التضحية .. تضحية رسول الله (ص) بعواطفه خلال صلح الحديبية
  • يجب علينا إدراك تلك الروح وراء تضحية إبراهيم وإسماعيل وهاجر عليهم السلام، وهي الإهتمام بأداء حقوق العباد امتثالا لأمر الله عز وجل، وهذه التضحيات قد أوجدت إنساناكاملا ترك أسوته الحسنة إلى يوم القيامة بتقديمه التضحيات من الطراز الاول،  وكذلك كان الصحابة جاهزين للتضحية بعزتهمم وكرامتهم وعواطفهم وانفسهم واولادهم واموالهم.
  • الأضحية تقسم ثلاثة أجزاء جزء للفقراء وجزء للأقارب وحزء للمضحي.
  • التضحية الحقيقية هي تطهير القلوب وذبح النفس في سبيل الله وامتثالا لاوامره.

__

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْم الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين* إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّين . (آمين)

نجتمع اليوم هنا بفضل الله تعالى للاحتفال بعيد الأضحى. هذا العيد يسمى في بلادنا باكستان والهند “عيد القربان” و“العيد الكبير” أيضا. ومع أن هذا العيد يسمى “عيد القربان”، إلا أن التدبر يكشف لنا أن عيد الفطر أيضا هو “عيد القربان”، حيث يصوم الإنسان قبله امتثالا لأمر الله ، ابتغاء مرضاته؛ فينتهي عن أمور مباحة له عادةً في ساعات النهار مدة شهر كامل، مضحيًا بكثير من حقوق نفسه، ويسعى لأداء حق العبادة برفع مستوى عباداته، مستعينا بالله تعالى، حتى إن أولئك الذين يستيقظون بصعوبة لأداء الفجر في الظروف العادية يستيقظون في رمضان للتضرع والابتهال أمام الله في جوف الليالي؛ ولذلك يأمرنا الله تعالى بالاحتفال بالعيد بعد شهر رمضان لدى انتهاء فترة التضحية هذه، فيقول لنا: البِسُوا الآن الثياب الجيدة، وكلوا واشربوا واجتمعوا في مكان، وصلّوا ركعتي صلاة العيد، واشكروا الله . ففي ذلك اليوم يحتفل بالعيد أولئك الذين يضحّون بحقوقهم الشرعية مدةَ شهر على التوالي حيث يتحملون الجوع والعطش، ويكبحون جماح عواطف أخرى في ساعات النهار التي تتفاوت حسب الفصول، حيث تتراوح مدة التضحية من عشر إلى ثماني عشرة ساعة، ثم يُحيُون لياليَهم ويهتمون بالعبادة اهتماما خاصًا، ونتيجة لهذه التضحية تحدُث في حياة المؤمنين انقلابات تقرّبهم إلى الله ، فيدخلون عالَمًا جديدا، حيث يتعودون على التضحية بأنفسهم. لا شك أن هناك كثيرين ممن لا يهتمون بالتضحية لإصلاح أنفسهم كما يهتم المؤمن، إلا أنهم يحتفلون بالعيد وكأنهم هم الذين قدموا تضحية حقيقيةً شهرًا كاملا، والحق أن عيدهم ليس أكثر من احتفال وإثارة صخب، أما العيد الحقيقي فهو للذين يحتفلون بالعيد بعد تقديم تضحية شخصية مدةَ شهر كامل، مدركين فلسفة التضحية وحكمتها. باختصار، كنت أقول إن العيد الذي نحتفل به اليوم يسمى “عيد القربان”، وتطرقتُ -ضمنيًا -إلى موضوع عيد الفطر بأنه هو الآخر يمكن أن يسمى عيد القربان، غير أنه احتفال بالقربان الشخصي، أما عيد الأضحى فاحتفال بقربان الجماعة والأمة، إذ كان الشخص الذي بسببه نحتفل بهذا العيد – أو الشخصيات التي تسببت في وجود هذا العيد – يهدف بتضحيته إلى إحداث انقلاب على صعيدَي الأمة والعالم. فكما أن عيد الفطر يخص أولئك الذين يقدمون التضحية الشخصية من أجل الرقي الروحاني – وإن كان يؤدي بالطبع إلى رفع مستوى الجماعة روحانيًا أيضًا – كذلك فإن عيد القربان الحقيقي أيضا يخص أولئك الذين يسعون أن يدركوا تلك الروح التي كانت وراء تضحية إبراهيم وإسماعيل وهاجر عليهم السلام. فالمؤمن يحاول أن يستوعب مغزى التضحية التي قدمها هؤلاء الثلاثة. فإذا أدركنا هذه الروح احتفلنا بالعيد حقيقةً، وإلا فلا قيمة لمجرد ذبح الماعز أو النعاج أو البقرات أو الجِمال، حيث يتفاخر بها أصحابها متباهين بثرائهم. ليس الهدف من الأضحية مجرد ذبح الذبيحة ونحر الحيوانات -بشكل ظاهر- وإقامة الولائم والمآدب للناس وإرسال اللحوم إلى بيوت الآخرين. أي هدف يتحقق بذبح هذه الحيوانات من ماعز ونعاج وبقرات وجمال إلا إراقة دمائها؟ هل هذه القرابين تقدّم أي خدمة للإسلام؟! وهل ذبحُ هذه الأنعام يؤدي إلى رقي الإسلام وازدهاره؟ هل ثمة خدمة لا تتحقق إلا بأكل اللحوم وتوزيعها؟ ولو قيل: إن من أهداف هذه القرابين توفير اللحوم للفقراء، فأي ثواب يجلب لكم إطعامُ الفقير اللحمَ مرة واحدة في السنة مع عدم عنايتكم بسد جوعه طوال العام؟ ثم هناك بلدان كثيرة لا يجد فيها المرء مَن يطعمه اللحم أو يوزعه عليه، أو تتوفر فيها لحوم الذبائح الكثيرة بحيث يصبح إتلافها مشكلة عويصة. فمثلاً إن إتلاف قرابين الحجيج في مكة  وحدها مشكلة كبيرة. لا شك أنهم ينظّمون تصدير لحومها إلى البلاد الفقيرة، لكن كم من الفقراء يُسَدُّ جوعهم بتلك اللحوم بشكل دائم؟ لقد عشتُ في أفريقيا، ورأيت هناك فقراء لا تتوفر لهم وجبتان يوميا. ويوجد في باكستان أيضا مئات الآلاف من الفقراء الذين يبيتون جياعًا. فهذا اللحم الذي يبدو كثيرًا لا يمكن أن يسد جوع الناس في العالم، غير أن تجّار المواشي يربحون كثيرا جدا قبيل العيـد حيث يبيـعونها بأسعار خياليـة، والنـاس أيضًا يدفعـون لها أثمانًا باهظة على سبيل التفـاخر والتظاهر بثروتـهم.

فهذه القرابين وعيد الأضحى تمثِّل وسيلة للحفاظ على روح التعاطف والتراحم في جماعة المؤمنين المذكورة في قوله تعالى: رحماء بينهم

فالتضحية الظاهرة التي نقدّمها يوم العيد بذبح الحيوانات ينبغي أن تنبّهنا إلى أن الانقلاب الذي من أجله أو من أجل إحياء ذكراه أُمِرنا بذبح الأنعام، لم يكن يقتصر على نجاة إسماعيل من الذبح، بل كانت وراءه روح من شأنها أن تُحدِث انقلابًا عظيمًا. فليس الأمر إحياءَ ذكرى نجاة إسماعيل من الذبح، وليس إذنًا بذبح الأغنام والشياه أو الحيوانات الأخرى أو التعبير عن الفرحة بتناول الأطعمة الشهية وارتداء الملابس الفاخرة، كلا بل المقصود أن نهتمّ بأداء حقوق العباد امتثالا لأمر الله ، لأن كل حكم من أحكام الإسلام يتضمن حِكمًا وأهدافًا كثيرة. فمثلا لما أُمرنا بالتضحية من ناحية، أوضح لنا الرسول أنه يجب أن نقسم اللحم ثلاثة أجزاء يكون جزء منها للفقراء وجزء منها للأقارب، وذلك ليذكّرنا أنه ليس عليكم الاهتمام بحقوق أنفسكم فقط، بل لأقربائكم عليكم حقوق لا بد من أدائها، وللفقراء عليكم حقوق لا بد من أدائها، ويجب أن تؤدوها في الأيام العادية وفي الأفراح والأتراح أيضًا. إن الغني لا يفكر في الأيام العادية عادةً في أداء حق الفقير، أما في أيام الفرحة فيمكن أن ينفق عليهم شيئا بدافع الرياء، ومع ذلك لا ينتبه أغلبية الناس إلى أداء حقوق الآخرين، وقد بين الله لنا بهذا الحكم أن تضحيتكم هذه – التي تقدمونها إحياء لذكرى تلك التضحية الجليلة التي قدمها أبو الأنبياء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام – لن تُعتبر تضحيةً حقيقية إلا حين تؤدون حقوق الآخرين وخاصة حقوقَ الطبقة الفقيرة من المجتمع. وهناك تركيز خاص على ذلك، حيث لفت الله أنظارنا إلى الاعتناء بالفقراء بصفة دائمة في عدة مواضع من القرآن الكريم كقوله تعالى

  وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (الماعون:4)..

أي أن الذين قد ابتعدوا عن الله لا يحثّون الآخرين على إطعام المساكين والفقراء.. أي هم لا يُطعمونهم بأنفسهم كما لا يحثون الآخرين على إطعامهم. إن الحكم بسدّ جوع الفقير حكم دائم، فلا يكفي تقديم اللحم لهم مرة واحدة في السنة احتفالاً بالعيد الكبير، لكن الرسول أمرنا بتقديم جزء من لحوم الضحايا للفقراء لكي لا تُغْفِلَنا الأفراح عن أداء حقوق الفقراء. إن الزكاة يدفعها الغني بنسبة معينة من ماله بشروط معينة، والمبلغ الذي يدفعه المزكّي -مرة في العام- بسيط جدا حيث يدفعه بمعدّل معين، كما أن الصدقات والتبرعات التي نخرجها فإننا مخيرون في دفعها بنسبة نقدر على أدائها بسهولة، أما لحوم القرابين في العيد فأُمِرْنا أن نقدم للفقراء قدر ما نبقي لأفراد البيت، وذلك لأن القضاء على المجاعة فريضة كل مسلم، والاعتناء بحق الأخ المسلم واجب كل مسلم. فالحق أن هذا الأمر تذكير لكل غني – أو لكل من يستطيع تقديم التضحية، إذ من الممكن أن يقدم المرء الأضحية بدون أن تجب عليه الزكاة – بأن يعتني بالجائع ويرفق بمَن هو أقل منه مالاً لكي يتولد فيه الإحساس الذي يؤدي إلى تقدّم الجماعة وازدهارها بسبب الاهتمام بأداء حقوق العباد حيث يختفي اضطراب الجماعة وقلقها. فهذه القرابين وعيد الأضحى تمثِّل وسيلة للحفاظ على روح التعاطف والتراحم في جماعة المؤمنين المذكورة في قوله تعالى: رحماء بينهم . فعندما تقدّمون اللحم لأي فقير فإنكم عندها فقط تطّلِعون على الظروف القاسية التي يمر بها، وبذلك تتنبهون إلى أداء حقوقه أيضا. إن الأغلبية من سكان البلدان الفقيرة مثل باكستان والهند وأفريقيا هم من أولئك الفقراء الذين حين تقدمون لهم اللحم تتاح لكم الفرصة للاطلاع على أوضاعهم البائسة لأول مرة. وعندما يتم الاتصال بأحدهم تعرفون أن هذا الفقير كان يعاني الجوع منذ 24 أو 48 ساعة حيث لم يُطبَخ في بيته شيء، أو لم يتذوق طعم اللحم منذ عدة أسابيع، وبدخول اللحم في بيته الآن قد أشعل النار في موقده. ففي مثل هذه الأوضاع عندما تقدمون لهم هدية العيد تسودهم حالة من السرور والسعادة لا توصف، وهذا ما جرَّبناه مرارا كثيرة. أما في هذه الأيام حيث الغلاء الفاحش والعالم يعاني أزمة اقتصادية، فقد صار الحصول على الوظائف صعبا جدا وتكاد البطالة تنتشر على نطاق واسع، وبسبب ذلك أصبح من الصعب جدا على الفقير إعالة الأسرة وتوفير الطعام لأولاده، الأمر الذي أدى بالبعض إلى الانتحار كما ترد الأخبار في بعض الجرائد. فعيد القربان هذا ينبغي أن يعلمنا الاهتمام بأداء حقوق الفقراء لكي تختفي المجاعة من العالم. ثم ينبغي أن لا تكتفوا بتقديم لحم مرة فنطمئن به ظانين أننا قد أدينا واجبنا. كلا! بل يجب أن تنتبهوا إلى أداء حقوق العباد دوما حتى لو تطلَّب ذلك منكم التضحية ببعض حقوقكم. تحلوا بالتقوى فإنها وسيلة وحيدة تمكِّنكم من الفوز بقرب الله وإلا فإن الله ليس بحاجة إلى اللحم أو الدم. ففي نظام الجماعة ثمة صناديق مختلفة لمساعدة الفقراء والمحتاجين تعمل بفضل الله تعالى بشكل دائم. فمن هذا المنطلق أريد أن أوجه أنظار الجماعة وخاصة الأثرياء من أفراد الجماعة أن يتنبهوا لهذا الأمر بشكل خاص، وإلا فإن الله كما قلت غني عن دماء هذه القرابين ولحومها. كما أنه ليس من شأن هذه الدماء واللحوم أن تحدث أي انقلاب – في العالم – إذا لم يكن هناك اهتمام بأداء حقوق الله وحقوق العباد بطريقة سليمة. فقد بين الله هذا الأمر بوضوع في القرآن الكريم حيث قال:

لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (الحج: 38)،

فينبغي أن تتسم تضحياتنا بهذه الروح.

لقد بينت هنا جانبا واحدا من حقوق العباد، أعني القضاء على المجاعة، غير أن هناك حقوقا أخرى كثيرة، وفي نظام الجماعة ثمة صناديق ومشاريع مختلفة تقدَّم من خلالها المساعدةُ بفضل الله تعالى لذوي الحاجة. لذا يجب أن يتنشط أفراد الجماعة في تقديم التبرعات في هذه الصناديق فإن هناك حقوق عدة يجب أداؤها. وحين يتم أداؤها فعلا عندئذ يتولد لدينا الإحساس بأننا جماعة ويشعر كل واحد منا بألم الآخر ويؤدي حقوق غيره. هنا ذكرت حقا واحدا فقط من الحقوق الكثيرة أما الهدف الأكبر من هذه التضحية فيتمثل في إحداث الانقلاب الذي يغيِّر أوضاع العالم رأسا على عقب. وإلا فسيدنا إبراهيم حين جهز سيدنا إسماعيل للفداء وقال الله له: اذبح الكبش بدلا منه، فلم يكن ذبح الكبش ولا ذبح إسماعيل ليحدث أي انقلاب في العالم. إن ذبـح الكـبش كان ولا يزال تـذكيرا لتـلك التضـحية العظيـمة، وذلك لئلا ينـسى المؤمن أبدا هدفه السـامي.

يقول سيدنا المسيح الموعود في موضع:

“التضحية الحقيقية هي تطهير القلوب، أما اللحم والدم فليس تضحية حقيقية. فبينما يذبح عامة الناس المواشي والدواب فإن الخواص يذبحون قلوبهم. لم يمنع الله تعالى من هذه القرابين أيضا لكي يتبين أن لهذه القرابين أيضا علاقة بالناس.”

ثم يقول في موضع آخر:

“إن الله أقام في شريعة الإسلام نماذج وأمثلة لكثير من الأوامر الضرورية، فقد أمِر الإنسان أن يضحي نفسه بجميع قواه وبكيانه كله في سبيل الله . فهذه القرابين الظاهـرية جعلت مثالا لهذه الحالة، لكن الغـرض الحقيقـي منها هذه التضحـية.”

هذا ما قاله المسيح الموعود . فعلينا أن نولد في نفوسنا روح التضحية، ليس على الصعيد الفردي فقط بل يجب علينا أن نجعل كل فرد من أفراد البيت يدرك روح هذه التضحية ويفهمها جيدا. ثم على صعيد الجماعة يجب أن يدرك كل واحد من أفراد الجماعة هذه التضحية، عندئذ ستسير جميع التضحيات التي نقدمها في جهة موحدة وتتسبب في إحداث الانقلاب. فما هو الفداء والتضحية في سبيل الله؟! ألا إنما هو الامتثال لأحكامه واتخاذُ جميع المواهب والكفاءات وسيلة للفوز بمرضاة الله ، فسيدنا إبراهيم رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ولكنه انتظر إلى أن صار الابن مستعدًّا للمشاركة في التضحية. فلو ذبح إبراهيمُ بالسكين ابنَه إسماعيلَ وهو لا يزال دون سن البلوغ، وتمت التضحيةُ على هذا النحو، لكان الأمر بسيطًا جدًّا ولم يولِها الناس اهتمامًا، إذ كان تقديم القرابين البشرية عادة شائعة بين الناس يومئذ وكان الآباء يقدمون أبناءهم قرابين، بل الواقع أن فكرة تقديم القرابين البشرية موجودة حتى اليوم في بعض الأديان، غير أنها لا تُقدَّم باسم الله أو باسم الأوثان، وإنما تُقدم مِن قِبل بعض النساء من أجل أزواجهن في بعض الأديان أو الشعوب، فمثلا هناك عادة عند الهندوس، وهي جارية إلى الآن في بعض الأماكن على منأى من القانون، حيث تُحرَق المرأة حيةً مع زوجها المتوفى. فهل هذه القرابين البشرية – التي كانت تُقدَّم عندها وتُقدَّم اليوم بناء على التقاليد السائدة في بعض مناطق أفريقيا أو في بعض الأديان- يمكن أن تُحدِث انقلابا حقيقيا في العالم؟ أو هل يحتفل الناس بهذه القرابين فرحةً بها؟ كلا! بل إن هذه القرابين تؤدي إلى انتشار القلاقل والاضطراب بين الناس، لذلك سُنّت القوانين لمنعها.

الحق أن تضحيات إبراهيم وهاجر وإسماعيل -عليهم السلام- قد أوجدت إنسانًا قدّم تضحيات حقيقية، وسُمِّي إنسانا كاملا، وترَك أسوته الحسنة إلى يوم القيامة بتقديمه التضحيات من الطراز الأول،

أما التضحية التي قدّمها إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – فهي تملأ المؤمن حماسًا، إذ أذعن الابن كلية بعد سماع رؤيا أبيه وقال:

  يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ (الصافات: 103).

ما أجملَه مِن جوابٍ من ابن مؤمن بالله تعالى إيمانا كاملا، وعارفٍ بذات الله معرفة كاملة. هذه هي التضحية الحقيقية. لقد كانت تعبيرًا عمليًا من الابن والأب أنهما جاهزان لتقديم أي تضحية للفوز برضا الله تعالى دونما تردد. لم يكن سؤال إبراهيم – الذي يسمى أبا الأنبياء – ابنَه عما إذا كان جاهزا للتضحية أم لا، أو لم يكن انتظاره بلوغَ ابنه سِنَّ الرشد، راجعًا إلى أنه كان مترددًا في التضحية بابنه. كلا، بل كان يريد بذلك أن يشترك ابنُه أيضا بطيب خاطره في التضحية التي كان ينوي تقديمها للفوز برضا الله تعالى، إذ كان واثقًا من أن جواب ابنه سيكون بالقبول حتما. لقد أراد إبراهيم أن يبرهن على أن ابنه أيضا يتحلى بمعرفة كاملة بالله تعالى، ونوى أن يشارك الابنُ إلى أقصى حد ممكن في الجزاء المقدر لهما نتيجة تضحيتهما. ولكن الله تعالى كان يريد شيئا آخر. لقد أراد الله تعالى أن يضع – بهذا الحادث أو القربان أو الرؤيا التي أراها إبراهيمَ – حدًا للعادة السيئة للقرابين البشرية التي كانت تقدَّم بغير وجه حق. فعندما ألقى الأبُ ابنَه على الأرض نظر الله إليهما نظرة حب ولطف وقال: يا إبراهيم، توقَّفْ، فقد صدَّقت الرؤيا سلفًا. ومن اليوم فصاعدًا لن يُذبَح إنسان كالمواشي والدواب دون مبرر، بل نضع على عادة القرابين البشرية صبغة جديدة وجميلة من اليوم. ولكي تتم التضحية بصورة ظاهرية أيضًا أمر الله تعالى إبراهيم بذبح كبش، وقال اجْعلوا تضحيتكم تضحية هادفة. لقد صدَّقت رؤياك يا إبراهيم حين تركت زوجتك هاجر مع ابنها في وادٍ غير ذي زرع، ليُرفع اسم الله في البراري المقفرة الجرداء أيضا، ولكي تشهد الدنيا أنه لم يشترك في هذه التضحية الأب والابن فحسب بل قد اشتركت فيها الأم أيضا، ولكي ترى الدنيا معجزةَ قدرةِ الله على تحويل القفار الجرداء إلى مدن عامرة، ولكي ترى الدنيا معجزةَ تحوُّلِ هذه الأراضي القاحلةِ التي لا يتوجه إليها اليوم أحد، مرجعًا للخلائق في يوم من الأيام، ولكي ترى الدنيا آيةَ خلْقِ الله تعالى من هذه العائلة المخلصة شخصًا قُدِّر له أن يعلِّم العالَمَ كلَّه أساليبَ التضحية الحقيقية والهادفة، وأن يضرب بتضحيته أمثلةً سامية لم ترها الدنيا من قبل ولن تراها في المستقبل أيضا. إنه نموذج كامل وأسوة حسنة، إذ كانت حياته ومماته في سبيل الله . فقد كانت حياة النبي مليئة بأمثلة التضحية بالمال والتضحية بالنفس والتضحية بالوقت والتضحية بالعزة والكرامة. فلنأخذ التضحية بالمال مثلا، فقد كان النبي يسارع في إنفاق كل ما يأتيه من مال على حاجات الفقراء ولسدّ رمق الجياع. أما الإنفاق في سبيل الدين فحدِّث عنه ولا حرج، مثلما كانت صدقاته وإنفاقه على الفقراء بلا حدود. وبالإضافة إلى ذلك كان ينفق لتأليف القلوب بسخاء بدون حدود. لقد ورد في الروايات أن النبي أهدى لشخص لم يكن قد انضم إلى الإسلام بعد واديًا مليئا بالمواشي دونما تردد. وكان ذلك لتدرك الدنيا حقيقة الإسلام ولتدرك الهدف الحقيقي للإسلام ولبعثة النبي .

