الفتن وميزان العالم

الفتن وميزان العالم

التحرير

  • هل يعني هذا أن للفتن وجها آخر؟!
  • وكيف يؤكد القانون الطبيعي هذه الحقيقة؟
  • وما ضرورة تعرضنا للفتن بأنواعها؟

 __

النظر في التاريخ يتيح لنا فرصة عظيمة للتأمل والتعلُّم، وتاريخ الإنسان على هذا الكوكب يُقر بسنة ربانية مفادها وجود علاقة طردية بين نمو المخلوق، أيًّا كان جنسه ونوعه، والآفات التي يتعرض لها، بمعنى أوضح، كلما ازدهر الكائن ونما، ازداد في المقابل مقدار ما يتعرض له من آفات وفتن. وقد حظي موضوع «الفتنة» وحتميتها، بمساحة واسعة من الطرح والنقاش في أعداد قديمة من “التقوى”. وفي افتتاحية هذا العدد نتناول الموضوع بأسلوب تحليلي لننظر دور الفتن بشتى صورها في هذا العالم المادي ومن ثم الروحاني أيضًا، منطلقين من سنة ربانية ثابتة تقول:

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر: 50)..

والفتن بلا شك هي شيء سيئ، ولكنها شيء على أية حال، ومن ثم فهي من خلق الله الذي خلق كل شيء بقدر لحكمة يَعْلَمُهَا ويُعَلِّمُهَا من يشاءُ من خلقه. إننا لا نكاد نرى شخصًا إلا ويتبرم من شيء ما في هذه الدنيا، وحال التبرم هذه لا يكاد ينجو منها امرؤ إلا من تبوأ من الحكمة الدرجات العلى. لننظر في الخلق من حولنا، الذباب على سبيل المثال، والذي قيل في سر تسميته أنه كُلَّما ذُبَّ آب، فهو حشرة صغيرة طائرة تثير غيظ كثيرين، بحيث يتمنون لو كان عالـم بلا ذباب! فماذا لو تم لهم ما أرادوا يا ترى؟! سوف ينقرض أكثر من أحد عشر ألف نوعٍ من النباتات التي تعتمد على الذباب في تلقيحها لإنتاج الثمار! الأمر الذي سيتبعه انقراض قرابة ألف نوع من الطيور التي تعتمد على تلك النباتات في تكاثرها وغذائها، وانقراض هذه الطيور سوف يؤدي إلى زيادة كبيرة في أعداد ثمانين نوعًا من الحشرات الأخرى التي ستقتات على أغلب المحاصيل الزراعية التي يقتات عليها البشر، كل ذلك علاوة على بطء عملية تحلل النفايات العضوية التي كان الذباب يعمل على تحليلها، ما يجعلها بؤرًا لأنواع كثيرة من الأوبئة، وتكون المحصلة النهائية لانقراض حشرة الذبابة انهيارًا كاملًا للسلسلة الغذائية، وانقراض البشر بسبب المجاعات أو الأوبئة. فسبحان الله الذي خلق تلك الحشرة الصغيرة المقززة بقدر معلوم لتؤدي وظيفة محددة لرفاه الإنسان!

أفلا نتوقف عند هذا الأمر برهةً للتفكر إذن؟! فلولا الفتن لانعدمت فرص التقدم والرقي المادي والروحاني كذلك. من هنا كان لزامًا علينا أن نتيقن من مسألة حتمية ذلك الشر الذي لا بد منه على ما يبدو

كان هذا نموذجًا بيولوجيًا لإثبات ضرورة الفتن لرفاهنا المادي، والنموذج التاريخي يُعد أكثر النماذج طرحًا لإثبات ضرورة الفتن لرفاهنا الروحاني، فطالما تعلمنا أن جماعة المؤمنين كلما ازدهرت كثرت فيها الفتن. فظاهرة المنافقين مثلًا لم تكن لتظهر في مجتمع المسلمين الأول في مكة، حيث الضعف البادي بحيث لا تتحمل تلك الجماعة الوليدة أية فتنة داخلية تعصف بها وتقتلها في مهدها، إنما بدأت الفتن تظهر في مجتمع المدينة، بعد أن استوى زرع جماعة المؤمنين على سوقه. فالفتن من هذا المنظور تعتبر علامة على نضج المجتمع، وحيثما نرصد فتنة ما، أيًّا كان صنفها، فهذا علامة نضج ونمو، وبالطبع هذا لا ينفي مساوئ الفتن، ولكن مساوئها لا تُلغي ضرورتها، وهذا هو المسلك الإسلامي المتزن في وصف وتقييم الأمور، فما من شيء سيِّئ بالكلية، وحتى الخمر والميسر، ذكر الله تعالى العليم الحكيم أن لهما منافع أيضًا، فقال:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (البقرة: 220).

وعلى صُعُدٍ أخرى، كالاقتصاد مثلًا، نلاحظ هذه الظاهرة بوضوح، فالشعوب الفقيرة لا تُبتلى بنفس حجم التدهور الذي تُبتلى به الشعوب الثرية، فمثلًا، الأزمة المالية العالمية في 2008 لم تعان منها الشعوب الفقيرة تحت وطأتها مثلما عانت الدول المتقدمة.

أفلا نتوقف عند هذا الأمر برهةً للتفكر إذن؟! فلولا الفتن لانعدمت فرص التقدم والرقي المادي والروحاني كذلك. من هنا كان لزامًا علينا أن نتيقن من مسألة حتمية ذلك الشر الذي لا بد منه على ما يبدو، فكل امرئ سيُفتن ويُبتلى كي يرتقي، وإلا فلا نمو ولا ارتقاء والناس جميعًا دون استثناء، ناهيك عن المؤمنين، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات، هم عرضة للفتن والأزمات بشتى صورها، فحتمية مقاساة الفتن إذن أمر علينا التسليم به، يقول تعالى:

  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (العنْكبوت: 3)

فالحديث عن الفتن لا يكاد ينتهي، وفي جماعة المؤمنين الثانية في أمة خاتم النبيين يحتل هذا الحديث في أرفف المكتبة الإسلامية الأحمدية نفس المساحة التي تحتلها الأجسام المضادة في المعامل البيولوجية، فأولى الفتن الكبرى التي عصفت بالجماعة بعد وفاة المسيح تمثلت في نشوء الفِرق المناوئة للخلافة الراشدة، تمامًا كما حدث في جماعة المؤمنين الأولى من قبل، وقد كان مشروع «الخلافة» هو دريئة كلتا الفتنتين، وما كان هذا إلا علامة على استواء أمر الخلافة في العصرين.

قارئ التقوى العزيز، لأيام ربنا في أيام دهرنا نفحات، وفي هذا الشهر، فبراير من عام 2022 تُعاودنا في العشرين منه ذكرى النبوءة عن المصلح الموعود فيسر فريق تحرير المجلة أن يخرج هذا العدد إلى النور محتفيًا بهذا الحدث المبارك، انتظامًا في خيط ممتد من خطبة حضرة خليفة الوقت سيدنا مسرور أحمد (أيده الله تعالى  بنصره العزيز)، والتي تحدث فيها عن سيدنا عمر بن الخطاب ، ولا يخفى ما بين العُمرين من مماثلة! ونعني بالعمرين عمر الفاروق وحضرة مرزا بشير الدين محمود أحمد والذي كان «فضل عمر» أحد ألقابه، علمًا أن الفتنة بدأت تطل برأسها في جماعتي المؤمنين منذ عهد خلافة هذين الخليفتين الراشدين. وأما مقالات العدد، فدارت حول المصلح الموعود أيضًا، شكلًا وموضوعًا، وكذلك قضية الفتنة في إطار السنن الربانية.

ندعو الله تعالى أن ينفعنا بتعلم سير المُصلحين الأطهار، فيُصلِح بنا هذه الدار وعقبى الدار، آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك