القول الصواب في التوفيق بين استجابة الدعاء والعمل بالأسباب

القول الصواب في التوفيق بين استجابة الدعاء والعمل بالأسباب

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

حضرة مرزا مسرور أحمد (أيده الله)

الخليفة الخامس للمسيح الموعود (عليه السلام)
  • ما هي فلسفة الدعاء في الإسلام؟
  • ما هي شروط الاستجابة؟
  • كيف نوفق بين الدعاء والعمل بالأسباب؟

_________

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (1)

القضاء والفدية، السؤال المتكرر

بفضل الله تعالى تسنح لنا هذا العام فرصة شهود رمضان آخر. وينبغي أن نتذكر أنه لا يكفي مجرد شهود الشهر وحلوله علينا، ولا يحقق الهدف من الصيام مجرد التسحُّر ومواصلة الإمساك عن الطعام نهارًا ثم الإفطار مساء، بل أمرنا الله تعالى بإحداث تغييرات طيبة في أنفسنا من خلال هذا الصيام. لقد وجه الله تعالى إلينا بعض الأحكام بصدد الصيام وبشرنا بقربه واستجابته للأدعية نتيجة العمل بها. ولقد تلوت بعض الآيات التي نبهنا الله تعالى فيها إلى فرضية الصيام، كما أخبرنا فيها أنه إذا كان أحد مريضًا أو لديه سبب مشروع لترك الصيام فعليه أن يكمل العدة في أيام أُخَر، أو يؤدي الفدية إذا كان المرض مزمنًا ولا يستطيع إكمال العدة لاحقًا، ولكن اعلموا أنه عليه الفدية إن قدر على أدائها حتى ولو استطاع إكمال العدة لاحقًا.

العلاقة الوثيقة بين الصيام والدعاء

ثم من خلال ذكر أهمية القرآن الكريم ونزوله أخبرنا الله تعالى أن تلاوته والعمل به مجلبةٌ للهداية وتقوية للإيمان وذريعةٌ لإقامة العلاقة مع الله تعالى، ولفهم تعليمه الذي أنزله. ثم قال تعالى:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (2).

ولا يغيبن عن البال قول النبي : إن الله ينزل إلى السماء الدنيا في شهر رمضان أي يستجيب أدعية عباده كثيرًا. ولكن الله تعالى قال بأنكم إذا أردتم أن أستجيب دعواتكم فلا بد أن تستجيبوا لي أيضًا، فاعملوا بأوامري التي وجهتها إليكم، وذلك ليس في رمضان فحسب بل لا بد أن تجعلوا تلك الحسنات جزءًا من حياتكم وتقوّوا بها إيمانكم. فلاستجابة الدعاء شروط، إذا زيّنّا بها دعواتنا وجدنا الله تعالى قريبًا ومجيبًا لدعواتنا.

سوف أقدم الآن بعض المقتبسات من كلام المسيح الموعود المتعلقة بأهمية الدعاء، وبشروط استجابته التي ينبغي أن نحسّن بها حالتنا العملية، كما أقدّم مما قال حضرته عن فلسفة الدعاء وعمقها.

لماذا لا يستجيب الله أدعية البعض؟!

يقوم الكثيرون منا بالدعاء بشكل سطحي ثم يقولون لم يستجب الله تعالى دعواتنا. وكأنهم يقصدون بذلك أنهم قالوا لله تعالى أن ينجز عملًا ما وكان ينبغي عليه أن ينجزه والعياذ بالله، يظنون وكأن الله تعالى يتقيد بأوامرهم وعليه أن ينفذ ما أرادوا وكيفما يريدون مهما كانت أعمالهم سيئة أو حسنة، والعياذ بالله. لقد قطع الله تعالى بأنه لن يتحقق ما يبغون. بل ينبغي أن يستجيبوا له أولًا وينبغي أن يجعلوا أعمالهم متوافقة مع التعليم القرآني. وبما أن الجو يكون مشحونًا بالأعمال الصالحة والدروس وغيرها في رمضان، فعليكم بالتدبر في وصايايْ وأحكامي والاستماع لها والعمل بها. وعليكم بمحاسبة أنفسكم لتعرفوا مدى قوة إيمانكم، ولتدركوا ما إذا كان سيتزلزل عند تعرضكم للابتلاء أم لا.

على أية حال، إنه لموضوع ينبغي للعبد أن يخطو فيه أولا. فإذا وصل العبد في سعيه إلى الذروة فارت له رحمة الله وشفقته وجاش له فضل من الله تعالى. لابد لنا من استيعاب هذا الأمر. يقول المسيح الموعود :

«الدعاء مفخرة خاصة بالإسلام، والمسلمون يعتزون به كثيرا. ولكن اعلموا أن الدعاء لا يعني ثرثرة اللسان فقط. بل المراد منه أن يمتلئ القلب بخشية الله تعالى، وتخر روح الداعي على عتبات الله وتسيل كالماء وتلتمس من الله القوي المقتدر قوةً ومغفرة وقدرة للتغلب على نقاط ضعفها وزلاتها. يمكن التعبير عن هذه الحالة بالموت بكلمات أخرى. مَن تيسرت له هذه الحالة فاعلموا أن باب الإجابة يُفتح له ويوهب قوة وفضلا واستقامة خاصة لاجتناب السيئات والثبات على الحسنات. هذه هي الوسيلة الأقوى»(3).

هذا هو طريق الدعاء وطريق نيل قرب الله تعالى واستجابة الدعاء والتطهر من الآثام.

كيف يمكننا معرفة ما إذا كانت ذنوبنا قد غُفرتْ ورضي الله تعالى عنَّا؟

هذا السؤال، كثيرا ما يُطرح عمومًا، ولقد أجاب عليه المسيح الموعود ذاكرًا قاعدة هامة بهذا الخصوص، وهي أنه لو نشأت العلاقة الحقيقية والدائمة مع الله تعالى التي سعى لها الإنسان سعيه، لأدى ذلك إلى نزول فضل الله تعالى الذي يهبه قوة على الدوام لتجنب السيئات، وإلى جانب ذلك توهب للإنسان قوة على كسب الحسنات على الدوام أيضا. فإن لم يبلغ الإنسان هذه الحال، لا يسعه القول بأنه نال قرب الله تعالى. فلا يمكن أن يكون الإنسان عابدًا حقيقيًا ما لم يفكر على هذا النحو وما لم يعمل وفق هذا المنهج. وينبغي علينا السعي لتحقيق هذا الأمر في شهر رمضان.