وفيما يتعلق بالتضحية بالنفس في سبيل الله، فكان النبي يتواجد دائما في الحروب التي شُنَّت على الإسلام في أحرج موطن. يقول أحد الصحابة إن أكثرنا شجاعةً في المعركة هو الأكثرُ قربًا مِن النبي* . صحيح أن الله تعالى عصم النبي من كل خطر كما وعد، ولكنه علّم بعمله الصحابةَ – رضي الله عنهم- أنه إذا اقتضى الأمر التضحيةَ بالنفس فهذا هو طريقها، وبرهنَ أيضا أن الهدف من ورائها هو أن تُقدَّم دفاعًا عن الإسلام، فضَحُّوا بحياتكم لهدف أسمى، لأن في ذلك الحياةَ الخالدة. فرَخِّصوا أرواحكم كليةً في سبيل إعلاء كلمة الله.

أما التضحية بالوقت، فنرى أن كل لحظة من حياته الطيبة كانت مسخَّرة في سبيل الله، حتى كان النبي يذكر ربه في المنام أيضا. كما كان يبذل وقته في أداء حقوق الناس. باختصار، لم يضيّع أي وقت على الإطلاق في حياته.

أما التضحية بالعزة والجاه، فقد ضرب النبي في هذا الصدد أيضا أمثلة رائعة  انطلاقًا من المبدأ القائل: “العزة لله جميعا”. فداسَ عواطفه تحت أقدامه إزاء مشيئة الله تعالى كأنما لم تكن له أية عواطف أصلا. لقد شاهدت الدنيا أسمى مستويات التضحية بالعواطف والأحاسيس عند صلح الحديبية حين سافر النبي مع أصحابه إلى مكة لتحقيق رؤيا رآها، ولكنه شعر بعد وصوله هناك أن رضا الله تعالى يكمن اليوم في التضحية بعواطفه، فعقَد مع الكافرين معاهدة بشروط كانت مُذلِّةً مُهِينةً باديَ الرأي. فأُصيبَ الصحابةُ بقلق شديد، حتى أخذ عمرُ – وهو الشهير بصواب رأيه وقوة إيمانه – يسأل النبيَّ في حماس ويقول: ألستَ نبيَّ الله حقًّا؟ كان الصحابة كلهم صامتين بفرط الحزن. في ذلك الموطن كان الصحابة مستعدين للتضحية بأنفسهم – كما كان النبي قد أخذ البيعة منهم على ذلك – ولكنهم ما كانوا جاهزين للتضحية بعزتهم وكرامتهم وعواطفهم. أما هذا الرسول، نعم! ذلك الرسول الكامل الذي كان جبلاً شامخًا من الوقار والعظمة، والذي كان رضا الله تعالى شعاره ودثاره، وكان على أُهْبة الاستعداد دومًا لتقديم كل تضحية في سبيله تعالى، كان يعرف جيدا أنه نبي صادق وأحب الخلق إلى ربه .

أما تلك المعاهدة التي بدت عندها مجلبـة للذل والهوان، فكـانت  في الحقيـقة  فتحًا مبـينًا بإذن الله.

ثم ضرب النبي بذبح الأضحية مثالاً ساميا للتضحية الظاهرية التي كانت ضرورية أيضا من أجل التضحية بالعواطف. إن هذه التضحية قد هزت كيان الصحابة الذين لم يكونوا جاهزين لذبح بُدْنهم، ولكن حين ذبح النبي دابته أدركوا حقيقة هذه التضحية الهادفة فنحروا دوابهم. الحق أن تضحيات إبراهيم وهاجر وإسماعيل -عليهم السلام- قد أوجدت إنسانًا قدّم تضحيات حقيقية، وسُمِّي إنسانا كاملا، وترَك أسوته الحسنة إلى يوم القيامة بتقديمه التضحيات من الطراز الأول، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلم إنك حميد مجيد.

إن العيد الذي نحتفل به اليوم ويذكِّرنا بتلك الأسوة الحسنة ويرشدنا إلى بلوغ تلك المستويات السامية، ويوجهنا إلى أداء حقوق الله وحـقوق العباد، ويذكّرنا بعهودنا التي عهدنا فيها أننا سنكون مستعدين دائمـا للتضحية بأنفسـنا وأموالنا وأوقاتـنا وعـزتنا.

لقد قدم النبي أمثلة رائعة لكل أنواع التضحيات لتحقيق الغاية من خلقه. وأنتم تدّعون الانضمام إلى جماعة الخادم المخلص والمحب الصادق لذلك النبي الأكرم ، فهبُّوا وتَعاهَدوا بأننا سنظل مستعدين دائما لتقديم كل تضحية لإرساء دعائم عظمة الإسلام في الدنيا وإقامة شرف النبي في العالم، ورفعِ راية عظمة الله في العالم، الأمر الذي من أجله أرسل الله المسيحَ الموعود إلى الدنيا. على كل مسلم أحمدي أن يقدم نفسه اليوم بتصميم جديد لتقديم التضحيات الهادفة حتى تقوم حكومة الله الواحد الأحد في الأرض.

إن الجماعة الإسلامية الأحمدية لم ترض في كل تاريخها الممتد لحوالي 120 عاما أن تتناقص تضحياتها الهادفة، سواء كانت بالنفوس أو بالأموال أو بالوقت وبالعزة والعواطف. فعليكم أن تعاهدوا اليوم أيضا أنكم لن تدعوا شعلة هذه التضحيات تخمد في صدوركم ولا في صدور أجيالنا. إن هدفنا هو الفوز برضا الله تعالى على الدوام، ولسوف نجعل في هذا الصدد أسوة سيدنا ومولانا محمد المصطفى نصب أعيننا دائما خاشعين لله ومستعينين به .

قبل بضعة أيام سافرت إلى الهند متوجها إلى قاديان، ولكن قبل الوصول إلى قاديان – حين كنت في جولة لجنوب الهند امتدت أسبوعين وكانت ناجحة وموفقة جدا بفضل الله تعالى – طرأت ظروف اضطرتنا للعودة إلى هنا من دلهي. كان قرارا صعبا حقا اضطررتُ له، ولكني أخذته لمصلحة الجماعة ولعلمي أن في ذلك رضا الله تعالى. وبعد ذلك كتب لي كثير من الأحمديين، كل بحسب ذوقه وطبيعته. وقد انتقلت أذهان كثير منهم إلى أن هذا الحادث يشبه واقعة الحديبية. أنا لا أقول ذلك ولا يحق لي ذلك، ولا نستطيع القول بالجزم إن هذا الحادث يشبه صلح الحديبية أو سيتحقق مثله تماما. وكما قلت من قبل، لكل شخص ذوقه وأسلوب تفكيره. والناس يحاولون البحث عن أوجُهِ الشبهِ بحسب ذوقهم. فادعوا الله تعالى أن يُظهر نتائجه بصورة النجاح والانتصار بفضله ورحمته، لأنه فيما يتعلق بالتطبيق فعندما يطبِّق الناس حادثا معينا على حادث مماثل يتوقعون أن تظهر نتائجه أيضا على النمط نفسه، أو في الفترة نفسها، فيتعثر بذلك ضعاف الإيمان. لا شك أن الله تعالى سيُظهر بفضله ورحمته نتائج إيجابية لقرارنا لأنه تعالى قد وعد المسيح الموعود بذلك، ولكنه تعالى هو الأعلم بموعد ظهورها. إذا كان هناك تشابهٌ بين الحادثين فعلينا أن ندعو أن يكون في النتائج. إن تضحية العواطف التي قدمها أهل قاديان والأحمديين في باكستان -الذين كانوا قد حصلوا على تأشيرة دخول الهند وكانت في قلوبهم رغبة شديدة في الحضور في الجلسة وفي اللقاء معي – لجديرةٌ بالتقدير الكبير بدون أدنى شك. ومع ذلك أقول، وقد قلت من قبل أيضا، علينا أن نتأسى بأسوة الصحابة عند الحديبية، حيث توجهوا -رضوان الله عليهم – إلى الأدعية. فعلينا أن نفعل ما فعلوا بعد التضحية بالعواطف وبالعزة عند البعض. ففي حضرة الله قدِّموا آهاتِكم وتضرعاتِكم وابتهالاتكم قلقين مضطربين، حتى يقبل الله تعالى تضحياتنا وأدعيتنا المتواضعة، ويردّ شرور الأعداء في نحورهم، ويهيئ لنا أسبابا تذلل جميع العراقيل في طريقنا حتى تتلاشي مكائد أعدائنا ومكر الماكرين كلهم مثل زبد البحر، فنتمكن من عقد الجلسات في باكستان وقاديان أيضا، ويعود رونقها وبهاؤها، وتنـزل علينا أمطار أفضال الله أكثر من ذي قبل، آمين.

فيا ربنا، نحن عبادك الضعفاء المذنبون، فارحمنا دائما، واقبلْ تضحياتنا المتواضعة، وأنزِلْ علينا أفضالك دائما، آمين.

وبمناسبة العيد أقدّم تهاني العيد وسلامي الحار للأحمديين في قاديان الذين كانوا ينتظرونني بفارغ الصبر، إذ كان من المقرر بحسب البرنامج السابق أن نصلي صلاة العيد معًا في قاديان. تصلني رسائل كثيرة من الأحمديين في قاديان بهذا الصدد. سوف ينـزل الله تعالى علينا أفضاله قريبا، وستعود أفراحنا ورونق قاديان ثانية. كذلك أقدم تهاني العيد وسلامي الحار للأحمديين في ربوة وباكستان كلها، وأقول لهم: إنني أشعر بنفس الألم الذي تشعرون به، لأني أيضا مررت بفترة مماثلة حين كنت في باكستان، غير أنني أمرّ الآن بحالة هي أشد إيلامًا من ذي قبل. إن الأحمديين في باكستان قد ضربوا أمثلة سامية في تقديم التضحيات منذ أمد بعيد ولا يزالون يقدمونها، كما قدمها دراويش قاديان إلى فترة طويلة ولا يزالون يقدمونها. والطريق الأنسب لجعل هذه التضحيات مقبولة عند الله تعال هو أن تظلوا خاضعين له تعالى دائما. وفق الله جميعا لذلك.

إن هدفنا هو الفوز برضا الله تعالى على الدوام، ولسوف نجعل في هذا الصدد أسوة سيدنا ومولانا محمد المصطفى نصب أعيننا دائما خاشعين لله ومستعينين به .

كما أقدم تهاني العيد وسلامي الحار للجالسين أمامي هنا ولجميع المسلمين الأحمديين في كافة أنحاء العالم، والذين يعيشون في أمن وسلام. ندعو الله تعالى أن يوفقهم للعيش في أمن وسلام دائما. يجب أن تفحصوا مستوى تضحياتكم في حالة الأمن أيضا، وتحاولوا رفع مستوى عباداتكم، لنرى مشاهد الفتح المبين في حياتنا.

والآن ندعو معا، وفي هذا الدعاء أرجو أن تتذكروا أولئك الذين نذروا حياتهم في سبيل الله، وللعاملين في الجماعة، وللواقفين الجدد، وللذين يقدمون تضحيات مالية أو غيرها. وكذلك يجب أن تدعوا لكافة أبنـاء الجماعة، رحمهم الله جميعا بفضله ورحمتـه، آمين.

Share via
تابعونا على الفايس بوك