الحكمة من ذكر زكريا في سورة مريم
  • من هو زكريا الذي تُفتتح سورة مريم بالحديث عنه؟
  • ما الحكمة من ذكره في هذا الموضع بالذات؟

 ___

  ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * (مريم 3-4)

شرح الكلمات:

ذكرُ رحمة ربِّك عبدَه زكريا: هناك محذوف وهو «هذا»، والتقدير: «هذا ذكرُ رحمةِ ربِّك عبدَه أي زكريا حين نادى ربَّه نداءً خفيًّا.

نادى: ناداه: صاح به. ونادى فلانًا: جالسَه في النادي؛ وقيل: فاخَرَه. ونادى بسرّه: أظهرَه (الأقرب).

التفسير:

لقد قلتُ من قبل إن هذه السورة تتحدث عن المسيحية، وتفنّد عقائدها بلفت الأنظار إلى أربع من صفات الله تعالى المذكورة في «كهيعص»؛ الاثنتان منها صفتان أساسيتان، أما الأُخرَيان فهما نتيجة منطقية لهما. والصفتان الأساسيتان هما العالم والصادق، أما الصفتان اللتان هما نتيجتهما الحتمية فهما الكافي والهادي.

ولكن لماذا استهلّ الله تعالى هذه السورة بذكر زكريا ، وما الحكمة في الحديث عنه قبل التطرق إلى المسيحية؟ هذه مسألة هامة يجب توضيحها؟

اعلم أن زكريا هذا هو غير زكريا صاحب الكتاب الموجود في التوراة، والذي جاء في عام 487 قبل الميلاد. إن زكريا هذا الذي جاء قبيل المسيح عليهما السلام، والذي كفَل أُمَّه، فكان أيضًا نبيًّا بحسب القرآن الكريم، بينما تذكره الأناجيل بصفة كاهن فحسب، وليس كنبيّ. غير أن هناك حديثًا للرسول يحل هذه المعضلة حيث قال : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدّد لها دينَها» (أبو داود، كتاب الملاحم، باب ما يُذكر في قرن المائة). كما ورد في القرآن الكريم وعَد الله الذين آمنوا منكم وعمِلوا الصالحاتِ ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلَف الذين مِن قبلهم (النور: 56). فالله تعالى قد شبّه خلفاء الأمة المحمدية، أي المجددين، بأنبياء بني إسرائيل، كما صرح بذلك النبي في حديث لـه: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» (مكتوبات الإمام الرباني مجلد 1 مكتوب رقم 267 صفحة 336).. والعلماء الربانيون هنا المجددون. ويبدو أن الكتاب المقدس كان يسمّي النبيَ الذي يُبعث لتكميل مهمة نبي آخر كاهنًا. ومن جهة أخرى يتضح من القرآن الكريم أن الكفار كانوا يسمون النبي كاهنًا (الطور: 30). فيبدو أن بني إسرائيل كانوا يستخدمون كلمة النبي والكاهن بمعنى واحد، ولكن أهل مكة كانوا يكرهون الكهّان، فاعتبروا النبي كاهنًا عندما أعلن دعواه.

ولكن التدبر في التوراة يكشف لنا أن الله تعالى كان يبعث رسله حتى في المناطق الصغيرة جدًّا نظرًا إلى حالة اليهود، حتى بُعث أحيانًا مئات الأنبياء في وقت واحد (الملوك الأول 22: 6)، بل جاء بعض الأنبياء الكبار في زمن واحد، فإن حزقيال ودانيال وإرمياء(1) كلهم جاءوا في فترة واحدة، وجاء كل واحد منهم بعد الآخر فورًا، بل في حياة الآخر أيضًا. فلا غرابة إذا لم تُسمِّ التوراة زكريا نبيًّا. فما دامت التوراة تعلن أن الله تعالى بعث أحيانًا أربع مائة نبي في وقت واحد بدون أن تذكر اسم أيٍّ منهم (الملوك الأول 22: 6)، فثبت أن الأنبياء قد بُعثوا في بني إسرائيل بكثرة بحيث إن التوراة لم تُعْنَ بحفظ أسمائهم أيضًا. أما القرآن الكريم فسجّل أسماء بعض الأنبياء بحسب ما رآه ضروريا، وهذا ما فعلته التوراة أيضًا، وليس بوسعنا معرفة غيرهم من الأنبياء ولا أسمائهم.

