ولقد همت بِه وهم بِها
  • لقد رأى يوسف البراهين والآيات من الله تعالى في الماضي، ولولاها لما وجد العزيمة  على مقاومة الشر. لقد تلقى الوحي بالنجاة من البئر وخضوع إخوته له.

__

المفهوم الحقيقي

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَالله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُون (يوسف: 20)

شرح الكلمات :

واردهم: الوارد: الذي يتقدم إلى الماء، أو الذي يتقدم القوم فيستقر لهم. قوله تعالى أرسلوا واردهم أي ساقيهم. (المفردات). الواردة جمعُ الوارد وهم القوم الذين يردون الماء. (الأقرب).

يا بشرى: كلمة للتعجب والتعظيم والفرحة. مثل يا ويلتى ويا حسرتى التي يعبَّر بها عن الأسف.

البضاعة: طائفة من المال تعَدُّ للتجارة. (الأقرب)

التفسـير:

انظروا كيف يعامل الله عباده بكل وفاء. لقد ألقى هؤلاء يوسف في البئر عند البرية، ولكن الله تعالى جاء لنجدته على الفورحيث مرَّ ركب من هناك، فبعثوا ساقيهم طلباً للماء، فجاء الله به إلى البئر نفسها التي أُلقي فيها يوسف .

ويبدو من قوله تعالى وأسرُّوه بضاعةً‌ أنهم رأوا في يوسف إمارات النبل والسُؤدد فلذا اعتبروه متاعاً غاليًا.

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (يوسف: 21)

التفسـير:

عندما عرف إخوته أن أصحاب القافلة قد أخرجوه من البئر جاءوهم وقالوا لهم إنه عبد لنا قد أبق، وباعوه لهم.

التوراة تقول إن إخوته باعوه بعشرين درهماً (التكوين 37: 28). وبيَّن القرآن أنهم لم يبيعوه لأهل الركب رغبةً في المال وإنما ليتظاهروا أنه مملوك لهم.

يبدو أن إخوته خافوا أنهم إذا لم يتدخلوا في تحريره منهم لربما يساورهم الشك في أمره وربما يوصلونه إلى البيت مرة أخرى، فتَظَاهَروا لهم أن يوسف عبد لهم لا يصلح لشيء ويريدون التخلص منه بأي ثمن.

والشراء يعني الاشتراء أيضًا، وعليه، فقد يرجع ضمير الجمع في (شروه) إلى أهل القافلة أي أنهم اشتروه من إخوته بدراهم معدودة.

وهنا أيضاً تختلف التوراة عن القرآن إذ تزعم أن إخوته هم الذين أخرجوه من البئر حيث تقول بأنهم بعد إلقائه فيها جلسوا يأكلون، فلاحت لهم قافلة من الإسماعيليين، فاتفقوا على بيعه لهم، فأخرجوه منها وباعوه لهم بعشرين درهماً (التكوين 37 :28).

ولكن القرآن يخبر أن القافلة هي التي أخرجته منها. ويكفي لإبطال زعم التوراة أن نذكر أن هناك تعارضًا صارخًا فيها حتى في بضع جمل وردت عن الحادثة. ففي الجملتين رقم 25و27  ذكرت أن الركب كان من الإسماعيليين، ثم في الجملة التالية زعمت أنه كان من المديانيين، ثم عادت فقالت في آخر الجملة نفسها أنهم الإسماعيليون. مع أن هناك بونًا شاسعًا بين القبيلتين. فالكتاب الذي يخطئ ويتعثر بهذا الشكل في أربع جمل كيف يمكن اعتباره حاكمًا ومهيمنًا على القرآن الكريم؟ كما أن التلمود أيضًا يؤكد صحة بيان القرآن مائة بالمائةَ (الموسوعة اليهودية كلمة Joseph) .

كذلك ورد في التلمود: بينما إخوته يتحدثون عنه جاء ركب من المديانيين في طلب الماء ونزلوا صدفةً على البئر نفسها  التي ألقوا يوسف فيها. وتحير أهل الركب من وجود صبي وضيئ جميل نبيل، فأخرجوه منها واصطحبوه وساروا. ولما مروا بأبناء يعقوب ورآه هؤلاء معهم صاحوا بهم: لماذا سرقتم عبدنا الذي ألقيناه في البئر لعصيانه؟ رُدُّوه إلينا. ( التلمود، ترجمة H- POLANO ص74-75)

وهذه الرواية التلمودية أيضًا تتفق تمامًا مع بيان القرآن. فلا يستساغ أبدًا ترجيح بيان التوراة على بيان القرآن الذي يدعمه التلمود والعقل أيضًا.

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَالله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (يوسف: 22).

شرح الكلمات:

مثواه: الثواء والمثوى الإقامة مع الاستقرار. (المفردات) والمثوى: المنزل. (الأقرب).

مكّنّا: مكّنته ومكّنت له فتمكّن فهو مكين ومتمكّن أي ذو قدر ومنزلة (المفردات). مكن فلان عند السلطان مكانةً: عظم عنده وارتفع وصار ذا منزلة (الأقرب).

تأويل: التأويل من الأَوْلِ: أي الرجوع إلى الأصل، وذلك هو رد الشيء إلىالغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً (المفردات). والتأويلُ: العاقبةُ؛ بيانُ أحد محتملات اللفظ. أَوَّلَ الشيء إليه: رجّعه، ومنه قولهم: في الدعاء للمضل: أوّل الله عليك أي ردَّ عليكَ ضالّتك. وأوّل الكلام: دبّره وقدّره وفسّره. وأوّل الرؤيا: عبّرها (الأقرب).

التفسـير:

لما وصل الركب إلى مصر باعوا يوسف بثمن لا بأس به. تقول الكتب اليهودية بأن الذي اشتراه في مصر اسمه “فوطي فار”، وكان رئيس الحرس الملكي. وكان هذا المنصب يُعتبر في القديم أكبر منصب في البلاط الملكي. وفي الحكومات الإسلامية أيضًا كان الحاجب (رئيس الحرس) والكاتب (السكرتير الخاص) يعتبران أعلى درجةً من غيرهما من أفراد الحاشية، أما في أواخر حكم الخلفاء العباسيين فكان الحاجب أعلى درجة من الكاتب أيضًا.

وهذا الذي اشتراه من مصر أدرك برؤية ملامحه نبله وشرفه، فنصح زوجته أن لا تعامله كالخدم الآخرين بل أن تعامله بإكرام، فربما ننتفع به في يوم من الأيام، أو نتخذه ابناً لنا إذا وجدناه ولداً غير عادي.

هناك حذفٌ بعد قوله تعالى: وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض ، والتقدير: “وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض لنكرمه ولنعلمه تأويل الأحاديث”. أي أننا بوأنا يوسف بيتَ رئيس الحرس لنكرمه من جهة، ولنـزيده علماً في الروحانيات بإيقاعه في المحن والاختبارات، لأن هذا ضروريّ للرقي الروحاني. وبالفعل، فقد قدّر الله ليوسف أن يقع في الخصومة مع امرأة العزيز ليمر بمجاهدات روحانية خاصة.

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (يوسف: 23)

شرح الكلمـات:

أَشُدَّه: بلغ فلان أشُدَّه أي قوته، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، والمشهور أن ذلك بمعنى الإدراك والبلوغ. (الأقرب)

التفسـير:

ليس المراد منه أنه تَشرَّف بالنبوة بمجرد أن بلغ شبابه، بل إنه من أسلوب القرآن أنه يترك أحياناً أحداث الفترة المتوسطة جانباً بذكر النتيجة فقط.

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (يوسف: 24)

شرح الكلمـات:

راودتْه: راوده: شاءه. وراوده عن نفسه وعليها: خادعه، وفي القرآن: وراودتْه التي هو في بيتها عن نفسه، أي طلبت منه المنكر (الأقرب). المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غيرما يريد أو ترود غير ما يرود. وراودتُ فلاناً عن كذا، قال الله تعالى: (تُراود فتاها عن نفسه) أي تصرفه عن رأيه (المفردات).

هيت لك: أي هلمّ لك وتعال (الأقرب). هيت لك أي تهيأت لك (المفردات).

التفسـير:

توضّح هذه الآية أن سيدنا يوسف لم يقع في شَرَك امرأة العزيز، فباطلٌ قول بعض المفسرين بأنه كان على وشك أن يقع فريسة لإغرائها (الطبري).

أما قوله تعالى إنه ربي أحسن مثوايَ فالمراد من (ربي) هو الله تعالى. وقد أخطأَ من قال بأن المراد منه رئيس الحرس الذي كان سيدنا يوسف في بيته (تفسير القرطبي)‌. مما لا شك فيه أن العزيز كان قد أكرم مثوى يوسف وهيأ له إقامةً محترمة، ولكن وصول سيدنا يوسف إليه وتفكير العزيز في تكريمه أيضاً لم يكن إلاّ بفضل الله تعالى. فلا حق لنا أن نسيء الظّن في إنسانٍ كريم كيوسف فنتوهم أنه نسب نجاحه في ترك المعصية إلى الناس لا إلى أفضال الله تعالى. الحق أن كل ما ناله إنما ناله بحسب بشارات من الله تعالى، فلا شك أنه نَسَبَ ورعه وتقواه إلى فضل الله تعالى، إذ كان يرى في ارتكاب المعصية نكراناً للنعم الإلهية.

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (يوسف: 25)

شرح الكلمات:

همّت به وهمّ بها: همّ بالشيء نواه وأراده وعَزَم عليه وقصده ولم يفعله (الأقرب).

المخلَصين: أخلَص الشيءَ: اختاره، وأخلَصه الله: جعله مختاراً خالصًا من الدنس (الأقرب).

التفسـير:

وكما سبق آنفاً فإن كلمة “الهمّ” تعني: عقد الإنسان العزم على فعل شيء، وإن لم يستطع تنفيذه لسبب من الأسباب. فالآية تعني أن زوجة العزيز أرادت أمرًا بيوسف ولكنها لم تقدر على تنفيذه، كذلك أراد يوسف أمراً لامرأة العزيز ولكنه لم يستطع تنفيذه هو أيضًا.

يرى بعض المفسرين أن المراد من الآية أن كل واحد منهما أراد ارتكاب الفاحشة (الدر المنثور). ولكن هذا الرأي باطل تماماً فقد سبق أن أبطله الله في الآية السالفة، حيث صرح أن امرأة العزيز احتالت لصرف يوسف عمّا في نفسه ولكنه لم يتأثر بمكائدها، بل ذكر ربه خشية، وحذّر المرأة من العواقب.

إذن فلا يمكن أبداً أن يراد من قوله تعالى وهمّ بها أنه أراد بها سوءًا. فإن إرادة كل إنسان تفسَّر بحسب حالته، وقد وصف الله في الآية السالفة حال الاثنين إذ قال إن المرأة كانت تنوي بيوسف السوء ولكنه صدّها عن هذا الظلم محذراً إياها من عواقبه. فالمراد من “هم بها” أنها كانت عازمة على أن تنحرف به إلى الشر، وأما هو فكان يريد لها أن تهتدي إلى الخير، بيد أنَّ الاثنين لم يفلحا فيما أرادا، إذ لم يقبل هو ما بغتهُ من سوء ولم تقبل هي ما أراد بها من خير.

أما قوله تعالى لولا أن رأى برهان ربّه فليس بمتعلق بقوله وهمّ بها ، بل هو جملة منفصلة مستقلة، وجوابها محذوف. وهناك نظائر عديدة لمثل هذا  الحذف كقول الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب رحيم (النور:11)، وقوله تعالى ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبعَ آيـاتك ونـكون مـن المؤمنين (القصص:48). والمراد من هذه الجملة أن يوسف رأى البراهين والآيات من الله تعالى في الماضي، ولولاها لما وجد هذه العزيمة والتصميم على مقاومة الشر. فمثلاً لم ينصح المرأة بالكفّ عن السوء بل بقيَ صامتاً، ولكنه قد رأى آيات الله فلم يكن يُتوقع منه إلاّ أن يصدها عن ارتكاب المعصية، ولكنها -لسوء حظها- لم تقبل نصيحته وأصرت على الفاحشة.

وقد اختلف المفسرون بمعنى البرهان الذي رآه يوسف، فمنهم من يرى أن يوسف أيضاً كان قد رضي بالإثم واستعد لارتكابه، فطلبت منه امرأة العزيز إلقاء رداء على صنم في بيتها لأنها كانت تشعر بالخجل منه، فتنبه يوسف وعاد إلى الصواب وقال:”أنا أحق بالخجل والحياء من ربي الذي يعلم ويرى” (الدر المنثور). بينما قال الآخرون إنه رأى في السقف عبارةً تقول: (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة). وكأن القرآن كان قد تم نزوله حينئذ! ويرى غيرهم أنه رأى يدًا مكتوبًا عليها قول الله تعالى وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين . ويزعم البعض أنه رأى صورة أبيه يعقوب وهو يعض أنامله، فرجع عمّا نواه. (ابن كثير).

والحق أن كل هذه المزاعم باطلة لا أساس لها من الصحة. وإنما يعني برهان ربه تلك الآيات والبراهين التي كشفها الله ليوسف في الماضي؛ ومنها رؤياه التي بشره الله بها عن مستقبل باهر، والوحي الذي تلقاه وهو في البئر يبشره بالنجاة منها وبأنه سوف يحقق رقياً غير عادي بحيث سيضطر إخوته في يوم من الأيام للمثول أمامه خاضعين. وأيُّ شك في أن الذي كان يهيئه الله لمثل هذه الإنجازات العظيمة لا يمكن أن يهينه ويخزيه هكذا أمام امرأة مشركة.

قوله تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء يعني أولاً أننا إنما أريناه الآيات والبراهين لكي نكفّه عن المساوئ والفواحش. والحق أن هذا هو الهدف الذي يحققه الله بإظهار الآيات والبراهين على عباده الأخيار. فكيف يمكن أن لا يتحقق هذا الغرض الإلهي في قضية يوسف بل تنقلب النتيجة تماما.

والمعنى الثاني، أن هذا الحادث وقع لكي ينجيه الله تعالى من صحبة هذه المرأة الشريرة. فمن الحقائق التي لا يحوم حولها الشك أن العيش في صحبة الأشرار يؤثر سلبيًا في عقل الإنسان وأفكاره. ولو أن امرأة العزيز لم تبدِ نيتها الشريرة بهذا الطريق ليبقى يوسف في صحبة هذه المرأة وزميلاتها الفاسدات الأخلاق. فلم يرد الله أن يعيش يوسف في صحبتهن، فكشف عن نواياها الشريرة على الفور، وفصل بينه وبينهن بإرساله إلى السجن حيث ينقطع كليةً إلى عبادة الله على انفراد.

المماثلة الحادية عشرة:

كما أن امرأة العزيز حاولت صرف يوسف عن الصراط المستقيم، كذلك سعى أعداء النبي لصرفه عن دينه بشتى الإغراءات. فقد سجل التاريخ أن وفداً من قريش جاءوه ووعدوه أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، أو يزوّجوه من أراد من النساء وأن يجعلوه سيداً عليهم شريطة أن لا يذكر آلهتهم بسوء. فردّ عليهم النبي بمقولته الخالدة: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما تركته حتى يُظهره الله تعالى أو أهلك دونه”. (السيرة لابن هشام).

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الحادث بكلمات مماثلة حيث قال: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا  (الإسراء : 73 و74) مما يعني أن هؤلاء حاولوا اختبار النبي ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعًا، لأن كلام الله تعالى كان قد ثبّت فؤاده فكان إيمانه راسخًا رسوخ الجبال.

وهناك مشابهة أخرى بين النبيين الكريمين وهي: كما أن الناس قالوا في تفسير بعض الآيات القرآنية عن يوسف بأنه كان قد مال إلى السيئة قليلا، كذلك زعموا  في تفسير آيات من القرآن أن النبي كان قد مال إلى الكفار قليلاً. فالحق أن القرآن لم يقصد أبدًا في هذه الآية ما ذهب إليه  المفسرون.

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (يوسف: 26)

شرح الكلمات:

إستبقا: تسابقا أي سبق أحدُهما الآخرَ أو أراد أن يسبقه. استبقا الصراطَ: جاوزاه وتركاه حتى ضلاّ. وأما قوله: واستبقا البابَ، فبتقدير الجار.. أي تسابقا إليه، أو على تضمين الفعلِ معنى الابتدار أي ابتدرا البابَ (الأقرب).

قُدّ: قدّ الشيءَ: قطعه مستأصلاً، وقيل مستطيلاً، وقيل شقّه طولاً (الأقرب).

التفسـير:

لما رأى سيدنا يوسف أن نُصْحَه لا ينفعها شيئاً، فكّر أنه لو بقي عندها مدة أطول فقد يعرّضه هذا للاتهام، فحاول الفرار من هناك. ولكن امرأة العزيز حاولت إيقافه ممسكة بثوبه من الخلف، فشقته شقاً مستطيلاً. وتزامن ذلك حضور زوجها إلى البيت، فحاولت إخفاء جريمتها بأن اتّهمت يوسف البريء بالاعتداء عليها، ثم لم تلبث أن اقترحت بنفسها عقابه بأن يُسجَن أو يعذَّب عذابًا أليمًا.

يبدو من كلمة (واستبقا الباب) أن سيدنا يوسف أسرع إلى الباب ليفتحه ويفر منها، ولكن امرأة العزيز بادرت إلى الباب لتمنعه من فتحه. فلو كانت هي التي تريد الفرار لما أخذت بمؤخر قميصه. فلاشك أنها جرّته من قميصه لتدفعه عن الطريق وَلتقف هي أمام الباب حتى لا يستطيع فتحه، ولكنها فشلت في هذه المحاولة.

هنا أيضاً يعارض القرآن التوراة في بيانها، فقد جاء فيها أن يوسف فرّ تاركاً ثيابه عند المرأة (التكوين 39: 13).  ولو أخذنا  بعين الاعتبار أن العبرانيين ما كان لباسهم عندئذ إلاّ قميصًا طويلاً واحدًا على العموم، فهذا يعني أن يوسف فرّ من عندها عاريًا،  وهو أمر مكروه للغاية لا يتوقع صدوره عن إنسان كيوسف . فلا ريب أن بيان القرآن هو الأقرب إلى العقل والمنطق، إذ لم يفر من عندها تاركاً ثيابه وراءه وإنما انشق قميصه من الخلف.

Share via
تابعونا على الفايس بوك