كما ذكرت أنني سأقدم بعض الأمور المتعلقة بالدعاء من كلام المسيح الموعود . فقد قال شارحًا قضية استجابة الدعاء:

«إن استجابة الدعاء في الحقيقة فرع لقضية الدعاء. ومن المسلَّم به أن الذي لا يفهم الأصل يواجه تعقيدات في فهم الفرع ويخطئ في كل خطوة. لفهم شيء من الأشياء لا بد من فهم أساسه أولًا، فما لم يفهم الإنسان القواعد الأساسية لشيء ما لا يمكنه استيعاب نكات أخرى وشروحها وتوضيحاتها. قال حضرته: إن ماهية الدعاء هي أن هناك علاقة تجاذبٍ بين العبد السعيد وربه، بمعنى أن رحمانية الله تعالى تجذب العبد إليها أولا ثم يتقرّب الله تعالى إلى العبد نتيجة مساعٍ صادقة من العبد. (فإن كان العبد يبذل مساعيه بصدق القلب فإن الله تعالى يتقرب إليه) وفي أثناء الدعاء تبلغ تلك العلاقة مبلغًا خاصا وتُظهر خواصّها العجيبة. فبعد التعرض لمصيبة شديدة حين يخضع العبد لله تعالى باليقين الكامل والأمل الكامل والحب الكامل والإخلاص الكامل والعزيمة الكاملة، ويتيقّظ إلى أقصى الحدود ويتقدم في مجالات الفناء ممزِّقًا حُجُب الغفلة فإذا به أمام عتبات الله الذي لا شريك له. عندها تضع روحه رأسها على عتباته تعالى. (أي يغيب كل شيء فلا يرى إلا الله في كل حدب وصوب، ولا تبقى للدنيا ولأشيائها أية حقيقة في نظره، فلما يحظى بهذه الحالة ويرى الله تعالى تخرُّ روحه ساجدة على عتبة الله تعالى) وقوةُ الجذب المودَعة فيه تجذب ألطاف الله تعالى. (هناك قوة الجذب في الإنسان أيضا وهي تجذب عنايات الله تعالى وأفضاله) وعندها يتوجه الله تعالى إلى إتمام أمر العبد ويلقي بتأثير الدعاء على الأسباب المبدئية التي تؤدي إلى خلق أسباب ضرورية أخرى لنيل ذلك المطلوب. فمثلا إذا دعا لنزول المطر نشأت بتأثير الدعاء بعد استجابته أسباب طبيعية ضرورية لنزول المطر، وإذا كان الدعاء على قوم لحلول القحط بهم خلق الله القادر على كل شيء أسبابا مخالفة لنزول المطر»(4).

ثم قال حضرته :

«وآلاف المعجزات التي ظهرت على أيدي الأنبياء أو الكرامات العجيبة التي أظهرها أولياء الله منذ القِدم كان مصدرها الحقيقي هو الدعاء وحده. إن أنواع الخوارق التي تُري تجليات قدرة الله القادر على كل شيء تكون نتيجة تأثير الدعاء في معظم الأحيان»(5).

إن القرآن الكريم يفيض بالنبوءات، ونرى أن كثيرًا من النبوءات قد تحققت في زمن المسيح الموعود ، كما نرى أن كثيرًا من الصلحاء يرون رؤى صالحة تتحقق، ويظهر تأثير الأدعية أيضا، ولكن لا يحصل كل هذا إلا إذا خضع الإنسان لله تعالى مخلصًا له.

شهر يفتح فيه باب الجهاد. ولكن، أي جهاد؟!

يقول المسيح الموعود شارحًا أمر الدعاء أكثر:

يقول الله تعالى

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (6)،

أي أن الذين يجاهدون في سبيلنا سوف نهديهم إليها. (فلا بد للعبد أولا أن يقوم بالمجاهدة، فعليكم بالمجاهدة أولا) فهذا وعد من الله تعالى، وهناك دعاء:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ،

(فلقد وعد الله تعالى بأنكم إذا جاهدتم في سبيلي فسأرشدكم إليها. ومن ناحية أخرى هناك علَّمَنا دعاء (اهدنا الصراط المستقيم). فعلى المرء أن يقوم يدعو متضرعا بإلحاح آخذا في الحسبان هذا الوعد، ويتمنى أن يدخل في الذين قد حازوا الرقي والبصيرة، لئلا يرحل من هذه الدنيا أعمى عديم البصيرة، فإن الله تعالى يقول

مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى

(أي أعمى روحانيا، فالذي هو غارق في هذه الدنيا ولم يحرز معرفة الله ولم يدرك حكمة الدعاء، وتأثيره، فليس في وسعه الفوز بقرب الله حتى في العالم الآخر أيضا.) يجب الاستعداد للآخرة في هذه الدنيا، فاهتموا بذلك. وهذا يعني أن لمشاهدة ذلك العالم علينا أن نأخذ أعينًا من هذا العالم، (إذا كنا نريد أن نبصر ذلك العالم الذي نفوز فيه بقرب الله فعلينا أن نأخذ معنا أعينًا من أجل ذلك من هذا العالم) ويجب في هذا العالم إعداد الحواس المناسبة لإدراك عالم الآخرة. أَوَيَجُوزُ الظن أن الله يقطع معنا وعدًا ثم لا يفيه.

فالأعمى هنا هو من لا حظ له من المعارف الروحانية واللذات الروحانية. فمن وُلد في بيت مسلم يسمى بسبب تقليده الأعمى مسلما (أي إيمانه وتقليده واتباعه أعمى فقط لكونه قد ولد ببيت مسلم إذ لا يحرز أي عمل شخصيا). وبالمثل إذا ولد شخص آخر في بيت مسيحي، فصار مسيحيًّا. وهذا هو السبب وراء كون هذا الإنسان لا يكن لله ولا للرسول ولا للقرآن الكريم أي احترام. إن حبه للدين أيضا جدير بالاعتراض. إنه يعيش بين المسيئين إلى الله ورسوله، وليس سببه إلا أنه لا يملك عيونا روحانية، ولا يكنُّ للدين حبا، وإلا فمتى يحب المحب شيئا ضد محبوبه.

لو نشأت العلاقة الحقيقية والدائمة مع الله تعالى التي سعى لها الإنسان سعيه، لأدى ذلك إلى نزول فضل الله تعالى الذي يهبه قوة على الدوام لتجنب السيئات، وإلى جانب ذلك توهب للإنسان قوة على كسب الحسنات على الدوام أيضا. فإن لم يبلغ الإنسان هذه الحال، لا يسعه القول بأنه نال قرب الله تعالى. فلا يمكن أن يكون الإنسان عابدًا حقيقيًا ما لم يفكر على هذا النحو وما لم يعمل وفق هذا المنهج. وينبغي علينا السعي لتحقيق هذا الأمر في شهر رمضان.

الله تعالى مستعد للعطاء ما دمنا مستعدين للتلقي!

باختصار. لقد أكد لنا الله تعالى أنه مستعد ليعطينا إذا كنا مستعدين للتلقّي. فالقيام بهذا الدعاء هو الاستعداد لتلقّي هذه الهداية.

إذن اُدعوا الله كثيرًا في هذه الأيام «اهدنا الصراط المستقيم». نسأل الله أن يهدينا الصراطَ المستقيم ويطهِّر قلوبنا ويجعلنا عابدين حقيقيين، ويوفقنا لأداء حقوق عباده أيضًا، لئلا نكون مثل المتشددين المتطرفين في العصر الراهن، حيث تمارَس المظالم باسم الله ورسوله. نسأل الله أن يحمي كل إنسان من شر هؤلاء الظالمين. بعض الناس يقولون إنا أذنبنا كثيرًا فلن يغفر الله لنا، ثم يسألون إلى أي حد من الذنوب يمكن أن تُغفَر، ثم يتمادون في الذنوب أكثر ظنا منهم بأنه لن يُغفر لهم. إنما الشيطان في الحقيقة يخلق هذه الوسوسة في قلوبهم، ويستخدم أجهزته لإبعادهم عن الله، وهم يصبحون لعبة في يديه.

أما نحن فقد علَّمنا المسيح الموعود الطريق لاتقاء هجمات الشيطان هذه والتخلص من فخه، قائلًا يجب ألا يمتنع المذنب عن الدعاء نظرًا إلى كثرة ذنوبه. فقال إن الدعاء ترياق. فسوف يرى الإنسان إثر الدعاء كم يكره الذنوب، فالدعاء هو علاج لاتقاء الذنوب. عندما تدعون الله بصبر وانتظام فسوف ترون أنكم بدأتم تكرهون الذنب، وسوف يفر الشيطان. فالذين هم منغمسون في المعاصي ويقنطون من قبول الدعاء ولا ينصرفون إلى التوبة، ينتهي بهم المطاف إلى إنكار الأنبياء وتأثيراتهم ثم يبتعدون عن الدين، وأخيرا يصلون تدريجا إلى الإلحاد. فالإسلام يخلق الأمل لمثل هؤلاء الغارقين في الذنوب أيضا، وشهر رمضان هذا يتيح فرصة ليعلمنا كيف نتوب من الذنوب، فالله يخلق لنا هذه الأجواء كل سنة، لذا يجب الاستفادة من هذا الشهر.

يقول حضرته بيانا لإلهام له: لقد وعدني مولاي الكريم صراحةً وقال «أجيب كل دعائك»(7). غير أني أدرك جيدا أن لفظ «كل دعائك» يعني كل دعاء يؤدي عدم استجابته إلى الضرر، أما إذا أراد الله تعالى تربية المرء وإصلاحه فيصبح رد دعائه هو الإجابة. فأحيانا تخيب آمال المرء في دعاء معين ويظن أن الله تعالى قد رفض دعاءه، مع أنه تعالى يكون قد أجاب دعاءه وتكون الإجابة بصورة الرفض، لأن خيره يكون كامنا في رفضه في الواقع. لما كان الإنسان قصير النظر ولا يفكر بعيدا، بل يتمسك بظواهر الأمور، فالأَولى به أنه إذا دعا الله تعالى ولم يأتِ الدعاء بنتيجة مرضية، فعليه ألا يسيء الظن بالله تعالى فيقول بأنه لم يسمع دعائي، فإن الله تعالى يسمع دعاء الجميع إذ يقول:

ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (8)،

والسر في عدم استجابة الدعاء أحيانا هو أن الخير والبركة يكون كامنا للداعي في رد دعائه.

ثم وضح ذلك قائلًا:

إنما قاعدة الدعاء أن الله تعالى لا يكون تابعًا لرغبة الداعي وآماله. تعلمون كم تحب الأمهات أولادهن، ولا يردن أن يصابوا بأي أذى، لكن الولد إذا أصر على أمر خاطئ، فطلب مثلا من أمه باكيًا سكينًا حادة أو جذوة ملتهبة من النار، فهل تسمح له أمه، مع حبها الصادق وحرقتها الحقيقية له، أن يأخذ هذه الجذوة ويحرق بها يده، أو أن يمسك بسكين حادة ويجرح بها يده؟ كلا. من هنا تستطيعون أن تفهموا مبدأ إجابة الدعاء. وإني صاحب خبرة في هذا المجال، فحين يسأل اللهَ الداعي ما يضره، فلا يُجاب الدعاء أبدا. (أي لا أقول إن كل دعاء لي قد أجيب، فالله أعلم وهو عالم الغيب فحين يرى في دعائي أمرا ضارا لا يجيبه) يمكننا أن ندرك جيدا أن علمنا ليس يقينيا ولا صحيحا، فهناك أمور كثيرة نقوم بها مسرورين باعتبارها مباركة، ونظن أن عاقبتها تكون مباركة جدا، ولكنها تتحول في نهاية المطاف إلى هَمٍّ ومصيبة ملازمة لنا. (نجد الأمثلة على ذلك كثيرا اليوم أيضا، فقد لاحظت في البريد اليومي حيث يكتب الناس أنهم دعوا لأمر ما ثم بذلوا الجهود لإنجازه زعما منهم أنه جيد لكنه لم يؤد إلى نتائج مرجوة. ثم يشتكون الله أنهم كانوا قد بدأوا هذا العمل بعد الدعاء الكثير وإخراج الصدقة، ومع ذلك لم تظهر منه نتائج جيدة أو مع ذلك لم يُتقبَّل دعاؤهم. فأقول يجب أن ينظروا أولا هل كانوا قد أوصلوا الدعاء إلى الدرجة المطلوبة النهائية، وهل أنشأوا مع الله صلة كما يجب؟ وإذا كان جوابهم بالنفي فكل هذه الأمور هي كما قال المسيح الموعود مجرد دعاوى فارغة. أما إذا كانوا قد أوصلوا الدعاء إلى النهاية ثم ردَّه الله تعالى أو لم تظهر له نتائج مرجوة فإن في ذلك حكمة الله وفيه كانت تكمن منفعة الإنسان. أما إذا كان المرء يصر على أمر لخطئه فعليه أن يستغفر الله بدلا من أن يشتكيه، ويقول إنه كان خاطئًا في إصراره على أمر لم يكن نافعا له. فبعضهم دعوا الله قائلين ربنا إذا كان هذا الأمر خيرا لنا فتقبل دعاءنا وإن لم يكن فيه خير لنا فتقبله أيضًا. هذا ما حدث في بعض الزيجات أيضًا، حيث تقبل الله الدعاء وحصل زواج الداعي ممن كان يريدها، وبعد مدة قصيرة حصل الطلاق. إذن يجب ألا يدعو المرء بهذه الصيغة، فالله أحيانًا يتقبل مثل هذه الأدعية التي لا يكون فيها خير للداعي وذلك لتلقين الإنسان الدرس. وحين تظهر النتيجة يستغفر الله تائبًا.)

الدعاء المستجاب، وشروط الاستجابة

قصارى القول في موضوع استجابة الدعاء، أننا لا نستطيع القول بأن كل ما يرغب فيه المرء هو خير له، كلا، بل الإنسان مركَّب من عرضة للسهو والنسيان، لذا من المحتمل أن يكون بعض ما يريده ضارًا، وهذا هو الحق، ولو قبل الله دعاءه كما هو، لتعارض هذا مع رحمته سبحانه وتعالى تعارضًا صارخًا. (أي إذا كان العبد حبيب الله ومخلصًا له فهو لا يجيب دعاءه من هذا القبيل، لأن رحمته تقتضي ألا يترك عباده يتضررون هكذا.)

قال : «إنه لمن الحقائق الثابتة اليقينية أن الله تعالى يجيب أدعية عباده ويشرفها بالقبول، لكنه لا يقبل كل رطب ويابس من الأدعية، لأن الإنسان لا يبرح يدعو غير ناظر إلى العواقب من فرط حماس نفسه، ولكن الله الذي هو ناصح حقيقي وعالم بالعواقب، يرفض دعاء الداعي الذي يجلب قبول دعائه أضرارًا وعواقب وخيمة له، ويكون رفض دعائه هو قبوله. (هذا هو مبدأ الله تعالى لمقربيه ) فالله تعالى يستجيب دعاء العبد ما دام قبوله سيحفظه من الآفات والصدمات، أما دعاؤه الذي فيه ضرر فيقبله الله تعالى برفضه.

لقد تلقيت الوحي التالي مرارًا: «أجيب كل دعائك»، وبتعبير آخر، إن كل دعاء هو نافع ومفيد سوف يجاب. (هذا شرح المسيح الموعود أن كل دعاء نافع سيُقبل) عندما أفكر في هذا الأمر تمتلئ روحي لذة وسرورا. عندما تلقيت هذا الوحي أول الأمر، وذلك قبل قرابة 25 أو 30 عامًا، فرحت فرحة كبيرة بأن الله تعالى سيستجيب أدعيتي لي ولأحبابي حتمًا، ثم فكرت أنه لا ينبغي لي أن أكون بخيلًا في هذا الأمر، فإنها نعمة ربانية، وقد قال الله تعالى في وصف المتقين

وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ،

ولذلك فإن دأبي أن أدعو لأحبابي بخير الدنيا والآخرة دومًا، سواء ذكّروني بذلك أم لا، وسواء عرضوا عليّ أمرا خطيرًا أم لا.

ثم قال المسيح الموعود وهو يبين شروط استجابة الدعاء:

يجب الانتباه جيدًا إلى أن هناك شروطًا لاستجابة الدعاء، منها ما يتعلق بالداعي ومنها ما يتعلق بطالب الدعاء من غيره. فأما طالب الدعاء فلا بد له أن يتقي الله ويخشاه، (هذا أيضًا مهم للغاية أن طالب الدعاء أيضًا يجب أن يخشى الله تعالى دومًا ويتذكر أن الله غني فلا بد له أن يتقي الله ويخشاه) ويخاف دائمًا غنى الله تعالى، ويتخذ الصلح وعبادة الله شعارًا له، ويُرضي الله بالتقوى والصدق، ولو فعل ذلك لفُتح له باب استجابة الدعاء. (إذا حقق هذه الشروط كلها فتح الله له باب استجابة الدعاء) أما إذا كان يُسخط الله تعالى ويفسد صلته به ويحاربه، (ولا يعمل بأحكامه تعالى ولا يؤدي حقوقه وحقوق خلقه تعالى) فإن شروره وسيئاته تقف في طريق إجابة الدعاء سدًّا منيعًا وصخرة كأْداء، ويغلق عليه باب استجابة الدعاء. (أي لا تُقبل أدعيته كما لا تقبل في حقه أدعية مَن يطلب منه الدعاء، قال ) لذا فعلى أحبابنا أن يحموا أدعيتنا من الضياع، ولا يعرقلوا طريقها بتصرفاتهم غير اللائقة. (إذا كانت أعمالكم غير صالحة فلن تُقبل أدعيتي في حقكم وستكون أعمالكم عائقًا دون قبولها).

يجب ألا يمتنع المذنب عن الدعاء نظرًا إلى كثرة ذنوبه. فقال إن الدعاء ترياق. فسوف يرى الإنسان إثر الدعاء كم يكره الذنوب، فالدعاء هو علاج لاتقاء الذنوب. عندما تدعون الله بصبر وانتظام فسوف ترون أنكم بدأتم تكرهون الذنب، وسوف يفر الشيطان.

ثم من الضروري لقبول الدعاء أن يكون الإنسانُ قوي الإيمان أيضًا، وهذا أيضًا من الشروط الأساسية، وكذلك يجب أن يكون عمله صالحًا، وقد مضى ذكر العمل الصالح من قبل أيضًا كما قال الله تعالى: فليستجيبوا لي. لذلك فإن الاستجابة لأوامر الله تعالى والعمل بها من الأمور الأساسية التي هي ضرورية لقبول الدعاء. قال المسيح الموعود شارحا هذا الأمر:

“الحق والحق أقول إن الذي لا يقوم بالعمل فإنه لا يقوم بالدعاء بل يختبر الله تعالى، لذا فلا بد من استنفاد جميع القوى والقدرات قبل الدعاء، وهذا هو معنى هذا الدعاء. فلزام على المرء أن يفحص معتقده وأعماله قبل الدعاء، لأن من سنة الله أن الإصلاح يتم بالأسباب، حيث يخلق الله سببًا ما يؤدي إلى الإصلاح. (وإذا سعيتم لإصلاح أنفسكم أصلحتموها، وإذا كنتم تدعون الله تعالى بقلب صادق خلق الله سببا للإصلاح.) والذين يقولون ما الحاجة إلى الأسباب مع الدعاء؟ عليهم أن يتوقفوا هنا على وجه الخصوص وقفة تأمُّلية. يجب أن يفكر هؤلاء الأغبياء أن الدعاء بحد ذاته سبب خفي يؤدي إلى أسباب أخرى، (وقد قُدّمت جملة (إياك نعبد) على جملة (إياك نستعين) -وهي جملة دعاء- شرحًا لهذا المعنى خاصة.)

باختصار، إن سنة الله التي نراها دوما أنه يخلق الأسباب، فيهيِّئ الماء لإزالة الظمأ والطعامَ لسد الجوع ولكن من خلال الأسباب. (ولا يحدث أن ينطفئ الظمأ بلا سبب ولا يزول الجوع بعملية سحر بل لا بد من أسباب تهيّء الماء والطعام) فسلسلة الأسباب هذه مستمرة على هذا النحو، وتخلق الأسباب حتمًا، لأن لله تعالى اسمين…كما قال:

وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا .

والعزيز هو من يفعل ما يشاء، والحكيم هو من يكون فعله في محله الملائم والمناسب لحكمة ما. فمثلا، تجدون في النباتات والجمادات أنواع الخواص، فتناول مقدار ضئيل جدًا من التربد أو السقمونيا يسبب الإسهال. إن الله قادر على أن يجعل بطن المرء يجري بدون سبب، أو يقطع عطشه بدون الماء، (إن الله يملك قدرة على أن يفتح البطن ويطفئ الظمأ بدون الماء) ولكن كشْف عجائب قدرته للإنسان كان ضروريًا، (الأشياء التي خلقها الله تعالى لها عجائب قدَّرها الله تعالى فيها وكان ضروريا أن يُعلِّم الإنسان إياها) لأنه كلما ازداد معرفةً بعجائب قدرة الله اطّلع على صفات الله أكثر، مما يساعده على التقرب إلى الله تعالى. علم الطب والهيئة مثلًا يكشف الكثير من خواص الأشياء.

لو نظر الإنسان بعين روحانية في هذه الأشياء التي خُلقت وإذا تأملها عالم مؤمن بوحدانية الله وجد دليلًا على وجود الله تعالى على كل اكتشاف، وازداد إيمانا ولكن الملحد يسميه صدفة، على أية حال قال المسيح الموعود إنها عجائب قدرة الله ولم يخلقها الله تعالى إلا ليعلم الإنسان أن لكل شيء هدفًا وغاية.

ثم قال : فلينتهجوا سبيل التقوى، فإن التقوى هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يُعَدُّ ملخص الشريعة. فلو أردنا بيان الشريعة بإيجاز، فليس لبّ الشريعة إلا التقوى. وللتقوى مدارج ومراتب كثيرة، ولكن لو تخطّى الإنسان المراحل الابتدائية بمثابرة وإخلاص طالبًا بصدق، لارتقى إلى المدارج العليا نتيجة إخلاصه وطلبه الصادق. يقول الله تعالى:

إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (المائدة: 28)،

أي أنه تعالى لا يجيب إلا دعوات المتقين. وكأن هذا وعد من الله تعالى، والله لا يخلف الميعاد كما قال:

إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (الرعد: 10).

فما دامت التقوى شرطًا لازما لاستجابة الدعاء، فهل من شك في حماقة وسفاهة إنسان يريد استجابة دعائه مع عيشه عيشة الغفلة والانحراف؟ فعلى جماعتنا أن يبذل كل فرد منها قصارى جهده لسلوك سبل التقوى، لكي ينال لذة استجابة الدعاء ومتعتها، ويزداد إيمانًا.

استجابة الدعاء رحمة، فمن يُستجاب له؟!

يقول المسيح الموعود في معرض بيانه أنواع الرُّحْم:

اعلموا أن الرُّحم نوعان: أحدهما يسمى الرحمانية والآخر الرحيمية. والرحمانية فيض بدأ حتى قبل أن نُخلق ونوجد، فمثلًا لقد خلق الله في البداية بناء على علمه الأزلي هذه الأرض والسماء وما فيهما من أشياء كلها نافعة ومفيدة لنا، والإنسان هو الذي ينتفع منها كلها على وجه العموم، فما دامت الخراف والماعز وغيرها من الحيوانات نافعة للإنسان فماذا عسى أن ننتفع من هذه الأشياء؟

ترون في الأمور الجسمانية كيف أن الإنسان يأكل كلَّ ما لذ وطاب من الأغذية، فيأكل اللحم الجيد من الحيوان، ويبقى الرديء منه والعظام للكلاب. لا شك أن الحيوانات تشارك الإنسان فيما هو متيسِّر له من المتع واللذات الجمسانية، إلا أن الإنسان أكثر حظا منها، أما المتع الروحانية فلا تشاركه فيها الحيوانات. باختصار، هناك نوعان من الرحمة، أولهما ما خلقه الله تعالى حتى قبل وجودنا كمقدمة وتوطئة من أشياء من عناصر وغيرها، وهي مسخرة لنا، ومخلوقة بمقتضى رحمانية الله قبل وجودنا ورغبتنا ودعائنا. والنوع الآخر من الرحمة هو الرحيمية، بمعنى أننا حين ندعو الله تعالى فإنه يعطينا سُؤْلنا. والتدبر يكشف أن علاقة القانون الطبيعي هو علاقة الدعاء دومًا. إن البعض يعتبره اليوم بدعة، لذا أود أن أبين علاقة دعائنا بالله تعالى.

عندما يبكي الرضيع ويصرخ للحليب من شدة الجوع، يتدفق اللبن في ثدي الأم. لا يعرف الطفل حتى اسم الدعاء، ولكن كيف تستدرّ صرخاته اللبن. هذا ما جرّبه الجميع. فقد لوحظ في بعض الأحيان أن الأم لا تشعر بوجود اللبن في ثديها، ولكن صرخة الرضيع تجلبه تلقائيا. أفلا تقدر صرخاتنا أمام الله تعالى إذن أن تجلب شيئًا؟ كلا، بل تجلب وتجلب كل شيء، ولكن العميان الذين يدّعون أنهم علماء وفلاسفة لا يقدرون على أن يروا ذلك. لو فكر الإنسان في فلسفة الدعاء واضعا في الحسبان ما بين الطفل والأم من علاقة، لفهِم الموضوع بمنتهى السهولة.

والقسم الثاني من الرُّحْم يعلّم أن هناك رحمًا ينشأ بعد السؤال، فلو ثابرتم على السؤال لوجدتم. إن قول الله تعالى:

ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ

ليس كلامًا فارغًا، بل هو ما يوافق الفطرة البشرية.

ثم وضح المسيح الموعود أن السؤال من صفات الإنسان والاستجابة فعل الله فقال: إن السؤال خاصيةُ الإنسان والاستجابةُ صفة الله، والذي لا يفهم ذلك ولا يؤمن به فهو كاذب. إن مَثَل الطفل الذي بيّنته آنفًا يبين فلسفة الدعاء جيدًا. الرحمانية والرحيمية ليستا شيئين مختلفين، لذا فمن ترك إحداهما وأراد الأخرى فلن يجد شيئًا. إن من مقتضى الرحمانية أن تجعلنا قادرين على الانتفاع من فيوض الرحيمية.

(أي أن رحمانية الله تعالى هي أنه أرانا السبل وأعطانا أشياء نحتاج إليها، وخلق فينا قدرة على أن نسأله ما نحتاج إليه. فالرحمانية تخلق الوسائل التي تساعدنا على الدعاء والحصول على رحمة الله)

يتابع قائلا: ومن لم يفعل ذلك فهو كافر نعمة. إنما المراد من إِيَّاكَ نَعْبُدُ هو أننا نعبدك وحدك مع مراعاة الأسباب المادية التي وهبتَنا. خذوا اللسان المخلوق من عروق وأعصاب مثلًا. (أي اللسان يتكون من الأعصاب واللعاب والأوردة فكلها جزء من اللسان)، فلو لم يكن الأمر هكذا لما قدرنا على الكلام. (وإن لم تكن أعصابه وشرايينه رطبة يجفّ اللسان، وإذا جف اللسان فلا يقدر الإنسان على الكلام، ولكن الله تعالى قدّر أن تتيسر الرطوبة للسان في كل حين وآن، وإن لم يكن الأمر كذلك لما قدر الإنسان على تحريك اللسان)

يقول : لقد رزقنا للدعاء لسانًا قادرًا على التعبير عما يختلج في قلوبنا من أفكار. (أي أعطانا لسانا للتعبير عما في قلبنا) فلو لم نستخدم اللسان للدعاء قط فهذه شقاوتنا. هناك أمراض كثيرة لو أصابت اللسان لتعطل دفعة واحدة وصار الإنسان أبكمَ. فمن عظيم رحمة الله علينا أنه قد منحنا اللسان (كذلك الحال بالنسبة إلى الآذان، فقد أعطانا اللسان والآذان بمقتضى الرحمانية، ثم علّمنا أيضا استخدام هذه الحواس، وذلك أيضا نتيجة الرحمانية). كذلك لو حصل خلل في الأذن لا نستطيع أن نسمع شيئا. والحال نفسها مع القلب؛ فلو أصابه المرض لفسد كل ما خلق الله تعالى فيه من قوة الخشوع والخضوع والتفكر والتدبر. انظروا إلى المجانين كيف تبطل قواهم. إذًا، أفليس واجبا علينا أن نقدر هذه النعم الإلهية حق قدرها؟ لو تركنا هذه القوى التي أعطانا الله بكمال فضله عاطلةً، فلا ريب أننا نكون ناكري نعمة الله. فاعلموا أننا إذا دعونا الله بتعطيل ما خوّلنا الله من قوى وقدرات فلن ينفعنا الدعاء شيئا، إذ لم نستفد من العطية الإلهية الأولى فأنى لنا أن ننتفع من الأخرى؟

حال الاضطرار شرط جوهري لاستجابة الدعاء

لقد وضح المسيح الموعود بضرب هذه الأمثلة ونصح أن عليكم أن تقدّروا نِعم الله تعالى وتستخدموها كما هو حقها. فاسألوا أن يوفقكم لإحسان استخدامها، عندها فقط يمكن للعبد أن يؤدي حق عبوديته ويستطيع أن يشكر نِعمه التي أعطاه. والمعلوم أن شكر الإنسان يجذب أفضال الله أكثر، وينال نصيبه من رحمانية الله ورحيميته، ثم يرى مشاهد استجابة دعائه. ثم يقول المسيح الموعود شارحا هذا الموضوع أكثر: يتبين من «إياك نعبد»: يا ربنا، لم نضيّع عطيتك الأولى. وقال في

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

أن على الإنسان أن يسأل الله تعالى بصيرة صادقة لأنه إن لم يمسك فضل الله ولطفه باليد لظل الإنسان العاجز واقعا في الظلمة ولما قدر حتى على الدعاء. (إن فضل الله تعالى هو الذي يرشده وينصره وإلا فالإنسان عاجز وواقع في مشاغل دنيوية ولا يجد فرصة للدعاء ما لم يدعُ مستخدما فضل الله تعالى الذي ناله ببركة رحمانيته، وإلا لن تظهر نتيجة مرضية. ولا بد للإنسان من الدعاء للخروج من الظلمة).

يقول حضرته : قبل فترة قرأت في قانون إنجليزي أنه لا بد للفلاح من عرض ممتلكاته من أجل الحصول على قرض للزراعة.

(وفي هذه البلاد أيضا يضطر المرء إلى عرض ما يملكه من المال، أو تقديم ضمان للحصول على الرهن العقاري من الحكومة، أي لا بد له من إبداء بعض من ماله وممتلكاته الأخرى عمليا)

كذلك يجب أن تفكروا في قانون الطبيعة وفكروا ماذا استفدنا مما أُعطينا من قبل، وإن لم تضِلّوا ولم ترتكبوا الحمق والغباوة مع امتلاككم العقل والفطنة والعين والأذنين فادعو الله تعالى وستنالون بركات أكثر. فإن لم يضِلّ الإنسان مع أن الله تعالى أعطاه النعم المذكورة كلها فليدعُ الله ليزيدكم فضلا ونعما وإلا سيحالفه الحرمان والشقاوة. فعلينا أن نفكر في هذا الأمر جيدا.

ثم يقول : إن نظائر استجابة الدعاء موجودة في نواميس القدرة، وفي كل زمان يرسل الله نماذج حية لذلك، ومن أجل ذلك علّم دعاء

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

هذه مشيئة الله وقانونه، وليس بوسع أحد أن يبدلها.

يتضمن الدعاء

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ

معنى أن اجعَلْ أعمالنا أكمل وأتم. كذلك يتبين من التدبر في هذه الكلمات أنها تتضمن الأمر بالدعاء ظاهريا لطلب الهداية ولكن الكلمات:

إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

التي سبقتها توحي بأنه يجب أن نستفيد منها بمعنى أن نستعين بالله في محطات الصراط المستقيم مستخدمين القوى السليمة. فإن الأخذ بالأسباب الظاهرية أيضا ضروري، والذي يتركها هو كافر بالنعمة. (فلا بد من الاستعانة بالله لكسب الحسنات أيضا) وقد رزقنا للدعاء لسانا قادرا على إظهار ما تضمره قلوبنا من الأفكار والإرادات. كذلك أودع القلب الخشوع والخضوع وقوة التفكر والتدبر.

لو دعونا الله تعالى معطِّلين هذه القوى والقدرات فلن ينفعنا الدعاء شيئا، لأننا إذا لم نستفد من العطية الإلهية الأولى فأَنّى لنا أن ننتفع من الأخرى؟ فتقديم جملة «إياك نعبد» على جملة «اهدنا الصراط المستقيم» يعني أننا نقول: يا رب العالمين، إننا ما أبطلنا عطيتك الأولى ولم نعطّل تلك القوى والقدارت. واعلموا أن من خواصّ الرحمانيةِ أنها تجعلنا أهلاً لاكتساب فيوض الرحمانية، ومن أجل ذلك قال الله تعالى: «ادعوني أستجب لكم»، وهذه ليست مجرد كلمات فارغة، بل هي مقتضى الشرف الإنساني. الدعاء صفة الإنسان والاستجابة صفة الله تعالى، والذي لا يؤمن بذلك فهو ظالم، (أي أن الذي لا يسأل الله تعالى فهو ظالم) إن الدعاء حالة نشوة لا أستطيع وصف سرورها ولذتها للدنيا بالكلمات، إنما يُدرَك هذا بالتجربة فقط.

عندما يبكي الرضيع ويصرخ للحليب من شدة الجوع، يتدفق اللبن في ثدي الأم. لا يعرف الطفل حتى اسم الدعاء، ولكن كيف تستدرّ صرخاته اللبن. هذا ما جرّبه الجميع. فقد لوحظ في بعض الأحيان أن الأم لا تشعر بوجود اللبن في ثديها، ولكن صرخة الرضيع تجلبه تلقائيا. أفلا تقدر صرخاتنا أمام الله تعالى إذن أن تجلب شيئًا؟ كلا، بل تجلب وتجلب كل شيء، ولكن العميان الذين يدّعون أنهم علماء وفلاسفة لا يقدرون على أن يروا ذلك.

باختصار، إن أول لوازم الدعاء الأعمالُ الصالحة والمعتقد السليم، لأن الذي يدعو الله تعالى بدون أن يصلح معتقداته وبدون أن يعمل الصالحات، فكأنما يختبر اللهَ تعالى. فالمقصود بدعائنا: «اهدنا الصراط المستقيم» هو أن اجعَلْ أعمالنا أكملَ وأتمَّ.

ويتبين الأمر أكثر بقوله تعالى: «صراط الذين أنعمت عليهم»، أي أننا نريد الاهتداء إلى الصراط الذي هو صراط المنعم عليهم، وأنقِذْنا من صراط المغضوب عليهم الذين نزل بهم العذاب نتيجة سوء أعمالهم. وبقوله: «الضالين» علّمنا دعاء أنْ نَجِّنا أيضًا من أن نضل بحرماننا من حمايتك. فعندما نقرأ سورة الفاتحة علينا التدبرُ فيها من هذا المنظور، والدعاءُ على هذا المنوال.

ثم يقول أيضا وهو يؤكد ضرورة الأخذ بالأسباب عند الدعاء:

ألا اسمعوا، إن هذه الروح الصادقة مطلوبة للدعاء الذي قال الله تعالى عنه: «ادعوني أستجب لكم». فإذا خلا التضرع والخشوع من روح الصدق فالأمر لا يعدو ترديد الكلمات كالببغاء.

كيف تتفق استجابة الدعاء مع العمل بالأسباب؟!

وقد يقول البعض إن الأخذ بالأسباب ليس ضروريا، والحق أن هذا سوء فهمٍ منه، فإن الشريعة لم تمنع من الأخذ بالأسباب. والحق يقال: أليس الدعاء سببًا من الأسباب؟ أو أليست الأسباب من قبيل الدعاء؟ الواقع أن البحث عن الأسباب بحد ذاته نوع من الدعاء، وأن الدعاء في حد ذاته مصدر لأسباب عظيمة! إن بنية الإنسان الظاهريَّة ويديه وقدميه كلها دليل طبعي على التعاون المتبادل. وما دام هذا المشهد موجودا في الإنسان نفسه، فمن المحير المدهش أن يصعب على المرء فهمُ معاني قوله تعالى:

تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى .

غير أني أقول: ابحثوا عن الأسباب أيضا بواسطة الدعاء. فما دمت أدلّكم على ما أقامه الله في أجسادكم من نظام متكامل مرشد إلى ضرورة التعاون المتبادل، فلا أدري كيف يمكنكم إنكاره. لقد أقام الله تعالى في الدنيا نظام إرسال الأنبياء عليهم السلام توضيحًا وتبيانا لأهمية ضرورة الأخذ بالأسباب أكثرَ. كان الله ولا يزال قادرًا على أنه لو شاء لما ترك أنبياءه عليهم السلام بحاجة إلى أيّ عون من الناس، ومع ذلك يأتي عليهم وقت يضطرون فيه للقول: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ . فهل تظنون أن نداءهم هذا يكون على غرار المتسولين العاجزين السائلين، كلا، بل إن نداءهم: «مَنْ أنصاري إلى الله» يتّسم بالعظمة. الحق إنهم يريدون أن يعلّموا الناس ضرورة الأخذ بالأسباب. إن الأخذ بالأسباب الدنيوية ضروري لهم، وهو شعبةٌ من شعب الدعاء، وإلا فإنهم يؤمنون بالله إيمانا كاملا ويوقنون بوعوده يقينا تاما، ويعلمون أن وعد الله إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وعدٌ يقيني ومبرم. يا ترى، كيف ينصرهم أحد إذا لم يُلقِ الله في قلبه فكرةَ نصرتهم؟ فالأنبياء أيضا بحاجة إلى الأسباب، ولكنهم ينيبون إلى الله تعالى، فيهيِّئ لهم الأسباب، حيث يلقي في قلوب الناس ويهيئ لهم كثيرا من السلاطين الناصرين الذين يعينونهم على إنجاز مهامهم.

ويقول المسيح الموعود وهو يبين غاية الصلاة وأهميتها في سياق الدعاء:

إن هدفَ الصلاة ولُبَّها الحقيقي هو الدعاء، وهو مطابق تماما لقانون الله السائد في الطبيعة. فإننا نرى عادة أن الطفل عندما يبكي ويبدي الاضطراب كيف ترضعه أمه في اضطراب. هناك علاقة مماثلة لهذه بين الألوهية والعبودية ولا يمكن أن يُدركها كل شخص. عندما يخرّ العبد على عتبة الله بكل تواضع وخشوع وخضوع ويعرض عليه ظروفه ويسأله حاجاته، يهيج لطف الألوهية فيُرحم مثل هذا العبد. إن حليب فضل الله ولطفه أيضا يقتضي بكاءً، لذا يجب أن تُقدَّم إليه تعالى عين باكية.

ثم يقول : يظن البعض أنه لا جدوى من البكاء والعويل في حضرة الله. إنه ظن خاطئ وباطل تماما، والحق أن القائلين بذلك لا يؤمنون بالله ولا بصفاته وقدراته وتصرُّفاته. لو كان في قلوبهم إيمان حقيقي لما تجاسروا على هذا القول. إنما الحق أنه كلما حضر أحد في حضرة الله تعالى ورجع إليه بتوبة صادقة أنزل الله عليه فضله حتما. ولله دَرُّ القائل: «أيّ عاشق هذا الذي لا ينظر إليه حبيبه؟ يا صاحِ، إن المريض ينقصه الألم وإلا فإن الطبيب موجود».

يريد الله أن تأتوه بقلوب طاهرة، شريطة أن تجعلوا أنفسكم كما يليق بشأنه وتُحدثوا في نفوسكم تغييرًا طيبًا يجعلكم جديرين للذهاب إلى حضرته تعالى.

الحق والحق أقول: إن لله تعالى قدرات عجيبة، وعنده أفضال وبركات لا تنتهي، ولكن يجب لرؤيتها أن تخلقوا عندكم عينَ الحب. إذا كان الحب صادقا فإن الله تعالى يستجيب الدعاء بكثرة ويُؤيد تأييدات كثيرة.

ثم يقول : لقد قال الله تعالى في مدح المؤمنين:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ،

أي أن المؤمنين هم أولئك الذين يذكرون الله تعالى قائمين وجالسين ومستلقين على الفراش، ويتفكرون ويتدبرون فيما خلق الله تعالى في الأرض والسماء من صنائع عجيبة، وعندما تنكشف عليهم لطائف صنعة الله تعالى يقولون ربنا ما خلقت هذه الصنائع عبثا.

أي أن المؤمنين من الطراز الأول لا يهدفون من معرفة الكون وعلم الأفلاك إلى الاكتفاء بمعرفة شكل الأرض ومدى قطرها وكيفية قوتها الجاذبة وكيفية علاقتها بالشمس والقمر والنجوم فحسب، كما يفعل الناس الماديون، بل إنهم بعد معرفة كمال صنعة الكون وبعد انكشاف خواصه، يرجعون إلى خالقه ويقوّون إيمانهم به.

(أي أنهم بعد نيل هذه المعرفة ينيبون إلى الله تعالى ويزدادون إيمانا، وهذه هي علامة المؤمن وميزته)

هذا نزر يسير قدّمته لكم من الكنز العظيم الذي أعطانا إياه سيدنا المسيح الموعود ، حيث ألقى فيها الضوء -إلى حد كبير- على أهمية الدعاء وحكمته، وطريقته، وفلسفته، ولو أدركنا هذه الأمور فإننا نستطيع أن نحدث ثورة في حياتنا، وننشئ صلة خاصة مع الله تعالى، ونكون من الذين يجتذبون أفضال الله تعالى. فلكي نفوز بقرب الله تعالى يجب علينا السعي لأن نعمل بأحكامه تعالى، ونقوي إيماننا باستمرار، وندرك حكمة الدعاء وفلسفته، ونصلح أعمالنا، لندخل في زمرة قوم تستجاب أدعيتهم.

ليكن رمضاننا هذا سببًا لإحداث انقلاب في علاقتنا بالله تعالى وفي حالتنا الروحانية. وادعوا لإخوانكم أيضا.

لقد كنت أحثكم على الدعاء من أجل أي أحمدي يواجه أي نوع من الشدائد، ولاسيما بسبب الجماعة، سواء في باكستان أو الجزائر أو أي مكان آخر في العالم. أما باكستان فتقع فيها في كل يوم حادثة أو أخرى من هذا القبيل، حيث يؤذى الأحمديون بشكل أو آخر، لذا يجب الدعاء لهم خاصة. ولإخواننا في الجزائر أيضا، لأن الحكام ربما يريدون فتح القضايا مجددا ضد إخواننا هنالك، فادعوا لهم بأن يحفظهم الله أيضا. واعلموا أن الدعاء للآخرين وسيلة لقبولي دعاء الإنسان لنفسه، لذا ضعوا هذه الوصفة في الحسبان دائما، بل الحق أن الملائكة تدعو للذين يدعون للآخرين، وإذا كانت الملائكة تدعو لأحد فيا لها من صفقة رابحة!! فعلينا أن نكثر من الدعاء للآخرين أيضا، وليس أن نكتفي بالدعاء لنا فقط. وفقّنا الله تعالى لذلك في رمضاننا هذا خاصة.

الهوامش:

  1. 1. (البقرة 184-187)
  2. (البقرة: 187)
  3. (الحكم، مجلد9، رقم2، عدد 17/ 1/1905م، ص2)
  4. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني، «بركات الدعاء»، المجلد 6 خزائن. روحانية، ص 13، الطبعة العربية الأولى، 2016
  5. المرجع السابق
  6. (العنكبوت 70)
  7. حضرة مرزا غلام أحمد القادياني، “عاقبة آتهم”، الخزائن الروحانية، مجلد 11، ص 181
  8. (غافر: 61)
Share via
تابعونا على الفايس بوك