البيعة الصادقة والبيع الرابح

البيعة الصادقة والبيع الرابح

ريم إبراهيم

  • ما المفهوم الشرعي للبيعة؟
  • كيف للمبايع أن يحقق الربح في بيعه؟
  • كيف يمكن أن يبوء البيع بالخسارة لا قدر الله؟

 ___

قصة مصطلح

لفظ «البيعة» من الألفاظ العربية ذائعة الصيت والحاملة للعديد من الدلالات التي يحددها السياق الذي قيل هذا اللفظ فيه. وهو وإن كان اليوم يبدو مصطلحا إسلاميا عريقا، إلا أنه يرجع إلى تاريخ سابق للدعوة الإسلامية بأكثر من قرن من الزمان، وتطورت استعمالاته اللغوية حتى وصل إلينا بمعناه المتداول حاليا، فما قصة تطور معنى هذا المصطلح؟

فإذا أردنا تحديد عمر هذا اللفظ وتاريخ استعماله لرصدنا أول استعمال له في كلام العرب في الجاهلية كان قبل الهجرة النبوية بنحو 134 عاما، وحمل معنى التعاهد بين طرفين، وهذا مما يُنسب إلى كليب بن ربيعة التغلبي من شعر قال فيه:

أبا النصر بنَ روحانٍ خليلي

أُقيلت بيعةُ المتبايعينا (1)

وبمضي الوقت، ومع اقتراب عصر الهداية بنزول رسالة الإسلام، اتخذت البيعة معنى الصفقة على إتمام البيع، وذلك مما يُنسب إلى حاتم الطائي من قوله:

فَلَوْ كَانَ مَا يُعطِي رِيَاءً لَأمْسَكَتْ

بِهِ خَبَنَاتُ اللؤمِ يجذبنه جذبا

.

ولكنما يبغي به اللهَ وحدَهُ

فأعْطِ فَقَدْ أربَحْتَ في البيعةِ الكَسْبَا(2)

ثم بحلول عصر الهداية النبوية، وبعد الهجرة بنحو أحد عشر عاما، يرد لفظ البيعة في الحديث النبوي، ليكتسب دلالة روحانية عالية، فيما رواه ابن عمر من قول النبي :

«مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ مَاتَ وَلَا حُجَّةَ لَهُ وَمَنْ مَاتَ وَقَدْ نَزَعَ يَدَهُ مِنْ بَيْعَةٍ كَانَتْ مِيتَتُهُ مِيتَةَ ضَلَالَةٍ»(3)

وخلال عصور الإسلام المتعاقبة، تناول مصطلح «البيعة» علماء أفذاذ بالشرح والتعريف، فعرفها ابن خلدون في المقدمة بأنها: «… العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره.»(4)

وكثيرا ما كان النبي يعبر عن معنى «البيعة» كما نتداوله الآن، بلفظ «الصفقة»، من ذلك ما رواه أحمد في مسنده عن النبي أنه قال:

«الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي بَعْدَهَا كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا قَالَ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَالشَّهْرُ إِلَى الشَّهْرِ يَعْنِي رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا قَالَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ قَالَ فَعَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ حَدَثَ إِلَّا مِنْ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَنَكْثِ الصَّفْقَةِ وَتَرْكِ السُّنَّةِ .قَالَ: أَمَّا نَكْثُ الصَّفْقَةِ أَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا ثُمَّ تُخَالِفَ إِلَيْهِ تُقَاتِلُهُ بِسَيْفِكَ وَأَمَّا تَرْكُ السُّنَّةِ فَالْخُرُوجُ مِنَ الْجَمَاعَة.ِ»(5)

فالبيعة صفقة إذن وهكذا سماها النبي لأنها معاهدة تشبه الصفقة المالية، كما في قول الله عز وجل:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ . (6)

وفي سياق متصل بمعنى البيعة في قول الله تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (7)،

يقول حضرة المسيح الموعود : «البيعة تعني أن تبيع نفسك بالفعل. وتستند بركاتها وتأثيرها على هذا الشرط. تماماً كما تزرع البذرة في الأرض، فشرطها الأصلي يد المزارع الذي زرعها، لكن ما سيحدث لها غير معروف. إذا كانت البذرة ذات نوعية جيدة وتمتلك القدرة على النمو، فبنعمة الله سبحانه وتعالى ونتيجة لعمل المزارع تنمو حتى تتحول الحبة الواحدة إلى ألف حبة. وبالمثل، يجب على الشخص الذي يقوم بالبيعة أن يتحلى أولاً بالتواضع وأن ينأى بنفسه عن غروره وأنانيته، فيصبح صالحاً للنمو. لكن الذي يستمر في التمسك بغروره بعد مبايعته، لن ينال أي نعمة (8).

ذو البجادين بيعة صادقة وبيع رابح!

كتب السير ملأى بقصص أناس صدقوا البيع فربحوا التجارة، وانطبق عليهم قول الله عز وجل:

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (9)،

من هؤلاء الرجال عبد الله ذو البجادين والذي لم يعمر طويلا، ولكنه يعتبر ممن أحرزوا الربح الحقيقي من بيعتهم. وكان قد أسلم متأخرا، ومع هذا غبطه الصحابة المتقدمون في الإسلام!

كان عبد الله ذو البجادين من مزينة، مات أبوه وهو صغير فلم يورثه شيئًا، فأخذه عمه وكفله حتى كان قد أحرز الثراء، وكانت له إبل وغنم ورقيق. فلما قدم رسول الله ، المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عليه من عمه، حتى مضت السنون والمشاهد كلها، فانصرف الرسول من فتح مكة راجعا إلى المدينة. فقال عبد الله ذو البجادين لعمه: «يا عم قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدا، فائذن لي في الإسلام، فقال: والله لئن اتبعت محمدا لا تركت بيدك شيئًا كنت أعطيتكه إلا انتزعته منك حتى ثوبك. فقال: «وأنا والله متبع محمدًا، ومسلم وتارك عبادة الحجر والوثن، وهذا ما بيدي فخذه، فأخذ كل ما أعطاه حتى جرده من إزاره، فجاء أمه فقطعت بجادًا، وهو كساء غليظ جافٍ، فاستتر به، ثم أقبل إلى المدينة، وشق بجاده نصفين، فاتزر بواحد واشتمل بالآخر، واضطجع في المسجد، ثم صلى مع رسول الله الصبح. وكان الرسول يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه فأنكره، فقال «من أنت؟» فانتسب له، فقال: «أنت عبد الله ذو البجادين!» ثم قال: «انزل مني قريبًا» فكان في أضيافه يعلمه القرآن، حتى قرأ قرآنًا كثيرًا. وكان صوته قويًا، فكان يقوم في المسجد فيرفع صوته في القراءة، فقال عمر: يا رسول الله ألا تسمع هذا الأعرابي يرفع صوته بالقرآن حتى قد منع الناس القراءة؟ فقال رسول الله : «دعه يا عمر: فإنه قد خرج مهاجرًا إلى الله وإلى رسوله.» (10) فلما خرج الرسول إلى تبوك قال: يا رسول الله، ادع الله تعالى لي بالشهادة، فقال: «اللهم إني أحرم دمه على الكفار» فقال: يا رسول الله، ليس هذا أردت فقال رسول الله: «إنك إذا خرجت غازيًا في سبيل الله فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، وإذا وقصتك دابتك فأنت شهيد لا تبالي بأية كان»(11). فلما نزلوا تبوك أقاموا بها أيامًا، ثم توفي عبد الله ذو البجادين، فكان بلال بن الحارث المزني يقول: حضرت رسول الله ومع بلال المؤذن شعلة من نار عند القبر واقفًا بها، وإذا رسول الله في القبر، وإذا أبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: «أدنيا لي أخاكما» فلما هيأه لشقه في اللحد قال: «اللهم إني قد أمسيت عنه راضيًا فارض عنه»(12)، فقال ابن مسعود: «يا ليتني كنت صاحب اللحد».

إن وجود المنافقين إذن ليس علامة على ضعف الجماعة بل على قوتها في الواقع، فبسبب مخططاتهم ومكائدهم الشريرة يطهر الله قلوب كثيرة ويفصل الأشرار عن الأخيار. ألا نرى أن ظاهرة المنافقين لم تكن لتظهر في مجتمع المسلمين الأول في مكة، حيث الضعف البادي بحيث لا تتحمل تلك الجماعة الوليدة أية فتنة داخلية تعصف بها وتقتلها في مهدها، إنما بدأت الفتن تظهر في مجتمع المدينة، بعد أن استوى زرع جماعة المؤمنين على سوقه.

