دحض شبهة سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم

دحض شبهة سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم

شكور علي

  • اللغة تضع حدودا واضحة لمعاني السحر
  • الخلفيّة التي ارتكز عليها القول بسحر النبي
  • بت المسيح الموعود في قضية السحر بنموذج عملي

__

تقول الحكمة أن المرء كلما تعاظم نجاحه كثر كارهوه وحساده، وأنبياء الله تعالى بهذا الصدد، هم أكثر النَّاس تحملًا لأذى كارهيهم ممن تولاهم الشَّيطان، وعلى رأس قائمة الأنبياء، يتربع النبي الخاتم محمد سيِّدًا لبني آدم وأسبقهم في كل مواطن الخيرات، فلا غرابة في أن يتلقى كذلك أكبر قدر من سهام الاستهزاء والافتراء، بيْدَ أن أخطر تلك السهام ما يعيد محبوه رميه عليه، بدعوى العلم والتفقه في الدين! ليصدق ها هنا المثل القائل بأنَّ «زَلَّةَ الرَّأي تُنْسيِ زَلَّةَ القَدَمِ» (1)

القضية

والرسول بقلبه الصَّافي كان مهبط تجليات الله تعالى، وكان من القوة القدسية بحيث استطاع أن يحمل ذلك القول الثَّقيل وتلك الأمانة التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها، ناهيك عن مكانته السماوية في التوكل والتوحيد، لذلك فإن الظن بأن رسول الله قد تعرض لسحر ما، لهو ظن سخيف يرفضه الطبع السليم رفضًا باتًّا.

ورد في بعض الروايات أن بعد صُلح الحديبية تمكن رجل يُقال له لبيد بن الأعصم من سحر رسول الله . وكانت وسيلته أنْ عَمِدَ إلى شيء من شعره ، فعقد فيه عُقدًا وتفل فيه تفلًا، ثم جعله في بئر، وتذكر الروايات أن الرسول بقي تحت تأثير هذا السحر أيّامًا مهمومًا مضطربًا، وكان مما انتاب حضرته في هذه الفترة، بحسب الروايات، كثرة النسيان، كرواية البخاري:

«سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ…» (2)

أتُقبل الروايات على علاتها؟!

لو قبلنا هذه الروايات على علاتها لبدا لنا أن الرسول شخصية واهنة لدرجة يتمكّن كل عدو من التأثير عليه ويصنع به ما يشاء بالسحر. ويكون للأعداء مقدرة للسيطرة على قلبه الطاهر وذهنه الصافي عن طريق شعوذتهم بينما النبي – والعياذ بالله – يكون عديم الحيلة أمام سحرهم. وعن الاستمداد بالشيطان ضد أحد، فهو أيضًا أمرٌ مردود وغير مقبول في شخصية الرسول الذي هزم الشيطانيات لدرجة أن شيطانه قد خضع وأسلم له إذ لـمَّا استفسرت السيدة عائشة رضي الله عنها من المصطفى :

«يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟  قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ» (3)

وبالتالي فإن القول بأنه كان يومًا ما عرضةً لسحر شيطاني أتى به يهودي أو غيره، هو قول واهٍ.

القرآن المجيد يَدحض الفرية بقوة

يقول الله تعالى:

… وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (4)

فالسحر عمل الشيطان وأتباعه. أما أصفياء الله فقد تكفل الله بحمايتهم:

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (5)

ويقول عن السحرة ضد الأنبياء:

لَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (6) و وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (7)

فمهما حاول السَّحرة فلن تفلح مكائدهم ضد الأنبياء. ولقد أنكر القرآن بشدة تعرض رسول الله للسحر يومًا، بل وصف بـ «الظالمين» من كانوا ينادونه بـ «المسحور»، فذكر:

إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا 8).

وبهذا فالقرآن يدحض حدوث السحر على شخص النبي محمد . فيقول إن السحرة لا يفلحون أمام الأنبياء، ويحكم بأن وصفه بالمسحور ظلم واعتداء.

ماذا فعل البخاري؟! وكيف أسأنا الفهم؟!

لقد أورد البخاري قصة السحر المزعومة هذه في صحيحه، وأشار إلى نكات لطيفة، أولها إيراد الرواية في كتاب الطب، إشارة منه إلى أن الحادث مرض وليس ذلك السحر الذي يعني به العامة المس الشيطاني، (ب) وأتى مع ذلك في نفس الباب من كتاب الطب بآيات قرآنية نحو:

وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (9) وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (10)

الخلفيّة التي ارتكز عليها القول بسحر النبي

أورد في طبقاته حادثة السحر هذه ذاكرًا أن الرسول غادر المدينة في ذي القعدة في العام السادس الهجري إلى مكة المكرمة بقصد العمرة بعد رؤيا رآها، لكن مشركي مكة حالوا بينه وبين دخولها. فتصالح مع الكفار ورجع من الحديبية إلى المدينة في ذي الحجة. وذكر أن حادثة السحر المزعومة قد حدثت بُعيد ذلك في العام السابع الهجري، فقال: «ثم رجع رسول الله من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم، جاءت زعماء يهود إلى لبيد بن الأعصم، وكان ساحرًا، فقالوا له: يا أبا الأعصم، أنت أسحَرُ منا، وقد سحرنا محمدًا، فسحره منا الرجال والنساء، فلم نصنع شيئًا… ونجعل لك على ذلك جُعلاً على أن تسحره لنا سحرًا ينكؤه. فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله » (11).

أعداء النبي بطبعهم مستعجلون، وهم يتحينون مثل هذه الفرص للتّشفّي، حتى إن بعضهم لدى سماعهم آية سورة الفتح قالوا مستهزئين: أيُّ فتح هذا؟! فالعدو هو الذي يفرض عليه الشروط القاسية! فكان وقع هذا القول على المسلمين شديدًا. تزامن ذلك مع إصابته بمرض عضوي استدعى استعمال الحجامة. فالمرض وما رافقه من ضعف نتيجة الحجامة، مع الهموم الناتجة عن ردِّ فعل المسلمين بعد الحديبية، كل ذلك جعله ينسى بعض الأحيان. وإنه لمن البديهي أن حدوث السهو والنسيان في أمور الحياة اليومية البسيطة جراء الانهماك في المسائل الدقيقة للغاية هو أمر لا يخالف الفطرة الإنسانية، فلا غرابة في ذلك مطلقًا. وهذا ما حدث تمامًا مع النبي ، ولكن الأشرار نسبوه إلى تأثير مزعوم بالسحر.

وعلى أية حال، فإن قول الرسول نفسه الوارد في هذه الرواية أيضًا يزيل كل التباس، ويؤكد على أنَّ الأمر برمته كان مرضًا عضويًّا عاديًّا، حيث ذكر ابن حجر في شرحه للبخاري قول ابن القصّار التالي: «الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث ما يؤكد أن الأمر كان مرضًا لا سحرًا»(12)

جلال المعوذتين

لقد تحدث مولانا نور الدين الخليفة الأول لحضرة المسيح الموعود والإمام المهدي في تفسير سورة الفلق عن سند رواية البخاري السالفة قائلًا: «لقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه السورة أنَّ يهوديًّا سحر رسول الله ، فعلّمه الله هذا الدعاء للوقاية من شرِّ أمثال السَّاحر المذكور، فلو ألقينا النَّظر على هذه الواقعة في الأحاديث لبدا لنا أن «هشام» راوي هذا الحديث قد تفرد بهذه الرواية، بينما كان ينبغي لمثل هذه الواقعة الكبيرة أن يذكرها الآخرون أيضًا.(13)

ثم إن الأسلوب العربي يسمح بإطلاق اسم العمل على مجرد محاولة القيام به. وأمثلته كثيرة، منها أن القرآن الكريم قد وصف بالقتل محاولة الأعداء لقتل أنبيائهم وذلك لأنهم لم يتمكنوا في واقع الأمر من قتل الأنبياء وإنما محاولاتهم للقتل وُصفت بالقتل. فلا شك أنَّ اليهود قد قاموا بالسحر، إلا أنهم لم يفلحوا في سحر النبي. وفي رواية السحر نفسها قد ذكرت مساعيهم الفاشلة، كما أسلفنا في رواية ابن سعد قولهم: «يا أبا الأعصم، أنت أسحَرُ منا، قد سَحَرْنا محمدًا، سَحَرَه منا الرجالُ والنساء فلم نصنع شيئًا»، بمعنى أنهم حاولوا سحر النبي وفشلوا، وعصمه الله تعالى من شرورهم وأفشلهم في ذريعتهم فشلًا ذريعًا.

وقد يتبادر سؤال آخر وهو: كيف أجمع المفسرون على أن هذه الواقعة كانت سبب نزول المعوذتين؟

وجوابه أن هذا مجرد رأي المفسرين أنفسهم حيث يرونها سببًا لنزولهما، في حين أن الرسول لم يخبر أنه عُلِّم هاتين السورتين للوقاية من أثر السحر!

والحق أن هاتين السورتين تتضمنان ذكر التقدم الهائل للإسلام وكونه دينًا عالميًّا، كما تحتويان على التعليم الأساسي الذي يضمن العمل به استمرار هذا الرقي، ويحميه من حسد ومكائد ومؤامرات الأعداء، وربطُهما بهذه القصة المُفتعلة ليخالف عظمة القرآن. ثم إن وضعهما في آخر القرآن كان ضروريًّا لحفظ بركاته وأفضاله ويتضمن الإشارة إلى أن هذه الأقوام ستكون ممثلة للدجال في الزمن الأخير وستكيد ضد الإسلام المكائد الخطيرة. والسلاح الوحيد الذي أعطانا إياه القرآن الكريم هو الدعاء الذي نصحنا رسول الله باستخدامه ضد حبائل الدجال. وهاتان السورتان تحملان في طياتهما هذا العلاج.

ثم إن الأسلوب العربي يسمح بإطلاق اسم العمل على مجرد محاولة القيام به. وأمثلته كثيرة، منها أن القرآن الكريم قد وصف بالقتل محاولة الأعداء لقتل أنبيائهم وذلك لأنهم لم يتمكنوا في واقع الأمر من قتل الأنبياء وإنما محاولاتهم للقتل وُصفت بالقتل. فلا شك أنَّ اليهود قد قاموا بالسحر، إلا أنهم لم يفلحوا في سحر النبي.

حسم المسيح الموعود القضية

كان بعث المسيح الموعود في هذا العصر لإظهار الجمال الأخاذ للنبي الخاتم ، وبيان عصمته كما هو حقها، فكان من الطبيعي أن يتناول حضرته قضية السحر هذه بالتوضيح والتفنيد، ويُروى أنه سُئل ذات مرة عن رأيه في الروايات القائلة بسحر الكفار للنبي ، فأجاب: «إن السحر من عمل الشيطان، وشأن الرسل والأنبياء أرفع من أن  يؤثر فيهم السحر، بل وإن مفعول السحر ليضمحل بمجرد تواجدهم في مكان ما، كما قال الله تعالى:

لَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى

فانظروا إلى السحر الذي واجهه موسى . ألم ينتصر في آخر المطاف. ومن الخطأ تمامًا القول إنَّ السحر أثَّر على النبي . هذا ما لا يسعنا أن نقبله أبدًا. كما أننا لا نقبل كل ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم قبولًا أعمى. فهذا أمر مخالف لمسلكنا.

هذا وإن العقل هو الآخر لا يمكن أن يسلّم بأن السحر ترك أثرًا في مثل هذا النبي الرفيع الشأن .

وأما القول بأن ذاكرة النبي كانت قد ضعفت تحت تأثير السحر -معاذ الله- وحدث ما ينسبونه من بهتان، كل هذا لا يصح بأي صورة من الصوّر. ويبدو أن شخصًا خبيث الطوية قام بدسِّ هذه الأقاويل. وإنا ننظر إلى الأحاديث نظرة التكريم، ولكن كيف يمكن لنا أن نقتنع بحديث يعارض القرآن الكريم، ويخالف شرف النبي . والقول إن السحر قد ترك تأثيرًا في النبي الكريم – والعياذ بالله – قول يُضيع إيمان المرء. يقول الله تعالى

إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا

فالقائلون بمثل هذه الأقاويل ظالمون ومعتدون على شرف النبي . إنهم لا يفكرون أنه إذا كان هذا هو حاله فماذا عسى أن يكون مصير أمته؟ إنها تغرق لا محالة. لا أدري ما حل بهولاء الذين يتكلمون بهذه الكلمات في نبي معصوم ظل الأنبياء يعتبرونه منزَّهًا عن مس الشيطان»(14)

ففي ضوء هذه الأدلة والبراهين يمكن القطع يقينًا بأن شُبهة تأثير السحر على سيدنا محمد افتراء لا أساس له من الصحة. فلندرك تمامًا أن مثل هذه الافتراءات لم تُروَّج في حق النبي الخاتم وحده، بل كان لكل نبي منها نصيبٌ، غير أن خاتم النبيين تلقى من الافتراءات القسط الوافر من كارهيه، ثم بعد ذلك بعض محبيه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الهوامش:

  1. مثل يضرب في السقطة تحصل من العاقل الحازم، من كتاب «مجمع الأمثال» لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري.
  2. صحيح البخاري، كتاب الطب
  3. صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار
  4. (البقرة: 103)
  5. (الحجر: 43)
  6. (يونس: 78) 
  7. (طه 70)
  8. (الإسراء: 48)
  9. (البقرة: 103)
  10. (طه: 70)
  11. الطبقات الكبرى لابن سعد ج2
  12. فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر ج10
  13. حقائق الفرقان، المولوي نور الدين القرشي ج4 تفسير سورة الفلق
14. تفسير القرآن للمسيح الموعود، سورة طه، قوله تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى
Share via
تابعونا على الفايس بوك