موقف العالم من رسالات السماء

موقف العالم من رسالات السماء

ضحى أحمد

ضحى أحمد

  • ماذا يكون موقف الناس من المبعوث السماوي في كل عصر؟
  • كيف تنكشف حقيقة الناس بمجرد بعث النبيين؟
  • بماذا نفسر فرار تعساء الحظ من المصلح الرباني وإعراضهم عنه؟

____

خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون، وجعل لكلّ ما فيه دورًا معيّنًا، وكما قال تعالى:

لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (1)،

فلا يمكن للّيل أن يكون نورًا للعالم ومعاشًا، ولا يمكن للنهار أن يكون سكنًا كمثل الليل، وهكذا يؤدي كلٌّ دورَه على أتم وجه، فليس من العقل أن نطلب الشَّيء في غيره موضعه.

شموس العالم الروحاني

وهذه هي قوانين الطبيعة التي حثّنا الله تعالى على تأملها، لأنها تعطينا فهمًا للحياة وسننه تعالى، فكما أن للعالم المادي شمسه المضيئة التي تهدي الناس بنورها للقيام بمهامهم في وضح النهار، ويُلام الكسول والمقصّر والتارك للعمل رغم توافر الظروف المواتية له،  كذلك جعل الله تعالى الأنبياء للعالم الروحاني شمسه التي تنير العقول وتجذب الأرواح نحو الله تعالى. وهدى الله سبحانه وتعالى بهم البشرية إليه على مر السنين، حيث قال عزّ وجلّ:

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (2)،

فسبحان من يصلّي علينا بإرسال الرسل لينجّي العباد من الضلال، فمن قَبِلهم فقد استمسك بالعروة الوثقى، فلا يلقى قربه تعالى إلا ذو حظ عظيم، الذي  أحسن الصحبة، واتخذ مع الرسول سبيلًا، فلا يضل عن الذكر ولا يخزى.

ما حاجة العالم إلى رسالات السماء؟!

وكتوضيح لحاجتنا للأنبياء وعدم القدرة على الرؤية الواضحة بدون هديهم يقول حضرة الإمام عليه السلام:  «بسبب مئات أنواع الغفلة والحجب، وصولات النّفس والزلات، والضعف والجهل والظلمات، والعثار في كلّ خطوة والأخطار المتتالية، والوساوس، وآفات الدنيا وبلاياها المختلفة الأصناف والألوان، فإنّ كل إنسان بطبيعته يشعر في قلبه بأنه بحاجة حتمًا إلى يد قويّة تنقذه من جميع هذه المكروهات؛ لأنّه ضعيف بطبيعته، فلا يستطيع أن يثق بنفسه لحظة واحدة بأنّه قادر بنفسه على الخروج من ظلمات النّفس» (3)

الفرار من المصلح

وأثناء مسيرة البشر وحياتهم، تراهم يحبّون المحسنين والصّالحين  ويكرمونهم، فالنّفوس جُبلت على حبّ من يحسن إليها، ومَن أكثر إحسانًا من الصالحين؟! ولكن الغريب في الأمر أنه عندما يُعلن أحد هؤلاء الصالحين أنّه رسول من الله تعالى، لا يلبث احترام الغالبية العظمى من المحيطين به والمعايشين له أن يستحيل كرهًا وازدراء، وكأنّهم حمر مستنفرة فرّت من قسورة، فما السّبب الكامن وراء ردّة الفعل هذه، على الرغم من أنّ هذا النبي لا يحمل لهم إلا الخير، بل إنهم ما جربوا عليه كذبًا ولا شرًّا قط؟! ألا يدعونا هذا التحول ذو الـ 180 درجة إلى التساؤل عن سر العداء المفاجئ؟! الأمر الغريب الآخر، الذي ينبغي ألا يفوتنا التماس سبر سره، أن التحول إلى العداء المفاجئ من بعد ذلك الاحترام الجم يعدُّ قاسمًا مشتركًا بين كل الأقوام بلا استثناء إزاء رُسُلهم.

فإنّ كل إنسان بطبيعته يشعر في قلبه بأنه بحاجة حتمًا إلى يد قويّة تنقذه من جميع هذه المكروهات؛ لأنّه ضعيف بطبيعته، فلا يستطيع أن يثق بنفسه لحظة واحدة بأنّه قادر بنفسه على الخروج من ظلمات النّفس

الجواب في كتاب السنن

في بحثنا عن الجواب والتعليل المناسب للظاهرة المذكورة والمتكررة في كل العصور، علينا استحضار نماذج إحصائية أو فلنسمها بتعبير العلم التجريبي «عينات عشوائية» من التاريخ الإنساني، وسنستخلص من تلك العينات مجموعة قواسم مشتركة لنكتشف سويًّا أن تلك القواسم سننٌ ثابتة لا يجري عليها التغيُّر مهما تبدلت الأمم أو تحوَّل أو تغيَّر المكان.

فعن قوم صالح ، يقول تعالى:

قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (4).

ومن منّا لم يسمع عن احترام أهل مكة الجم للرسول قبل البعثة؟!

لقد كان (عليه الصلاة والسلام) الصادق الأمين في نظرهم، حتى أنه هو نفسه قدم هذا الأمر دليلًا على صدقه،

قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (5)،

ولكن لما بعثه الله تبارك وتعالى وأعلن نبوّته، عادوه، وانقلب كلامهم الطيب إلى كلام مُؤذٍ، واتهموه بالسّحر والكذب  والجنون، وأنكروا نبوته بدعوى أنه بشر مثلهم! وبالغوا بعرض آلاف الأسباب لرفضه، في حين كان لا يطلب على هدايته إياهم أجرًا، وكان همّه وشغله الشاغل تنوير عقولهم، وجذب قلوبهم نحو المنبع، وكاد يُذهب نفسه حسراتٍ خوفًا عليهم من أنفسهم التي رفضته من تكبّرها، فبطروا الحق وغمطوا النّبي، وما توانوا يتفننون بأنواع الإيذاء ويقابلون الإحسان بالإساءة.. ولكن أتَكُفُّ الشمس المشرقة عن السّطوع حين يُصِمها الجهّال بعار الظلام؟! هيهات! إنما يؤدي كلٌّ دوره الذي خُلق له، وستبقى الشمس تسطع بنورها مؤديةً دورها، وكذلك النبيون، إنما شغلهم الشاغل إخراج الناس من الظلمات إلى النور بمشيئة الله تعالى، ولذلك خلقهم.

 

طبائع الناس على محك النبيين

بمجرد أن يبعث الله تعالى نبيه، لا يلبث الذين كانوا بالأمس يجمعون على احترامه وإكرامه وحسن وفادته، أن ينقسموا طائفتين بإزائه، طائفة لا تزداد لذلك النبي إلا احتراما وتبجيلا، وبينما كانت من قبل تلقاه بالاحترام كنوع من الذوق الفطري العام، أصبحت الآن ترى حبه واحترامه واجبا أخلاقيا وفرضا ربانيا مفروضا عليها، وأولئك هم ذوو الطبع السعيد والقول السديد. الطائفة الأخرى التي انقلب معيار حكمها على أخلاق ذلك النبي، والتي لا تشبيه لحالها أبلغ من اتهام أهل القانون لشهود الزور بتضارب الأقوال! نعم، متهمو النبيين لا يعدون كونهم شهود زور، وإلا فبم نفسر تغييرهم شهادتهم عن أخلاق النبي من النقيض إلى النقيض بمجرد إعلانه نبأ رسالته؟!

من هنا كان بعث النبيين تمييزا للخبيث من الطّيب، لا سيما وأن الغالبية العظمى من خبثاء السريرة هؤلاء كانوا من قبل يتصفون بين أقوامهم بالوجاهة وحسن الخلق في الظاهر، ولنذكر مثلا أبا جهل، الذي كان يُدعى بأبي الحكم، وغيره وغيره، فسبحان من سبر خبث سرائر هؤلاء!

بم نفسر ذلك التحوُّل؟!

لقد أعلنت آي الذكر الحكيم قانونا ثابتًا يقول ما نصه:

كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (6)،

نعم، تشابهت قلوبهم، فالعقلية الكفرية التكفيرية هي نفسها في كل العصور، وفي ذلك التشابه المقيت يكمن التعليل الذي نبحث عنه، وفيه نصف الجواب. أما النصف الآخر فمرده إلى أن قلوب منكري النبيين كالحجارة أو أشد قسوة، فالرفض والتكبّر والتعنّت ديدنهم، إنهم يقفون من ماء السماء موقف الصخرة الصماء القاسية، لا تُمسِك ماءً ولا تُنبِت كلأً، وينتهي أمرها مع انهمار ماء السماء عليها إلى التفتت والتلاشي.

إن هؤلاء الغلاظ القساة وأشياعهم يرفضون المصلح لاصطدام منهجه النوراني الرباني بصخرة أهوائهم ورغباتهم فيكنون له كل حقد ويبذلون حثيث سعيهم للانتقام منه، ولو أنهم تفكروا بما يحمله لهم من خير لاتخذوا معه سبيلًا، فمصلح واحد كما قال أهل العلم أحبُّ إلى الله من ألف صالح، لأن المصلح قد يحمي الله به أمةً كاملة، والصالح يكتفي بحماية نفسه فقط، وهذا ما يبينه الله تعالى في قوله:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (7)

مبعوث آخر الزّمان.. التاريخ يعيد نفسه

ولم يكن المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) بدعا من الرسل، بل لحقه من الأذى ما لحق سيده خاتم النبيين من قبل وسائر النبيين، وذلك بعد أن كان موضع التقدير قبيل إعلانه ما أمره الله تعالى بالصدوع به من أمر الرسالة، أوليس ألد أعداء المسيح الموعود (عليه الصلاة والسلام) وجماعته، هم أنفسهم من كانوا يكيلون له المديح ويملؤون الصفحات بذكر مناقب حضرته في ذوده عن حياض الإسلام؟! بلى، ولكنها سنة عداء الأنبياء في النبيين بلا استثناء

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (8).

فالآن تبدو بجلاء سنة استدارة الزمان وإعادة حلقات التاريخ، وهذا مما يؤسف له! لأن من لا يتعظون من دروس التاريخ يُحكم عليهم بتكرارها وتجرع مرارتها.

كيف يستسيغ العقل فكرة أن تتركنا يد القيومية دون رعاية في أي مرحلة من مراحل الزمان؟! إن الإله الحي الذي ما ترك الإنسانية  منذ بداية خلقها، أنى لنا أن نظن أنه يتركها الآن وهي بأشد الحاجة إليه؟! مع كلّ هذه الهبات والعطف والرحمة، لا عاصم للعاق من أمر الله تعالى حتى ولو أوى إلى جبل.

لا ويل للمصدقين مطلقًا!!

يوصينا الله تعالى باتباع رسله في كل زمان، فإذا ما سألنا أي شخص، حتى لو كان من حزب المكفرين، لو سألناه عن الموقف الذي ينبغي عليه اتخاذه بإزاء من يعتقد أنه مبعوث من الله تعالى حقا، لأجاب: قطعا سأؤمن به وأتبعه من فوري.. إن المشكلة تتلخص في ادعاء حزب المكفرين القلق من أن يكون تصديقهم من نصيب كاذب، وهنا مربط الفرس، إن الله تعالى لم يتوعد المصدقين مطلقا، حتى وإن كان تصديقهم في غير محله بعض الوقت، فلصدقهم وتصديقهم لا يكون هناك مجال للشك في أن الله تعالى سيتولاهم ويلهمهم سبيل الصواب، والقول بغير ذلك قدح في قيومية الله تعالى الذي قال عن نفسه:

وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (9) ،

أوليس الصدق ضربا من ضروب الصلاح ودروبه، إن لم نقل أولها؟!

أما على الجانب الآخر، فبعملية إحصائية مثيرة لآيات الوعيد بالويل في القرآن الكريم نحصل على 72 آية، أما الويل للمكذبين خاصة فيحوز نسبة السدس من آيات الويل بشكل عام، أي ما مقداره 12 آية، أفلا يدعونا هذا إلى الإمعان والتساؤل؟! لا ويل للمصدقين مطلقا، بل الويل للمكذبين!!

العناية الربانية سنة ربانية

كما تكفل الله تعالى بنا في بدء خلقنا وهيّأ لنا رغم ضعفنا من يقوم على رعايتنا بلطفه ورحمته، ثم هيّأ لنا في الكِبر من يدعو لنا بالرحمة ويأخذ بيدنا ويلبي حاجاتنا وحرَّم إيذاءنا ولو بكلمة تجرح مشاعرنا، فرعى عباده بكرمه ولطفه في حالتي الضعف في الأولى والأخرى، فلماذا إذن نستبعد أن يكون ذلك الحي القيوم قد هيأ لنا الرعاية المماثلة في العالم الروحاني؟! كيف يستسيغ العقل فكرة أن تتركنا يد القيومية دون رعاية في أي مرحلة من مراحل الزمان؟! إن الإله الحي الذي ما ترك الإنسانية  منذ بداية خلقها، أنى لنا أن نظن أنه يتركها الآن وهي بأشد الحاجة إليه؟! مع كلّ هذه الهبات والعطف والرحمة، لا عاصم للعاق من أمر الله تعالى حتى ولو أوى إلى جبل.

فليكن معلوما إذن أن موقف العالم في كل عصر من النبيين هو موقف واحد، إذ ينقسم معاصرو النبي بين مؤيد ومعارض بعدما كانوا جميعا من قبل يلقونه بفتح الأبواب ومزيد الترحاب، ولندرك ثبات تلك السنة في كل زمان ومكان. ولا يغيبن عن بالنا أن كل مبعوث يبعثه الله تعالى إنما تقاس عليه طبائع الناس ومدى نقاء سريرتهم، ندعو الله تعالى أن ينقي سريرتنا ويجنبنا خبث النفوس.

الهوامش

  1. يس: 41
  2. (الأحزاب: 44)
  3. مرزا غلام أحمد القادياني، عصمة الأنبياء.
  4. (هود: 63)
  5. (يونس: 17)
  6. (البقرة: 119)
  7. (هود: 118)
  8. (الأحزاب: 63)
  9. (الأَعراف: 197)
Share via
تابعونا على الفايس بوك