على كل حال، فزكريا كاهن عند الإنجيل، ولكن القرآن الكريم يسميه نبيًّا، وزكريا المذكور هنا هو ذلك الذي كان كفيلاً لأم المسيح والذي بُعث في زمن قريب جدًّا من ظهور المسيح.

إن السبب الأول لورود اسم زكريا في القرآن قبل الحديث المسهب عن المسيحية هو وجود النبوءة الشائعة بين اليهود أنه لا بد من نـزول إيليا قبل ظهور المسيح؛ وبما أنه كان من المقدر أن يرزق زكريا ابنَه يحيى الذي كان إرهاصًا (2) للمسيح.. بمعنى أنه جاء ليمهّد لمجيء المسيح، وبتعبير آخر جاء ليذكّر اليهودَ بمجيء المسيح ويعرّفهم عليه.. فلذلك قد ذكر الله تعالى زكريا قبل الحديث عن المسيح. فإننا نقرأ في التوراة نبوءة ملاخي النبي التالية: «هأنذا أُرسلُ إليكم إيليّا النبيَّ قبل مجيء يوم الرب, اليومِ العظيم والمخوف» (ملاخي 4: 5).

علمًا أن المراد من «يوم الرب، اليوم العظيم المخوف» هو مجيء المسيح الناصري، فإنه لما أعلن دعواه سأله اليهود السؤال نفسه وقالوا: أين إيليّا المزمَعُ نـزوله؟ فأوضح لهم أنه لم يكن المراد من نـزول إيليا إلا مجيء يوحنا وقال: «وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليّا المزمَعُ أن يأتي» (متى 11: 14).

فبما أن المسيح ما كان ليُبعث ما لم يأت يحيى – الذي يدعى يوحنا في الإنجيل، والذي كان بُروزًا وظلاًّ لإيليّا – فكان لزامًا ذكرُه قبل ذكر ميلاد المسيح عليهما السلام، إشارةً إلى أن نبوءة ملاخي النبي قد تحققت، وأن إيليا الذي نبّأ ملاخيُّ بنـزوله قد جاء، وأن المسيح أيضًا قد ظهر.

إن السبب الأول لورود اسم زكريا في القرآن قبل الحديث المسهب عن المسيحية هو وجود النبوءة الشائعة بين اليهود أنه لا بد من نـزول إيليا قبل ظهور المسيح؛ وبما أنه كان من المقدر أن يرزق زكريا ابنَه يحيى الذي كان إرهاصًا (2) للمسيح.. بمعنى أنه جاء ليمهّد لمجيء المسيح، وبتعبير آخر جاء ليذكّر اليهودَ بمجيء المسيح ويعرّفهم عليه.. فلذلك قد ذكر الله تعالى زكريا

والسبب الثاني لورود قصة زكريا هنا، بحسب ما يتضح من القرآن الكريم، هو أن مريم كانت سببًا لولادة يحيى عليهما السلام، حيث قال الله تعالى كلّما دخَل عليها زكريا المحرابَ وجَد عندها رزقًا قال يا مريم أَنَّى لكِ هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا رَبَّه قال رَبِّ هَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ ذريّةً طيّبةً إنك سميع الدعاء (آل عمران: 38-39). أي أن زكريا الذي كفل مريم، والذي لم يكن قد رُزِق أولادًا بعد، ذهب مرة إلى مكان عبادته، فوجد عند مريم، الصبية الصغيرة في رعايته، طعامًا، فسألها كما يسأل الكبارُ الصغارَ لطفًا ومداعبة: يا ابنتي مِن أين لك هذا الطعام؟ قالت: هو من عند الله.

