قيم وأخلاق إسلامية

لقد تفرد سيدنا الإمام المهدي بتبيان أثر الأخلاق على الحالة الروحانية. فلقد بين أن الأخلاق الفاضلة ما هي إلا الأسس التي تقوم عليها هذه الحالة، وهي ليست مجرد مظهر للمؤمن يميزه عن غيره بل هي ضرورية لنشوء الحالة الروحانية واسترارها. فلا يمكن أن تنشأ الحالة الروحانية دون اكتمال بنيان الأخلاق وتمامه وعندها تجعل الحالة الروحانية هذه الأخلاق حالات طبعية يفرزها هذا النشوء الجديد والذي هو النشأة الأخرى أو الخلق الآخر الذي تبرز فيه صفات الله بجلاء وهيبة. وهكذا فإن نظرة سيدنا الإمام المهدي إلى الأخلاق تعدت الفهم السائد عند المسلمين وتخطته إلى آفاق لم تكن معروفة سابقا. ومن هنا فإن على الأحمديين أن يحرصوا على التحلي بهذه الأخلاق بأقصى درجاتها وفي أبهى صورها كي يصلوا إلى مبتغاهم الروحاني وإلى الفلاح في الدين والدنيا. ولا بد من تذكر حقيقة أن هذه الأخلاق الفاضلة ينبغي أن لا يعتريها نقص أو أن تخضع للمساومة مهما كان الغرض وأيا كانت النتيجة. كل ذلك طبقا لما أمر به الله تعالى في القرآن المجيد واتباعا لسنة المصطفى ذي الخلق العظيم. وسنتحدث وسنتذاكر هذه الأخلاق والقيم في حلقات راجين من الله العون والتأييد وهو الموفّق.

التواضع (الحلقة الرابعة)

بعد أن من الله تعالى على المصطفى بالنصر المبين، وبعد أن خرج المسلمون من عهد الضعف والاضطهاد، بدأ جانب من صفات المصطفى العظمى يتجلى للناظرين. وكان التواضع من أبرز تلك الصفات التي أصبحت جلية غير مشوبة بأي نوع من اللبس. فها هو الآن قد أصبح زعيما مرهوب الجانب، وها هو يخاطب ملوك العالم القديم ويرسل لهم الرسل والرسائل يدعوهم إلى الإسلام، وها هي قريش تعقد معه صلحا على مضض لأنه أصبح قوة لا يستهان بها بعد أي يئست من استئصاله هو وأتباعه فقبلت بالأمر الواقع. ولكن هذا الملك وهذا السلطان الدنيوي لم يغير في خلقه شيئا. فهو كما كان في زمن الضعف والاضطهاد، ما زال متواضعا رقيق القلب واليد واللسان. فلطالما لم يفهم أعداؤه حقيقة تواضعه وطنوها استكانة الضعيف العاجز المغلوب على أمره. فاكتشفوا أنهم مخطئون أشد الخطأ. فتواضعه هو خلق أصيل لا علاقة له بالظروف الموافقة أو المعاكسة. وهكذا فقد أخطئوا في التفكير والتقدير في حق هذا النبي العظيم صاحب الخلق الكريم.

وجاء يوم الفتح العظيم، يوم فتح مكة، وأصبح أعداؤه في قبضته الشريفة، وأصبحت دولته تضم البيت العتيق المعظم عند العرب جميعا، فبرز تواضعه ولم ير أعداؤه ما قد يتوقعون من خيلاء الملوك المنتصرين. فكان تواضعه سببا لطمأنينتهم ومن ثم تسليمهم وإيمانهم به وبصدق دعواه. فلو دخل عليهم في خيلاء وكبر لما أنكروا عليه ذلك، فالكبر مقبول عندهم لمن يحوز الدنيا ويحقق فيها الأمجاد والانتصارات، ولكنه، وبرد الفضل إلى الله تعالى الذي هو مولاه، قد وجههم نحو عظمة الله تعالى وكبريائه، فكان الفتح مظهرا عظيما لنصر الله تعالى لعبده. وهكذا فقد أدى المصطفى الأمانة وكان مظهرا لتوحيد الله تعالى الذي أرسله وأيده بنصره. فما أن وقف بهم خطيبا وسألهم قائلا: “يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم” حتى صاحوا: “خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم”، وكان جوابهم هذا لأنهم قد عاينوا التواضع والرحمة في وجهه الشريف بعد النصر والفتح والمبين. فلو كان عابسا متكبرا متعجرفا كعادة الملوك والقادة المنتصرين لتوقعوا الويل والثبور والعذاب الأليم. فهم، في عرف الحروف في ذلك الوقت، قد أصبحوا أسرى في يده، فهم عبيد ونساؤهم وأطفالهم سبايا وأموالهم غنائم. وهم يعلمون أنه لو فعل بهم ما يشاء فهم يستحقون ذلك مقابل أفعالهم الشنيعة بحقه وبحق أتباعه. فرد عليهم باسما: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، فحررهم من الأسر ورد عليهم أموالهم فرأوا عظمة الله وكبرياءه من خلال خضوع المصطفى له تعالى، فبادروا إلى الإيمان بالله وبرسوله. فتحرووا من العبودية والأسر بعفو المصطفى عنهم فانشرحت صدورهم لكي يقبلوا العبودية لله تعالى بفضل الله وبفضل رسوله الكريم . وهكذا فقد ملك القلوب وأسرها بخلقه الكريم ولم يأبه بالأرض ولا الجدران وإن كان على أطهر بقعة على وجه الأرض وأكرم بناء هو أول بيت وضع للناس. فالنصر العسكري قد يخضع الناس سويعات أو أياما أو سنوات ولكنه لا يخضع قلوب المهزومين. وهكذا فقد خضعت له قلوبهم طواعية ودخلوا في دين الله أفواجا، وما زالت مكة منذ فتح المصطفى قبلة المسلمين وعاصمتهم الدينية ولن تزال إلى الأبد.

وإن كان التواضع قد برز للأعداء بعد النصر، إلا أنه كان جليا وواضحا للصحابة الكرام من قبل ومن بعد. فالصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، كانوا يدركون مقام النبي ومنزلته العليا وكانوا يرون تواضعه مع تقديرهم لعلو شأنه ومقامه. فنبيهم هو خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين وأفضل الخلق أجمعين. فمقامه عندهم رفيع لا يزداد ولا ينقص بحيازة الدنيا أو فقدها. ولقد كانوا خاضعين لحضرته كل الخضوع بكل الحب الاحترام، فقدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله وفي سبيل الدفاع عن دعوته. وكانوا يدركون أن الدنيا وما فيها لا تعدل ما من الله به عليهم من بعثة النبي فيهم، فكانوا يقدرون هذه النعمة أشد التقدير ويشكرون الله عليهم ويذكرونها حامدين.

وهكذا فقد ملك القلوب وأسرها بخلقه الكريم ولم يأبه بالأرض ولا الجدران وإن كان على أطهر بقعة على وجه الأرض وأكرم بناء هو أول بيت وضع للناس. فالنصر العسكري قد يخضع الناس سويعات أو أياما أو سنوات ولكنه لا يخضع قلوب المهزومين. وهكذا فقد خضعت له قلوبهم طواعية ودخلوا في دين الله أفواجا

وقد حدث بعد الفتح اضطراب بين الأنصار لعدم معرفتهم بما سيقرره المصطفى حول محل إقامته الدائم. وكان هذا أشد ما يشغل الأنصار فظنوا أنه قد يختار موطنه الأصلي ومسقط رأسه وجوار المسجد الحرام قبلة المسلمين جميعا. وكان أن تزامن مع تلك الفترة أن أفاء الله على رسوله بأموال وغنائم، فأخذ يعطي من هذا الفيء للمؤلفة قلوبهم كي يستميل قلوبهم إلى الإسلام. فقسم الأموال لمن يقدرونها ويحبونها وخص الأنصار بما يحبون ويقدرون دون أن يعملوا. ولكن الأنصار الذين لم يعلموا بعد بأعطية المصطفى لهم ازدادوا اضطرابا بعد أن قسم الفيء ولم يخصهم بشيء من الأموال. فهم لا يطمحون بالأموال، فهم قد تخلوا عنها في سبيل الله ووضعوها تحت قدميه من قبل، ولكن اضطرابهم كان خشية أن تكون العطايا هي علامة الحب والقربى والصلة، وخشوا أن يكون حبيبهم قد نسيهم ولم يعد يحبهم كما عهدوه. فما أن وصل الخبر حتى طلب أن يجمعهم، فوقف فيهم خطيبا وأراد أن يختبرهم ويرى ما بأنفسهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: “يا معشر الأنصار…. ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟” فقالوا: “بلى، لله ورسوله المن والفضل”، فقال لهم : “ألا تحبونني يا معشر الأنصار؟” فقالوا: “بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ورسوله المن والفضل”، فسُرّ المصطفى وقال لهم: “أما والله لو شئتم فقلتم، ولصدقتم فصدقتكم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك…. ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله في رحالكم؟، والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء الأنصار”، فبكوا حتى ابتلت لحالهم. فما أعظمها من هدية أهداها المصطفى لهم. فهم قد قدروه حق قدره وآووه ونصروه وأدركوا أن ما من به عليهم المصطفى ، وهذا مما لا يتفق مع خلقه الكريم، لما اعترضوا ولما رأوا في ذلك كبرياء، وهذا ما اختبره المصطفى فيهم من خلال هذا الموقف الذي سرعان ما أظهر فيه تواضعه بذكر فضلهم عليهم الذي لو ذكروه لما أنكره عليهم، ولكنهم قدروا فضل الله وفضل المصطفى ونسوا ما قدموه له من تأييد ونصر، فكانت هديتهم عودة الرسول معهم إلى المدينة، ومدحا ودعاء لهم ولأبنائهم لا توازيه الدنيا بما فيها ومن عليها.

والتواضع هو نقيض الكبرياء الذي هو داء البشرية الأشد فتكا. فلطالما كان الاستكبار السبب الرئيس في الفساد وسفك الدماء بين بني البشر. فعند كل صراع ونزاع فلا بد من التفتيش عن الكبرياء. أما التواضع فيعني أن يضع الإنسان نفسه حيث تستحق وأن يجانب كل مظاهر الاستكبار التي قد تجعله يدعي ما لا يستحق. فالكبرياء هو صفة الله التي لا يشاركه فيها أحد وهي الصفة الوحيدة التي لا ينبغي للإنسان أن يحاول تمثلها أو التحلي بها. فالله وحده هو الذي يتصف بالصفات والأسماء الحسنى التي لا نهاية لها، فمهما وصفه الإنسان وفهم من تلك الصفات وازدادت فهي لن تصل إلى مقام الله تعالى الحقيقي. فالله تعالى أكبر وأعلى وأسمى وله المثل الأعلى. والإنسان، ذلك المخلوق الضعيف المغلوب على أمره، يجب أن يفهم أن كل ما حازه في الدنيا أو يمكن أن يحوزه ما هو إلا من فضل الله تعالى وكرمه. فإن ادعى الإنسان أن ما به من نعمة هي من حسن تدبيره ومن فعل يده فهو كاذب وخائن للأمانة. فهو كاذب لأنه يعلم أن ما به من نعمة كانت نتيجة تظافر ظروف عديدة لا يملك هو منها شيئا. وهو خائن للأمانة لأنه لو رد الفضل إلى أهله لأدرك أن الله تعالى هو أهل الفضل والمن والنعمة. فكل نعمة يحوزها الإنسان ما هي إلا من فضل الله وكرمه. فمن ذا الذي يرزق نفسه، أو يدفع الضر عن نفسه، أو يكشف السوء عن نفسه، أو يمد في عمر نفسه!. وإن كان الإنسان عاجزا على أن يجلب النفع ويكشف الضر عن نفسه، فكيف يمكن أن يفعل ذلك لغيره!. ولك طالما يظن كثير من الناس أنهم ينعمون على غيرهم بأن جعلهم الله فوق إخوانهم من بني البشر. فكثيرا ما ظنوا أنهم يرزقون غيرهم وينفعون غيرهم ويضرون غيرهم، لذلك فإنهم يسوغون التكبر على من هم تحت أيديهم. ولكنهم ينسون دوما أنهم إن كان بيدهم قدرة على بعض الناس فالله تعالى أقدر عليهم ممن هم دونهم. فنعم الله تعالى يقسمها عز وجل بنفسه ولكنه يوصلها من خلال هذا النظام المتدرج الذي جعل فيه عباده بعضهم فوق بعض ليبلوهم فيما آتاهم. فكيف يمكن أن يكون أمر الناس بأيدي الناس وليس فيهم من هو يملك أمر نفسه. فالكبرياء لله وحده الذي هو مالك الملك، والذي هو غالب على أمره، والذي بيده مقاليد السماوات والأرض، والذي ما من شيء إلا وعنده خزائنه وما ينزله إلا بقدر معلوم.

والتواضع هو الخلق الذي من خلاله ينال العبد عند ربه أعلى الدرجات، بينما الكبرياء يحول بينه وبين نعم الدنيا والآخرة. فإن كان من الواجب على الإنسان أن يتمثل صفات الله تعالى وأن يحاول تقليدها، فإن كل صفات الله ممكنة التمثل سوى التكبر. فما يقابل التكبر الإلهي المطلق هو يجب أن يكون التواضع والعبودية المطلقة. فرحلة التمثل بصفات الله تعالى بحد ذاتها تحتاج إلى التواضع مقابل التكبر كي يدرك الإنسان مكانه ومكانته. فهو مجرد عبد يقلد إلهه ولا ينبغي له ما ينبغي لله تعالى. لذلك فكلما ازدادت صفات المؤمن كمالا كلما تجلى الله تعالى على قلبه وازداد كبرياء الله في نفسه، ومقابل هذا الكبرياء تولد التواضع والخشوع والتصدع من خشية الله في قلب الإنسان المؤمن. وهكذا يتعاظم كبرياء الله حتى يتجلى الله على عرش قلب الإنسان وتصبح إرادة الله هي إرادته ولا يبقى للإنسان من نفسه من شيء ويصبح عبدا طيعا لله تعالى.

وكما أن الاستكبار هو كذب وخيانة، فإن التواضع هو مظهر عظيم للصدق والأمانة. فكل صادق أمين لا بد له أن يتواضع ويدرك مقامه الحقيقي أمام الله تعالى. لذلك فإن التواضع يتولد تلقائيا من الصدق والأمانة اللذان يرتكز عليهما البنيان الخلقي للإنسان. وكما أن الصدق والأمانة ينقيان السلوك الإنساني ويوجهانه باتجاه الصراط المستقيم، وكما أن الشجاعة تكون لازمة لحماية الصدق والأمانة والمحافظة عليهما، كذلك فإن التواضع يكون لازما عند توفر الصدق والأمانة والشجاعة كي لا ينحرف الإنسان نحو الكبرياء دون أن يعلم. فإن تخلص الإنسان من الكبرياء الزائف الذي يرتكز على متاع الدنيا فإنه قد ينحرف نحو كبرياء أعظم ناتج عن نقائه وصدقه وأمانته وشجاعته. لذلك فإنه لا بد من أخذ الحيطة والحذر ولا بد من التحصن بجرعات عظيمة من التواضع عند هذا المقام وإلا قضى سم الاستكبار على الإنسان وأورده موارده الشرك والردى. فالتواضع ينشأ تلقائيا من الصدق والأمانة بالتفكر والتدبر كما قلنا، ولكن بذرة الكبرياء قد تجد مناخا مواتيا عندما يرى الإنسان أنه على منزلة خلقية لا يتمتع بها كثير من الناس. فلا بد أن يذكر الله تعالى كثيرا عندئد ويدرك أن ما هو إلا من فضل الله ورحمته الخالصة. فالله تعالى قد أوصله إلا ما وصل إليه وما كان له أن يهتدي إلا أن يهديه الله تعالى.

ولا يعني التواضع أن يكون الإنسان مستكينا، هزيلا، حاني الرأس، يسير في الطرقات يكاد وجهه يلامس الأرض. وإنما يعني التواضع أن يدرك الإنسان ويقر بقلبه وبكل جوارحه أن ما به من نعمة هي من الله تعالى وحده، وعندها سيبرز تواضعه للناس من خلال سلوكه كخلق أصيل دون تكلف. لذلك فإن المؤمن قد يحوز درجات عظيمة في الدنيا من الملك والجاه والسلطان. ولا يعني التواضع أن يتخلى عما أنعم الله عليه، بل على العكس تماما، فإن حيازة الملك والجاه والسلطان تجلي التواضع وتظهره وتنقيه.

وكما أن الاستكبار هو كذب وخيانة، فإن التواضع هو مظهر عظيم للصدق والأمانة. فكل صادق أمين لا بد له أن يتواضع ويدرك مقامه الحقيقي أمام الله تعالى. لذلك فإن التواضع يتولد تلقائيا من الصدق والأمانة اللذان يرتكز عليهما البنيان الخلقي للإنسان.

ولا يعني التواضع أن يكون قلب الإنسان ممتلئا كبرا وأن يظهر أنه متواضع بخلاف ما يشعر به، وهذا الفهم الخاطئ هو فهم شائع بشكل كبير، وربما يكون مرده أن صيغة لغوية كثيرا ما تفيد التكلف. فيقال مثلا “تمارض” أي ادعى المرض. ولكن هذه الصيغة تفيد معان أخرى أيضا من أهمها المشاركة. فيقال مثلا “تقاتل” أو “تخاصم” أي أنه شارك مع غيره في القتال والخصام. ويمكن أن يفهم من هذه الصيغة أن التواضع هو خلق لا يظهر إلا من خلال سلوك الإنسان وتعامله مع الآخرين.كذلك يمكن أن يفهم منه أن التواضع هو صراع ينازع الإنسان فيه نفسه فيجذبها ويشدها ويضعها في موضعها كلما نزعت نحو الكبرياء. فالإنسان يجب أن يكون دوما في صراع مع الكبرياء الذي هو نفث النفس الأمارة. ويجب على الإنسان أن يقاوم شعور الكبرياء بكل ما أوتي من قوة وألا يكون التواضع محض ادعاء أو مجرد مظهر خارجي لا علاقة له بما في النفس والقلب. كذلك فإن الذي يجد في نفسه كبرا –ما هو ببالغه- فعليه أن يعمل على مقاومته بكبته وعدم السماح له بأن يخرج إلى الخارج. ولا تكون حالة الكبت هنا إلا التواضع. فبتمثل التواضع سيتضاءل الاستكبار ويتلاشى شيئا فشيئا.

ولقد تعلم صحابة المصطفى التواضع من سيدهم وحبيبهم فكانوا متواضعين خاضعين لله ولرسوله فنالوا مجدا وجاها وسلطانا عظيما بسبب هذا الخلق العظيم. فقد رأوا نصر الله تعالى لهم في الضعف كما نصرهم يوم حنين عندما ظنوا أن القوة العسكرية ستحسم الأمر لمصلحتهم بكل سهولة ويسر. فتعرضوا إلى شدة في بداية المعركة فرقت الجيش الكبير، وبقيت ثلة صغيرة من الصابرين الذين حققوا النصر مع المصطفى بعددهم القليل. فكان يوم حنين درسا لهم كي يتذكروا بأن ما سينالونه لاحقا من الجاه والعز والسلطان إنما هو بفضل الله ورحمته وليس بعدتهم وعتادهم. وانطلقوا بعد ذلك في زمن الخلفاء الراشدين وغايتهم نشر الإسلام، فنالوا الدنيا وهم لا يطمحون بها فشكروا الله تعالى وحمدوا فضله. وبسبب أنهم لم يريدوا علوا في الأرض ولا فسادا وكانوا متواضعين لله تعالى، فقد انفتحت لهم البلاد ومن قبلها قلوب العباد. فانشرحت صدور الأمم للدخول في الإسلام بسبب ما رأوه منهم، وما لم يعهدوه سابقا من غيرهم. فقد رأوا من هؤلاء الفاتحين تواضعا وزهدا وإعراضا عن الدنيا. وقد أتوا يطلبون أخوتهم ولا يريدون استعبادهم والاستكبار عليهم. فكان كل من ينضم إليهم يصبح منهم، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى التي هي عند الله تعالى وهو أعلم بها. فأصبحت البلاد مسلمة الهوية، وأصبح الإسلام جزءا هاما من تكوينها وبقيت إلى هذا الوقت متمسكة به ولا تتخلى عنه ولا تتركه ولو بذلت في سبيل ذلك كل طاقاتها ومقدراتها.

وبعد أن طال الأمد على المسلمين وقست قلوب كثير منهم، فقد تسرب الاستكبار إلى الصدور وأخذت مظاهره بالبروز بشكل ملحوظ. فكانت النتيجة أن عذب الله تعالى المتكبرين وقصمهم لأنهم شاركوه رداء كبريائه الذي لا ينبغي إلا له. ومضت السنون ووقع المسلمون في حال من الضعف والهوان بحيث لا يليق بها الكبرياء، فأصبح ادعاؤه يثير السخرية والاشمئزاز. فهم لا يملكون الآن من أمرهم شيئا وهم في أيدي أعدائهم يقلبونهم كالميت بين يدي الغسال. فأرسل الله تعالى في آخر الزمان الإمام المهدي والمسيح الموعود في زمن الضعف والشدة كي يعيدهم إلى التواضع لله تعالى عليهم يخرجون من الذلة والهوان. فقدم أروع الأمثلة في التواضع من خلال تواضعه أمام الله تعالى وأمام سيده وسيدنا المصطفى . فكان يرد الفضل لله وللرسول ويعرف بنفسه أنه أصغر خادم عند المصطفى . وكثيرا ما كان يقدم نفسه أنه مظهر المسيح الذي يعبدونه ومع ذلك فإن الله قد جعله خادما للمصطفى . ولكن هذا التواضع لم يزده إلا عظمة وعلو شأن. كذلك فقد كان متواضعا مع الناس ومع أصحابه على سنة حبيبه المصطفى . ولقد ظن البعض ذات مرة أن هذا التواضع لا يتناسب مع مقامه السامي ومع هيبته، فرد بما مضمونه أنه لو دخل أحد الناس ذات ليلة إلى مغارة فيها أسد ولم يعلم هو بذلك فهل كان سيطمئن للنوم هناك في تلك الليلة؟ أو هل كان سيدخل تلك المغارة أصلا؟! فكان يرى أن مقامه السامي يجب أن لا يكون سببا للرعب ولكن سببا للطمأنينة والسكينة؟ ولقد قام حضرته بإعادة إنشاء جماعة المسلمين التي تعمل لنشر الإسلام، ولا تبتغي علوا في الأرض ولا فسادا ولا تطمح لأعراض الدنيا ومكاسبها، كما كانت جماعة المسلمين من قبل. وهي جماعة متواضعة تعمل من أجل خدمة الخلق من المسلمين وغيرهم من بني نوع الإنسان. فها هي جهودها تثمر بفضل الله ورحمته وتعيد للإسلام مجده وتنشر سلمه في أرجاء الأرض. وها هي ثمرات العبودية لله تظهر ألوهية الله من خلال تأييده للمتواضعين، في زمن تعاظم فيه الاتكال على الأسباب، وأصبح الاستكبار طابع هذا العصر وسمته الظاهرة البارزة. فسيتجلى الله تعالى بكبريائه ويحطم المستكبرين وسيرفع المتواضعين إلى أعلى الدرجات الدنيوية بسبب تواضعهم له تعالى. وها هي الدنيا قد بدأت تعاين هذا النصر المبين، وعندها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك