غياب المعنى.. غياب روح الإتفاق

غياب المعنى.. غياب روح الإتفاق

التحرير

وصلنا عن شاعر الصوفية جلال الدين الرومي حكاية رجل ذي سلطان قرر مَنْح أربعة أشخاص حُكم عليهم بالإعدام درهمًا واحدًا، كي يشتروا به ما يتفقون عليه كرغبة أخيرة مشتركة لهم ويتقاسموه، قبل أن يُنفذ فيهم حكم الإعدام. وكان هؤلاء الأربعة ينتمون إلى قوميات مختلفة، فكان أحدهم فارسيا، والثاني تركيا، والثالث روميا، والرابع عربيا. فسُئل كل واحد منهم عما يرغب فيه، فطلب الأول “أنكور” والثاني “أوزوم” والثالث “إستافيل” والرابع “عنبا”.

وبما أنهم يجهلون لغات بعضهم بعضا، ولم تكن بينهم لغة مشتركة للحوار كي يعبروا من خلالها عن رغباتهم، فقد هبت عاصفة من الصراع والنزاع ، وتطور الصراع والتخاصم فيما بينهم حتى دفعهم إلى حد أدنى من الإتصال بلغة الإشارةـ، ولكن بدل أن بتفاهموا من خلالها ويتفقوا، هدد بعضهم البعض بالويل والثبور والقتل. ولم يَدُرْ في خلد أي منهم أن ما يتخاصمون حوله ليس إلا شيئا واحدا وهو العنب، وكلٌ قد طلبه بلغته. ولكن كل واحد منهم كان في حقيقة الأمر مُصرا  على رأيه ولا يأبه أصلا بمضمون ما يقوله الآخر ويطلبه، مع أنهم لو فهموا لتفاهموا ولرُفع الخصام، ولكن هيهات.

وهكذا فإن الدرهم الذي أعطي لهم أصبح سببا لنزاعهم بدل أن يصبح سببا لإسعادهم للحظات قبيل أن يغادروا هذه الدنيا. وقد أحيا هذا الدرهم فيهم جذوة الأنانية بعد أن كانوا قبل ذلك يترقبون الموت الذي ينتظرهم بعد سويعات قليلة. فافسدوا مات تبقى لهم من سويعات معدودة في الحياة في النزاع والخصام، ولم يستغلوا هذه الفترة القصيرة في الوفاق الإتفاق في سبيل إسهادهم جميعا.

إن هذه القصة التي ذكرها جلال الدين الرومي يبيّن السبب الذي يؤدي إلى فشل كثير من المشاريع، بدء بالأسرة وانتهاء بنواحي الحياة الإجتماعية والثقافية والدينية في عالم تحكمه الأنانية ولا يتحلى بأدب الإختلاف وقبول الآخر والإستماع لرأيه. فقد يكون كل جانب يطالب بما بطالب به الآخر، ولكن إذا كان الحوار حوار صمٍّ وبُكْم فما من مستمع يسمع ثم يعقل. فكيف إن كان هناك خلاف في الرغبات ولو كان يسيرًا؟ هل إلى حل وسط من سبيل؟ هنالك يرتفع فقط صوت الأنانية والتعصب وتخفت أصوات الحكمة والوسطية والتعقل.

إن هذه الفئة من الناس قصيرة النظر، التي تُغير لونها بسرعة البرق وتعيش اضطرابًا داخليا على مدار الساعة بسبب أنانيتها، شبهها جلال الدين الرومي بـ(الفئران). فالفأر الذي مستقره القاذورات التي يأكل ويعيش عليها، ويعرف كثيرًا من الوسائل ويقوم بكثير من الحيل ليبني لنفسه الجحور تحت الأرض ولكنه بمجرد ظهوره لأي شخص على سطح الأرض يُقتل. فحيله ومهاراته لا تجعله مقبولا لدى الناس، ولا تقدم له حياة كريمة ولا ترفع مكانته لأنه فاسد ويعيش في بيئة فاسدة ولا يهتم إلا بالقاذورات التي يأكلها متلذذا. كذلك فإنه في عمله الدؤوب قد يتسبب في تدمير البيوت والسدود والمنشآت لأن ما هو على سطح الأرض وما ينفع الناس لا يعنيه. فخططه هي لإستزادة من القاذورات والحفر تحت الأرض دون أدنى اهتمام بمصلحة غيره.

إن التقوى تقتضي منا أن نزيل هذا الستار ونبحث عن هذا المال الروحاني لأن كنوز الدنيا المادية عجزت عن إنقاذنا. فهم من باحث أريب يغب من هذا المال فيسعد ويسعد غيره ممن يليه؟ جعلنا الله تعالى منهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وهكذا فإن المعنى الفاسد المبنى على الأنانية يحتوي على قوى بإمكانها أن تقود شعوبًا وإمبراطوريات إلى حتفها، بإمكانه أن يحفر ويدك أساسات الصروح الإنسانية العظيمة، ويراكم الأأذى فوق الظلم. إلى أن حامل هذا المعنى الفاسد لن يكون سوى فأر يعيش في المياه المتعفنة والتربة الوسخة. ومن السهل معرفة هذه الفئران البشرية، فأصحاب هذا الأسلوب يُعرفون في الحياة اليومية بالنميمة وتزييف الحقائق والكذب والحقد على الناس والغباء والمكر. إنهم صروح واهية ومبان خاوية عروشها، وهم أجسام تبحث عن الأكل والملذات  الحياة لتعيش بدون غاية أو هدف، هم أجسام لا معنى لوجودها ولا لحياتها..

إننا في “التقوى” إذ نسرد هذه الواقعة من كتابات السلف الصالح فإننا نطمح أن نستفيد ونفيد ونبي مستقبلا لأمتنا ركيزته التخطيط المحكم الخالي من الأنانية الذي يأخذ بعين الإعتبار أخطاء الماضي ويصححها ويتشبه بالمبادئ الأساسية لكتابنا الكامل القرآن الكريم الذي لا يخيب من سار على نهجه وفهم مقاصده واتخذه دستوا في حياته. هذا الكتاب الفياض بالعلوم الدينية والدنيوية النافعة لبني الإنسان التي تهدف إلى الإرتقاء بهم على شتى السبل.

إننا موعودون بالزمن الذي يفيض فيه المال حتى لا يقبله أحد، ونحن اليوم نعيش هذا الزمن زمن الإمام المهدي الذي بعثه الله تعالى خادمًا للرسول الأكمل صلى الله عليه وسلم. والمال المُشار إليه في الوعد الذي جاء على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم هو المال الروحاني وليس المادي، هو العلوم القيمية التي جاء بها سيدنا الإمام المهدي عليه السلام ليصلح شأن الأمة الإسلامية ويخرجها من مأزقها. إن الأمة الإسلامية اليوم هي بأمس الحاجة إلى هذا المال، ويجب عليها أن تزيح ذلك الستار، الذي أسدله من يطلقون على أنفسهم اسم علماء وفقهاء الأمة، لحجب وصول هذا المال إلى من يستحقونه من خلال محاولات تمثيلهم دور المسلم الحقيقي، وهم يلفقون التهم والأكاذيب ويلصقونها بشخص الإمام المهدي وجماعته منحرفين بذلك عن أهم الأخلاق الأساسية للمسلم وهو الصدق ولأمانة.

إن التقوى تقتضي منا أن نزيل هذا الستار ونبحث عن هذا المال الروحاني لأن كنوز الدنيا المادية عجزت عن إنقاذنا. فهم من باحث أريب يغب من هذا المال فيسعد ويسعد غيره ممن يليه؟ جعلنا الله تعالى منهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك