اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا

اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • الدعاء أنجع سلاح
  • واجب طاعة الحكومة والحكام إلا على الكفر فلا طاعة عندها.
  • لا يجوز التمرد والبغيّ مهما كانت الظروف إلا على الكفر فلا طاعة فيه.
  • موالاة الحكومة واجبة حتى لو كانت كافرة.
  • إن الإخلال بالأمن أشد جرمًا من القتل.

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

قبل بضعة أسابيع، وتحديدًا في الجمعة الأخيرة من شهر شباط/فبراير ناشدت الجماعة من أجل الدعاء للعالم الإسلامي، ولفتُّ انتباه الأحمديين إلى فهم مسؤوليتهم تجاه الأحداث الحاصلة فيه، وقلت بأننا لا نمتلك الوسائل ولا القوة ولا نقدر على إيصال صوتنا إلى الحكام المسلمين مباشرةً وبِحُرِّيّة حتى نفهّمهم كي يؤدوا مسوؤلياتهم بوصفهم ملوكا وحكاما. لعل هذا الصوت بلغ إلى بعض الأماكن إلا أنني لا أعرف هل بلغت هذه الرسالة إلى هذه البلاد بشكل واضح أم لا. على أية حال لقد حثثت الأحمديين الذين يوقنون بتأثير الدعاء وقوته أن يركزوا عليه بشكل خاص، عسى الله تعالى أن يهب هؤلاء الحكام العقل والفهم، وبالتالي تنجو البلاد الإسلامية من أعمال الهدم والتدمير. علاوة على ذلك كانت هناك رسالة للشعوب أيضا ليدركوا أهمية مسؤولياتهم وأن لا يدفعوا بلادهم إلى أحضان المتطرفين أو إلى الأجانب.

على أية حال، أوجه رسالتي مرة أخرى إلى الأحمديين القاطنين في هذه البلاد أن يركزوا على الأدعية وينبّهوا الطرفَين إلى ضرورة التحلي بالتعقل والتيقظ، لأن التطرف ليس حلاًّ لأية قضية، بل الدعاء هو أكبر سلاح في هذه الأوضاع. لقد فهم معظم الأحمديين هذه الرسالة وبفضل الله تعالى لم يشارك الأحمديون عمومًا في أعمال الدمار والهدم والفساد، ولم يكونوا جزءًا من الصراع الدائر. ومع هذا فإنه تنشأ في أذهان البعض أسئلة أخرى فيقولون: إلى متى يجب أن نصبر تجاه ظلم الحكام الظالمين الغاشمين وخططهم الجائرة؟ ماذا يجب أن تكون ردة فعلنا؟ أو يسأل بعض الإخوة من الدول الإفريقية عن ردّة فعلهم تجاه المعرقِلين سبلَ انتقال الحكم إلى أهله، كما يحدث في ساحل العاج مثلا حيث لا يدَعون الحكمَ ينتقل إلى أصحابه، فيسأل الأحمديون: هل ينبغي لهم مواكبة عامة الناس في ردّة فعلهم والاشتراك في التظاهرات المناوئة للحكومة أم لا؟ لم يفهم بعض المثقفين والمتعلمين أحيانًا روح رسالتي فيظلون يستفسرون، لعلهم يريدون ردًّا صريحًا واضحًا فيطالبوننا أن نوضح لهم هل يستطيعون أن يشتركوا في أخذ حقوقهم ولو بأعمال القسوة والشدة أم لا؟ وإلى أي حدٍّ يجب عليهم مكابدة الظلم والاضطهاد؟ فقد اجتمعتُ بالقسم الذي يُعنى بأمور البلاد العربية والبلاد الإفريقية الناطقة بلغة الضاد، أي بالمكتب العربي والسيد هاني طاهر أيضا، وبينتُ لهم بشكل مفصّل ماذا ينبغي أن تكون ردة فعل الأحمديين وما هو الدور الذي يجب أن يلعبوه لحل هذه المعضلة، وما هي الجوانب الحسنة والسيئة التي يجب علينا الانتباه إليها وأخذها بعين الاعتبار، كما قلت لهم أن يسجلوا هذه النقاط ويبعثوها إلى الأحمديين في هذه البلاد، أو إلى الإخوة الذين هم على علاقة مع الأحمديين وغيرهم، حتى يعرف الأحمديون حقيقة الأمر، ولكنني ألاحظ من خلال بعض الرسائل أن بعضهم لم يستوعبوا موقف الجماعة الإسلامية الأحمدية المبنيّة على القرآن الكريم والحديث النبوي وأقوال المسيح الموعود ، لذلك فهناك حاجة إلى توضيحه مرة أخرى. ولقد جمعت مادة وأمورًا حول هذا الموضوع وأريد طرحها أمامكم حتى تزول كل أنواع الغموض.

القرآن الكريم هو الأساس في جميع القضايا، وينبغي أن ننظر ماذا يأمر به بخصوص التعاون مع الحكام وطاعتهم، ثم يجب أن نعرف ماذا ينبغي أن تكون ردّة فعل المسلم تجاه أعمال الفساد بوجه عام… ثم ماذا تقول الأحاديث الشريفة، وماذا قال المسيح الموعود بهذا الخصوص.

القرآن الكريم هو الأساس في جميع القضايا، وينبغي أن ننظر ماذا يأمر به بخصوص التعاون مع الحكام وطاعتهم، ثم يجب أن نعرف ماذا ينبغي أن تكون ردّة فعل المسلم تجاه أعمال الفساد بوجه عام، وإلى أي حد يمكنه المساهمة والاشتراك في الحملة المناوئة للحكومة من أجل استرداد حقه، ثم ماذا تقول الأحاديث الشريفة، وماذا قال المسيح الموعود بهذا الخصوص.

على أية حال يقول القرآن الكريم:

وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ (النحل 91)..

هذا الجزء من الآية نرددها في كل خطبة جمعة، ومعناه أنه ينهاكم عن كل أنواع الفُحش والمنكر والتمرد. لقد فسر سيدنا المسيح الموعود كلمة البغي قائلا: البغي هو المطر الذي ينـزل بكثرة وشدة ويُبيد الزرع. كما أنَّ التقصيرَ في أداء الحق الواجبِ أو مجاوزةَ حدِّ الحق الواجبِ أيضا من البغي. فهذا هو جمال أوامرِ القرآن الكريم وتعليمِه، حيث يحيط بكل جانب ويشمل كل طبقة، فلا يخطر ببال أحد أن هذا الحكم يخص طبقة معينة دون غيرها من الطبقات. على كل حال، لستُ هنا بصدد بيان تفسير هذه الآية وإنما أكتفي بشرح كلمة “البغْي”. فكما قال سيدنا المسيح الموعود إن الله ينهى عن الإفراط والتفريط في أداء الحق الواجب. أي عندما يأمر الحاكمَ والمحكوم فيَلفتُ انتباههما معا إلى أداء واجباتهم بحيث يجب ألا يفْرط الحاكم في طلب حقوقه واستخدام صلاحياته ولا يفرّط في تأدية واجباته، وينبغي على الشعب أن لا يفَرِّط أو يُفْرِط في تأدية واجباته. وكل من سيقوم بذلك يُعتبَر مجاوزا لحدود الله، فيعاقبه الله عليه. لأن الله يكره ذلك أشد الكراهية. وبما أن الشعب في هذه الأيام يتحمس للإقدام العنيف ضد الحكومات، لهذا سأتكلم اليوم عن الشعب فقط، ففي هذا الصدد هناك أحاديث عدة تأمر المؤمنين بالتمسك بأهداب الصبر رغم التصرفات الخاطئة للحكام. فقد ورد في البخاري:

حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ : إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ. (البخاري، كتاب الفتن)وعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَن النَّبِيِّ قَالَ: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. (البخاري، كتاب الفتن)

وعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ : فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتَعْمَلْتَ فُلانًا وَلَمْ تَسْتَعْمِلْنِي. قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً؛ فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي.  (البخاري، كتاب الفتن)

وسَأَلَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ رَسُولَ اللهِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَجَذَبَهُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ. (مسلم كتاب الإمارة)

وعَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللهُ، حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ ، قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِن اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ. (البخاري، كتاب الفتن)

هذه الأحاديث تتحدث عن تصرفات الحكام والأمراء غيرِ الشرعية واعتداءاتهم ومع ذلك قال لنا النبي : لا يحق لكم التمرد ضدهم، فالقيام بالتظاهرات ضد الحكومة وأعمال التكسير والشغب والتمرد يناقض الشريعة. أود أن أشرح هذا الحديث أكثر، فالكلمات العربية الواردة فيه “وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِن اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ” أي قد استصدر النبي منا الإقرار أيضا بأنه إذا تولى أحدٌ الحكمَ علينا فلن ننازعه حتى نرى منه كفرا بواحا جاء عندنا من الله برهان عليه.

لكن كلمات الحديث تصرح بأن عليكم أن تتمسكوا بالطاعة إلا أن يصدر الكفرُ أو تُكرَهوا على الكفر، فيجب أن تطيعوا في كل شيء ما عدا ذلك. وفي تلك الحالة أيضا يجب ألا تقوموا بالبغي والتمرد، بل عليكم ألا تطيعوا ذلك الأمر فقط.

إن بعض السلفيين أو الوهابيين أو الجماعات الدينية المتطرفة تقول في شرح هذا الحديث أنه لا يجوز قتالُ الحكام ما لم يصدر منهم كفرٌ بواح، أما إذا ظهر منهم كفرٌ بواح فإن إزالته ونزع الحكم منهم يصبح واجبا.

فهذه الجماعات المتطرفة تستشهد من هذه الرواية على أن التمرد على الحكومة يجوز، بل إن بعضهم يتشددون في فتاواهم لدرجة يقولون فيما بينهم: إن الذي لا يكفِّر مَن كفَّرْناه فهو أيضا كافر. فسلسلة التكفير هذه تطول.

لكن كلمات الحديث تصرح بأن عليكم أن تتمسكوا بالطاعة إلا أن يصدر الكفرُ أو تُكرَهوا على الكفر، فيجب أن تطيعوا في كل شيء ما عدا ذلك. وفي تلك الحالة أيضا يجب ألا تقوموا بالبغي والتمرد، بل عليكم ألا تطيعوا ذلك الأمر فقط.

غير أن هناك ظروفا معينة تفرض عدم الطاعة، منها لو أُكرهَ الإنسان على الكفر، فلا طاعة عندها. ونرى مثال ذلك في الجماعة الإسلامية الأحمدية، فحين يُطلب من الأحمديين في باكستان أو في بعض البلاد الأخرى ألا يسمُّوا أنفسهم مسلمين فلا نطيعهم في ذلك بل نسمي أنفسنا مسلمين. وكذلك حين يُطلب منا ألا ننطق بشهادة الإسلام فلا نتخلى عن الشهادة. أو حين نؤمر ألا نسلّم بتحية الإسلام بعضنا على بعض أو ألا نتلو القرآن، فلا نطيعهم في ذلك، لأنها قضية دينية وتمسّ بديننا، ولا طاعة في هذه الحالة كما جاء في الحديث الشريف. ومع ذلك لا نقوم بالتمرد والبغي على الحكام، وإنما لا نطيع –ولا يمكن أن نطيع- ذلك القانون الخاص فقط، لأنه خلاف الشريعة ومعارض لأوامر الله ورسوله. أما فيما يتعلق ببقية قوانين الدولة فكل أحمدي يطيعها ويلتزم بها.

وهناك مقتبس من كلام الأئمة القدامى يؤيد موقفنا، حيث يقول الإمام النووي في شرح الحديث المذكور آنفا بأن المراد من الكفر البواح كفْرٌ ظَاهِرٌ، حيث يقول: “وَالْمُرَاد بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي.

ثم يقول:

 لا تُنَازِعُوا وُلاة الأُمُور فِي وِلايَتهمْ، وَلا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلا أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الإِسْلام، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ، وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ. وَأَمَّا الْخُرُوج عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهمْ فَحَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً ظَالِمِينَ. وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الأَحَادِيث بِمَعْنَى مَا ذَكَرْتُه، وَأَجْمَعَ أَهْل السُّنَّة أَنَّهُ لا يَنْعَزِل السُّلْطَان بِالْفِسْقِ…. قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَبُ عَدَمِ انْعِزَاله وَتَحْرِيم الخُرُوج عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مِن الْفِتَن، وَإِرَاقَة الدِّمَاء، وَفَسَاد ذَات البَيْن، فَتَكُون الْمَفْسَدَة فِي عَزْله أَكْثَر مِنْهَا فِي بَقَائِهِ.”

 وهذا ما نراه متحققا اليوم على صعيد الواقع، فهناك تناحُر بين الأطراف المختلفة، حيث تُطلق النيران والقذائف وتزهق الأرواح ويقتل المسلم مسلما.

وهناك حديث آخر ورد في صحيح البخاري:

 قَالَ النَّبِيُّ : مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلاهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ. فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: مَا لَكَ؟ قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي وَلا بُدَّ لِي مِنَ الْمَاءِ. فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ.

يستدل البعض من هذا الحديث على جواز منع عامة الناس من ارتكاب السيئة قهرًا.

والحق أن ذلك سيؤدي إلى الفساد والشجارات بينهم.

وإذا قيل إن المراد منه هو التمرد ضد الحكومة، فهذا أيضا يخالف أمر النبي .

فسأوضّح مرة أخرى معنى هذا الحديث المتعلق بالسفينة، فقد جاء فيه:

 فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ.

يُستنبط من ذلك عادة أنه إذا كان الفساد يحدث علنًا ويؤدي إلى الأضرار فيجوز منع المفسد بالقوة. ولكن هذا الاستدلال يخالف مضمون الأحاديث الأخرى، مما يعني أن الأمر ليس كما فهموا وأن هذا الحديث لا يجيز التمرد على الحكومات. إنهم يقدّمون حديثًا آخر للنبي تأييدًا لموقفهم ويقولون إن النبي نفسه قد أمر باستخدام القوة. والحق أن النبي ما كان له أن يأمر بما يخالف تعليم القرآن الكريم، لذا فلا بد أنهم قد أساءوا فهم هذا الحديث أيضًا وهو: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ قَالَ:

 مَنْ رَأَى مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ.” (سنن النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه)

 ويقول الإمام الملا علي القاري في شرح هذا الحديث ما مفاده: قال العلماء إن أمر تغيير المنكر باليد موجَّه إلى الأمراء، وتغييره باللسان موجّه إلى العلماء، وتغييره بالقلب موجَّه إلى العوام.

وهذا شرح جميل للحديث النبوي حيث يقول الشارح إن هناك ثلاثة أمور، وكل واحد منها يتعلق بفئة معينة بمن فيهم أصحاب السلطة. والأمر بمنع المفسد بالقوة في حديث السفينة موجه لصاحب السلطة إنقاذًا للسفينة من الغرق، أما لو بدأ كل واحد بالأمر والنهي لحدث فساد كبير، ويقول الله تعالى عن الفساد والإخلال بالأمن: والله لا يحب الفساد . ولو استُنتج من ذلك أنه إذا استنكر العوام قولا أو فعلا من الحاكم فيجوز لهم أن يهبُّوا ضد الحكومة ويبدأوا بعَيْث الفساد والفتنة والشغب وأعمال الكسر والنهب والقتل والتمرد.. فهذا الفهم يخالف الشريعة. ولقد ذكرت من قبل حكم القرآن الكريم بهذا الصدد وهو أن الله تعالى: ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .

ثم هناك سؤال آخر هو: كيف كان الأنبياء يتصرفون تجاه حكوماتهم؟

لقد ورد في الحديث أنه قد جاء إلى الدنيا مئة وأربعة وعشرون ألف نبي، وقد تناول القرآن الكريم ذكر حوالي خمسة وعشرين نبيا، ولم يُذكَر عن أيٍّ منهم أنه عصى الحاكم في الأمور الدنيوية أو تمرَّد عليه، أو جمع حوله أناسا وقام بتظاهرات ضد الحكام أو قام بأعمال الشغب والكسر. بل إنَّهم فنّدوا العقائد الباطلة لحكامهم بكل وضوح وبلّغوا الدعوة والمعتقدات الصحيحة بكل صرامة. لنأخذ مثال يوسف الذي يُضرب عادة وقد بينه المسيح الموعود والخليفة الأول والخليفة الثاني رضي الله عنهما أيضا. يقول الله تعالى في بداية هذه القصة:

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف: 4).

فما هي الحقائق التاريخية التي بيّنها القرآن الكريم في هذه السورة؟ علمًا أن سورة يوسف معظمها تشمل وقائع حياة يوسف وتتلخص في أنه عمِل وزيرًا للمالية في حكومة فرعون، أعني عند الملك المصري الذي كان كافرا. فلو كان الملك يشكّ في إخلاص يوسف ويرى أنه يطيعه على سبيل النفاق فقط لما ضمّه إلى طاقم وزرائه. مع أنه من المعصية والإساءة التفكيرُ أنه كان يكنّ البغض والشحناء تجاه مَلك مصر، وكان يطيعه على سبيل النفاق والمداهنة فقط، والعياذ بالله. يقول الله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ (يوسف: 77).. أي ما كان بوسع يوسف أن يحجز شقيقه عنده في مصر بحسب قانون البلد، ولذلك دبّر الله تعالى له الأسباب حيث وُضع صواع الملك في رحل أخيه خطأً، ثم أُخرجَ من أمتعة أخيه عند الفحص.

يتبين من ذلك أن يوسف كان ملتزما بقانون الدولة، أي كان يلتزم بقوانين حاكم كافر ويطيعه بإخلاص، ولكنه ما كان يطيعه في معتقداته الدينية الخاطئة.

ثم يقول الله تعالى:

  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (النساء:60).

ويقول المسيح الموعود بصدد هذه الآية إن عليكم أن تطيعوا الله ورسوله والحكام في بلادكم. ويقول في مكان آخر ما مفاده: يا أيها المسلمون إذا اختلفتم فيما بينكم في أمر ما فاحتكموا به إلى الله إن كنتم في الحقيقة تؤمنون بالله ورسوله، وهذا هو المراد من أحسن تأويل.

ولقد قلتُ من قبل بأن حكم الله ورسوله هو ألا تقوموا بالتمرد والبغي مهما كانت الظروف، ومهما مرت الظروف على المؤمن من حيث الدنيا، إلا إذا رأيتم كفرا أو أُمرتم بالكفر، فلا طاعة فيه، وإنما الطاعة في غيره من أمور. أي لا طاعة في أمور تؤدي إلى الكفر، ومع ذلك لا يجوز التمرد والبغي.

كذلك يقول المسيح الموعود في مكان آخر بأن الله تعالى قد أمر في القرآن الكريم: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”. فالأمر بطاعة أولي الأمر واضح. وإذا قال أحد أن الحكومة لا تدخل في قائمة أولي الأمر فهذا خطأ منه. إن الحكومة التي تعمل بحسب الشريعة تدخل في “منكم”. والذي لا يعارضنا فهو منا. يثبت من نص القرآن الكريم أن طاعة الحكومة والخضوع لأوامرها واجب.

إذا كان الحاكم ظالما فلا تشيعوا سيئاته، بل عليكم أن تصلحوا ما بأنفسكم فسوف يزيحه الله أو يصلحه. إن ما يصيب المرء من المصائب فإنما يصيبه نتيجة أعماله السيئة…. إن الله تعالى يهيئ للمؤمن أسبابا من عنده. إن نصيحتي لكم هي أن تكونوا نموذجا للحسنات. لا تُتلفوا حقوق الله ولا حقوق عباده.

والفتنة أكبر من القتل.. أي أنَّ نشْرَ البغي.. أي الإخلال بالأمن أشدُّ جرمًا من القتل. أما «أولي الأمر» فيعني ظاهريًا المَلِكُ والحاكمُ، وروحانيا إمامُ الزمان. وإن الحاكم الذي لا يخالف مقاصدنا ويمكن أن ننتفع به دينيًا، فهو مصداق لقوله تعالى «منكم».

فهذه هي السيرة التي يجب أن يبديها الأحمديون، بل الأحمديون هم الذين يستطيعون أن يبدوها فقط.

ليس المراد من أولي الأمر الحكام المسلمين فقط. يقول الخليفة الثاني في هذا الصدد: بعض المسلمين يفهمون من هذه الآية خطأ منهم أن هذا الأمر يتعلق بالحكام المسلمين فقط، والمراد منها أن طاعة الحكام المسلمين فقط واجبة. ولكن هذا ليس صحيحا، بل يخالف مبادئ القرآن الكريم. صحيح أن الآية تتضمن كلمة: “منكم” ولكنها لا تفيد هنا أن تطيعوا فقط أولئك الحكام الذين يدينون بدينكم. بل معناها: الذين عُيِّنوا حكاما عليكم. فكلمة: “منكم” قد استُخدمت هنا بهذا المعنى. يقول الله تعالى في القرآن الكريم مخاطبا الكفار: ألم يأتكم رسلٌ منكم فلو استنبطنا من هذه الآية معنى: الذين يدينون بدينكم، يكون المعنى أن الرسل كانوا يدينون بدين الكفار، والعياذ بالله. إذًا، ليس ضروريا أن يكون المراد من “منكم” أولئك الذين يدينون بدينكم. بل قد استُخدمت هذه الكلمة بمعان أخرى أيضا، ومعناها في هذا السياق هو: يجب أن تطيعوا الحكام الذين يحكمون بلادكم. ليس المراد هنا أنه يجب أن تطيعوا حاكما مسلما فقط بل يجب تطيعوا كلّ من يحكمكم أيا كان. وكذلك الآية:

فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ

لا تعني أن تقرّروا بأنفسكم بحسب فهمكم للقرآن والحديث، بل معناه هو أنه إذا حدث الخلاف بينكم وبين الحكام، فردُّوا النـزاع إلى حكم الله ورسوله، وإنما المراد من ذلك أن ينبِّه المرءُ الحكومةَ بخطئها، وإن لم تقبل نصيحته فليفوض الأمر إلى الله تعالى، فهو يحكم بنفسه ويعاقب الظالم على ظلمه.

ثم يقول حضرته : إن وقائع يوسف المذكورة في القرآن الكريم تدل على أن طاعة الحاكم واجبة أيا كان دينه، بل حتى إذا لم تكن أوامره مطابقة لبعض أحكام الشرع التي تنفيذها مسؤولية الحكومة *، فمع ذلك لا بد من طاعة هذه الحكومة. فيقول الله تعالى عن يوسف بأنه حين جاء إخوته بأخيه الأصغر ما كان بوسعه أن يأخذ أخاه في مصر بحسب قانون البلاد، فكادَ الله له بنفسه.

كذلك يقول حضرته لاحقا إنه قد ورد في تفسير فتح البيان لتفسير قوله تعالى: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ (يوسف 56) أنه يجوز قبولُ المنصب من الملك الظالم بل حتى الكافر لمن كان واثقا بنفسه أنه قادر على إرساء الحق. وليكن معلوما أنه ليس المراد من إرساء الحق أن يتمكن من تنفيذ شريعته، لأنه كما يتبين من قضية أخي يوسف أنه لا يُشترَط على التوظّف عند الكافر أن ينفذ المؤمن رأيه، فالمراد بالحفاظ على الحق أن لا يشترك في أعمال الظلم، فالجلي الواضح من قضية يوسف أيضا أن موالاة الحكومة واجبة حتى لو كانت كافرةً.

