القرابين.. تاريخها الانثروبولوجي وواقعها في فلسفة تعاليم الإسلام

القرابين.. تاريخها الانثروبولوجي وواقعها في فلسفة تعاليم الإسلام

أمة الرازق كرمايكل

  • لماذا قدم الإنسان القديم القرابين؟
  • ماذا كانت ماهية تلك القرابين؟
  • ما الفرق بين فلسفة القربان في تعاليم الإسلام وغيره من الثقافات والأديان؟

 ____ 

إلام وصل الأنثروبولوجيون؟ (1)

تعد التضحية البشرية من الممارسات التى عرفها الإنسان منذ أن وجد طريقه على الأرض، وعند تناول “الأنثروبولوجيون” هذا الموضوع لاسيما فى عصور ما قبل التاريخ والعصور البدائية فإنهم حينئذ كالمغمض العينين الذى يحاول الوصول الى طريق لا يعرف منتهاه، وكى يتسنى لهم فهم الغاية من تلك العادة كان لزاما عليهم أن يطلقوا لخيالهم العنان يسبح بهم فى مجاهل ماض بعيد مظلم مليء بالمواجهات الدامية مع وحوش الأرض نهاراً وبالخوف والرهبة مما قد يخفيه الظلام في جنح الليل، وما بين هذا وذاك يحيا الإنسان الأول بقدراته البائسة ورغبته فى الحياة وخوفه من الغد بل من اللحظة التالية! فهو في سبيل ذلك كان على استعداد لتقدمة الغالي والنفيس كي يأمن عاقبة المخاطر التى تحيط به، فهو تاره يقدم قربانًا حيوانيًّا وتارة يقدم قربانًا بشريًّا وينتظر النتيجة، يترقب البيئة ويحتاط لها بالمزيد من الآضاحى في الوقت الذي ترتسم فيه على الوجوه ابتسامات الارتياح لنيل مرضاة الآلهة!

لقد مارس أسلاف أغلب شعوب الأرض، بل كلها بلا استثناء فى العالم القديم بل والحديث عادة التضحية البشرية، وكان ذلك انطلاقًا من أفكار لم تنضج بعد عن حقيقة الإله الذى طالما سعت تلك الشعوب أو المجتمعات لنيل مرضاته، ولاتزال هناك العديد من الشعوب تمارس تلك العادة حتى وقتنا الحالى.. ولابد أن تلك العادة كانت قد اتخذت أشكالًا مختلفة، وكانت لها بداياتها ودوافعها التى أدت بها الى تواجدها وانتشارها فى شتى أرجاء العالم. وقد عرفت تلك العادة فى العديد من قبائل قارة أفريقيا لاسيما غرب وجنوب أفريقيا، وكان لكل قبيلة ممارساتها ودوافعها وأسبابها ولكن الغاية واحدة(2).

فالثابت إذن من الأبحاث “الأنثروبولوجية” المعمَّقة أن مفهوم التضحية وتقديم القرابين لطالما شغل مساحة التاريخ الإنساني، فكانت التضحية تتم كطقس سحري بغية استمداد القوة أو الرزق بالذرية أو الفوز بمقاليد السلطة. كانت التضحية في المجتمعات القديمة تُقدم كهدية للآلهة من أجل ضمان رضاها أو من أجل تحاشي بطشها، كل هذا كان من شأنه أن يخلع على هذه الممارسة، أي تقديم القرابين نوعًا من القداسة.

إن كلمة “قربان” في اللغة العربية مشتقة من الجذر اللغوي “ق ر ب” والذي منه “القرابة” و”القُرْب”، وفي لسان العرب: “قَرُبَ الشيءُ، بالضم، يَقْرُبُ قُرْباً وقُرْبانــاً وقِرْبانــاً أَي دَنا، فهو قريبٌ” (3)

القربان بالمفهوم الإسلامي

إن مفهوم الإسلام عن التضحية مبني على فلسفة استسلام النفس سعيًا للوصول إلى هدف أسمى. إن الهدف النهائي لحياة الإنسان هو أن يعكس صفات الله تعالى في تكوينه وفي شخصيته. إن هذا لهو الهدف الأعظم والأسمى، إنه يعني أن يكون المرء مستعدًا للخضوع لله تعالى بشكل كلّي، اعترافًا منه بأن الله تعالى هو وحده الذي يستحق أن نعطيه الحب الحقيقي وأن نجعله سبحانه وتعالى نصب أعيننا. فلا ينبغي لحب المال أو المنصب أو العائلة أو حتى حب الذات، أن يعيقنا عن تحقيق ذلك الهدف الأسمى. والفوز بذلك القرب من الله لهو إنجاز عظيم، بل هو الإنجاز الحقيقي، فهو يتيح للعبد أن يقيم علاقة وثيقة مع القوة العظمى ومع السلطة العليا. هذا هو سر النجاح في الدنيا والآخرة. ويمكننا فهم فكرة التقرب إلى الله بشكل عملي من خلال الحديث القدسي الذي حدثنا به سيدنا خاتم النبيين عن رب العزة سبحانه، إذ يقول تعالى عن الشخص الذي بلغ درجة القرب منه:

“وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ”(4)

وهنا يصل العبد المقرب إلى مقام الولاية، فيكون وليًّا لله تعالى، وجاء في نفس الحديث القدسي:

“مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ”(5)

هذا هو ميثاق النجاح. لم يكتفِ الله بذلك، بل قد أعلن الحرب على كل من يعادي وليَّه، هذه هي الحماية القصوى.

الفلسفة الأساسية للتضحية الإسلامية هي التخلي عن الشكل الأدنى من المكاسب من أجل إحراز مستوى أعلى من النجاح. فالنجاحات والإنجازات الدنيوية مؤقتة وضئيلة عند مقارنتها بالنجاح الحقيقي في الوصول إلى الله. لذلك، يأمر الإسلام أتباعه بالعزوف عن المكاسب العابرة في هذا العالم المادي إذا أعاقت طريق الانتصار النهائي للقرب الإلهي، والاكتفاء منها بما يعين على إكمال رحلة السفر إلى الله، والحصيف من يتخفف في رحلته سفره!

قال مفكر عظيم مقولة فيها حكمة بالغة، “لمَ الانجذاب إلى العالم المادي؟ إن الحب يكون للعالم الروحي” تنجذب الروح البشرية دائمًا إلى الله، لكن حب الأشياء الأخرى يمنع الإنسان من التقدم على طريق التقرّب من الله. إن حب الأشياء المادية يشكّل عائقًا أمام التقدم الروحي. لذلك ، يجب على المؤمن أن يكون مستعدًا دائمًا للتخلي عن الأمتعة التي تثقله وتبطئ تقدّمه الروحي. ولتسهيل فهم الفلسفة الصحيحة للتضحية، ليكن معلومًا أن جميع العبادات الإسلامية تقوم على هذه الفلسفة. فمثلًا، تتطلب الصلاة أن يضحي المرء بالوقت والتركيز والطاقة لاكتساب التنوير الروحي، كما أن الصيام في الإسلام هو تعبير عن الاستعداد للتضحية، حتى بما هو مباح، طاعةً لأمر الله. كذلك إن التبرع بالمال الذي يحصل عليه المرء بشق الأنفس هو عمل واضح من أعمال التضحية بالنفس. كل هذه المجاهدات التعبدية هي طريقة عملية لتعزيز المفهوم الحيوي القائل بأن تحقيق الذات يتطلب التضحية بالنفس. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ

وهذا يدل على استعداد المسلم للتخلي عن أي شيء، مهما كان عزيزًا عليه، إذا كان يعيقه عن تحقيق هدفه السامي في الاقتراب من الله.

التقوى هي الأصل

لا يقبل الله مجرد ممارسة التضحية الخارجية، ولكن الله يريد أن يكافئ العبد على الثبات والرسوخ والتصميم الذي يدعم فعل التضحية. إن ممارسة الذبيحة في الظاهر هي بمثابة قناة لروح التفاني التي تقرب القرب الإلهي. يحتاج المرء إلى أن يكون منضبطًا وأن يعيش حياته ملتزمًا بالمبدأ الأساسي المتمثل في إعطاء الأفضلية للدين على جميع الاهتمامات والمصالح الدنيوية. التطبيق العملي لهذا المبدأ هو أنه عندما يجد المرء نفسه في وضع تتعارض فيه متطلبات الدين مع متطلبات العالم المادي، فعليه دائمًا اختيار طريق الدين. إن هذا ليس بالأمر السهل ويتطلب الكثير من الصبر والتحمل. في المقابل.

والممارسة الإسلامية لشعيرة الأضحية والهدي والقربان تمثيل لهذا المعنى العظيم، وجوهر هذه الشعيرة هو التقوى، والتقوى كلمة خفيفة سهلة، ولكنها تختصر في داخلها كل ما قيل في الفقرة السابقة، وعنها يتحدث سيدنا أمير المؤمنين (نصره الله) في معرض حديثه عن فلسفة القربان، فيقول:

“فلا يفرحنّ المؤمن بمجرد ذبحه يوم العيد حيوانًا سمينًا وثمينًا. فإن لم تكن لديكم التقوى وكانت التضحيات لا تلفتكم إلى تطهير القلوب فمهما ذبحتم من الأنعام فلا قيمة له في نظر الله (أي ما لم تكن التقوى أساس كل تلك الأضاحي)”.(6).

المراجع:

  1. الأنثروبولوجيا: العلم الذي يدرس السلوكيات وما وراءها من عمليات عقلية: الدوافع والآثار، بشكل منهجي يمكن على أساسه فهم هذه السلوكيات والتخطيط لفهم قوانين التفاعل الادتماعي بين الفراد

انظر: زينب عبد التواب رياض خميس، قرابين الأضاحي البشرية في بعض المجتمعات البدائية بأفريقيا، مجلة العبر للدراسات التاريخية و الاثرية في شمال افريقيا، المجلد 1، العدد 2، ص67-84، سبتمبر 2018

2. لسان العرب لابن منظور، مادة «ق ر ب»

3. (صحيح البخاري, كتاب الرقاق)

4. (صحيح البخاري, كتاب الرقاق)

5. التقوى أساس جميعِ المناسك والشعائِرِ- خطبة الجمعة بتاريخ 02/09/2017

Share via
تابعونا على الفايس بوك