يقول المفسرون أن الله تعالى كان يُنـزل لمريم الطعام من السماء (الرازي). ولكن لا ذكر للسماء هنا. إنما الواقع أنها أجابت بهذا الجواب نتيجة التربية الحسنة التي تلقّتْها. فنحن أيضًا نعلّم صغارنا أنه إذا سألهم أحد من أعطاكم هذا الشيء فقولوا: الله تعالى. فلما سمع زكريا من صبية، عمرها ثلاث أو أربع سنوات، أن الله تعالى هو الذي يمنحها كل نعمة، وهو الذي أعطاني هذه النعم كلها، تأثر من جوابها تأثرًا كبيرًا. فقال في نفسه ما دام الله تعالى هو الذي يعطي كل شيء في الواقع، حتى إن هذه البنت الصغيرة أيضًا تدرك ذلك، فما لي، وأنا إنسان عاقل مجرب، لا أوقن بأن الله تعالى هو الذي يمنح كل شيء. هنالك دعا زكريا ربَّه .. أي أنه لدى سماع جوابها فكر وقال في نفسه: عندي أيضًا حاجة، لم لا أسأل الله إياها؟ ليس عندي أي أولاد. لو كان عندي ولد مثل مريم، وسألته، أَنَّى لك هذا يا بُنيّ، فقال: هذا من عند الله، لأدخلَ في قلبي السرور كما سرّتني مريم بجوابها.

إذًا فكانت مريم حافزًا دفَع زكريا إلى الدعاء لولادة يحيى، وهكذا فكما أن يحيى بُعث إرهاصًا للمسيح صارت مريمُ والدةُ المسيح – بطريق غير مباشر – إرهاصًا لولادة يحيى، حيث سُمع دعاء زكريا فوُلد عنده يحيى.

لقد قال الله تعالى هنا ذِكرُ رحمةِ ربِّك عبدَه زكريا ولم يقل «ذكرُ رحمةِ ربِّك زكريا». ذلك لأن فيه حكمة بالغة سأذكرها لاحقًا. إنه من مزايا القرآن الكريم أنه ينتقي الكلمات بحيث تأتي كل كلمة بحسب الحاجة، ولا تكون زائدة بلا فائدة. ففي هذه الآية أيضًا استخدم القرآن كلمة ذِكرُ التي تقديرها «هذا ذِكرُ»، وهي لا تعني سرد واقعة فحسب، بل تعني أيضًا التذكير بها، بمعنى أن الواقعة التي يسردها القرآن هنا تبلغ من الأهمية بحيث يجب أن يتذكرها الجميع ويؤمنوا بعظمة الله وقدرته .

ثم قال الله تعالى رحمةِ ربِّك .. أي أن هذه القصة آيةُ رحمةٍ من ربِّك.

وهنا ينشأ سؤال وهو أن هذه الواقعة كانت دليلاً على رحمة الله بزكريا وعلى ربوبيته لمريم، فلمَ قال الله تعالى رحمة ربك بدلاً من أن يقول (رحمة الرب)؟

والجواب أن ضمير الخطاب في رحمةِ ربِّك يدل صراحة على أن هذا ذكرٌ لربوبية الله لمحمد . ذلك أننا لو أمعنّا النظر لوجدنا أن يحيى كما كان إرهاصًا لعيسى عليهما السلام كان عيسى إرهاصًا لمحمد رسول الله . وبيان ذلك أن ولادة المسيح من غير أب كانت إيذانًا بانتهاء الدور الموسوي وابتداء الدور الذي يتحقق فيه الوعد الذي قطعه الله تعالى مع إبراهيم في حق ابنه إسماعيل إذ قال: «ها أنا أباركه وأُثمره وأكثّره كثيرًا جدًّا. اثني عشر رئيسًا يَلِدُ، وأجعله أمّةً كبيرة» (التكوين 17: 20، 21: 18)؛ كما يتحقق فيه الوعد الذي تم على لسان موسى حيث ورد: «يقيم لك الربُّ إلهُك نبيًّا مِن وسطك مِن إخوتك مثلي. لـه تسمعون» (التثنية 18: 15).