هنا ينشأ السؤال: ما الذي يجب على المؤمن إذا كان يختلف مع الحكام في أمر ما، فهناك في رواية أخرى توضيحٌ أكثر لهذا الأمر، فالطاعة – كما بينت سابقا – لا تنحصر في الحكام المسلمين فقط، فهذا الحكم صدر بنوعيه. فماذا قال النبي في هذا الخصوص فَقد قَالَ في مسند أحمد:

أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ. (مسند أحمد)

أما ماذا قال عن الأحكام الدنيوية؟ فقد قال كما سبق ذكرُه في البخاري أنكم سترون أوضاعا تشعرون فيها كأن حقوقَكم تُغتصَب، فهذا يخص الحكام الدنيويين، ستُغصَب حقوقكم ويفضَّل الآخرون عليكم، وسترون أمورا تنكرونها، فسأله الصحابة: بماذا تنصحنا في مثل هذه الأوضاع؟ فقال: أدُّوا إلى الحكام حقَّهم واسألوا اللهَ حقكم. وفي مسلم أيضا حديثٌ مشابه يفيد أن عليكم أن تطيعوا حتى لو كان الحكام ظالمين وغاصبين جدا. فلا بد من أداء حق الحاكم الظالم أيضا ولا ينبغي التمرد عليه ولا الخروج عن طاعته، بل يجب الدعاء له بتضرع وابتهال لإزالة اعتدائه وشرّه. يجب أن يتذكر كل أحمدي على الدوام الشروط التي بايع عليها المسيحَ الموعود ، فالشرط الثاني منها مثلا: “أن يجتنبَ قولَ الزور، ولا يقرَب الزنا وخيانةَ الأعين، ويتنكب جميعَ طرق الفسق والفجور والظلم والخيانة والبغي والفساد؛ وألا يَدَعَ الثوائرَ النفسانية تغلبه مهما كان الداعي إليها قويًّا ومهمًا.”

والشرط الرابع “ألا يؤذيَ، بغير حق، أحدًا من خلق الله عمومًا والمسلمين خصوصًا من جراء ثوائر النَّفْس.. لا بيده ولا بلسانه ولا بأي طريق آخر.”

ثم يقول المسيح الموعود : والفتنة أكبر من القتل.. أي أنَّ نشْرَ البغي.. أي الإخلال بالأمن أشدُّ جرمًا من القتل. أما “أولي الأمر” فيعني ظاهريًا المَلِكُ والحاكمُ، وروحانيا إمامُ الزمان. وإن الحاكم الذي لا يخالف مقاصدنا ويمكن أن ننتفع به دينيًا، فهو مصداق لقوله تعالى “منكم”.

ثم قال حضرته : لو تفشّى الطاعون -لا قدر الله- في منطقة يوجد فيها بعضكم، فإنني آمركم أن تكونوا أول الملتزمين بقوانين الدولة. لقد سمعت أن الناس قد تصادموا مع الشرطة في أماكن كثيرة، وأرى أن مخالفة قوانين الدولة بغيٌ وتمرّدٌ، وجريمة خطيرة. غير أن مِن واجب الدولة أيضًا أن تعيّن في مختلف المناطق مسؤولين ذوي خُلق ودين واطلاع على تقاليد أهلها وتعاليمهم الدينية. باختصار، عليكم أن تطيعوا بأنفسكم هذه القوانين وأن تكشفوا لأصدقائكم وجيرانكم ما فيها من منافع وفوائد.

كيف أقام عمر العدل؟ كان المسيحيون رغم عودة حكمهم في بلادهم يدْعون متضرعين أن يعود المسلمون ويصبحوا حكام هذه البلاد، أما هنا فإن المسلمين قد خرجوا ضد الحكام المسلمين لأنهم ليسوا عادلين

وذات مرة قام طلاب كلية أو جامعة حكومية بالإضراب، فقال حضرته : إن الذي اشترك مع هؤلاء الطلاب المفسدين في عمليتهم قد خالف تمامًا تعليمنا ونصحنا، وبالتالي فهو شريك في هذا البغي –يشير حضرته إلى طالب كان من أقاربه – عندما أعلن الطلاب في لاهور عن القيام بالإضراب ضد أساتذتهم كنتُ نهيت الطلاب الذين هم من جماعتنا عن الاشتراك في هذا الإضراب، وأمرتهم أن يطلبوا من أساتذتهم العفو ويحضروا الكلية فورًا، فانصاعوا لأوامري وحضروا الكلية ضاربين مثالاً رائعًا للصلاح مما حدا بالطلاب الآخرين إلى العودة إلى الكلية بدون تأخير.

أما الخليفة الأول فما هو موقفه بهذا الشأن؟ لقد قال حضرته : لا بد لكل مسلم من طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر. لو خالف وليّ الأمر حُكْمَ الله أو رسوله مخالفة صريحة، فعلى المسلم أن لا يطيعه فيما يتعلق بذاته وشخصه وبقدر وسعه، أو يهاجر من ذلك البلد. إن قول الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم نصٌ صريح، والمراد من أولي الأمر هم الحكام والسلاطين في المقام الأول، والعلماء والحكماء في المقام الثاني.

يقول البعض اليوم بأن حضرة المصلح الموعود (الخليفة الثاني للمسيح الموعود ) قد سمح للأحمديين بعقد الاجتماعات والمسيرات تضامنًا مع مسلمي الهند من أجل حقوق مسلمي ولاية “كشمير”، وهذا يماثل الطريق الذي يتّبعه الناس اليوم تمردًا على الحكومات، لذا فهو جائز.

مع أن الواقع أن هذا الصوت والاجتماعات والمسيرات كانت من الخارج للضغط على حاكم كشمير لاسترداد حقوق مسلميها، ولم يكن هناك حرب ولا أعمال تخريب ولا إضرار بالأملاك. إنما كان تنبيهًا للحكومة الكشميرية أن تردّ لرعاياها المسلمين حقوقهم، إذ كانت حقوقهم مغتصبة وكانت أملاكهم وعقاراتهم بالاسم فقط، لأن الراجا (الحاكم) كان يسلبهم كل ما كانوا يكسبون.

كان هناك إعلان إضراب من قبل المسلمين في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1929، فسئل سيدنا المصلح الموعود : كيف يتصرف المسلمون الأحمديون فيه؟ فقال حضرته: يجب عدم الاشتراك في الإضراب، غير أنه يمكن الاشتراك في الاجتماع أو المسيرة. إن الاشتراك في الاجتماعات والتظاهرات من أجل الحقوق فجائز لأن الحكومة قد سمحت بذلك إلى حد ما، أما الإضراب وإغلاق المحلات وأعمال الكسر والتخريب فلا تجوز.

فقال أحدهم: إن محلات الأحمديين قليلة في المدن، فلو لم يغلقوها يوم الإضراب فهناك خطر الهجوم عليها، لأن القوم يُكرهون على إغلاقها بالقوة. فقال حضرته : إذا كانوا يُكرهون على إغلاقها بالقوة فليغلقوها، ولكن عليهم أن يُخطروا الشرطة بذلك ويخبروها بأننا نريد فتح محلاتنا ولكن القوم لا يسمحون لنا بذلك، فإذا كفلت الشرطة حماية محلاتهم فليفتحوها، وإلا فلا.

فقال بعضهم: هل الإضراب ممنوع قانونيًا؟ فأجاب حضرته : الأمر لا يتعلق بالقانون. الإضراب لغو وعبث في حد ذاته، إذ يتضرر به صاحب المحل والزبون كلاهما. والمسلمون الذين يذهبون اليوم من الخارج إلى لاهور وغيرها من المدن القريبة منهم لشراء حاجياتهم سوف يضطرون لشرائها من محلات الهندوس، لأن المسلمين مضربون، وبالتالي يتضرر المسلمون في النهاية.

إن القرآن الكريم لا يوجه هذا التحذير إلى عامة الناس بل إلى الحكام أيضا بألا يتكبروا بسبب حكمهم ولا يعيثوا الفساد في البلاد، ولا يهضموا حقوق الناس ولا يوسعوا الفجوة بين الغني والفقير لدرجة تثير عند عامة الناس القلق والاضطراب فيؤدي إلى حدوث حالة من التمرد، وفي النهاية يتعرضون لمؤاخذة الله تعالى.

قال حضرته ذات مرة: من المستحيل أن نتعاون مع الذين يدعون إلى مخالفة القانون. هناك جماعات تعلِّم التمرد، وجماعات تدعو إلى القتل وسفك الدماء، وجماعات لا ترى الالتزام بالقانون ضروريًا، ومن المحال أن نتعاون مع أي منها بهذا الشأن، لأن هذا يتعارض مع تعليم ديننا، والعمل بتعاليم الدين ضروري لدرجة أنه لو عادتْنا جميع الحكومات وعلّقت الأحمديين على الصليب حيثما وجدتهم، مع ذلك لا يمكن أن يتغير قرارنا هذا الذي يتلخص في عدم مخالفة قانون الشريعة وقوانين البلد، فلا يسعنا انتهاج منهج مخالف لهما ولو أوذينا أشد الأذى.

فهذه هي الأحكام المتعلقة بالإضرابات التي أصبحت بين أيديكم الآن بكل وضوح.

ولقد ذكرت جزءا من آية رقم 206 من سورة البقرة في شرح أحد الأحاديث وهو: والله لا يحب الفساد . عندما يمارس القهر والظلم يؤدي ذلك إلى انتشار الفساد، ولسوء الحظ فإن البلاد الإسلامية هي أكثر البلاد عرضة لهذا الفساد في هذه الأيام. والآية التي أشرتُ إليها بقراءة جزء منها هي كالآتي:

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ والله لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (البقرة 206).

أي عندما يصبح الحكام ظالمين فإنهم يلحقون الضرر بمن يعارضهم وبممتلكاتهم وزروعهم ونسلهم بلا رادع ولا وازع. إذًا هذه الآية تمثّل إنذارًا بليغًا للحكام. ثم لما كانت هذه الآية تتضمن رسالة عامة في قول الله تعالى: والله لا يُحِبُّ الْفَسَادَ فهي توجه نفسَ الإنذار إلى المتمردين أيضا. فكما قلت في مستهل الخطبة إن القرآن الكريم لا يوجه هذا التحذير إلى عامة الناس بل إلى الحكام أيضا بألا يتكبروا بسبب حكمهم ولا يعيثوا الفساد في البلاد، ولا يهضموا حقوق الناس ولا يوسعوا الفجوة بين الغني والفقير لدرجة تثير عند عامة الناس القلق والاضطراب فيؤدي إلى حدوث حالة من التمرد، وفي النهاية يتعرضون لمؤاخذة الله تعالى.

فانظروا إلى الأوضاع الراهنة الآن حيث تتعالى الأصوات من كل الجهات أن الحكام نهبوا أموال الدولة والشعب وحرموهم من حقوقهم. يا له من شقاوة لأولئك الذين يتورطون في هذه الأفعال بينما وجه الله تعالى نصحه إليهم خصيصًا ونبههم إلى الكف عنها. إن الحكام مسؤولون عن حفظ أموال الناس ونفوسهم وعن تنمية أحوالهم الاقتصادية وتحسينها، وعن صحتهم وعن حقوق أخرى كثيرة، فهذه هي واجبات الحكام ويجب أن يؤدوها، إلا أنهم بسبب عدم أدائها يعيثون في الأرض فسادًا والله لا يحب الفساد. فعلى الحكام أن يقدروا نِعَم الله تعالى حق قدرها ويسعوا جاهدين للتأسي بالأسوة التي نضرب لهم أمثالا لها. كيف أقام حضرة عمر العدل؟ كان المسيحيون رغم عودة حكمهم في بلادهم يدعون متضرعين أن يعود المسلمون ويصبحوا حكام هذه البلاد، أما هنا فإن المسلمين قد خرجوا ضد الحكام المسلمين لأنهم ليسوا عادلين. فثمة حاجة للتمسك بتلك التقوى التي أصبحت مفقودة الآن في المسلمين. فلو تمسك الحكام والشعوب بهذا الأصل لأحرزوا النجاح والفلاح. على أية حال فإن التعليمات الواضحة للأحمديين هي أن يتجنبوا الوقوع في هذا الفساد، ويجب أن يكثروا من الدعوات، لأنه لا نجاة من الحكام الظالمين إلا من خلال استجابة الأدعية التي تخرج من صميم الأفئدة كما قال المسيح الموعود . أما الأوضاع المستقبلية فهي تخبر أنه لو حل الأمن فسيكون مؤقتًا ولن يُكتَب له الدوام.

إن السيطرة على الحكم ظلمًا أو الإطاحة بالحكومة أو الانقلاب يؤدي إلى بروز الحكام الظالمين في النهاية حيث لا يرحل ظالم حتى يحل محله ظالم آخر، لذلك لا بد من الإكثار من هذا الدعاء: اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا. ندعو الله تعالى أن يستوعب الحكام وعامة المسلمين أيضا حقوقهم وواجباتهم ثم يسعوا جاهدين لأدائها ويقدِّموا أمام العالم نموذجًا للتعاليم الرائعة للإسلام.

سأصلي صلاة الغائب على بعض المرحومين بعد صلاة الجمعة. الجنازة الأولى للسيدة أمة الودود زوجة سيد عبد الحي شاه ناظر النشر والإشاعة في مؤسسة صدر أنجمن أحمدية بربوة.

والجنازة الثانية للسيد محمد سعيد أشرف ابن شودري محمد شريف من لاهور الذي توفي إثر حادث طرق.

والجنازة الثالثة هي للسيدة نعيمة بيغم التي توفيت في ولاية “أوهايو” الأمريكية، وكانت ابنة الدكتور حشمت الله خان الذي كان طبيبًا خاصًّا لحضرة الخليفة الثاني .

ندعو الله تعالى أن يرفع درجات جميع المرحومين ويجعل حسناتهم في نسلهم أيضا، سأصلي عليهم جميعًا صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة.

Share via
تابعونا على الفايس بوك