أسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 

أسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ 

شكور علي

ورد في بعض الروايات أنه بعد صلح الحديبية تمكن رجل يقال له لبيد بن الأعصم من سحر رسول الله . فعَمِدَ إلى مُشْطٍ أو ما يُـمشَط به الرأسُ من الشعر، فعَقَدَ فيه عُقَدًا وتَفَلَ فيه تفلًا، ثم جَعَلَه في بئر. وتذكر الروايات أن الرسول  بقي تحت تأثير هذا السحر لعدة أيام، فظل حزينًا، مهمومًا ومضطربًا، وكان يكثر من الدعاء بسبب القلق.

كما تذكر الروايات أنه من أهم الأعراض التي طرأت عليه  في هذه الفترة: النسيان الشديد، حتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيءَ ولم يفعله، أو كان يرى أنه يأتي نساءه ولا يأتيهن، علمًا أنه كان من عادته المباركة أنه كان يأتي عند كل مساء إلى أزواجه واحدة بعد الأخرى ليتفقد أحوالهن حتى يصل إلى بيت زوجة سيبيت عندها. وفي نهاية المطاف كشَفَ الله عليه بواسطة رؤيا حقيقةَ هذا العمل الشنيع (السحر) (1)

ولو قبلنا هذه الروايات بحرفيتها لبدت لنا شخصيةُ رسول الله المبـاركة واهـنة لدرجة يمكن القول إنه كان بإمكان كل عدو شرير أن يؤثّر عليه ويصنع به  ما يشاء بواسطة سحره. كما كان للأعداء مقدرة على السيطرة على قلبه الطاهر وذهنه المنقطع النظير عن طريق شعوذتهم وسحرهم، بينما كان النبي – والعياذ بالله – يجد نفسه قاصر اليد وعديم الحيلة أمام سحرهم.

أما رسول الله   فكان قلبه الصافي  مهبط تجليات الله تعالى، وكان قويًّا لدرجة استطاع أن يحمل ذلك القول الثقيل وتلك الأمانة التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها…..

فقبل أن ندحض الشبهات والتهم التي تحوم حول هذا الحادث، نرى من الضروري أن نوضح أن لكل نبي صفتين، فمن جانب هو نبي الله ورسوله، ومن ثم يحظى بالمكالمة والمخاطبة الإلهية، ويُعتبر معلِّمًا لأتباعه في الأمور الدينية كما يكون أسوة لهم؛ ومن جانب آخر إنه بشر مثلهم وأحد من عامة الناس، ومن هذه الناحية يكون خاضعًا لكل ما يخضع له البشر جميعًا. كما يقول الله عز وجل:

  قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ (سورة الكهف:111)

 فيا حسرة على من يظن أن الأنبياء الكرام لا يخضعون لما يخضع له غيرهم من البشر من حاجات وأمراض وما إلى ذلك. إنهم يمرضون مثلما يمرض عامة الناس، ويتأثرون بالعوامل الطبيعية كما يتأثر بها جميع البشر. اللهم إلا أن يكون ثمة وعد خاص من الله تعالى لنبي من الأنبياء بالوقاية والحفظ من مرض معيّن على سبيل الاستثناء. لكن السحر ليس من قبيل الأمراض الطبيعية، وإنما هو عبارة عن إيقاع تأثير في قلب المرء أو ذهنه أو في حقلِ لاشعورِه بواسطة التنويم المغناطيسي، وهو ما يعرف بالسحر أيضا.

ولكي أُلقي مزيدًا من الأضواء سأعرض لكم فيما يلي معاني السحر العديدة الأخرى، فقد ورد في المعاجم العربية: سحَره: خدَعه. سَحَرَ الفضةَ: طلاها بالذهب. السِّحر: إخراجُ الباطل في صورة الحق.

السحر: ما يفعله الإنسان من الحيل. السحر: ما لطُف مأخذُه. السحر: ما يستعان في تحصيله بالتقريب من الشيطان. إن من البيان لسحرًا.

ويمكن أن نقسم أنواع السحر المذكورة إلى ثلاثة أقسام:

  1. الخداع والدجل والكذب.
  2. التنويم المغناطيسي.
  3. الاستمداد بالشيطان.

وبخصوص القسم الأول فقد استخدم كلٌ من الخداع والدجل والكذب ضد كل نبي، حيث خُدع الناس كذبًا، واستُخدمت الحيل الدجالية من أجل إبعاد الناس عن الأنبياء الصادقين. وهذا ما حصل بالفعل في حادثة السحر المزعومة التي نحن بصددها حيث أذاع أعداء رسول الله  شائعات عن مرضه وذلك للحيلولة دون تصديق الناس له .

أما السحر أو التنويم المغناطيسي، فإنه علم قائم بذاته، وحقيقة لا تُنكر. إلا أنه لا يمكن أن يتصور أنه يمكن أن يؤثر في رسول الله ، لأنه يؤثر فقط على ضعيفي القلوب حسبما قرره العلماء في هذا المجال. فقد قال العلامة ابن القيم: “وعند السَّحَرة إن سحرهم إنما يتم تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات. وهذا غالبًا ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي ومَن ضعُف حظًّا من الدين والتوكل والتوحيد” (2)

أما رسول الله فكان قلبه الصافي مهبط تجليات الله تعالى، وكان قويًّا لدرجة استطاع أن يحمل ذلك القول الثقيل وتلك الأمانة التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها، ناهيك عن مكانته السامية في التوكل والتوحيد.

وينقل العلامة الزرقاني في شرحه قول الإمام الرازي حيث يقول: لا يظهر تأثيره إلا على فاسق (3)

لذلك فإن الظن بأن رسول الله  قد تعرض مرة لسحر ما، لهو ظن مردود وسخيف يرفضه الطبع السليم رفضًا باتًّا.

أما الاستمداد من الشيطان ضد أحد، فهو أيضا أمرٌ مردود وغير مقبول فيما يتعلق بشخصية رسول الله ، الذي انتصر على القوى الشيطانية بصورة إعجازية حيث أن شيطانه قد أسلم. ومما لا شك فيه أنه أفضل الرسل، ولم ولن يتمكن أحد من تحطيم رأس القوى الطاغوتية كما فعل الرسول . فلا يجوز، أو بالأحرى، لا يصح القول بأنه  – والعياذ بالله – صار يوما ما عرضة لسحر شيطاني أتى به يهودي حقير. فحاشى لأكمل خلق الله أن يتأثر بهذا الفعل. فما هذه إلا فكرة سخيفة تناقض العقل الإنسانى.

ويقول سيدنا محمد المصطفى مخاطبا السيدة عائشة رضي الله عنها: “مع كل إنسان شيطان. قالت: ومعك، يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم” (4)

وبعد هذا التصريح الواضح الجلي إنه من السخف والتفاهة الظن أن أحدا من اليهود – الذين هم “المغضوب عليهم” حسب قول القرآن الكريم- قد استمد بشيطانه، وتمكن من سحر أعظم شخص عرفته الإنسانية سيدنا محمد المصطفى ، فبقي مهمومًا ومغمومًا ومريضًا تحت تأثير هذا السحر الشيطاني، نعوذ بالله من هذا السخف والهراء.

أو من الممكن أن الذين روت لهم أم المؤمنين عائشة هذا الأمر كانوا مطلعين على هذه الخلفية ويعرفون حقيقة الأمر، ومن ثم لم تر رضي الله عنها حاجةً أن تُردد أمامهم اسم اليهود الأشرار، وأما المتأخرون من الرواة فكانوا لا يعرفون خلفية هذه القصة فرووها دون أن يصرحوا فيها أنها كانت مكيدة وإشاعة من قِبل اليهود.

قرار القران المجيد

يقول القرآن الكريم …وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (البقرة: 103) أي أن السحر وتعليمه من عمل الشيطان وأتباعه. وأما عباد الله الأخيار فقد تحدى الله في شأنهم الشيطان قائلاً: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (الإسراء:66). ويقول فيما يتعلق باستخدام السحر ضد الأنبياء: لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (يونس: 78) ويقول: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (طه: 70) أي أن السحرة مهما حاولوا فإنهم لن يفلحوا إزاء الأنبياء. هكذا وبإيراد مثال نبي قد أنكر القرآن بشدة تعرُّض رسولِ الله لسحر ما، بل وَصَفَ بـ” الظالمين” مَن كانوا ينادونه بـ “المسحور”، فيقول: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (بني إسرائيل: 48). هكذا فإن القرآن يرفض إمكانية حدوث أي تأثير للسحر على شخص أكمل خلق الله سيدنا محمد المصطفى . فمن جانب يقول: إن الساحر لا يمكن أبدًا أن يفلح مقابل الأنبياء، ومن جانب آخر يرد الاعتراض عنه قائلا: إن تسميته بالمسحور ظلم واعتداء.

فإن حادث السحر- حسب  القرآن – ما هو إلا تهمة الظالمين. والحقيقة أن رسول الله لم يُسحَر مطلقًا، كما أن الله تعالى قد أنكر كونه مسحورا.

مذهب الإمام البخاري

وأورد الإمام البخاري هذه القصة المزعومة في صحيحه، وأشار إلى نكات لطيفة، فعلى سبيل المثال:

أ. أورد هذه الرواية في كتاب الطب، ليشير إلى أن ما حدث في الحقيقة كان مرضًا لا سحرًا.

ب. نقل الآيات القرآنية التالية في باب السحر من كتاب الطب في صحيحه:

* وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ * لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * أَفَتـَأْتُونَ السِّحْـرَ وَأَنْتُـمْ تُبْصِرُون .

* يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى

* وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ

* وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا

لقد أراد الإمام البخاري بسرد هذه الآيات في باب السحر أن يخبرنا أن أول ما ينبغي علينا فعله بهذا الصدد هو البحث في القرآن عن حقيقة السحر وقدره وفاعليته مقابل الأنبياء، ومن ثم علاج أولئك الذين يتعاطونه فيفسدون في الأرض ويحدثون الفتن. فلو قرأتم رواية السحر آخذين هذه الأمور بعين الاعتبار ستنكشف لكم الحقيقة ويتضح الأمر.

ثم أورد الإمام البخاري هذه الرواية في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده، وذلك ليشير إلى أن السحر إنما هو من أعمال إبليس وأوليائه. وفي موضع آخر أتى بهذه الكلمات: باب الشرك والسحر من الموبقات (كتاب الطب).

ويقول العلامة العيني شارح صحيح البخاري: “ذكر (أي الإمام البخاري) الكهنة والسحرة معًا لأن مرجع كل منهما الشياطين، وكأنهما من واد واحد”. (5) والشيطان وأولياؤه لا سلطان لهم على أنبياء الله تعالى حسب نص القرآن وبالتالي كان من المستحيل أن يتغلب أي شيطان أو يؤثر أي سحر على النبي ، حيث قد أقر اليهود أنفسهم بأنهم حاولـوا أن يسـحروه  ولكنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعًا.

اقرأ بتدبر الكلمات المائلة في الرواية المذكورة في العمود التالي من الطبقات لابن سعد.

الخلفية

لاستيعاب هذه الرواية من المفيد الاطـلاع على الخلفـية التي ذُكرت فيها حادثة السحر المزعومة. لقد غادر رسول الله  المدينة في ذي القعدة في العام السادس الهجري إلى مكة المكرمة بقصد العمرة بناء على رؤيا رآها، لكن مشركي مكة تعرضوا له في الطريق ولم يسمحوا له بدخولها. فتصالح مع الكفار ورجع من الحديبية إلى المدينة في الشهر القادم ذي الحجة. ويُذكر أن حادثة السحر المزعومة قد حدثت بُعيد ذلك في العام السابع الهجري. فقد ورد في الطبقات الكبرى لابن سعد كما يلي: “لما رجع رسول الله من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم، جاءت رؤساء يهود إلى لبيد بن الأعصم، وكان ساحرًا، فقالوا له: يا أبا الأعصم! أنت أسحَرُ منا، وقد سحرنا محمدًا، فسحره منا الرجالُ والنساء، فلم نصنع شيئا…ونجعل لك على ذلك جُعلًا على أن تسحره لنا سحرًا ينكؤه. فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسولَ الله .” (6)

وإن التأثيرات التي تركتها أحداث الحديبية في حضرته أنه:

لم يستطع حضرته في تلك السنة أداء العمرة التي كان قد خرج من أجلها بناء على اجتهاده، الأمر الذي أثر فيه كثيرا لعدم إدراكه مشيئةَ الله من الرؤيا. كما كان الصحابة هم الآخرون محزونين أشد الحزن من أجل شروط الصلح القاسية في الظاهر ولعدم تمكنهم من أداء العمرة في العام نفسه. فعلى الرغم من كون الصحابة رضوان الله عليهم يفدون الرسول  بنفوسهم ونفائسهم بمجرد إشارة منه إلا أنه حين أمرهم بذبح الأضاحي بموضع الحديبية لم يجدوا في أنفسهم مقدرة على أن يستجيبوا لأمره، لأن الصدمة كانت قد حزت في قلوبهم وهزّتهم، حتى اضطر الرسول لذبح قربانه لكي يذبح الآخرون. كما كان يخشى أن يتعرض ضعفاء الإيمان للابتلاء بسبب الصلح. فكان شديد القلق كي لا يتعثروا.

والمعروف أن الكفار والمنافقين كانوا سيغتنمون هذه الفرصة للطعن والتشنيع حتى قال بعضهم مستعجلا لدى سماع آيات إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا : أيُّ فتح هذا؟ فالعدو هو الذي يفرض عليه الشروط القاسية!! فكان وقع هذه الأمور على مشاعره  كبيرًا لدرجة كان من الطبيعي أن يصدر عنه بعض التصرفات التي تتجلى بها بشريته بوضوح، وكان لا بد أن تظهر صورٌ عملية لقوله تعالى لرسوله الكريم

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ .

عـلاوة علـى ذلـك فإن الروايـات تفـيد أن أصيب بمرض، واستعمل الحجامة كعلاج. فالمرض وما رافقه من ضعف متزايد نتيجة الحجامة، ثم همومُ التفكيرات الاستثنائية الناتجة عن صلح الحديبية، ثم خوضه المستمر في القتال في سبيل الحق بمنتهى الانهماك على جبهات عديدة أخرى في وقت واحد لتحقيق الأهداف العالية، كل ذلك جعله ينسى بعض الأحيان. وكل من له اطلاع واسع على الحياة الإنسانية يستطيع أن يدرك بكل سهولة أن حدوث السهو والنسيان في اللوازم البسيطة للحياة اليومية من جراء الانهماك الشديد في المسائل الكثيرة الدقيقة والحساسة للغاية لهو أمر طبيعي تماما يتوافق مع الفطرة الإنسانية ويلائم القياس ولا غرابة في ذلك مطلقًا. وهذا ما حدث تماما مع النبي ، ولكن الأشرار نسبوه إلى تأثير مزعوم للسحر.

والواقع أنه قد اجتمع في هذه القصة جانبان، ولا غرابة في ذلك مطلقًا؛ من جهة، مَرِضَ رسول الله لأسباب طبيعية، ومن جهة ثانية استغل اليهود هذه الفرصة، وأوعزوا أعراض مرض النبي إلى تأثير سحرهم. والعدو الفاشل يستخدم دومًا مثل هذه المكائد الدعائية الشنيعة..

ثم إن كلمات الرسول الواردة في هذه الرواية أيضًا جديرة بالانتباه: “.. أما والله لقد شفاني.” أي: قد أبرأني الله تعالى من هذا المرض. ويتضح من هذه الكلمات جليا أنه وصف حالته هذه بالمرض وليس بالسحر أو الشعوذة.

لقد سجل الإمام ابن حجر في شرحه للبخاري (فتح الباري) قولَ العلامة بن القصار فيقول: “الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث “أما أنه فقد شفاني” (7)

كما ورد في رواية السيدة عائشة رضي الله عنها قول رسول الله : “إن الله أنبأني بمرضي” (8). مما يؤكد أنه كـان مرضًا وليس سحـرًا أبدًا.

نظرة على الرواية

وإذا ألقينا نظرة على هذه الرواية من زاوية أخرى تبين الأمر تمامًا، وانكشف جليًا أن هذا الزعم والرواية كانا في الحقيقة من نسج اليهود ولكن أحد الرواة أخطأ في بيان هذه الخلفية، ولم يذكر في الرواية هذا السياق خطأً أو سهوًا. أو من الممكن أن الذين روت لهم أم المؤمنين عائشة هذا الأمر كانوا مطلعين على هذه الخلفية ويعرفون حقيقة الأمر، ومن ثم لم تر رضي الله عنها حاجةً أن تُردد أمامهم اسم اليهود الأشرار، وأما المتأخرون من الرواة فكانوا لا يعرفون خلفية هذه القصة فرووها دون أن يصرحوا فيها أنها كانت مكيدة وإشاعة من قِبل اليهود. ومثل هذه الأغاليط قد تسربت في الأحاديث أحيانًا، ونستشهد على ذلك بروايتين:

الأولى: – قيل لعائشة إن أبا هريرة يقول: قال رسول الله : “الشؤم في ثلاث: في الدار والمرأة والفرس”. فقالت: لم يحفظ أبو هريرة أنه دخل ورسولُ الله يقول: “قاتل الله اليهودَ يقـولون: إن الشؤم في ثلاث: في الدار والمرأة والفرس. فسمع آخرَ الحـديث، ولم يسمع أوَّله. (9)

فهذه الرواية كانت أصلا قول اليهود واندرجت في “أبو داود” منسوبة إلى الرسول وكأنه قوله مع أنه ليس قوله وإنما هو قول اليهود.

والثانية: ذُكر عند عائشة قول ابن عمر: إن الميت ليعذَّب ببكاء الحى، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن! أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ. إنما مر رسول الله عن يهودية يبكي عليها أهلها فقال: يبكون علـيها وإنها لتعذَّب في قبرها” (10)

وهذه الرواية هي الأخرى قد اندرجت دون هذا السياق في صحيح مسلم كتاب الجنائز.

فاتضح مما سبق أن قصة السحر كانت من أراجيف اليهود، وكان الرواة الأوائل يعرفون ذلك، لذلك لم يروا حاجة في ذكر هذا الأمر بالتفصيل لكونه أمرًا معروفًا بين القوم، فرووها هكذا بدون الخلفية. أو أن أحد الرواة المتأخرين نسي أن يذكر في روايته أن اليهود زعموا أنهم سحروا الرسول والحق ليس كذلك.

هنا يطرح السؤال نفسه: هذا الحديث ورد في الصحيحين كما ورد في كتب الحديث الأخرى، ورواته ثقاتٌ. ألا يدل كل هذا على صدق هذه الواقعة؟

ويمكن الرد على ذلك كالآتي:

أولًا: ما ذكره مولانا نور الدين رضي الله عنه الخليفةُ الأول لحضرة الإمام المهدي في تفسيره لسورة الفلق وما يتعلق بسند هذه الرواية قائلاً:

لقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه السورة أن يهوديا سحر رسولَ الله ، فعلّمه الله هذا الدعاء للوقاية من شر أمثال الساحر المذكور.

فلو ألقينا النظر على هذه الواقعة في الأحاديث لبدا لنا أن “هشام” راوي هذا الحديث قد تفرد بهذه الرواية، بينما كان ينبغي لمثل هذه الواقعة الكبيرة أن يذكرها الآخرون أيضا (11)

وثانيًا: ما ذكرناه آنفًا بأن هذه القصة كانت من نسج اليهود في الحقيقة، ولكن أحد الرواة نسي فلم يذكر كل هذه الخلفية، فرواها المتأخرون أيضًا بدون ذكر هذه الخلفية؛ أو أن عائشة رضي الله عنها لم تذكر في روايتها أن اليهود أشاعوا هذه المكيدة لكون القوم يعرفون هذه الخلفية، فجاء المتأخرون من الرواة فرووها هكذا، دون أن يعرفوا الخلفية الحقيقية والمكيدة اليهودية.

وثالثًا: يطلق في اللغة العربية أحيانا اسم العمل على مجرد محاولة القيام به. وثمة أمثلة كثيرة على ذلك، منها أن القرآن الكريم قد وصف بالقتل محاولة الأعداء لقتل أنبيائهم رغم أنهم لم يتمكنوا في واقع الأمر من قتل أي نبي وإنما محاولاتهم للقتل وُصفتْ بالقتل.

ولا شك أنهم – في حد زعمهم- قد قاموا بالسحر، إلا أنهم لم يتمكنوا من سحر النبي وذلك كما أن اليهود قد حاولوا قتل الأنبياء ولكنهم فشلوا في ذلك ولم يقدروا على قتل الأنبياء. وفي رواية السحر أيضا قد ذكرت مساعيهم الفاشلة. حيث جاء في رواية ابن سعد في طبقاته، – وقد سبق أن سجلنا هذه الرواية – قولُ اليهود: “يا أبا الأعصم، أنت أسحَرُ منا، قد سَحَرْنا محمدًا، سَحَرَه منا الرجالُ والنساء، فلم نصنع شيئًا”، وهذا يعني صراحةً أنهم حاولوا سحر النبي ولكنهم لم يفلحوا، وعصمه الله تعالى من شرورهم وأفشلهم في ذريعتهم فشلاً ذريعًا، لأنه لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى

هنا ينشأ سؤال آخر وهو: كيف أجمع المفسرون على أن هذه الواقعة كانت بسبب نزول المعوذتين؟

فالجواب: أن هذا مجرد رأي المفسرين أنفسهم حيث يرونها سببًا لنزولهما، ولكن رسول الله لم يخبر أنه عُلِّم هاتين السورتين للوقاية من أثر السحر.

والحقيقة أن هاتين السورتين تتضمنان ذكر التقدم الهائل للإسلام وكونه دينا عالميا، كما تحتويان على التعليم الأساسي الذي يضمن العملُ به استمرار هذا الرقي، ويحميه من حسد ومكائد ومؤامرات الأعداء، وربطُهما بهذه القصة ليخالف عظمة القرآن. ثم إن وضعهما في آخر القرآن – كما هو ضروري لحفظ بركاته وأفضاله- يتضمن الإشارة إلى أن هذه الأقوام التي ستكون ممثلة للدجال في الزمن الأخير ستنسج ضد الإسلام المكائد الخطيرة للإحاطة به. والسلاح الوحيد الذي أعـطانا إياه القرآن الكريم هو الدعـاء الذي نصحنا رسـول الله باستخدامه ضد مكـائد هذا الدجال ودجله. وهاتان السـورتان تحملان في طيـاتهما هذا العـلاج.

صــدق النـبي

بطبيعة الحال ما كان النبي وسلم يعرف مؤامرة اليهود هذه ودسائسهم، بيد أن ربه العليم الخبير كان يعرفها حق المعرفة فأخبره بتفاصيلها ودقائقها. وإن إخبار الله تعالى إياه عن جميع تفاصيل هذا الدجل هو دليل منقطع النظير على أنه مرسل صادق من الله عز وجل.

يقول حضرة المصلح الموعود مرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي عليه السلام: إن هذه الرواية عن السيدة عائشة تعني فقط أن الله تعالى أخبر النبي بواسطة الملائكة أن اليهود سحروه حسب زعمهم، ولا يعني ذلك بتاتا أن السحر أحدث تأثيرا في النبي الكريم. فعندما دَفن النبي أشياء السحر والشعوذة هذه بعد إخراجها من البئر تأكد اليهود بأن الذي قاموا به من السحر لا جدوى منه ولا أثر له على شخص الرسول الكريم فلا فرق في وجوده في قاع البئر أو في قاع القبر فهو باطل وعديم المفعول هنا أو هناك.

فكما يُستنبط من هذه الرواية حقد اليهود الذي كانوا يكنونه تجاه شخص النبي الكريم كذلك يتضح منها كون النبي الكريم رسولا صادقا من الله، وذلك لأن الله تعالى قد أخبره عن جميع الأمور التي كان اليهود يقومون بها ضده.

فإن علمه بالأمور الغيبية وفشل اليهود في غايتـهم دليلان واضـحان بينان على كونه رسولا صادقا. (12)

بيان سيدنا الإمام المهدي

لقد أصدر الـحَكَمُ العَدْلُ المبعوثُ ُفي هذا الزمن الأخير القرارَ الفاصل في قضية السحر هذه. فذات مرة سُئل سيدنا الإمام المهدي عليه السلام: يُقال بأن الكفار سحروا النبي ؟ فما رأي حضرتك في هذا الصدد؟

فأجـاب حـضرته: إن السـحر من عمل الشيطان، وشأن الرسل والأنبياء أرفع من أن يؤثر فيهم السحر، بل وإن مفعول السحر ليضمحل بمجرد تواجدهم في مكان ما، كما قال الله تعالى

لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى .

فانظروا إلى السحر الذي واجهه موسى عليه السلام. ألم ينتصر في آخر المطاف؟ ومن الخطأ تمامًا القول إن السحر أثّر على النبي . هذا ما لا يسعنا أن نقبله أبدًا. كما أننا لا نقبل كل ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم قبولاً أعمى. فهذا أمر مخالف لمسلكنا.

هذا، وإن العقل هو الآخر لا يمكن أن يسلّم بأن السحر ترك أثرا في مثل هذا النبي الرفيع الشأن .

فعندما دَفن النبي أشياء السحر والشعوذة هذه بعد إخراجها من البئر تأكد اليهود بأن الذي قاموا به من السحر لا جدوى منه ولا أثر له على شخص الرسول الكريم فلا فرق في وجوده في قاع البئر أو في قاع القبر فهو باطل وعديم المفعول هنا أو هناك.

وأما القول بأن ذاكرة النبي كانت قد ضعفت تحت تأثير السحر- معاذ الله – وحدث كذا وكذا فإن كل هذا لا يصح بأي صورة من الصور. ويبدو أن شخصا خبيث الطوية قام بدس هذه الأقاويل. وإنا ننظر إلى الأحاديث نظرة التكريم، ولكن كيف يمكن لنا أن نقتنع بحديث يعارض القرآنَ الكريم، ويخالف شرف النبي . والقول إن السحر قد ترك تأثيرا في النبي الكريم -والعياذ بالله- قول يُضيع إيمان المرء. يقول الله تعالى

إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلاً مَسْحُورًا (الإسراء: 48).

فالقائلون بمثل هذه الأقاويل ظالمون ومعتدون على شرف النبي إنهم لا يفكّرون أنه إذا كان هذا هو حاله فماذا عسى أن يكون مصير أمته؟ إنها تغرق لا محالة. لا أدري ما حل بهؤلاء الذين يتكلمون بهذه الكلمات في نبي معصوم ظل الأنبياء يعتبرونه منـزَّهًا عن مس الشيطان”. (13)

هذا، وتنجلي حقيقة المسألة وتتوضح غاية الوضوح في عصرنا هذا إذ أن العدو قد أتى بالفعلة المماثلة ضد سيدنا أحمد عليه السلام. فيروى أن هندوسيًا متعصبًا من سكان “غجرات” جاء مرة إلى قاديان، وكان ماهرًا حاذقًا في السحر. فأراد أن يلقي تأثيره على حضرة الإمام المهدي عليه السلام لكي تصدر عنه بعض الأعمال غير اللائقة، فيجعله بذلك أضحوكة بين الناس وعرضة لاستــهزائهم. فدخل “المسجد المبارك” بقاديان حيث كان سيدنا أحمد عليه السلام يلقي خطبة أمام أتباعه، وأخذ يركّز هذا الساحر الهندوسي الماهر سحره عليه، ولكنه بعد قليل فرَّ صارخًا. حتى لم يتمكن من أن يأخذ حذائه معه. ولما سأله الهندوس من “قاديان” الذين بعثوه لهذه الفعلة الخبيثة: ما الذي أصابك؟ قال: حين ركّزتُ في السيد ميرزا، رأيت أسدًا ثائرًا وكأنه يتحفز للهجوم عليَّ، فهربت من المسجد صارخًا خـوفا من الأسد. (14)

فإذا كان هذا هو حال سيدنا مرزا غلام أحمد وهو الخادم للمصطفى ، فكيف يمكن أن نقبل أن سيده وسيدنا محمدًا المصطفى غدا عرضةً لسحر يهودي شرير.

وعلى ضوء هذه الأدلة والبراهين يمكننا أن نقطع بكل يقين ودون أدنى تردد بأن اتهام حدوث تأثير السحر على سيدنا محمد المصطفى افتراء ولا أساس له من الصحة إطلاقًا.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلم إنك حميد مجيد.

المرا جــــع

  1. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد المجلد الثاني ص 196 إلى 199 دار صادر بيروت طبعة 1957م. وانظر صحيح البخاري كتاب الطب باب السحر رقم الحديث 5763
  2. زاد المعاد، شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني وبهامشه زاد المعاد لابن قيم ج5 ص386 دار المعرفة بيروت طبعة 1993 م
  3. شرح الإمام محمد بن عبد الباقي الزرقاني على المواهب اللدنية ج7 ص104 المطبعة الأزهرية المصرية الطبعة الأولى سنة 1327هـ
  4. صحيح مسلم
  5. عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعلامة بدر الدين العيني كتاب الطب باب السحر دارالفكر بيروت.
  6. الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص197 دار صادر بيروت طبعة 1957م
  7. فتح الباري شرح صحيح البخاري للعلامة ابن حجر العسقلاني ج10 ص177 دار نشر الكتب الإسلامية بلاهور باكستان طبعة 1981م.
  8. عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعلامة بدر الدين العيني كتاب الطب باب السحر ج21 ص 280 دارالفكر بيروت
  9. كنـز العمال لعلاء الدين الهندي ج10 ص126 مؤسسة الرسالة بيروت طبعة 1979م.
  10. صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه رقم الحديث 2153.
  11. حقائق الفرقان لمولانا نور الدين رضي الله عنه ج4 ص571 تفسير سورة الفلق
  12. التفسير الكبير لمرزا بشير الدين محمود أحمد ج10 ص541,542 تفسير سورة العلق
  13. تفسير القرآن الكريم لسيدنا أحمد ، سورة طه، قوله تعالى: ولا يُفلح الساحر حيث أتى
  14. سيرة المهدي لسيدنا المصلح الموعود ج 1 رقم الرواية 75
Share via
تابعونا على الفايس بوك