأنبياء فهم سوف ينصرونهم، فأبطل الله زعمهم هذا وبين أنه لن ينصرهم أحد.

والعهد الذي ذكره القرآن قبل هذه الآية كان عهدا عاما، أما العهد الذي تناوله فيما بعد فهو عهد خاص باليهود المقيمين في المدينة وحولها زمن النبي . ثم ذكر اثنين من المساوئ الاجتماعية التي وقع فيها اليهود خصوصا المعاصرين للنبي ، فذكر منها أولا تلك المساوئ التي تفشت فيهم نتيجة تركهم للحسنات، ثم ذكر التي تعتبر في حد ذاتها إثما وظلما.

وليكن معلوما أن السيئات نوعان: نوع يتعلق بالإنسان نفسه، ونوع آخر يتعلق ببني جنسه. ثم إن النوع الأول أيضًا قسمان: أولهما-هو تلك السيئات التي يشعر الإنسان بالإثم عند ارتكابها فيحاول إخفاءها، وثانيهما- هو تلك السيئات التي لا يشعر وقت اقترافها أنه يرتكب إثما. وفي قوله تعالى (تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) يضرب الله تعالى مثالا لاثنتين من سيئات اليهود التي كان من المفروض أن يخافوا لومة الناس على ارتكابها، ورغم كونهما سيئتين واضحتين واجتماعيتين.. إلا أنهم ما زالوا يقترفونهما بكل جسارة ومن دون أدنى خوف من اللوم، وهكذا استمروا في هتك حرمة شريعتهم.

[1] التلمود: مجموعة كتب تضم التقاليد المتداولة بين علماء اليهود إلى آخر القرن الثاني الميلادي.
Share via
تابعونا على الفايس بوك