خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتثبيت دعامتي توحيد الله ووحدة الأمة

خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتثبيت دعامتي توحيد الله ووحدة الأمة

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • تولي أبي بكرٍ الخلافة كان تثبيتا لدعامة التوحيد التي تزعزعت بوفاة النبي
  • مشابهة لطيفة بين أبي بكر ويشوع بن نون
  • الصديق يبدأ عهده بقرار إنفاذ جيش أسامة (رض) طاعة للنبي
  • أخلاق المسلمين في القتال من خلال وصية أبي بكر لأسامة
  • كيف دحض الصديق فتنتي الردة ومنع الزكاة؟!
  • الشورى في الإسلام، مُعْلِمَة للخليفة، لا مُلزمة!

___

تثبيت دعامة التوحيد التي تزعزعت بوفاة النبي

كنت أتحدث عن الظروف العصيبة التي تولى فيها أبو بكر   كان أولها الحزن على وفاة النبي الذي كان يملأ قلب كل مسلم، وأولهم أبو بكر لأنه كان صديقه منذ الصغر إضافة إلى مكانته ووفائه ومعرفته للبيعة بمستوى لا يبلغه أحد غيره، ولكنه أبدى شجاعة كبيرة في تلك المناسبة. فلقد ورد أن المرحلة الحساسة والرهيبة الأولى كانت صدمة وفاة النبي التي أطارت صواب الصحابة من شدة الحزن، وصار من الصعب عليهم احتمال هذه الصدمة المفاجئة، فما كان أحد ليتصور مفارقة النبي وكان وقعُ وفاته شديدًا عليهم، إلى درجة أن كبار الصحابة فقدوا صوابهم حزنًا، وكان وقعها على شجاع مثل عمر أدهى، بشكل يعكس مقدار حب هؤلاء الصحابة لنبيهم ،حتى إنه استل سيفه من غمده قائلًا: من قال إن محمدا مات ضربت عنقه، وهذا يدل على أن المسلمين وقعوا في حيرة شديدة، بحيث ما كانوا ليصدقوا أن النبي توفي حّقًّا! وأوشكوا من شدة حبهم له أن ينسوا الدرس الأول للتوحيد، ويقولوا لا يمكن أن يموت النبي وأنه لم يمت. حينئذ جاء أبو بكر إلى المسجد النبوي وقال مخاطبا الحضور جميعا: يا أيها الناس: «من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت.» إن حبَّ أبي بكر للرسول الذي لا يضاهيه أحد علّم درس التوحيد. ثم تلا قوله تعالى:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (1)

لماذا لن يموت محمد ؟ وإذا مات أو قتل فهل تنقلبون على أعقابكم وترتدون عن الإسلام؟ هكذا طيَّب أبو بكر خاطر الصحابة بغاية الشجاعة والحكمة في حال الحزن تلك، ووضع بلسمًا على قلوب هؤلاء العشاق المحزونين ومن جهة أخرى أقام بناء التوحيد الذي كاد أن ينهار. قال المسيح الموعود : «ثم فند (أبو بكر ) استدلالا بآية قرآنية، في اجتماع عام جميع الأفكار التي كانت قد نشأت في قلوب بعض الصحابة عن حياة النبي ،  كما استأصل عقيدة حياة المسيح الموجودة في قلوب البعض نتيجة عدم التدبّر الكامل في الأحاديث»(2).

تثبيت دعامة وحدة الأمة، ومشابهة لطيفة بيشوع بن نون

وكان الأمر الثاني الكبير الذي أنجزه أبو بكر أو الخطر الذي تداركه هو المحافظة على وحدة المسلمين عند انتخاب الخليفة. كان الخطر الثاني المحتمل بعد وفاة النبي اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة حيث بدا في أول الأمر أن الأنصار لن يقبلوا أحدًا من المهاجرين أميرًا لهم أو خليفة، كما لن يقبل المهاجرون أن يكون الخليفة من الأنصار. وكاد الأمر يتجاوز الشجار الشفهي ويصل إلى الاقتتال، وفي هذه المرحلة الحرجة وضع الله تأثيرًا في لسان أبي بكر وأمال قلوب الناس إليه حتى زال النـزاع والاختلاف كله مرة أخرى وتبدل إلى التآلف والاتحاد، يقول سيدنا المسيح الموعود :

«وكما أطاع بنو إسرائيل يشوع بن نون بعد وفاة موسى ولم يختلفوا معه وأبدى الجميع طاعته، فقد ظهر الحادثُ نفسه لأبي بكر أيضًا؛ إذ قبِل الصحابة كلهم خلافته برغبة قلبية.»(3)

قرار إنفاذ جيش أسامة

كان ثمة تحدٍّ ثالث واجهه أبو بكر ، وكان النجاح فيه ضروريًا، وهو إنفاذ جيش أسامة، إذ  كان رسول الله قد جهز هذا الجيش لإرساله إلى حدود الشام للحرب ضد الروم، لأنه بعد معركة مؤتة ومعركة تبوك كان يخشى هجوم الروم على العرب، وذلك بسبب تصاعد الخلاف بين الإسلام والمسيحية وبسبب إثارة اليهود الفتن، وكان في مؤتة قد استُشهد ثلاثة أمراء من المسلمين؛ زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة. ومؤتة مدينة في أرض خصبة شرق الأردن.

وفي ذلك رواية

عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ فَقَالَ أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ (يعني خالد بن الوليد) حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ(4).

بعد هذا انطلق إلى تبوك برفقة المسلمين، لكن العدو لم يجرؤ على الخروج إلى الميدان لمحاربة المسلمين واختفوا في المناطق الداخلية للشام تحسُّبا من هجوم المسلمين. ونتيجة لهذه الغزوات، أضمر الروم للمسلمين الكيد، وبدأوا يستعدون للتقدم على حدود الجزيرة العربية. ولهذا أمر النبي أسامة بالخروج إلى الشام على سبيل الاحياط. (5)

وفي رواية أخرى قال حضرة أبي بكر : والله الذي لا إله إلا هو، لو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجَهزنَ جيش أسامة ولن أحل عقدة عقدها رسول الله (14).

وكان يهدف أيضًا إلى الثأر لشهداء مؤتة، كَانَ تَجْهِيز أُسَامَة يَوْم السَّبْت قَبْل مَوْت النَّبِيّ بِيَوْمَيْنِ، وَكَانَ اِبْتِدَاء ذَلِكَ قَبْل مَرَض النَّبِيّ ، فَنَدَبَ النَّاس لِغَزْوِ الرُّوم فِي آخِر صَفَر، وَدَعَا أُسَامَة فَقَالَ: سِرْ إِلَى مَوْضِع مَقْتَل أَبِيك فَأَوْطِئْهُمْ الْخَيْل، فَقَدْ وَلَّيْتُك هَذَا الْجَيْش(6). وفي رواية قال: أوطئ بلقاء وداروم بالخيل، والبلقاء منطقة في الشام بين دمشق ووادي القرى، والداروم موضع في فلسطين قرب غزَّة في الطريق إلى مصر. باختصار قال موجها أسامة إلى الشام: «فأغِرْ صباحًا على أهل أبنى (وأبنى: موضع في الشام نحو البلقاء) وأسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك… وعقد النبي لأسامة لواء بيده ثم قال: أُغْزُ بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله! فخرج أسامة بلوائه معقودًا فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي وعسكر بالجرف (والجرف تبعد عن المدينة ثلاثة أميال نحو الشمال) فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة وفيهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم بن حريش، فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين! فغضب رسول الله غضبا شديدا فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ ولئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله! وأيم الله إنه كان للإمارة لخليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير، واستوصوا به خيرا فإنه من خياركم!(7) وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، (أي قبل وفاته بيومين فقط) وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله ويمضون إلى العسكر بالجرف، وثقل رسول الله فجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة! فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله وجعه فدخل أسامة من معسكره والنبي مغمور، وهو اليوم الذي داووه فيه، فطأطأ أسامة فقبَّله ورسول الله لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة، قال: فعرفت أنه يدعو لي؛ ورجع أسامة إلى معسكره ثم دخل يوم الاثنين وأصبح رسول الله مفيقًا صلوات الله عليه وبركاته، فقال له: اغد على بركة الله! فودعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل؛ فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاءه يقول: إن رسول الله يحتضر! فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله وهو يحتضر فتوفي حين زاغت الشمس يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله فغرزه عنده. (وبحسب رواية: لما نزل جيش أسامة بذي خشب قبض رسول الله (8). وذي خشب وادٍ على الطريق من المدينة إلى الشام) فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة بن الحصيب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه، فمضى به بريدة إلى معسكرهم الأول(9).

وقيل عدد هذا الجيش ثلاثة آلاف(10) وفي رواية أخرى وُجِّه أسامةُ في سبعمائة إلى الشام(11).

وفي رواية نادى منادي أبي بكر من بعد الغد من وفاة رسول الله ليتم بعث أسامة: ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف(12).

بعد وفاة النبي ارتدت العرب إما عامة أو خاصةً من كل قبيلة، وظهر النفاق، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبيهم وقلَّتهم وكثرة عدوهم. (أي كانوا بلا حيلة) فقال الناس لأبي بكر : إن هؤلاء (يعنون جيشَ أسامة) جندَ المسلمين، والعرب على ما ترى، قد انتقضت بك فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك. (أي لا ترسل جيش أسامة) فقال أبو بكر: والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبي (13).

وفي رواية أخرى قال حضرة أبي بكر : والله الذي لا إله إلا هو، لو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجَهزنَ جيش أسامة ولن أحل عقدة عقدها رسول الله (14).

قال المصلح الموعود : عندما توفّي رسول الله ارتد العرب وقلق الشجعان مثل عمر وعلي رضي الله عنهما أيضا نظرا إلى هذه الفتنة. كان النبي قد أعَدّ جيشا قُبيل وفاته لغزو الروم وأمّر عليه أسامة . ولكنه توفِّي قبل رحيل الجيش. وعندما ارتدَّ العرب بعد وفاته فكّر الصحابة أنه إذا أُرسل جيش أسامة إلى بلاد نائية في وضع التمرد هذا لن يبقى في المدينة إلا العجائز والأطفال والنساء، ولن تكون هناك حماية كافية للدفاع عن المدينة. فاتفقوا على أن يذهب وفد من كبار الصحابة إلى أبي بكر ويلتمسوا منه ألا يُرسل الجيش إلى أن يخمد التمرُّد. فذهب إليه عمر والصحابة الكبار الآخرون وقدّموا هذا الطلب. سمع أبو بكر اقتراحهم وردّ عليهم غاضبًا: هل تريدون أن يكون أول عمل ابن أبي قحافة بعد وفاة رسول الله أن يُوقف جيشًا أمر بإرساله؟ ثم قال: والله إذا اقتحم جيش العدو المدينة ونهشت الكلاب جثث المسلمين والمسلمات فلن أوقف جيشًا أمر رسول الله بإرساله.

لقد نشأت هذه الشجاعة والبسالة في أبي بكر لأن الله تعالى يقول:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ .

فكما أن السلك العادي عندما يتصل بالكهرباء تتولد فيه قوة عظيمة كذلك صار أتباع النبي مصداق: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ نتيجة علاقتهم به .(15)

يقول سيدنا المسيح الموعود في كتابه «سر الخلافة» عن إرسال جيش أسامة: قال ابن الأثير في تاريخه: لما توفّي رسول الله ووصل خبره إلى مكة وعامِلِه عليها عتاب بن أسيد، استخفى عتاب وارتجّت مكة وكاد أهلها يرتدون. وقال أيضًا: ارتدت العرب إمّا عامة أو خاصة مِن كل قبيلة، وظهر النفاق واشرأبّت اليهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة الممطرة، لِفَقْد نبيّهم وقِلّتهم وكثرة عدوّهم، فقال الناس لأبي بكر: إن هؤلاء -يعنون جيش أسامة جند المسلمين- والعرب على ما ترى، فقد انتقضتْ بك، فلا ينبغي أن تُفرِّق جماعة المسلمين عنك، فقال أبو بكر: والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذتُ جيش أسامة كما أمر النبي ، ولا أردّ قضاءً قضى به رسول الله .

باختصار قد حافظ على أمر النبي ونفذه وأمر الصحابة الذين كانوا في جيش سيدنا أسامة أن ينضموا إليه من جديد، وقال كل من كان في الجيش من قبل أي كان النبي قد أمره بأن ينخرط فيه يجب ألا يتخلف عنه، وأنه لن يسمح له بالتخلف، فليذهب مع الجيش حتى لو اضطر إلى الخروج معه ماشيًا، فلم يتخلف أحدهم عن ذلك.

باختصار تجهز الجيش من جديد. بعض الصحابة أشاروا على حضرته مرة أخرى نظرًا إلى الأوضاع الحرجة، أن يوقف الجيش.

وفي رواية أن أسامة أرسل عمر بن الخطاب، إلى أبي بكر ليلتمس منه إلغاء قرار إرسال الجيش وقال: لكي نتصدى للمرتدين، فلا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون. وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب: إن أبا بكر خليفة رسول الله، فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغْه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سنًّا من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر فأخبره بما قال أسامة. فقال: لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنفذته كما أمر به رسول الله ، ولا أرد قضاءً قضى به رسول الله ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته. قال عمر: فإن الأنصار تطلب إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سنًّا من أسامة. فوثب أبو بكر، وكان جالسًا، وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعملَه رسول الله وتأمرني أن أعزله؟! فخرج عمر إلى الناس، فسألوه ماذا حدث؟ فقال عمر : امضوا ثكلتكم أمهاتكم (أي عاتبهم)، ما لقيت اليوم بسببكم من خليفة رسول الله خيرًا(16). أي قد انزعج من قولي.

حين اجتمع جيشُ أسامة بأمر أبي بكر في موضع الجرف، ذهب أبو بكر نفسُه إليه واستعرض الجيش ونظَّمه، وكان مشهد خروج الجيش أيضا عجيبًا جدًّا، كان أسامة راكبًا وكان خليفة الرسول أبو بكر يمشي معه، فقال أسامة : يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال أبو بكر : والله لا تنزل ولا أركب، ما عليَّ لو غبرتُ قدميَّ في سبيل الله ساعة؟! لأن الغازي حين يخطو خطوة يُكتب له سبعمائة حسنة، ويُرفع سبعمئة درجة ويُكفر عنه سبعمائة سيئة.

ثم استأذن أبو بكر لأسامة أن يترك عمر ليساعده في شؤونه، فأذن له بذلك.

وبعد هذا الحادث كلما رأى عمرُ بن الخطاب أسامةَ قال له حتى بعد أن انتُخب خليفةً: السلام عليك أيها الأمير، وذلك لأن عمر كان في الجيش وكان أسامة أمير الجيش، لذا كان عند لقائه يقول له السلام عليك أيها الأمير، فيقول أسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين.

وصية أبي بكر لأسامة، وأخلاق المسلمين في القتال

على كل حال، قد أوصى أبو بكر في النهاية جيشَ أسامة قائلًا أوصيكم بعشرة أمور، هي: لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا أموال الغنائم، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا (أي لا تشوّهوا وجوه قتلى الأعداء المقاتلين)، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا أو شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة. وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، (أي لا تتعرضوا لجميع الرهبان والقسوس) وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فكلوا منها باسم الله، (أي إذا قدموا لكم طعامًا فلا تمتنعوا عن أكله بحجَّة أنه حرام، بل ينبغي أن تأكلوه باسم الله) وتلقون أقوامًا قد فحَّصوا عن أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقًا(17). (فعن هؤلاء ورد في روايات مختلفة أنه كانت هناك فئة من المسيحيين لم يكونوا رهبانًا، وإنما كانوا قادة دينيين، وكانو يثيرون الناس ضد المسلمين ويشاركون في الحرب أيضًا، لذا قد قال حضرته لجيش أسامة ألا يتعرضوا للرهبان الذين يقيمون في الكنائس ولا يقاتلوهم، أما الفئة الأخرى فلا بد من قتالهم وأتباعِهم لأنهم يحرِّضون على القتال ويشاركون فيه أيضًا) فقال: اندفعوا باسم الله، حماكم الله من الطعن والمرض والطاعون. ثم قال سيدنا أبو بكر لسيدنا أسامة أن ينفذ كل ما أمره به رسول الله ، ولا يرتكب أي تقصير في تنفيذ أوامر النبي . بعد ذلك عاد سيدنا أبو بكر برفقة سيدنا عمر إلى المدينة.

لقد أرسل سيدنا أبو بكر جيش أسامة في أواخر ربيع الأول من العام الحادي عشر الهجري، وفي رواية أخرى أرسله في ربيع الثاني من العام الحادي عشر الهجري.

لقد سار أسامة إلى أهل أُبنَى بعد عشرين ليلة فشن عليهم الغارة، وكان شعارهم: يا منصور أمِتْ! (أي اقتل كلَّ من قاوَمك) فقتل من أشرف له وسبى من قدر عليه وأجال الخيل في عرصاتهم وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة على فرس أبيه (سبحة) وقتَل قاتِلَ أبيه في الغارة. فلما أمسى أمر الناس بالرحيل ثم أغذ السير فوردوا وادي القرى في تسع ليال، ثم بعث بشيرا إلى المدينة يخبر بسلامتهم، ثم قصد بعد في السير فسار إلى المدينة ستا وما أصيب من المسلمين أحد. (فلما وصل هذا الجيش الفاتح المنتصر إلى المدينة) خرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سرورا بسلامتهم ودخل أسامة على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب حتى انتهى إلى المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته.

بحسب الروايات المتباينة عاد هذا الجيش إلى المدينة بعد المكوث في الخارج من أربعين إلى سبعين ليلة، وورد أنه ربما بسبب حب أبي بكر لرسول الله قال عن راية أسامة التي كان النبي عقدها بيده: أنى لابن أبي قحافة أن يحل عقدة الراية التي عقدها رسول الله بيده. ومن ثم لم تُعقَد تُحلَّ عقدة الراية بعد عودة جيش أسامة، وبقيت تلك الراية في بيت أسامة حتى توفي.

باختصار قد حافظ على أمر النبي ونفذه وأمر الصحابة الذين كانوا في جيش سيدنا أسامة أن ينضموا إليه من جديد، وقال كل من كان في الجيش من قبل أي كان النبي قد أمره بأن ينخرط فيه يجب ألا يتخلف عنه، وأنه لن يسمح له بالتخلف، فليذهب مع الجيش حتى لو اضطر إلى الخروج معه ماشيًا، فلم يتخلف أحدهم عن ذلك.

من بركات طاعة أمر النبي بإنفاذ جيش أسامة

لقد ترتب على إنفاذ جيش أسامة نتائج مهمة وبعيدة المدى، أولا قد علِم الذين كانوا يعارضون بعثه زاعمين أن الظروف تقتضي ألا يرسل هذا الجيش، فقد علموا كم كان قرار الخليفة صائبا وفيمحله! وأدركوا أن سيدنا أبا بكر بعيد النظر جدًّا، وفهيم ومتفرس، وثانيا قد كان المسلمون يخشون قبائل العرب قبل بعثة هذا الجيش، إلا أن الناس أخذوا يفكرون في أن المسلمين لو لم تكن عندهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فهذا الأمر قد عليهم أشعرهم بهيبة المسلمين، وبدأ الروم ييتساءلون دهشة عن نوع هؤلاء الناس، فقد توفي نبيُّهم ومع ذلك يهاجمون بلادنا!

لقد كتب عن جيش أسامة المتخصص في التعليم البريطاني المشهور والمستشرق السير “توماس ووكر آرنولد” ما تعريبه: لقد أرسل أبو بكر جيش أسامة بعد وفاة محمد ( ) الذي كان قد عزم على إرساله إلى الشام، ومع أن بعض المسلمين عارضوا فكرة إرسال هذا الجيش نظرا إلى الأوضاع الحرجة في العرب، لكن أبا بكر أسكت ترددهم بقوله لن ألغي أي أمر أصدره النبي حتى لو صارت المدينة فريسة لوحوش الغابة، سيحقق هذا الجيشُ رغبة النبي حتمًا. فكانت هذه الحملة من الحملات الرائعة التي استمرت وبها حصلت للمسلمين السيطرة على الشام وإيران وشمال أفريقيا، وقضوا على السلطنة الفارسية القديمة، وحرروا أعظم ولايات السلطنة الرومية من قبضتها.

وكذلك ورد في الموسوعة الإسلامية تحت اسم أسامة، أن الخليفة المنتخب حديثا، أبا بكر، أمر بأن يقوم جيش أسامة بالذهاب حتمًا لتحقيق أمنيات النبي ، ومع أن القبائل كانت تتمرد سلفًا، وصل أسامة إلى البلقاء في بلاد الشام، حيث قُتل زيد، وشّن أسامة الهجوم على قرية أُبنى، وبانتصاره سرت موجة الفرحة في أهل المدينة الذين كانوا مضطربي البال كثيرًا بسبب الارتداد، فاكتسبت هذه الحملة أهمية أكثر من حملة عامة، وبذلك عُدت هذه المهمة ممهدة الطريق لفتوحات الشام.

دحض فتنتي الردة ومانعي الزكاة

والتحدي الآخر الذي واجهه سيدنا أبو بكر كان فتنة مانعي الزكاة ورافضيها، فحين انتشر خبر وفاة النبي بين العرب، بدأت تشتعل في كل مكان نيران الارتداد والتمرد، يقول العلامة ابن إسحاق، قد ارتد العرب كلُّهم بعد وفاة النبي إلا أهل المسجدين، أي مكة والمدينة، وصحيح أن أهل مكة سلموا من الارتداد بعد وفاة رسول الله . ولقد ورد تفصيله كما يلي: إن سهيل بن عمرو -الذي أسلم عند فتح مكة- أُسر يوم بدر كافرًا، وكان قد أَعلمَ الشَّفَة، فقال عمر: يا رسول الله، انزع ثنيتيه (أي انزع سنّيه من حيث وضع علامةً على شفته)، فلا يقوم عليك خطيبًا أبدًا؟ فقال: «دعه يا عمر، فعسى أن يقوم مقامًا تحمدْ»(18)، ( أراد عمر أن يعاقبه النبي إلا أنه قال: دعه ولا تقل له شيئًا،  فعسى أن يقوم مقامًا ويقول كلامًا يومًا تحمده عليه) فكان ذلك المقام أن رسول الله لما توفي ارتجت مكةُ، لما رأت قريش من ارتداد العرب، واختفى عتاب بن أسيد الأموي أمير مكة، فقام سهيل بن عمرو خطيبًا، فقال: يا معشر قريش، لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله إن هذا الدين ليمتدّن امتداد الشمس والقمر من طلوعهما إلى غروبهاا(19).. في كلام طويل، ولقد أثّر هذا الكلام في قلوب أهل مكة فتماسكوا.

وأحضر عتاب بن أسيد الذي كان قد اختفى، وثبتت قريش على الإسلام.

أما الذين ارتدّوا فكانوا أصنافًا عدّة، فقد ذكرها أحد كُتّاب سيرة أبي بكر فقال:

فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً وعاد الى الوثنية وعبادة الأصنام، ومنهم من ادّعى النبوة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمتَ بموت الرسول وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحير وتردد وانتظر على من تكون الدبرة، وكل ذلك وضحه علماء الفقه والسير.

وقال الخطابي: إن أهل الردة كانوا صنفين: صنفًا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا الى الكفر. وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة والأسود العنسي الذين صدقوهما على دعواهما وأنكروا نبوة النبي ، والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية. والصنف الآخر هم الذين فرّقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام، وقد كان من ضمن هؤلاء المانعين للزكاة مَن كان يسمح بها ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك. وقريب من هذا التقسيم لأصناف المرتدين تقسيم القاضي عياض، غير أنهم عنده ثلاثة: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة والأسود العنسي. وكل منهما ادعى النبوة، وصنف ثالث استمروا على الإسلام ولكنهم جحدوا الزكاة وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي .

وقسّم الدكتور عبد الرحمن المرتدين إلى أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة، الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر.

أما القبائل التي أبت أن تدفع الزكاة فمن أبرزها قبيلة عَبْسْ وذُبْیَان من أقرب المدينة ومن فروع القبائل بَنُو کِنَانة غَطَفَان وفَزَارَة، بينما ترددت قبيلة هوازن فأنكر أهلها دفع الزكاة.

الشورى في الإسلام، مُعْلِمَة للخليفة، لا مُلزمة

ولقد ورد أيضًا أن أبا بكر تشاور مع الصحابة بخصوص مانعي الزكاة.. وكان رأي عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه ألا يقاتلوا قومًا يؤمنون بالله ورسوله، وأن يستعينوا بهم على المرتدين، وكان البعض يخالفون هذا الرأي إلا أنهم كانوا قلة.

وفي رواية تكلم الصحابة مع أبي بكر في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون، فأبى الصديق.

كان أبو بكر يميل إلى قتال مانعي الزكاة وإجبارهم على أدائها  قسرًا، ولقد كان من تمسكه برأيه أن قال بكل شدة: والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه.

وهناك رواية في البخاري

عن أبي هريرة أن عُمَر قال: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ(20).

أي أن عمر اضطر للتسليم أخيرًا بأن ما يقوله أبو بكر هو الصحيح.

ولقد شرح سيد زين العابدين ولي الله شاه كلمات الحديث: «عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ» فقال:

كلمات «إلا بحق الإسلام» تلقي ضوءًا كافيا على فحوى الجملة، فإذا كان المسلم لا يحافظ على الحقوق الإسلامية بعد إقراره بـ لا إله إلا الله فإنه مؤاخَذ أيضًا، لأنه لا يمكن أن ينجو من العقاب لمجرد إيمانه.

وعبارة: «بحق الإسلام» لها معنيان؛ أحدهما: أنها تنطبق حيثما يتعلق الأمر بالحقوق الإسلامية، الحق مصدر ويتضمن معنى الجمع. وثانيهما: تنطبق حيثما يجعل الإسلام أخذ الأموال والأنفس ضروريًا. إن فعل: حَقَّ الْاَمْرَ: اَثْبَته – أَوْجَبه، ويُستخدم متعديًا أيضًا. إن سلامة أفراد الأمة تعتمد على أداء الحقوق. فكما أن عدم أداء الضريبة يعدّ تمرّدًا ويوجب العقاب كذلك عدم أداء الزكاة يوجب العقوبة.

والتحدي الآخر الذي واجهه سيدنا أبو بكر كان فتنة مانعي الزكاة ورافضيها، فحين انتشر خبر وفاة النبي بين العرب، بدأت تشتعل في كل مكان نيران الارتداد والتمرد، يقول العلامة ابن إسحاق، قد ارتد العرب كلُّهم بعد وفاة النبي إلا أهل المسجدين، أي مكة والمدينة، وصحيح أن أهل مكة سلموا من الارتداد بعد وفاة رسول الله .

لم يوافق عمر أبا بكر سابقًا ولكنه لما أضاف كلمات: «إلا بحقّه»، قبل رأيه. يتضح من هذه الواقعة أنه لا حقيقة للإقرار بـ لا إله إلا الله باللسان إن لم يرافقه العمل الصالح.

إن عنوان هذا الباب هو الآية التالية:

فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة:5)

ويقول الله تعالى وهو يعرض مضمون هذه الآية نفسها:

فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (التوبة:11)

أي في هذه الحال لا تتعرضوا لهم. ولقد اتضح من هذه الكلمات أن تارك أحد هذه الأمور الثلاثة ليس بمسلم. لا بد من التقيد بأركان الإسلام الخمسة كلها. ولقد اعتبر النبي -باستخدام كلمات «إلا بحقه»- الإنفاق في سبيل الله حقًّا للفئة الضعيفة للمجتمع، وهذا يعني أنه فرض على ذوي السعة التقيّد بأحكام الإسلام، وأن يؤدوا ما فرض عليهم من حقوق مالية. وهكذا ستبقى حقوقهم محفوظة. فإن استدلال أبي بكر بكلمات «إلا بحقه» لهو عميق ويدل على شمول نظرته. وعليه فبحسب رأي أبي بكر إن عدم أداء الزكاة تمرّد، ومن يأبى أداء الزكاة فلا يبقى فردًا من المجتمع الإسلامي، ولا بد من قتاله على هذا التمرّد. لا شك أن الإسلام أعطى الحرية الدينية لقوله: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ، ولكن الذي يدّعي الإسلام في الظاهر ويتمتع بملاذ المجتمع الإسلامي من خلال انخراطه فيه، ويستفيد ببركاته ويتمتع بكامل حقوقه الاجتماعية، إلا أنه لا يؤدي الفروض والواجبات التي أوجبها عليه الإسلام لكونه فردًا من المجتمع الإسلامي، فلا يحق له أن يتمتع بحق الصيانة والملاذ الاجتماعي. ليست من دولة يمكنها أن تغض الطرف عن الذين يخالفون القوانين ويتمردون. الحقيقة أن نظام الزكاة الإسلامي والصدقات يتعلق بالمجتمع ولا يتعلق بفرد من أفراده، لذلك فإن نتائجه وآثاره أيضا تتعلق بالمجتمع دون الفرد.

وفي رواية قال عمر : «تألف الناس يا خليفة رسول الله وارفق بهم». فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: أجبّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام؟!(21)

على أية حال، سأتناول نتائج قتال المسلمين لمانعي الزكاة وغيرهم لاحقًا إن شاء الله تعالى.

واليوم أيضا أقول عن الظروف الراهنة للعالم أن تدعو الله تعالى ليهب العقل والفهم للحكومات من الطرفين حتى يتوقف هؤلاء عن إهلاك البشرية. إلى جانب ذلك ينبغي علينا نحن المسلمين أن نتعلم درسًا، فانظروا كيف اتّحد هؤلاء، ولكن لا يتحد المسلمون رغم أن شهادتهم واحدة. لقد دُمرت العراق ودُمرت سوريا وتُدمّر اليمن الآن، فبدلا من أن تتوحد كلمتكم تُدَمّرون البلاد بأنفسكم وتجعلون غيركم يدمرونها. فعلى الأقل ينبغي أن يتعلم المسلمون من هؤلاء درس الوحدة. رحم الله تعالى المسلمين جميعًا والأمة الإسلامية قاطبة. ولن يتأتى ذلك إلا إذا آمن هؤلاء بإمام الزمان الذي بعثه الله تعالى في هذا العصر لهذا الغرض نفسه. وهب الله تعالى لهم العقل والفهم وأعانهم على تحسين أحوالهم وأن يدعوا للعالم ويسخّروا جميع الوسائل المتاحة لهم للحيلولة دون نشوب الحروب ناهيك عن أن يخوضوا فيها بأنفسهم.

الهوامش:

  1. (آل عمران:145)
  2. (التحفة الغولروية)
  3. (التحفة الغولروية)
  4. (صحيح البخاري، كتاب المناقب)
  5. (أبوبكر الصديق الأكبر، لمحمد حسين هيكل)
  6. (فتح الباري ج8)
  7. (مغازي الواقدي: جلد : 3 صفحه : 1119)
  8. (البداية والنهاية الجزء 6)
  9. (الطبقات الكبرى ج2)
  10. (شرح الزرقاني علی المواهب اللدنية ج4)
  11. (البداية والنهاية الجزء6)
  12. (تاريخ الطبري ج2)
  13. (الکامل في التاريخ ج2 ص199)
  14. (البداية والنهاية ج3)
  15. (السير الروحاني 6)
  16. انظر: (السيرة الحلبية – الحلبي – ج ٣)
  17. (ابن عبد البر، الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة)
  18. (ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة)
  19. (صحيح البخاري، كتاب الزكاة)
  20. (الـمُلا علي القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)
Share via
تابعونا على الفايس بوك