نحن و القدر.. رب كل شيء خادمك
  • القدر الإلهي يختص بالله تعالى وحده.
  • يجب على المؤمن أن يستجيب لنداء ربه وألا يستجيب لنداء حميته أو مشاعره.
  • إن أعظم الأمور في الإسلام كحفظ القرآن والخلافة كانت وعود إلهية لم يطلب الله تعالى من المسلمين السعي لتحقيقها بل أخبرهم أنه سيحققها إذا التزموا بالإيمان والتقوى.
  • من عجائب قدر الله أنه يستخدم في تحقيقه جنود السماوات الارض من مخلوقاته ومن البشر المؤمنين وغير المؤمنين.
  • إن القدر الألهي لا يحركه ولا يعجل به إلا الدعاء.
  • ما يصيب المسلمين من الويلات ليس هذا كله إلا لخدمة التأكيد على أن النجاة الحقيقية إنما هي بإتباع نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ورفع اسمه في العالم أجمع.

__

هنالك نقطة جوهرية تتعلق بالقدر الإلهي لا بد من التنبّه إليها؛ وهي أن القدر الإلهي يختص بالله تعالى وحده، وهو الذي ينفِذُه بجنود السماوات الأرض كيف يشاء، وأن على المؤمن أن يعي أن المطلوب منه ليس السعي لتحقيق القدر الإلهي، بل المطلوب منه هو الالتزام بطاعة الله ورسوله والالتزام بأوامر الشريعة ونواهيها.

على المؤمن ألا يقلق من عجزه، أو من قلة حيلته، كذلك عليه ألا يفكّر في النتائج، بل يركز على التمسك بسبل التقوى الدقيقة، حتى وإن كانت الشريعة ترتب عليه في ظرف معين أن يكون مقيّدا تماما كميت بلا حراك! يجب على المؤمن أن يستجيب لنداء ربه، وألا يستجيب لنداء حميته أو مشاعره، وأن يدرك ألا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، وأن الله قادر على إنجاز وعده دائما، وألا شيءَ يفلت من قدر الله تعالى.

فعندما أرسل الله تعالى النبي ، أخبره وهو في مكة أن الله تعالى سيظهر أمره وينشر دينه في العالم أجمع، وأنه وأمته سيحوزون ملكًا عظيمًا، وأنه سيرثُ الممالكَ القويةَ التي كانت تسود العالمَ في ذلك الوقت، وأنَّ هذا القدر لا بد أن يتحقق. ولكن الله تعالى لم يأمرْه بأن يسعى للحكم ولا إلى إنشاء دولة، وكان الأمر الرباني مقصورا على أن يتحلى المسلمون بالصبر تحت الظلم العظيم والاضطهاد الكبير الذي طال لثلاث عشرة سنة، وأن المطلوب منهم فقط هو الدعوة والبلاغ. كان هذا الأمر يبدو ظاهريا وكأنه مخالف لهذا الوعد الإلهي، ولكن الله تعالى بنفسه قد هيأ الظروف لكي يحوز المسلمون الملك الموعود، حيث قرر المشركون والكافرون اجتثاثهم عندما أصبحوا في المدينة، فوجب عليهم الدفاع، فتسببت هذه المعارضة من جانب المشركين ثم العداوة من قِبل الدول الكافرة في نشوء الدولة ومن ثم في تقويتها، وهكذا تحقق هذا القدر بحيث كان المسلمون بريئين من الطمع في الدنيا وملكها، وكان الكافرون السبب المباشر في حيازة المسلمين لهذا الملك الموعود!

ولكن الله تعالى لم يأمرْه بأن يسعى للحكم ولا إلى إنشاء دولة، وكان الأمر الرباني مقصورا على أن يتحلى المسلمون بالصبر تحت الظلم العظيم والاضطهاد الكبير الذي طال لثلاث عشرة سنة، وأن المطلوب منهم فقط هو الدعوة والبلاغ.

كذلك قدّر الله تعالى حفْظ القرآن الكريم، وفي نفس الوقت أمر النبي ألا يقلق، لأنه بنفسه سيهيئ الأسباب لهذا الحفظ، حيث قال تعالى:

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (القيامة 17-18)

وتحقق ذلك بصورة عجيبة بيد الله تعالى حقًا!

كذلك وعد الله تعالى الأمة بالخلافة بقوله تعالى:

  وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا (النور 56)

ولم يأمر النبيَّ بأن يوصي بها، وحقق الله قدره هذا بشكل دقيق بكل قوة وجلال.

وهكذا يتضح لنا من هذه الأمثلة أن أعظم الأمور في الإسلام؛ كحفظ القرآن الكريم، والخلافة، والمُلْك والظهور، كلها كانت وعودا إلهية مقدرة، لم يطلب الله تعالى من المسلمين السعي لأجل تحقيقها، بل أخبرهم أنه سيحققها إن التزموا بالإيمان والتقوى. وما كانت مساهمة المسلمين في تحقيق هذه الوعود إلا وكأن القدر يحملهم، لا أنهم هم من يقودونه ويحققونه.

وهكذا يتضح لنا من هذه الأمثلة أن أعظم الأمور في الإسلام؛ كحفظ القرآن الكريم، والخلافة، والمُلْك والظهور، كلها كانت وعودا إلهية مقدرة، لم يطلب الله تعالى من المسلمين السعي لأجل تحقيقها، بل أخبرهم أنه سيحققها إن التزموا بالإيمان والتقوى.

ومن عجائب قدر الله تعالى أنه يستخدم في تحقيقه جنود السماوات والأرض من مخلوقاته، ومن البشر المؤمنين وغير المؤمنين؛ فكلهم نواصيهم بيده، ولا يمكن للأشرار من غير المؤمنين أن يغيروا شيئا في القدر الإلهي مهما بلغوا من قوة، ومهما خططوا لأجل القضاء على المؤمنين أو الإضرار بهم، بل إن الله تعالى يسخّرهم، وهم في ظلمهم وطغيانهم، ليحققوا قدره أحيانا مرغمين، ويعاقبهم بأيديهم وأيدي غيرهم، وينصر عبده ويعزّ جنده.

فقد استخدم الله تعالى البابليين مثلا في عقاب بني إسرائيل لما طغوا وفسدوا، وقال عنهم أنهم “عباد له” في قوله تعالى:

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً (الإسراء 6)،

مع أن البابليين كانوا مشركين لا يؤمنون بالله تعالى، ولم يندفعوا لهجوم بني إسرائيل إلا بدافع الغزو والطمع، ولم يدُرْ بخلدهم أنهم كانوا يحققون قدرا إلهيا، وأنهم في النهاية عباد لله يمسكُ بنواصيهم!

كذلك عندما وصلت رسالة النبي إلى كسرى، ثار غضبه، ودفعه الاستكبار إلى أن يأمر عامله على اليمن أن يُحضر له النبي مخفورا. فأرسل عاملُ اليمن رجلين ليحضرا النبي ، فاستبقاهما النبي عنده لثلاثة أيام، ودعا الله تعالى، ثم أخبرهم في اليوم الثالث أن ربَّه قتل ربَّهم! فكانت يد القدر الإلهي قد حركت ابن الكسرى ليقتل أباه بسبب ما رآه من طغيانه وظلمه، ثم يستولي على الحكم، ويكون من أول أوامره إلغاء أمر جلب النبي !

وهكذا، فلعل أهم ما يجب أن نتعلمه من درس القدر الإلهي أنَّ اللهَ تعالى قادرٌ على إنفاذ قدره بوسائله، وما علينا سوى التشبث بأهداب الله تعالى، وأنْ نأْتمرَ بالإمام وبالشريعة، وإن شاء الله أن يستخدمنا في تحقيق قدر من أقداره فهذا من باب التشريف، لا من باب أن الله تعالى الغني بحاجة إلى جهودنا – حاشا لله.

وهنا يجدرُ أخيرًا أنْ ندركَ أيضا أن ما يجوز في أفعالِ الله تعالى في قدره قد لا يجوز لنا. وهذا لا يعني أن الله تعالى القدوس يرتكب أفعالا شنيعة لا تليق بالمؤمنين – والعياذ بالله، ولكن الله تعالى العليم القدير ينفذ أمره وينجز أفعاله بتنسيق عجيب منـزّه من الظلم، ويحقق قدره بحيث يعاقب ظالما بظلمه، أو يمدّ لظالم في غيّه حتى يأتي وقت يأخذه بظلمه أو يتوب عليه، ويكون في نفس الوقت يعاقب به ظالما آخر. فكل ما في الكون هو في خدمة الله تعالى، ولله تعالى جنود السماوات والأرض، يحركها كيف يشاء، ويتصرف بها كيف يشاء.

فمثلا، لا يجوز لنا أن نغتال خصما معاندا يتسبب في أذانا، ولكن يجوز لنا أن ندعو الله تعالى أن يخلصنا منه ويأخذه أخْذَ عزيز مقتدر. وقد يحقق الله الدعاء بإماتته أو قتله، فإن كان قتله جائزا لله تعالى، وهو ما نطلبه منه في دعائنا، إلا أنه ليس لنا أن نسعى لقتله بأنفسنا!

وما يصيب المسلمين حاليا من الويلات، وكل ما يحدث في العالم، وضعف المسلمين حاليا مع القوة العظيمة القاهرة التي بيد أعدائهم، ليس هذا كله إلا لخدمة التأكيد على أن النجاة الحقيقة إنما هي باتباع هذا النبي العظيم .

كذلك يجوز أن ندعو أن يجعل الله كيد الأعادي في نحورهم، وأن يجعل بأسهم بينهم، والله تعالى يبين أنه يعذب الأقوام بعضهم ببعض بهذه الطريقة كما في قوله تعالى:

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ (الأَنعام 66)،

 ولكن لا يجوز لنا أن نسعى للوقيعة والفتنة بين الأعداء بالكذب والافتراء والدسيسة!

علينا أن نعلم أن القدر الإلهي لا يحركه ولا يعجّل به إلا الدعاء، بل إن بعض الأقدار يكون مقدرا لها ألا تُنال إلا بالدعاء، ولذلك لا بد من الدعاء دوما. أما التدابير، فكلما كانت نزيهة ملتزمة بالشريعة كلما تجلى قدر الله تعالى سريعا، والتدابير بحد ذاتها، إن كانت صادرة من المؤمن بقلب عامر بالإيمان ألا حول ولا قوة إلا بالله وحده، اعتُبرت دعاءً عند الله تعالى.

ولا يُمكن أن يُفهم القدرُ الإلهي وخطته واتجاه سيره إلا بمعرفة الغاية من خلق الإنسان. فلا شك أن القدر الإلهي الأساس لخلق الإنسان هو ظهور الصفات الإلهية الكاملة في البشر؛ وهو الذي يسمى بتعبير آخر العبودية الكاملة، وقد قدّر الله تعالى أن يبعث سيدنا محمدًا لتحقيق هذا القدر، وما كان خلْقُ الأكوان والسماوات والأرض، وبعْثُ الرسل جميعا إلا لخدمة تحقيق هذا القدر الذي هو بعثة النبي . بل إن الفساد الذي ظهر في البر والبحر قبيل بعثته لم يكن إلا خدمة لهذه البعثة كي يدرك الناس حاجتهم إليها، ويروا كيف حدث الانقلاب الكبير ببعثته المباركة. وما يصيب المسلمين حاليا من الويلات، وكل ما يحدث في العالم، وضعف المسلمين حاليا مع القوة العظيمة القاهرة التي بيد أعدائهم، ليس هذا كله إلا لخدمة التأكيد على أن النجاة الحقيقة إنما هي باتباع هذا النبي العظيم . والقدر الإلهي يسير نحو نصرته ورفع اسمه في العالم أجمع، كي يرى الناس مشهد العبودية الحقة لله تعالى من خلال أتباعه في زمنه الممتد إلى يوم القيامة، بعد أن رأى العالم هذه العبودية مجسدة في حياته الشريفة، وفي صحابته الكرام. فالقدر الإلهي يقوم على أن العالم يتمحور حول النبي ، ومن أراد أن يحوز النجاة في الدنيا والآخرة فليس عليه سوى أن يسعى ليكون من أمته وتحت ظل الخلافة التي على منهاج النبوة التي أعادها الله تعالى ببعث الخادم المخلص للنبي في آخر الزمان. على المسلمين خاصة أن يدركوا هذا القدر الإلهي ويتوقفوا عن التهافت خلف الأمم الأخرى التي يظنونها قد تقدمت وحققت الازدهار. عليهم أن ينقـذوا أنفسهم، ثم أن يجذبـوا هذه الأمم التي قد لا تعـلمُ أنها تسعى نحو هلاكها إلى النجـاة الحقيقية، وإلى خير الدنيا والآخرة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك