تفنيد اتهامات تافهة
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (يونس: 3)

شرح الكلمات:

عجبا: العجب: إنكار ما يرد عليك؛ استطراف الشيء؛ روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء. والعجب من الله الرضى. (الأقرب) رجلا: الرجل: خلاف المرأة؛ الكامل في الرجولة. (الأقرب).

أوحينا: أصل الوحي: الإشارة السريعة (المفردات) وكلمة “الوحي” تطلق على كل الوسائل والطرق التي بها يخبر الله عباده بمشيئته سبحانه وتعالى. وأرى أن الله تعالى قد اختار كلمة الوحي اسما لكلامه لنعلم أن الأمور الروحانية لا يمكن بيانها بصورة كاملة بالكلمات، وإنما يمكن فقط الإشارة إليها. إذن فكلمة “الوحي” في حد ذاتها ترمز إلى رفعة الكلام الإلهي.

أنذر: يقال: أنذره بالأمر نَذْرًا ونُذْرًا ونُذُرًا ونذيرا: أعلمه وحذّره من عواقبه قبل حلوله. وأنذره: خوفه في إبلاغه، يقال أنذرت القوم سيرا العدو إليهم فنذروا (الأقرب).

قدم: القَدم: الرجل؛ السابقة في الأمر خيرا كان أم شرا. يقال: لفلان في كذا قدم صدق أو قدم سوء. والقدم: الرجل له مرتبة في الخير؛الشجاع. ووضع القدم في عمله: أخذ فيه. (الأقرب).

صدق: يعبر عن كل فعل فاضل ظاهرا أو باطنا بالصدق، فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به نحو قوله تعالى (في مقعد صدق) أو (أن لهم قدم صدق) و (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) و (أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) (المفردات). وقوله تعالى: (واجعل لي لسان صدق) يعني أن أكسب خير الثناء ظاهرا وباطنا، أي لا يذكرني الناس بالخير في الظاهر فحسب، بل تبقى أعمالي الحسنة خالدة، فلا يكون مدحهم إياي مدحا كاذبا.. أي لا يغالون في حبي فيقعون في الإشراك بالله.

ويعني قوله تعالى: (أدخلني مدخل صدق..) أي اجعل دخولي في البلد وخروجي منه حسنا في ظاهرهما وباطنهما، بمعنى لا تشوبهما شائبة الجبن أو ضعف الإيمان، وأن تكون عواقبهما طيبة جدا.

ساحرا: السحر: كل ما لطف مأخذه ودق؛ الفساد؛ وقيل: السحر، إخراج الباطل في صورة الحق وإطلاقه على ما يفعله من الحيل حقيقة لغوية، ومنه: إن من البيان لسحرا. (الأقرب)

شأن النزول

لقد ذكر المفسرون في شأن نزول هذه الآية أن الكفار قالوا مستهزئين: ألم يجد الله رسولا إلا يتيم أي طالب؟ فرد عليهم بهذه الآية وقال: لا غرابة في ذلك. (الكشاف)

إن تحديد أسباب النزول أمر يتوقف على الأذواق دون شك، وإلا فإن الآيات القرآنية كانت ستنزل على كل حال. غير أننا ندرك من هذا الحادث التاريخي بأية نظرة كان الكفار ينظرون إلى رسول الله ، وكيف أنهم كانوا يختلفون أفكارا تافهة مريضة بغية تحقير وازدراء النبي . لقد كان أبو طالب عما للرسول ص، وكفله بعد وفاة جده عبد المطلب. وما كان دافع الكفار من نسبتهم النبي إلى عمه بدلا من أبيه إلا الازدراء الشنيع، فقالوا: كيف يمكن لشخص فقير رباه غير أبيه أن يبعث إلينا نبيا من عند الله تعالى؟ أولم يعلم هؤلاء الأغبياء أن أبا طالب لم يكن شخصا أجنبيا بل كان عما للرسول ، وإن الأخلاق والمثل العليا لا تحرم أن يتربى الولد في بيت عمه في حالة وفاة أبيه. وذلك أن الحياة العائلية إنما قوامها ذلك الميثاق القديم بأن الواحد منا لا بد أن ينوب عن أخيه وقت الشديد والمحن. أفلا يرون أن النبي   بنفسه كفل ابن عمه عليا   . ولو أن أبا طالب مات قبل أخيه عبد الله، تاركا وراءه ولدا، لرباه الأخير في بيته.