فلما كانت واقعة زكريا حلقةً من سلسلة طويلة الحلقات قال الله تعالى هنا رحمة ربك[، ليخبر نبيه محمدًا أنه من آيات رحمة ربه أنه تعالى قد بدأ يجهّز الناسَ لتصديقه منذ زمن طويل، إذ خلق يحيى أولاً ليكون إرهاصًا لعيسى، ثم خلق عيسى ليمهّد من أجله.

ذلك أننا لو أمعنّا النظر لوجدنا أن يحيى كما كان إرهاصًا لعيسى عليهما السلام كان عيسى إرهاصًا لمحمد رسول الله . وبيان ذلك أن ولادة المسيح من غير أب كانت إيذانًا بانتهاء الدور الموسوي وابتداء الدور الذي يتحقق فيه الوعد الذي قطعه الله تعالى

ثم أضاف الله تعالى هنا كلمة عبدَه[، مع أن الجملة كانت كاملة بدون هذه الزيادة أيضًا! والحكمة في ذلك أن رحمة الله نوعان: رحمة عامة ورحمة خاصة.. أعني أن هناك رحمة تنبع من صفة الله «الرحمن» حيث تشمل المؤمنَ والكافر كليهما؛ وهناك رحمة أخرى مصدرها صفة الله «الرحيم»، وتنـزل فقط على عباده الذين هم من خدّامه من الطراز الأول جزاءً لهم. وقوله تعالى رحمةِ ربِّك لم يكشف ما إذا كانت هذه الرحمة نابعة من مصدر «الرحمانية» أم «الرحيمية»، فجاءت كلمة عبدَه لتكشف أن تلك الرحمة ليست من منبع الرحمانية والتي هي عامة وتنـزل بدون أي عمل ولا خدمة، بل هي من منبع الرحيمية.. أي أنها نـزلت نتيجة عمل، إذ كان عبدنا زكريا صالحًا وقام بخدمات جسيمة. وهذه المعاني كلها قد بيّنها الله تعالى بإشارات صرفية ونحوية بسيطة.

وقد علِمنا من ذلك أيضًا أن من الداعين من يستحق رحمة الله تعالى ومنهم من لا يستحقها. ولكن صفة الرحمة الإلهية أيضًا لا تتجلى تلقائيًّا، بل لا بد لإثارتها من بعض الأسباب. فتارةً المصائب، وأخرى اضطهاد العدو، ومرّةً عجز الإنسان وعدم حيلته، يُحدث في قلب المرء هيجانًا غير عادي للدعاء الذي يستنـزل رحمة الله من السماء. وهذا يعني أن صفات الله تعالى إنما تظهر نتيجة بعض الحوافز المعينة. وأما الحافز الذي كان وراء نـزول رحمة الله على زكريا فقد ذُكر في الآية التالية حيث قال الله تعالى إذْ نادى ربَّه نداءً خفيًّا .. أي أن نداء زكريا ربَّه هو الذي جلب لـه الرحمة الإلهية التي لا تنـزل إلا على الخدام المخلصين.

لقد سبق أن سجلتُ معاني عديدة لكلمة نادى[، ومنها صاحَ به، ولكن هذا المعنى لا ينطبق هنا لأن الله تعالى قد صرح هنا أن هذا النداء كان نداءً خفيًّا . فلا بد من أن نأخذ معنى آخر وهو أنه باحَ بسرّه لربّه بصوت خفي. (يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك