وحدة القيادة الروحية
  • كيف يكون الاعتزاز الحق بالدين عمليًا؟
  • ما صفات القيادة المثلى الموصلة إلى بر النجاة؟

___________

لقد منَّ الله تعالى علينا بالإسلام، وجعلنا به أمةً وسطًا، لنكون شهداء على الناس، لِما له على جميع الأديان من حياد وهيمنة. ولمّا كانت هذه المنة كذلك، كان اعتبارها من عموم المسلمين أنها غير جديرة بالأخذ والاقتناء سبب وبال وسوء حال عليهم.. إذ يجب أن يكون حال المسلم -في اعتزازه بدينه- كحال الخليفة الراشد عمر بن الخطَّاب حين قال: «نحن أمَّة أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العِزَّة بغيره، أذلَّنا الله» (1).

والحق أن هذا الاعتزاز بالدين لن يكون ذا جدوى إن لم يكن في محله، بل الواقع يخبر بأن هذا الاعتزاز بالدين إذا خالف روح الإسلام وتعليمه لتحول إلى مفسدة ومثلبة تؤخذ على الدين مناط هذا الاعتزاز الظاهري الأجوف.. إذ يصدُق فيه حينها قول رسول الله : «دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»(2)، وأقول «فيه» لأن الدعوات والملامات حينئذ إنما تنصب على الدين وتعليمه ونصوصه لا على المتدينين به في الواقع، وحينها يبدأ المتربصون في شحذ الهجوم نحوه بما اعتز به المعتز اعتزازا فارغًا، فيشعر حينها المسلمون بالذلة والهوان على الرغم من حملهم اسم الإسلام!

الاعتزاز الحق بالدين عمليًا

ولعل من أبرز أنوع الاعتزاز الأجوف بالدين في عصرنا هذا، ذلك الاعتزاز الذي يندرج تحت اسم الجهاد في ظل ما حاق بالإسلام من هوان، حتى ظن الكثيرون من حدثاء السن والفكر خطئًا فصرّحوا بأن لا عزة لهذا الدين ما دامت فريضة الجهاد مهملة، يقصدون حمل السلاح للقتال، وقد تقاعس عنه المسلمون.. فكيف يُنصرون! ولقد مال وعي عموم المسلمين إلى هذا الفهم لتأثِرهم السطحي بحديث رسول الله القائل:

«يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»(3)،

فما رأى عموم المسلمين من كلمات هذا الحديث إلا مقصود القتال! على الرغم من كون الزهد في حطام الدنيا، وكسر النفس الأمارة بالهوى مثلا لهو من دواعي كراهية الدنيا وحب الموت..

أما بالنسبة لنوع الجهاد الأقسى على النفس فليس هو ذلك الذي تشتعل به الحروب وتسفك فيه الدماء وتُشرد بسببه الأنفس… بل لعل هذا النوع يوافق شهوات وأهواء بشرية في كثير من الحالات، وإن الجهاد المقصود حقًا لهو الذي تشن فيه الغارات على بنايات النفس الأمارة، غارة تلو غارة، حتى يتم تحقيق الفتح العظيم بوصول الروح بعد انفكاكها من قيد أسر النفس إلى المدارج الروحانية، وانصباغها حينئذ بالعزة الحقة لا مراءاة ولا من فراغ.

البينات من رسول الله

ولم يتركنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه دون أن يخبرنا ويوضح لنا مسار البقاء الآمن من براثن الذلة والهوان هذه، وتنبيها لنا بعواقب الشتات، فأخبر قائلًا:

«تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ، لَنْ تَضِلُّوا مَا مَسَكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»(4)،

فهذا إذن محور الأمان؛ القرآن وتطبيقه، أي السنة المتواترة عن نبينا الكريم. ولكي لا يدعنا الله للقيل والقال بين تفاسير واجتهادات حول ذلك المتواتر، فقد أجرى كذلك على لسان مبعوثه الأعظم محمد قوله:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي»(5)

وقد قيل أن عترة فلان، أي منصبه(6) فضلًا على معنى الأقرباء المقربين(7)، فإذا كانت العترة هي المنصب الذي أقره من بعده، فهنا يطرق في أذهاننا حديث حذيفة عن رسول الله لما قال:

«ثُمَّ ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ، فَكَانَتِ الْخِلَافَةُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»(8)

وبالتالي يكون وبحسب هذين الحديثين أن منصب النبوة، وإن ذهبت فبركاتها باقية في الأمة فيمن أسنَد إليهم رسول الله بنفسه هذا المنصب الظلي، وذلك بأكثر من مصطلح وتعبير يحدد ماهيتهم، وذلك كي لا يسهل على أحد انتحال مكانتهم تلك إلا بتوفر شروطها وتجلي آياتها في أولئك الأعلام.

 

وإن الجهاد المقصود حقًا لهو الذي تشن فيه الغارات على بنايات النفس الأمارة، غارة تلو غارة، حتى يتم تحقيق الفتح العظيم بوصول الروح بعد انفكاكها من قيد أسر النفس إلى المدارج الروحانية، وانصباغها حينئذ بالعزة الحقة لا مراءاة ولا من فراغ.

ديمومة الاستعداد لخوض الجهاد

وليس الأمر كما كنا نظنه في المعترك الروحان، أن يستقل كل بنفسه ويدعو فيستجيب الله، أو أن ينضم الفرد لمجموعة تدعو بذاتها فيستجيب الله، بل إنه كما عين رسول الله مثلًا في غزوة مؤتة أمراء واحدًا تلو الآخر وقال:

«إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ»(9)

فكذلك في الجهاد الروحاني الذي هو أولى وأهم؛ حيث ورد أنَّ رسولَ اللهِ قال لقومٍ رجعُوا مِنَ الغزوِ:

«قدمْتُمْ مِنَ الجِهادِ الأَصْغَرِ إلى الجِهادِ الأَكْبَرِ. قيل: وما الجهادُ الأكبرُ؟ قال: مُجاهَدَةُ العبدِ لهَواهِ»(10)

فإذا كان كل متقٍ سيجاهد أهواءه بالاعتزال، ذلك كي لا تؤثر عليه المؤثرات والشهوات والملذات الدنيوية… فما ذلك من جهادٍ في الواقع، إنما هو تولي عن الجهاد في الحقيقة خشية المواجهة، مع تفضيل الرهبنة المبتذلة

وَجَعَلۡنَا فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُ رَأۡفَةࣰ وَرَحۡمَةࣰۚ وَرَهۡبَانِیَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَـٰهَا عَلَیۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ رِضۡوَ ٰ⁠نِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَایَتِهَاۖ فَـَٔاتَیۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنۡهُمۡ أَجۡرَهُمۡۖ وَكَثِیرࣱ مِّنۡهُمۡ فَـٰسِقُونَ (11)

بمعنى أن أتباع النبي، في كل عصر ومكان يجب أن يتحلوا بالرأفة والرحمة نحو الأغيار المسالمين فضلًا عن المؤمنين، وكما قيل لبلورة مهمة القائد الروحي في جملة:

«إن الخلافة الحقَّة لا تبدل خوف المؤمنين وحدَهم أمنًا، بل تبدِّل خوف الأغيار أيضًا أمنًا»(12)،

مع أن تكون فيهم الرهبة أيضًا تجاه المعاندين بالحجج والبراهين القاطعة، لا الانعزال عن الكل وحصر التعامل والتراحم في دوائر ضيقة فحسب من المناصرين وممارسة السطوة الدينية عليهم حتى يسهل قودهم! فتلك البدعة المنهي عنها والتي لا ترضي الله، إذ من شأنها أن تؤدي للغربة بين بني البشر وهي سبيل للوحشة بينهم، والتي تؤدي بدورها إلى التوحش فيهم إذا احتكوا في تعاملات، ناهيك التقائهم في مواجهات كما عهدنا في نتائج حروبهم ضد بعضهم البعض على مر التاريخ حتى عصرنا الحاضر.. فمبدأ ذلك الانعزال أنه ليس جهاد بحال، إنما هو هروب وتولي، وتقوقع ممقوت في الحقيقة لأنه يؤدي في النهاية إلى سوء المآل بين خلق الله.

وحدة الراية، طاعة القائد الروحاني 

فإذا كنا كمسلمين نعتبر أن راية الإسلام (أي الخضوع والتسليم لأوامر الله ورسوله) تحتم علينا الالتحام في صفٍ واحد خلف قيادة واحدة هي سبيل النصر في الجهاد أيًّا كان نوعه، فمن أجل ذلك يجب أن يكون في حال الجهاد الروحاني –كما في المواجهات المادية– قيادة روحانية واحدة، وكذلك رأي واحد متبلور، سواء أكان عن مجموع آراء تشاورية، أو رأي قيادي علوي رشيد؛ مع التنبيه على أن مخالفة قرار أو رأي القيادة الروحانية على مستوى الفرد انتصارا لرأي شخصي أو علم مادي سابق فهو أمر يتراوح بين العصيان والخذلان الذي لن يخيب إلا صاحبه، وإذا امتدت عدواه على مستوى الجماعة (أي استسلمت له تستسيغه) لأصبح نذير شؤم للانهزام.

فالقائد الروحاني هو الذي يؤم الدعاء ويؤم الصلاة ويؤم التفسير وله في ذلك إنابة من يراه مناسبًا، وعلى الجميع الامتثال لما قرره أو رآه وإن خالف أهواءهم، آراءهم وعلومهم، لأنه كما هو معلوم جدًّا أن أي اختلاف قد ينشأ بين صفوف جيش مادي دون الرجوع للقيادة العليا فهو بلا شك يؤدي إلى اضطراب هذا الجيش بصورة تضره وتضر القوم، وكما قال سيد الورى :

«مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ، وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(13)،

أي أن عدم الانصياع للطاعة يضيع حتمًا القصد للفوز، ومن لم يبع نفسه فداءا لقيادته الروحية التي بايعها وارتضاها بحيث يجعلها (أي نفسه) تحت تصرف تلك القيادة تستعملها كيف تشاء، فهو إنما يتخبط خبط عشواء لا يُثاب ولا يصيب، وذلك مخالف لمبدأ الإسلام الذي جعلنا أمة وسطًا لنكون شهداء على الناس، بما قدّم وبما اقتدينا حق الاقتداء بما قدَّم وإلا فنحن دون ذلك إلى الجاهلية أقرب وكل اعتزاز بعدُ يبدر منا فهو حميةً لها في الحقيقة والعياذ بالله.

الهوامش:

  1. (رواه الحاكم في المستدرك، وهو صحيح على شرط الشيخين)
  2. (رواه البخاري، ومسلم)
  3. (سنن أبي داود، أَوَّلُ كِتَابِ الْمَلَاحِمِ، بَابٌ: تَدَاعِي الْأُمَمِ عَلَى الْإِسْلَامِ)
  4. (موطأ مالك، كتاب الجامع)
  5. (سنن الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله )
  6. (أحمد بن فارس – معجم مقاييس اللغة، في أصل كلمة «عَتْرة»)
  7. (المرجع السابق)
  8. (مسند أحمد، مُسْنَدُ الْأَنْصَارِ، حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ عَنِ النَّبِيِّ )
  9. (سورة البقرة: 13)
  10. (صحيح البخاري، كِتَابٌ الْمَغَازِي، بَابٌ غَزْوَةُ مُؤْتَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّأْمِ)
  11. (ابن رجب «٧٩٥ هـ»، نور الاقتباس ٣/١٥٧)
  12. (سورة الحديد 28)
  13. (حضرة مرزا مسرور أحمد، من خطبة الجمعة التي ألقاها حضرته بتاريخ 27/ 5/ 2016م)
  14. (صحيح مسلم، كِتَابٌ الْإِمَارَةُ، بَابٌ وُجُوبُ مُلَازَمَةِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ)
Share via
تابعونا على الفايس بوك