متى يبوء البيع بالخسارة؟!

تعسا للمنافقين، الذين يتشدقون دائما بالسعي للإصلاح ونبل الغاية، بينما تنطوي كل أفعالهم على الفساد، وهذا النموذج الكريه من الناس معروف ومكشوف، تعرفهم من قول الله تعالى:

، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (13).

في بادئ الأمر يطلق هؤلاء التعساء مزاعم الدعوة للإصلاح، ويكيلون الافتراءات والاتهامات الباطلة للمؤمنين رجالا كانوا أو نساء، فيعاقبهم الله على فعلتهم هذه بأن يستدرجهم إلى حتفهم، بحيث يسيئون إلى رجال الله الأطهار، فيتطاولون على نظام الخلافة، فخليفة المسيح، ثم المسيح نفسه، ومن هؤلاء من سدر في غيه ووقاحته فأساء إلى الله ورسوله بمجاولاتهم العابثة الحد من سلطة الخلافة بما يتفق مع أهوائهم، كل مرة كان الله تعالى يتدخل بنفسه لإفشال مخططاتهم وإحباطها، ومن ثم الكشف عن وجههم الحقيقي القبيح.

إن المنافقين ومذبذبي الإيمان، الذين ينتظرهم سخط الله ما لم يبادروا بإصلاح عيبهم القاتل هذا، فإنهم حتى لو كانوا يستظلون بظل الإيمان أو في ظل جماعة مؤمنين قوية بفضل نظام روحي رباني، فإن هذا الظل لن يغني عنهم شيئا (14)، وفي هذا المقام تصرح الآية القرآنية:

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (15)

إن وجود المنافقين ومثيري الشغب أمر لا مفر منه في كل جماعة من المؤمنين منظمة تنظيماً جيداً. إذ يجد الفاسدون ومثيرو الشغب، بسبب أسسها الصلبة، صعوبة في مغادرتها. لذلك، يظلون داخلها ويواصلون أنشطتهم الشائنة سراً.

إن وجود المنافقين إذن ليس علامة على ضعف الجماعة بل على قوتها في الواقع، فبسبب مخططاتهم ومكائدهم الشريرة يطهر الله قلوب كثيرة ويفصل الأشرار عن الأخيار. ألا نرى أن ظاهرة المنافقين لم تكن لتظهر في مجتمع المسلمين الأول في مكة، حيث الضعف البادي بحيث لا تتحمل تلك الجماعة الوليدة أية فتنة داخلية تعصف بها وتقتلها في مهدها، إنما بدأت الفتن تظهر في مجتمع المدينة، بعد أن استوى زرع جماعة المؤمنين على سوقه. فالفتن من هذا المنظور تعتبر علامة على نضج المجتمع، وحيثما نرصد فتنة ما، أيًّا كان صنفها، فهذا علامة نضج ونمو، وبالطبع هذا لا ينفي مساوئ الفتن، ولكن مساوئها لا تُلغي ضرورتها، وهذا هو المسلك الإسلامي المتزن في وصف وتقييم الأمور. (16)

الهوامش:

1. علي أبو زيد، شعراء تغلب في الجاهلية.. أخبارهم وأشعارهم، ج2، ص134، ط1، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1421هـ/ 2000م

2. يحيى بن مدرك (حاتم بن عبد الله الطائي)، ديوان شعر، برواية هشام بن محمد الكلبي، تحقيق: عادل سليمان جمال، مكتبة الخانجي، القاهرة

3.(مسند أحمد, كتاب مسند المكثرين من الصحابة)

4. عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة

5. (مسند أحمد, كتاب باقي مسند المكثرين)

6. (التوبة: 111)

7. (البقرة،: 208)

8. (الملفوظات، ج6، ص173)

9. (الأحزاب: 24)

10. ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، المجلد الثالث، سنة 9 هـ، ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر، 128- عبد الله بن عبد نهم.

11. المرجع السابق

12. المرجع السابق

13. (البقرة، الآية 12)

14. الولاء الحقيقي مقابل النفاق

15. (البقرة: 211)

16. افتتاحية مجلة التقوى، “الفتن وميزان العالم”، عدد فبراير 2022

Share via
تابعونا على الفايس بوك