النبوءات، تحديد وتجديد وإصلاح
  • ما مصير من لا يقبل الإصلاح، وإن كان غير فاسد؟
  • ما المعنى الجامع للنبوءة عن المسيح المهدي “يصلحه الله في ليلة”؟
  • لماذا اختلف المفسرون في تحديد كنهه؟

 ____________

السؤال الوجودي الأشهر، والذي أعيىَا الفلاسفة الوجوديين وأشياعهم، ذلك السؤال عن سبب خلقنا وعلة وجودنا في هذا العالم، من حسن طالعنا أن هُدينا لجوابه، إننا ما خُلقنا إلا للعبادة، والعبادة انتقاش بنقش الخالق والتخلُّقِ بأخلاقه والاتصاف بصفاته الحسنى، والله تعالى متصف بالكمال المطلق، وبلوغ العبد مبلغ الكمال غاية لا تُدرك، اللهم إلا على نحو ظلي، وهذا لا يتأتى إلا بالإصلاح المستمر، والذي نعبر عنه أحيانا بـ «التجديد»، وفي عالم التقنية يشيع مصطلح «الترقية» كمرادف للإصلاح والتجديد كليهما. وفي هذا العالم نفسه تُصان المعدات ويجري تحديثها كلما توفر شركاتها إصدارًا جديدًا، لمواكبة آخر المستجدات. وحين يتعلق الأمر بالشركات العملاقة يؤدي تهميش عنصر الإصلاح هذا إلى تفكك كياناتها، حين تبعد الشُّقة بينها وبين مستجدات العصر.

أمّا على الصعيد الروحي فنجد سنة الإصلاح أو التجديد أيضًا جارية منذ القدم، وليس تلفظنا بالشهادتين أولًا، ثم بيعتنا للمسيح الموعود ثانيا، إلا ميثاقا عقدناه مع الله تعالى بقبول الإصلاح المستمر على أنفسنا. فما بال البعض يستنكفون الإصلاح، ظنًّا منهم أنهم صالحون بما يكفي؟ ويتكبرون على المربي، زاعمين أنهم تلقوا من التربية في صغرهم حتى شبُّوا عن الطوق؟ إن هؤلاء أساؤوا ظنهم بخالقهم، فتوهموا أنْ ليس في الإمكان أبدع مما كان، فتعسًا لهم وما يتوهمون! ولله در الشافعي إذ يقول:

أُحبّ الصالحين ولسْتُ منهم لعلِّي أن أنال بهم شفاعـةوأكرهُ مَن بضاعتهُ المعاصيولو كنَّا سواءً في البضاعة(1)

هذا التمهيد الطويل نوعًا ما، قد مست الحاجة إليه، إذ نجد سوء فهم شائع بين العامة، بل وطائفة ممن يُدعَون علماء، يقول بعدم الحاجة في هذا العصر إلى بعث مصلح رباني، ولم المصلح وليس ثمة فسادا! بل نحن خير أمة أُخرِجت للناس! هذا كلامهم بلسان الحال، بل والمقال أيضًا.

علمًا أن العرب اعتادت أن تقول: أصلح الله الأمير، كدعاء لمن يعظمونه ويبجلونه. أيعقل أن يبطن هذا الدعاء قصدًا أن ذلك الأمير فاسد مثلًا؟! كلا بالطبع، بل هو دعاء للتهيئة والقدرة على تحمل الأعباء الجسام وبلوغ المراقي والسؤدد!

وإن كنا في مجتمعنا العربي وربما في عدد من المجتمعات الإسلامية المحلية، حين ندعو لأحد بالهداية قائلين: هداك الله، فأصحاب الطوية السليمة والفطرة السعيدة منا يستبشرون لهذا الدعاء، بينما ينزعج منه الخبثاء والمتكبرون، ظنًّا منهم أن الهداية لا تُلتَمس إلا لأجل الضالين الغاوين، والإصلاح لا يُسأل إلا لأجل الفاسدين، ألا عجبا لسوء فهمهم للغتهم! وبُعدًا لسوء ظنهم بربهم!

إن كمالات الله تعالى لا تنتهي، ومن تلك الكمالات يفيض عز وجل على عباده المصطفين الأخيار، وبفضل تلك الكمالات غير المحدودة، هناك دومًا مجال للإحسان والإصلاح والتكميل.

فمن الحمق أن يُفهم أن الإحسان كان من إساءة، وأن الإصلاح كان من فساد، وأن التكميل كان من نقص، وقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه أنه قال: قال رسول الله :

«الْمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ»(2)،

وقد اختلف العلماء في شرح هذا الحديث وتفسير معنى قوله  : «يصلحه الله في ليلة»، فقالوا إنه يُحتمل في ذلك معنيين: أحدهما: أن يكون المراد بذلك أن الله يُصلحه للخلافة، أي يُهيئه لها. والثاني: أن يكون مفتقرًا إلى بعض الكفاءات الضرورية لإنجاز المهمة الملقاة على عاتقه، فيسد الله هذا النقص في ليلة واحدة ويجعله قادرًا على ذلك قدرة كاملة، وهذه هي معاملة الله تعالى مع جميع أنبيائه إذ يعلّمهم من عنده علومًا لا يعلّمها غيرهم فلا يعرفونها. وإن الأنبياء هم تلاميذ الله الرحمن، وهو مصدر علمهم وفضلهم، إذ يعلِّمهم بواسطة الوحي فيتفوَّقون على الجميع . لعل ذلك الخلاف قد نشأ عند بعض الأفاضل من العلماء الذين تحرّجوا القول باحتمال وجود أمر من الأمور في الإمام المهدي  يقتضي أن يصلحه الله تعالى، وأنه سبحانه سوف يُصلح ذلك الأمر في ليلة من الليالي. (3)

وبعد الاطلاع على جملة من الأقوال عن ماهية ذلك الإصلاح المتضمن في النبوءة، يبقى خير من يفسر النبوءات ويشهد بصدقها هو من كان نفسه مصداقَها، وحين نطلع على نبوءة سيدنا خاتم النبيين بحق المسيح الموعود من أن الله تعالى يصلحه في ليلة، نجد أن حضرته يقدم من وقائع حياته ما يشهد بتحقق تلك النبوءة الكريمة. ويقص حضرة سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي رؤيا منامية رآها، وثبت تحققها لاحقًا كفلق الصبح، ووجد حضرته على إثر الاستيقاظ أن قوةً عُليا جذبته من الحياة الأرضية إلى الأعلى، ويُصرِّح أنه في تلك  الليلة أصلحه الله تعالى بالتمام والكمال، وحدث في نفس حضرته تغيُّرٌ لا يحدث بيد الإنسان أو إرادته(4).

فالحاصل إذن أن الإصلاح الرباني سنة مستمرة، حتى لو لم يكن ثمة فساد، فربنا رب الكمالات، ومن كمالاته إصلاح خلقه وتهيئتهم لبلوغ مراق عليا.

وفي عدد التقوى لهذا الشهر، تُتْحف أسرة التحرير قارئها العزيز بباقة منتخبة من المواد التي تتخذ من الإصلاح ركيزة وأساسًا، بدءا من خطبة حضرة خليفة الوقت، سيدنا مرزا مسرور أحمد (أيده الله تعالى بنصره العزيز) متحدثًا عن تَأَسُّس جَمَاعَةِ المَسِيحِ المَوْعوُد وكيف أنها جاءت مِصْدَاقا لنُبُوءَاتِ القُرْآنِ وَالنَّبِيِّ العَدْنَانِ ، بهدف أساس، هو الترقية والإصلاح، بما يفضي إلى رفاه العالم. وفي حلقة تفسير القرآن الكريم لهذا الشهر، نتعلم من المصلح الموعود سنة الله تعالى في المعرضين عن الإصلاح الرباني، أفرادا كانوا أو دُولًا أو أمما. هذا بالإضافة إلى طائفة من المقالات التي تُعنى بالإصلاح الروحي والنفسي والمجتمعي.

وندعو الله تعالى أن يُلهمنا الصلاح والإصلاح، وحب الصالحين والمصلحين والاقتداء بهم، آمين.

الهوامش:

  1. ديوان الإمام الشافعي
  2. مسند أحمد، كتاب مسند العشرة المبشرين بالجنة
  3. «يصلحه الله في ليلة»، مجلة التقوى، يوليو 1997. الأستاذ المرحوم مصطفى ثابت
  4. أنظر تفصيل رؤيا رآها سيدنا المسيح الموعود في عام 1878، وقد سجلها حضرته لاحقا في كتابه «ترياق القلوب»، الخزائن الروحانية، ج 15.
Share via
تابعونا على الفايس بوك