لقد كان عبد الله والد النبي ص فقيرا، ولو أن الكفار قصدوا الطعن في فقر النبي ص فقط لحققوا هدفهم هذا بأن ينسبوه إلى والده الفقير، ولكنهم كانوا يرمون إلى أكثر من ذلك بقولهم “يتيم أبي طالب”. كانوا يريدون القول: أهذا الذي عاش على لفاظات موائد الآخرين جاءنا اليوم ليعدنا بالحكم والملك!؟

التفسير:

يستغرب الكفار هنا من نزول الوحي على أحد منهم. وهذا الإحساس بالدونية يلازم الشعوب المنهارة والمنحطة المتردية. فيرون من المستحيل أن يولد بين ظهرانيهم إنسان ذو شأن عظيم. فكان الكفار قد قنطوا، لترديهم وانهيارهم، لدرجة أنهم ما كانوا ليوقنوا أن الدواء الشافي موجود بين ظهرانيهم. وقد ظنوا أنه يجب أن يأتي أحد من الخارج يداويهم من الأمراض ويحقق لهم الرقي والازدهار.

وهذا بالضبط هو حال المسلمين اليوم. يقولون: سينزل عيسى عليه السلام من السماء لينتزعنا من حضيض المذلة والتخلف، ولكن ليس من الممكن أن يولد بيننا من يقدر على علاجنا من الأمراض. فما أشبههم بالأمم السالفة من هذه الناحية! القنوط ذاته والعلاج نفسه!!

كان العرب شعبا لا طموح فيهم للرقي القومي، وظنوا أن لا دواء لدائهم اللهم إلا أن يأتيهم غريب لنجدتهم. لذا فقد أخذوا بالدهشة الشديدة عندما أعلن أخ لهم من بينهم أنني أنا الذي سوف أعالجكم من دائكم، وأنا الذي سوف أرتقي بكم، وقالوا: كيف يدعي عمل المستحيل؟

أو لا يفهم هؤلاء أنه لو كان نظامهم الحالي نظاما صالحا لا عيب فيه، لما وجدوا في قعر المذلة والهوان. فلا بد إذن من القضاء على نظامهم الفاسد هذا قضاء تاما لتسير الأمور على ما يرام.

والأمر الثاني الذي حيرهم هو ادعاء هذا الرسول بأنه مأمور بتحذيرهم أن ينتهوا عما هم فيه من فاسد الأعمال ويتبعوا الشرع الجديد. والقوم الذين تكون حالهم هذه يستغربون دائما عندما يقول لهم الرسول: اقضوا على نظامكم الحالي واستبدلوا بهذا النظام الجديد.

والحق أن هناك تناقضا صارخا بين هذين الأمرين اللذين كانا وراء دهشة الكفار. فمن ناحية كان اليأس والقنوط قد بلغ منهم مبلغا جعلهم يظنون أنه لن يبعث من بينهم من يشفيهم من الأمراض، ومن ناحية أخرى كانوا يجادلون الرسول   عندما يحاول تغيير نظامهم الفاسد. هكذا تكون حالة الأمم المنهارة؛ لا يريدون أن يضحوا بشيء في سبيل نجاتهم، ولا يحركون ساكنا بأنفسهم، بل ينتظرون أحدا من الغرباء يأتي ليحقق لهم الازدهار والرقي دون أن يغير من نظام حياتهم القائم شيئا. إنهم لا يريدون أن يقاسوا في سبيل التعلم مشقة وعناء، ولا أن يبذلوا من أجل الرقي جهودا وتضحيات، ولا أن يتخلوا عن العيوب والمساوئ التي تغمرهم، إنما يقولون: فليأت آت من الخارج ويهلك عدونا لنملك كل شيء. أو لا يفهم هؤلاء أنه لو كان نظامهم الحالي نظاما صالحا لا عيب فيه، لما وجدوا في قعر المذلة والهوان. فلا بد إذن من القضاء على نظامهم الفاسد هذا قضاء تاما لتسير الأمور على ما يرام.

والأمر الثالث الذي كان يثير استغرابهم هو قول الله تعالى لرسوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم). أي أعلن بين الناس أن الذين سوف يتركون هذا النظام الفاسد ويتبعون تعاليمي هم الذين سوف يحققون الرقي والازدهار. مع أن أتباعه ص (أولا): ما كانوا في نظر الكفار أكثر منهم ذكاء وفطنة، وإنما كانوا يعتبرونهم من أراذل القوم، و(ثانيا): كانوا يدعون عمل المستحيل في رأي الكفار، إذ لا يمكن لقوم أن يحققوا الرقي إلا بثلاث:

  1. أن يكون العاملون بينهم ذوي فطنة عالية
  2. وأن يكونوا متحدين
  3. وأن تكون أهدافهم قابلة للتحقق.

ولكن الكفار كانوا يعتبرون المسلمين محرومين من هذه المزايا، لذلك كان التعجب يتملكهم فيقولون: كيف سيفوز هؤلاء الضعفاء في مراميهم؟ أنى لهم أن يقضوا على نظامنا القائم، ويأتوا مكانه تما هو أفضل منه ظاهرا وباطنا، فيصبحوا ملوكا وحاكمين، ومقربين لدى الله. وقوله تعالى: (عند ربهم) يؤكد ضرورة تحقيق الازدهار بنوعيه: الروحاني والمادي، كما أشار الله به إلى فوزهم الكامل حيث نسبه إلى الله الذي بيده الفوز بكل أنواعه. وقوله (إن هذا لساحر مبين). أي قال الكفار عند سماع ذلك: إن صاحبنا يجيد الكلام أيضا، حتى يظهر الباطل في صورة الحق، ويستغل بكل مهارة ضعف الفطرة الإنسانية، فيزرع الخوف في قلوب الضعفاء، ويغري أصحاب الجشع والحرص، لينضموا إليه.

هذا الاعتراض نفسه يثيره الكتاب المسيحيون في هذه الأيام؛ فيقولون: إن محمدا ضم إليه العرب السذج بالتخويف والإغراء. ولكن قول الكفار العرب: (إن هذا لساحر). أي قال الكفار عند سماع ذلك: إن صاحبنا يجيد الكلام أيضا، حتى يظهر الباطل في صورة الحق، ويستغل بكل مهارة ضعف الفطرة الإنسانية، فيزرع الخوف في قلوب الضعفاء، ويغري أصحاب الجشع والحرص، لينضموا إليه.

هذا الاعتراض نفسه يثيره الكتاب المسيحيون في هذه الأيام؛ فيقولون: إن محمدا ضم إليه العرب السذج بالتخويف والإغراء. ولكن قول الكفار العرب: (إن هذا لساحر) يكشف زيف اعتراض هؤلاء المسيحيين، ويبين أن العرب مع سذاجتهم المزعومة كانوا واعين ومدركين لمثل هذه الأمور، فكيف إذن انطلى عليهم خداع محمد ص؟ والحق أن قلوب هؤلاء الطاعنين في رسالة محمد قد تشابهت بقلوب الكفار الأولين، وإلا فأين هو ذلك الدين الذي يعلن: من صدق تعاليمي فله الجحيم، ومن كفر بها فله جنات النعيم. والواقع أنه إذا اعتُبر الحديث عن الجزء لمن يقبلون الحق إغراء فلن نجد أية حقيقة ليس فيها إغراء. وماذا عسى أن يقول هؤلاء المسيحيون عن سيدنا المسيح ع الذي وعد تلميذه بطرس بمفاتيح ملكوت السماوات، وأعلن أن كل من لا يتبع تعاليمه سوف يحرم من دخول ملكوت السماء، وقطع للمؤمنين به وعودا وبشارات بأنواع الجزاء والإنعام. (إنجيل متى الإصحاحات 14 و18 و19).

Share via
تابعونا على الفايس بوك