أين نحن من مقاساته؟!

أين نحن من مقاساته؟!

ريم إبراهيم

  • مآس منذ الطفولة
  • رعاة الدنيا يتساقطون واحدا تلو الآخر
  • مصابُه أبًا
  • وحين ازدراه مجتمعه
  • سلاح دفاعه الوحيد
  • مقاساته في المهجر أيضا

 __

مآس منذ الطفولة

هل ذقتَ مرارة اليتم؟ هل ماتت أمك أمام ناظريك وسط الصحراء وتعيّن عليك دفنها بيديك؟ هل فقدت أحبتك؟ هل جُوّعت؟ هل اضُطهدت؟ هل عُذبت؟ هل رُشقت بالحجارة؟ هل قُتل أحبتك أمام ناظريك؟ هل مات أولادك بين ذراعيك؟ هل حيكت المؤامرات لقتلك؟

ولو حدث لك شيء من هذا القبيل، هل صبرت؟ وهل سجدت باكيًا على عتبات الله حتى كدت تقتل نفسك من شدة الحزن على حال من قتلوا أحبتك وعذبوك، ودعوت لهم بالخير والهداية؟ هل تعرف أحدًا مرّ بكل هذا وأكثر؟؟

رعاة الدنيا يتساقطون واحدًا تلو الآخر

كانت أمه حاملًا به وزوجها مسافر.. لكن الزوج مرض في الطريق فلجأ إلى أخواله في المدينة وهناك فَارقَ الحياة قبل أن يكحل ناظريه بمرأى ابنه.. وقبل أن يستمتع الولد بحنان أبيه.

حين وصل الطفل السنة السادسة من عمره، قامت والدته بزيارة المدينة وأخذته معها إلى أخوال أبيه، ولزيارة قبر والده للمرة الأولى ورافقتهما في هذه الرحلة جاريتها، أم أيمن، لتقوم برعايته.

بعد البقاء في المدينة لمدة شهرٍ تقريبًا، قررت أمه العودة إلى مكة، وعندما وصلوا الى مكان يسمى الأبواء، على منتصف الطريق إلى مكة، مرضت الأم ووقعت على الأرض فحاولت الجارية رفعها فرفعت الأم كفيها تريد أن تضم ولدها لكنها فارقت الحياة قبل أن تتمكن من احتضان فلذة كبدها. فأخذت الجارية تمسح رأس اليتيم الصغير، ثم قالت له ساعدني نحفر قبر أمك.. فساعدها في الحفر وهو يبكي.. ولما انتهيا من الدفن أمسكت بيده ليغادرا، لكنه ظلّ يلتفت نحو القبر ويقول «أمي.. أمي».

وعاد اليتيم إلى مكة وعاش في كنف جده.. لكن الجد انتقل إلى الرفيق الأعلى لما كان عمره ثماني سنوات فقط، فوقف الطفل عند أقدامه يبكي.. ثم انتقل للعيش مع عمه كثير العيال، فقير الحال فكان يستحي حتى أن يأكل، فإن لم تعطه زوجة عمه الطعام بنفسها كان لا يمد يده إليه أبدًا.. وبقي عند عمه سبعة عشر عامًا، شبّ خلالها متمتعًا بأعلى درجات الأخلاق والأمانة..

مصابُه أبًا

ذات يوم سافر في قافلةٍ تجارية لسيدة أعمال مرموقة في مكة وعاد بربحٍ وفير، فسألت غلامها الذي رافقه في الرحلة عن ذلك فأخذ يعدّ لها ويعد ما رآه من هذا الشاب من أخلاقٍ وأمانة فأعجبت هذه السيدة الفاضلة بأخلاقه وتمنته زوجًا لها وأسرّت بذلك لصديقتها التي ذهبت إليه وسألته «لم لا تتزوج خديجة؟» فقال «ليس كمثلها نسبًا وشرفًا لكني فقير الحال» فقالت له صديقتها «أنا سأقنعها». وبالفعل تم هذا الزواج المبارك وصارت له نعم الزوجة وصار لها نعم الزوج..

وَلدت خديجة له القاسم الذي توفي عن عمرٍ يناهز السنتين ثم ولدت 4 بنات.. ثم ولدًا آخر سمي عبد الله وقد توفي في المهد.

وحين ازدراه مجتمعه

بعد حوالي 15 سنة من هذا الزواج المبارك كُلف هذا الإنسان العظيم الذي كان يسمى في قومه «الصادق الأمين» بالنبوة.. فتناسى القوم أفضاله وشمائله، وأرغوا وأزبدوا، وأبرقوا وأرعدوا، وثاروا يريدون قتله، ثم حاصروه وأتباعه في وادٍ قطعوا فيه عنهم الطعام والشراب لمدة ثلاث سنوات تقريبًا. وبعد رفع الحصار بمدة قصيرة فارقت زوجته العزيزة وعمه الحبيب الحياة في عامٍ سُمي بعام الحزن. وبلا أدنى شك قد تدهورت صحتهما بسبب المعاناة التي قاسياها مع الآخرين في فترة الحبس الطويلة هذه.

عندما كُلف بالنبوة آمنت به زوجته وبناته فورًا وكانت ابنته الكبرى زينب متزوجة من ابن خالتها أبي العاص الذي لم يؤمن بدايةً، فطلب منه قومه تطليقها ليزوجوه إحدى بناتهم لكنه رفض استبدالها بنساء الأرض.

اشتد اضطهاد المعارضين وعُذب أتباع النبي وقتلوا تقتيلًا.. وحتى هو لم يسلم، فذات يوم بينما كان ذاهبًا إلى منزله، رمى أحدهم التراب على رأسه، فسارعت إحدى بناته لما رأت حالته عند وصوله إلى البيت، وأحضرت الماء وغسلت رأسه الشريف وهي تنتحب بمرارة، فطيب خاطرها قائلاً: «لا تبك يا بنيتي إن الله ناصرٌ أباك». وفي إحدى المرات قام أحدهم برمي أمعاء جمل ذبح للتو على كتفيه بينما كان ساجدًا في فناء الكعبة، ولم يستطع النهوض حتى جاءت ابنته فاطمة، عندما علمت بالحادث، وأزالت عنه هذه القاذورات. ومرة أخرى وهو في الكعبة يصلي أيضًا، جاء أحدهم إليه وحاول خنقه، فجاء صديقه أبو بكر ودفع عنه المهاجم وقال

«أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ».

وقام قومه بعرقلة جهوده في تبليغ الرسالة، حتى أن أحد أعمامه قد كرس نفسه لملاحقته في كل مكان لإخبار الناس أن لا يهتموا بما يقوله مطلقًا لأنه صابئ خارج عن دين آبائه، وأنه يسعى إلى تضليلهم فحسب. وعندما وجدوا أن قريبه القريب يصفه بالكاذب، نفروا منه وابتعدوا عنه وفي بعض الأحيان سخروا منه وضحكوا عليه.

سلاح دفاعه الوحيد

لم يكن بيده سوى الدعاء وحثِّ أتباعه على التمسك بأهداب الصبر.

ثم قرر الذهاب إلى بلدة تسمى الطائف لنشر رسالة وحدانية الله. وهناك دعا قادتها الواحد تلو الآخر، ولكنهم نبذوه وسخروا منه، وحرضوا الرعاع لطرده خارج المدينة فشتموه ورشقوه بالحجارة والدم يتدفق من قدميه الشريفين.

فلجأ منهكًا ومثخنًا بالجراح إلى أحد البساتين، وهناك استراح تحت كرمة عنب والتجأ إلى الدعاء وقال:

«اللهم إني أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين؛ أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يتجهّمني أم إلى عدوّ ملّكتَه أمري؟ اللهم إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، وعافيتك أوسع لي من ذنوبي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقَتْ له الظلماتُ، وصَلُح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غَضَبَك، أو تُحِلّ علي سَخَطَك، اللهم لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.»

وفجأة ناداه جِبْرِيل وَقَالَ:

إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَاه مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عليه ثُمَّ قَالَ له «إِنْ شِئْتَ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ»، فَقَالَ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»‏.

مقاساته في المهجر أيضًا

كل سلسلة المقاساة السابقة أفضت إلى حدث غيـَّر مجرى التاريخ، إذ أمره الله وأصحابه بالهجرة إلى المدينة، وهناك انتُخب من قبل جميع الأطياف رئيسًا للمدينة، فأسس دولة قوامها السلام والوئام والحرية الدينية.. لكن أعداءه لم يتركوه وشأنه ولحقوا به في عقر داره وأرادوا القضاء عليه وعلى أتباعه وحرضوا الناس داخل وخارج المدينة ضده!

اشتد اضطهاد المعارضين وعُذب أتباع النبي وقتلوا تقتيلًا.. وحتى هو لم يسلم، فذات يوم بينما كان ذاهبًا إلى منزله، رمى أحدهم التراب على رأسه، فسارعت إحدى بناته لما رأت حالته عند وصوله إلى البيت، وأحضرت الماء وغسلت رأسه الشريف وهي تنتحب بمرارة، فطيب خاطرها قائلاً: «لا تبك يا بنيتي إن الله ناصرٌ أباك».

كانت ابنته الثانية رُقَيَّة قد تزوجت من عثمان بن عفان فاضطرا تحت الاضطهاد في مكة إلى مفارقة الأهل والهجرة إلى الحبشة وهناك أنجبا ابنهما عبد الله الذي توفي في المدينة وعمره ست سنوات.. فهل كان عبد الله أول وآخر حفيد يموت له؟

بدأت الحروب تشن عليه واحدة تلو الأخرى، واستشهد عددٌ من أتباعه وأحبائه، وفي إحدى هذه الحروب أصيب وشُج وجهه الشريف وكُسرت رباعيته. وذات مرة خطط أعداؤه لرمي صخرة عليه وقتله.

وعلى الرغم من كل ذلك، لجأ إلى الله تعالى داعيًا إياه بكل حرقة وألم أن يهدي أعداءه ويصلحهم، تمامًا كما تدعو الأم الرؤوم لأولادها.. حتى قال الله له

«لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».

في أول معركة خِيضت ضده، وقع صهره أبو العاص من بين أسرى العدو، وعندما أرسل قومه بعض الرجال لدفع فدية الأسرى، بعثت زينب قلادة لها لفديته ولكن هذه القلادة كانت قد أهديت لها من قبل والدتها السيدة خديجة عند زواجها. وعندما رأى والدها هذا التذكار المؤثر من زوجته الحبيبة، تأثر كثيرًا واغرورقت عيناه بالدموع وقال لأصحابه: «إن رأيتم أن تُطْلقوا لها أسيرها، وتردوا إليها هذه القلادة فافعلوا» فوافق الجميع، ولكن النبي طلب من أبي العاص شرط حريته أن يرسل زينب للمدينة فور وصوله. وبالفعل، قام لدى عودته إلى مكة بإركابها في هودج على ناقة وإرسالها للمدينة تحت رعاية أخيه كنانة.. لكن أعداء أبيها قاموا باعتراض طريقها، وضرب أحدهم ناقتها بحربته، فسقطت عَلَى صخرة فسالت منها الدماء حيث أنها كانت حاملًا فأجهضت. وبعد بضعة أيام أخرجها كنانة ليلًا فوصلت للمدينة سالمة لكن صحتها بدأت تتراجع بسبب هذه الحادثة التي تعرضت لها ولم يزل بها المرض إلى أن توفيت بعد بضع سنوات.

أُسر زوجها مرة أخرى في المدينة فأجارته فعاد لقومه وأعلن إسلامه، ثم هاجر للمدينة والتحق بزوجته التي أنجبت منه ولدًا وبنتًا.. مرض الابن الصغير وصار يحتضر فأرسلت أمه في طلب والدها، فحضر ومات حفيده بين يديه فبكى عليه بكاء رحمة. ثم توفيت ابنته بعد فترة تاركة ابنتها الصغيرة أمامة تحت رعاية جدها الحنون.

أما ابنته الثانية رُقَية فقد كانت مريضةً وهو على وشك الخروج لحربه الأولى، فبقي زوجها معها يـُمّرضها، فماتت ودُفنت ووالدها في المعركة يدافع عن وطنه ويرسي دعائم الحرية الدينية. حزن عثمان على زوجته وعلى انقطاع النسب بينه وبين حبيبه وسيده ولكنه بعد فترة بشره وقال

«إنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَكَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ عَلَى مِثْلِ صُحْبَتِهَا»

فكان نعم الزوج لأم كلثوم أيضًا.. لكنها ماتت بعد عام واحد ولم يبق لوالدها سوى فاطمة التي أنجبت ولدين.. الحسن والحسين.. فواهًا للحسين..

لقد كان جده ذات يومٍ في بيت زوجته أم سلمة وكان الحسين جالسًا في حجره، والجد يبكي ويمسح على رأس الصبي فسألته زوجته ما الخطب؟ فأجابها أن جبريل أخبره أن قومه سيقتلونه في مكان يسمى كربلاء.

وبالمثل، قد أُخبر من الله أيضًا أن أمته ستنقسم من بعده إلى بضعٍ وسبعين فرقة كلها إلى النار ما عدا واحدة، وأن الأمم ستتداعى على أمته كما تداعى الأكلة على قصعتها. وأُخبر كذلك أن الفتن ستحل بها من كل حدبٍ وصوب.

بعد فترة قصيرة من زواجه من السيدة مارية، أنجبت له ابنه الثالث، إبراهيم، الذي أدخل السرور والحبور على قلب أبيه حيث كان قد فقد جميع أبنائه وبناته ما عدا فاطمة، فصار يمر كل يوم على مارية ليرى إبراهيم ويلاعبه ويلاطفه. وللأسف، مرض إبراهيم قبل أن يكمل عامه الثاني، وذات يوم اشتد مرضه، فرفعه والده وهو ينازع ثم مات بين يديه الشريفتين. فبكى الوالد ثم قال: «إن العينَ لتدمع وإن القلبَ ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون.»

نعم إن العين لتدمع.. وإن القلب لينفطر ألمـًا كلما قرأنا  كم عانى هذا الرجل العظيم، أكمل خلق الله تعالى، من أجل أن يقدم لنا أسوته الحسنة وكي يمهد لنا طريق الخلاص والفلاح.

فهل عرفتموه؟

إذن، صلوا عليه وسلموا تسليمًا.

Share via
تابعونا على الفايس بوك