سر الخلافة(6)
  • لم يصدر من الصديق إلا الإصلاح.هلك الناس من خيانو الراووين.
  • لاتظنو ظن السوء في الصحابة كانوا روحانيين منقطعين إلى الله متبتلين ولم يتنازعو للدنيا الدنية.
  • لماذا بايع علي رضي الله عنه الصديق إذا كان والعياذ بالله متمردا غاصبا ولماذا بايع الفاروق أيضا ؟!!.

__

وإن نفس الصدّيق كانت جامعة للرجاء والخوف، والخشية والشوق، والأنس والمحبة. وكان جوهر فطرته أبلغ وأكمل في الصفاء، منقطعًا إلى حضرة الكبرياء، مفارقا من النفس ولذاتها، بعيدًا عن الأهواء وجذباتها، وكان من المتبتلين. وما صدر منه إلا الإصلاح، وما ظهر منه للمؤمنين إلا الفلاح. وكان مبرَّأً من تهمة الإيذاء والضير، فلا تنظر إلى التنازعات الداخلية، واحملها على محامل الخير. ألا تُفكر أن الرجل الذي ما التفت من أوامر ربه ومرضاته إلى بنيه وبناته، ليجعلهم متمولين أو مِن أحد وُلاته، وما كان له من الدنيا إلا ما كان ميرةَ ضروراته، فكيف تظن أنه ظلم آل رسول الله مع أن الله فضّله على كلّهم بحسن نياته، وجعله من المؤيدين. وليس كل نزاع مبنيًا على فساد النيات كما زعم بعض متبعي الجهلات، بل رُبَّ نزاع يحدث من اختلاف الاجتهادات. فالطريق الأنسب والمنهج الأصوب أن نقول إن مبدأ التنازعات في بعض صحابة خير الكائنات كانت الاجتهادات لا الظلامات والسيئات. والمجتهدون معفوون ولو كانوا مخطئين. وقد يحدث الغلّ والحقد من التنازعات في الصلحاء، بل في أكابر الأتقياء والأصفياء، وفي ذلك مصالح لله ربّ العالمين. فكلّ ما جرى فيهم أو خرج مِن فِيهم، فيجب أن يُطوى لا أن يُروَى، ويجب أن يُفوَّض أمورهم إلى الله الذي هو ولي الصالحين. وقد جرت سُنّته أنه يقضي بين الصالحين على طريق لا يقضي عليه قضايا الفاسقين، فإنهم كلّهم أحباؤه وكلهم من المحبين المقبولين، ولأجل ذلك أخبرنا ربنا عن مآل نزاعهم وقال وهو أصدق القائلين:

وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين .(1)

هذا هو الأصل الصحيح، والحق الصريح، ولكن العامة لا يُحققون في أمر كأولي الأبصار، بل يقبلون القِصص بغضّ الأبصار، ثم يزيد أحدٌ منهم شيئا على الأصل المنقول، ويتلقاه الآخر بالقبول، ويزيد عليه شيئا آخر من عند نفسه، ثم يسمعه ثالث بشدة حرصه، فيؤمن به ويُلحق به حواشي أُخرى، وهلمّ جرّا، حتى تستتر الحقيقة الأولى، وتظهر حقيقة جديدة تخالف الحق الأجلى، وكذلك هلك الناس من خيانات الراوين.

وكم من حقيقة تسترت، وواقعات اختفت وقِصص بُدّلت، وأخبار غُيّرت وحُرّفت، وكم من مفتريات نُسجت، وأمور زيدت ونُقصت، ولا تعلم نفس ما كانت واقعة أوّلاً ثُم ما صُيّرت وجُعلت. ولو أُحْيِيَ الأوّلون من الصحابة وأهل البيت وأقارب خير البرية، وعُرضت عليهم هذه القِصص، لتعجبوا وحولقوا واسترجعوا من مفتريات الناس، ومما طوّلوا الأمر من الوسواس الخنّاس، وجعلوا قطرةً كبحر عظيم، وأرَوا كجبالٍ ذرّةَ عظمٍ رميمٍ، وجاءوا بكذب يخدع الغافلين.

والحق أن الفتن قد تموجت في أزمنة وسطى، وماجت كتموُّج الريح العاصفة والصراصر العظمى. وكم من أراجيف المفترين قُبلت كأخبار الصادقين، فتَفطَّنْ ولا تكن من المستعجلين. ولو أُعطيتَ مما أفاض الله علينا لقبلتَ ما قلتُ لك وما كنتَ من المعرضين. والآن لا أعلم أنك تقبله أو تكون من المنكرين. والذين كانت عداوة الشيخَين جوهرَ روحهم، وجزءَ طبيعتهم، وديدنَ قريحتهم، لا يقبلون قولنا أبدا حتى يأتي أمر الله، ولا يصدّقون كشوفا ولو كانت ألوفا، فليتربصوا زمانا يُبدي ما في صدور العالمين.

أيها الناس.. لا تظنوا ظن السوء في الصحابة، ولا تُهلكوا أنفسكم في بوادي الاسترابة، تلك أمة قد خلت ولا تعلمون حقيقةً بعُدت واختفت، ولا تعلمون ما جرى بينهم، وكيف زاغوا بعدما نوّر الله عينهم، فلا تتبعوا ما ليس لكم به علم واتقوا الله إن كنتم خاشعين. وإن الصحابة وأهل البيت كانوا روحانيين منقطعين إلى الله ومتبتلين، فلا أقبل أبدًا أنهم تنازعوا للدنيا الدنيّة، وأسرَّ بعضُهم غِلَّ البعض في الطويّة، حتى رجع الأمر إلى تقاتُل بينهم وفساد ذات البين وعناد مبين. ولو فرضنا أن الصدّيق الأكبر كان من الذين آثروا الدنيا وزخرفها، ورضوا بها وكان من الغاصبين، فنضطر حينئذ إلى أن نقرّ أنّ عليًّا أسد الله أيضا كان من المنافقين، وما كان كما نخاله من المتبتلين؛ بل كان يكبّ على الدنيا ويطلب زينتها، وكان في زخارفها من الراغبين. ولأجل ذلك ما فارق الكافرين المرتدين، بل دخل فيهم كالمداهنين، واختار التقيّة إلى مدة قريبة من ثلاثين. ثم لما كان الصدّيق الأكبر كافرا أو غاصبًا في أعين عليّ المرتضى رضي الله تعالى عنه وأرضى، فلِمَ رضي بأن يُبايعه؟ ولِمَ ما هاجر من أرض الظلم والفتنة والارتداد إلى بلاد أخرى؟ ألم تكن أرض الله واسعة فيهاجر فيها كما هي سُنّة ذوي التقى؟ انظر إلى إبراهيم الذي وفّى.. كيف كان في شهادة الحق شديد القوى، فلما رأى أن أباه ضلّ وغوى، ورأى القوم أنهم يعبدون الأصنام ويتركون الرب الأعلى، أعرض عنهم وما خاف وما بالى، وأُدخِل في النار وأوذي من الأشرار، فما اختار التقيّة خوفا من الأشرار. فهذا هي سيرة الأبرار، لا يخافون السيوف ولا السنان، ويحسبون التقية من كبائر الإثم والفواحش والعدوان، وإن صدرت شمّةٌ منها كمثل ذلّة فيرجعون إلى الله مستغفرين.

ونعجب من علي كيف بايع الصدّيقَ والفاروق، مع علمه بأنهما قد كفرا وأضاعا الحقوق، ولبث فيهما عمرًا واتّبعهما إخلاصا وعقيدة، وما لغِب وما وهَن وما أرى كراهة، وما اضمحلّت الداعية، وما منعته التقاة الإيمانية، مع أنه كان مطّلعا على فسادهم وكفرهم وارتدادهم، وما كان بينه وبين أقوام العرب بابا مسدودًا وحجابا ممدودًا وما كان من المسجونين. وكان واجبا عليه أن يُهاجر إلى بعض أطراف العرب والشرق والغرب ويحث الناس على القتال ويهيج الأعراب للنضال، ويُسخرهم بفصاحة المقال ثم يقاتل قوما مرتدين.

وقد اجتمع على المسيلمة الكذاب زهاء مائة ألف من الأعراب، وكان عليٌّ أحقّ بهذه النصرة، وأَولى لهذه الهمة، فلِمَ اتّبع الكافرين، ووالى وقعد كالكسالى وما قام كالمجاهدين؟ فأيّ أمر منعه من هذا الخروج مع إمارات الإقبال والعروج؟ ولِمَ ما نهض للحرب والبأس وتأييد الحق ودعوة الناس؟ ألم يكن أفصح القوم وأبلغهم في العظات ومن الذين ينفخون الروح في الملفوظات؟ فما كان جمع الناس عنده إلا فعل ساعة، بل أقلَّ منها لقوة بلاغة وبراعة، وتأثير جاذب للسامعين. ولما جمَعَ الناسَ الكاذبُ الدجالُ فكيف أسدُ الله الذي كان مؤيِّده الرب الفعّال، وكان محبوبَ رب العالمين.

ثم من أعجب العجائب وأظهر الغرائب أنه ما اكتفى عليٌّ أن يكون من المبايعين، بل صلّى خلف الشيخَين كل صلاة، وما تخلف في وقت من أوقات، وما أعرض كالشاكين. ودخل في شوراهم وصدّق دعواهم، وأعانهم في كل أمر بجهد همته وسعة طاقته، وما كان من المتخلفين. فانظر.. أهذا من علامات الملهوفين المكفرين؟ وانظر كيف اتبع الكاذبين مع علمه بالكذب والافتراء كأن الصدق والكذب كان عنده كالسواء. ألم يعلم أن الذين يتوكلون على قدير ذي القدرة لا يؤثرون طريق المداهنة طرفة عين ولو بالكراهة، ولا يتركون الصدق ولو أحرقهم الصدق وألقاهم إلى التهلكة وجعلهم عِضِين؟

وإن الصدق مشرب الأولياء، ومن علامات الأصفياء، ولكن المرتضى ترك هذه السجيّة، ونحَت لنفسه التقيّة، واتبع طريقا ذليلا، وكان يحضر فِناء الكافرين بكرة وأصيلا، وكان من المادحين. وهلا اقتدى بنبيّ الثقلين أو شجاعة الحُسين واتخذ طريق المحتالين؟ وأنشدك الله! أهذا من صفات الذين تطهرت قلوبهم من رجس الجبن والمداهنة، وأعطاهم إيمانُهم قوةَ الجَنان والمهجة وزُكّوا من كل نفاق ومداهنة، وخافوا ربهم وفرغوا بعده من كل خشية؟ كلا.. بل هذه الصفات توجد في قوم آثروا الأهواء على حضرة العزة، وقدّموا الدنيا على الآخرة، وما قدروا الله حق قدره، وما استناروا مِن بدره، وما كانوا مخلصين. وإني عاشرت الخواص والعوام، ورأيت كل طبقة من الأنام، ولكني ما رأيت سيرة التقية وإخفاء الحق والحقيقة إلا في الذين لا يُبالون علاقة حضرة العزة. ووالله، لا ترضى نفسي لطرفة عين أن أداهن في الدين ولو قُطعتُ بالسكين، وكذلك كل من هداه الله فضلا ورحما، ورزق من الإخلاص رزقا حسنا، فلا يرضى بالنفاق وسير المنافقين. أما قرأتَ قصة قوم اختاروا الموت على حياة المداهنة وما شاءوا أن يعيشوا طرفة عين بالتقية وقالوا:

رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين (2)

فيا حسرة على الشيعة! إنهم اجترؤوا على ذمّ المرتضى بما كان عندهم من منافرة للصدّيق الأتقى، وهفَتْ أحلامهم بتعصب أعمى. يتعامون مع المصباح المتّقد، ولا يتأملون تأمُّل المنتقد. وإنّي أرى كلماتهم مجموعة ريب، وملفوظاتهـم رجم غيب، وما مسّهـم ريح المحقـقين.

—–

(1) الحجر: 48

(2) الأعراف: 127

Share via
تابعونا على الفايس بوك