ظروف ظهور براءة يوسف الصديق
  • سني قحط يوسف حصلت أيضا في عصر الاسلام.. فهل من حكمة في ذلك؟
  • براءة يوسف اتت بعد تفسير رؤيا الملك لم يرد يوسف الخروج من السجن إلابعد ثبوت براءته.
__
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْـرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون (يوسف: 44)

شرح الكلمـات:

عِجاف: عجِفت الشاة عجَفًا: ذهب سِمنها وضعُفت. وعجِفت البلاد: لم تُمطَر. ومنه نزلوا في بلاد عجافٍ أي غير ممطورة. عجِف الحَبُّ: لم يربُ. والعجَف: الهزال. والأعجف: المهزول. وهي عجفاءُ وجمعه عجافٌ (الأقرب).

تعبُرون: عبرَ السبيل عبورًا: شقّها أي مرَّ كأنه شقّها وقطعها. عبر بفلان الماءَ: جاز. عبر الكتابَ: تدبّر في نفسه ولم يرفع صوته بقراءته. عبّر الرؤيا عبراً وعبارة: فسّرها وأخبر بآخر ما يؤول إليه أمرها (الأقرب).

فتِنا: أفتاه العالم في مسألة: أبان له الحكم فيها وأخرج له فيها فتوى (الأقرب).

التفسـير:

يبدو أن فرعون كان موقنا إلى حد بعيد بصدق الرؤيا التي رآها، ولذلك لم يكتف بسؤالهم عن تأويلها، بل قال: أخبروني ماذا تقترحون عليّ فعله إن كنتم  تفهمون. وهذا يعني أن الله تعالى أراه الرؤيا بوضوح وهيبة بحيث تركت في قلبه وقعاً عظيماً جعله يصدقها ويسعى للنجاة من عواقبها المنذرة، إذ لولا هذا التأثير العميق للرؤيا في قلبه لما ذكرها لحاشيته، وبالتالي لم تتهيأ الأسباب للإفراج عن يوسف .

وأما النبي فقد أراد الله له أن ينال الرّقيّ بطريق مباشر من لدنه تعالى، فلذا بشّره الله بالفوز عن طريق الوحي مباشرة، ولم يرضَ الله له أن يستعين بالناس وهو يرقى سُلَّم التقدّم والازدهار.

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِين (يوسف: 45)

شرح الكلمات:

أضغاث: الضِغْثُ من الخبر والأمر: ما كان مختلطاً لا حقيقةَ له. هذه أضغاثُ أحلام: أحلامٌ ملتبسةٌ لايصحّ تأويلها (الأقرب).

أحلام: الحُلْمُ ما يراه النائم في نومه، لكنه غلب على ما يراه من الشر والقبيح كما غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والحسن، وربما يُستعمل كلّ مكانَ الآخر. جمعه أحلام (الأقرب). وورد في “مجمع البحار”: “الرؤيا من الله والحُلم من الشيطان، فهما ما يراه النائم، لكن غلب الرؤيا على الخير والحـلُمُ على الشر والقبيح. ورد في الحديث: (الرؤيا من الله والحُلم من الشيطان) (البخاري، التعبير).

ليس المراد من الحديث الشريف أن الله تعالى لا يُري الأحلام المنذرة، بل معناها أن أحداً لو رأى الأحلام المنذرة معظم الأحيان، فليعلم أنها من الشيطان وليست من الله تعالى، لأن رحمته غالبة على غضبه، ومن رأى الأحلام المبشرة عموماً فليعلم أنها من الله تعالى، لأن كفة الرحمة الإلهية راجحة في أحلامه.

والمعنى الثاني للحديث هو أن مصدر الحلم أي ما يراه من شر هو الشيطان، وأن مصدر الرؤيا أي ما يراه من خير هو الله تعالى؛ أو بمعنى آخر أن سبب العذاب والشر هو الشيطان، وسبب الخير والفضل هو الله تعالى، فإذا رأى أحد في المنام عمومًا ما  يسوءه وينذره فليعلم أنه على علاقة مع الشيطان فليُصلِح حالته، وأما إذا رأى ما يسرّه ويبشّره فليَعلَم أنَّ الله تعالى راضٍ عنه ويريد الإنعام عليه، فيجب أن يزداد خيرًا وصلاحًا.

التفسـير:

قالوا إنها أحلام مختلطة، فيها الحق وفيها الباطل، ومشوبة بشوائب حديث النفس، ولا يمكن اعتبارها من الله بشكل كامل، ولا نستطيع  تعبيرَ مثل هذه الأحلام إذ لا يمكن الجزم في حكمها.

وقولهم ومـا نحن بتأويل الأحلام بعالمين لايعني أننـا لا نسـتطيع تأويل الأحلام المنذرة بل جاءت “الأحـلام” هنا معرّفةً بـ “ال” للمعهود الذهني إشـارةً إلى أضـغاث أحلام التي مرّ ذكرها. والمراد أنـنا لا نقـدر على تـأويـل هذه الأحـلام التي قـد اختلـط فيها الحق بالبـاطل.

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون (يوسف:46)

شرح الكلمـات:

ادّكَرَ: أصله اذتكر (الأقرب).

أُمّة: الأمّة: الحين (الأقرب) وقوله تعالى وادّكرَ بعد أمة أي بعد حينٍ. وقد قُرئ بعد أمَهٍ أي بعد نسيانٍ، وحقيقةُ ذلك: بعد انقضاء أهلِ عصرٍ أو أهل دينٍ (المفردات).

 التفسـير:

يبدو من قوله (فأَرسِلونِ) أنه لم يكن من أعيان القوم الذين خاطبهم الملك. فعندما لم يقدر هؤلاء على تأويل حلمه، وتهرّبوا من الإجابة عن سؤاله بقولهم: إنها أضغاث أحلام، تذكَّرَ هذا الفتى قصة ما رآه هو وصاحبه في السجن من أحلام، وقال في نفسه: إن أحلامنا أيضًا كانت تبدو أضغاث الأحلام، ولكن يوسف ذكر لها تأويلاً معقولاً تحقق فيما بعد تمامًا، فلربما يذكر يوسف تعبيرًا لرؤيا الملك أيضًا. فاستأذن حاشيةَ الملك أن يرسلوه إلى يوسف ليعرف منه التأويل.

ولا غرابة في سؤال الملك حاشيتَه عن تأويل الرؤيا، إذ كان للكهّان ورجالات الدين عندئذ نفوذ في البلاد وحظوة في البلاط.

ويجب أن نتذكر هنا أمرًا لطيفًا: لا شك أن النجاح كان حليفًا لكلٍّ مِن سيدنا يوسف والنبي ، ولكن هناك فارقًا أيضًا. كان نجاح سيدنا يوسف مقدرًا بواسطة الآخرين لذلك قدّر الله أن يرى الملك تلك الرؤيا التي كانت سبباً في رقي يوسف ، وأما النبي   فقد أراد الله له أن ينال الرّقيّ بطريق مباشر من لدنه تعالى، فلذا بشّره الله بالفوز عن طريق الوحي مباشرة، ولم يرضَ الله له أن يستعين بالناس وهو يرقى سُلَّم التقدّم والازدهار.

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (يوسف: 47)

شرح الكلمـات:

الصِدّيق: الكثيرُ الصدقِ؛ الدائمُ التصديق؛ الكاملُ فيه؛ الذي يصدّق قوله بالعمل (الأقرب).

التفسـير:

هنا تساؤل: لماذا يقول هذا الفتى بعد أن قصّ الرؤيا على يوسف: لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون، مع أن يوسف ما كان ليجبره على المكوث معه في السجن؟ الجواب: إن كلمة ( لعل) قد جاءت هنا لبيان الطمع وليس الشك، وهي تشير هنا إلى ما يطمع فيه المخاطَب “أي يوسف”، والمراد: أنني إذا رجعت إليهم بالتأويل فسوف يعترفون بعلمك وفضلك وسوف ينكشف عليهم أنك بريء مما رُميتَ به.

كما أن الفتى يريد بقوله هذا تبرئة ساحته هو أيضًا، فكان وَعَدَ يوسفَ أن يذكره عند سيده أي الملك بعد إطلاق سراحه من السجن، ولكنه لم يفِ بوعده، لذلك يقول له الآن (لعلهم يعلمون) أي أنني لو ذَكَرتك عند الملك قبل هذا لم ينفع شيئاً، لأن الظروف لم تكن مواتية لذلك، ولكني وجدت الآن الفرصة لتبرئة ساحتك فجئتك على الفور.

المماثلة الثالثة عشرة

وهي أن الله تعالى كما نبّأ في زمن يوسف بوقوع القحط والمجاعة لِسبع سنين، كذلك أخبر النبي بسنين كسِنِي يوسف، حيث جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن مسعود:”كان هذا لأن قريشاً  لما استعصوا على النبي دعا عليهم بسنين كسِنِي يوسف. فأصابهم قحطٌ وجَهدٌ حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجَهدِ. فأنزل الله تعالى: فارتقِبْ يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس … قال: فأُتي رسول الله فقيل: يا رسول الله، استسقِ اللهَ لِمُضَرَ فإنها قد هلكت… فاستسقى فسُقُوا (البخاري، التفسير، سورة الدخان).

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُون (يوسف: 48)

 شرح الكلمـات:

دَأَبًا: دأب في عمله: جدّ وتعِب واستمّر عليه (الأقرب)

فذَروهُ: ذَرْهُ أي دعه، يقال ذرْهُ واحذرْهُ. وتقول في المضارع: يَذَرُهُ أي يدعه، وأماتت العربُ ماضيَه ومصدره واسم الفاعل منه (الأقرب).

التفسـير:

المراد من قوله: (تزرعون سبع سنين دَأَبًا) أنه لا مناص لكم من أن تزرعوا هذه السنين السبع بجد وتعب دون انقطاع حتى توفروا الغلال لسِني المجاعة والجفاف. أما إذا قصّرتم في الجهد أو تهاونتم في أخذ الحيطة في الاستهلاك، فلن تقدروا على تحمل وطأة المجاعة.

كما أخبرهم سيدنا يوسف كيف يحفظون الغلال فقال: إذا تركتم القمح في سنابله كان أدعى لحمايته من الديدان والسوس. ولعله توصل إلى هذه الحيلة مما ورد في رؤيا الملك نفسها، حيث فكّر أن رؤيته السنابل مع البقرات ربما تتضمّن إشارةً إلى حفظ الحبوب في سنابلها.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُون (يوسف: 49)

شرح الكلمـات:

شِداد: الشديد: البخيلُ؛ القويّ، جمعه شِداد. والشديدة مؤنث الشديد وجمعها شدائد (الأقرب).

تُحصِنون: حصُنَ حصانةً: مَنُعَ، وحصُنت المرأة حُصنًا وحَصانةً: كانت عفيفةً، وأحصَن: منع  (الأقرب).

التفسـير:

أي ثم تأتي أيام القحط تَستَهلكون فيها كل ما ادخرتموه من حبوب وغلال إلا قليلاً. وقوله إلاّ قليلاً مما تحصنون يعني أنكم ستضطرون حتمًا لتوفير بعض الغلال. وهذا الاضطرار يتمثل في توفير بعض الحبوب، إبقاءً على البذر للمرة القادمة، أو خوفًا من أن تمتد المجاعة مدة أطول.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (يوسف: 50)

شرح الكلمات:

عامٌ: العامُ: السنةُ. وفي المصباح: لا تفرّق عوام الناس بين العام والسنة يجعلونهما بمعنىً، فيقولون لمن سافر في وقت من السنة أي وقت كان إلى مثله عامٌ، وهو غلطٌ، والصواب: السنةُ من أي يوم عددته إلى مثله، والعامُ لا يكون إلا شتاءً وصيفًا (الأقرب).

يُغاثُ: غاثَ الله البلادَ يغيثها غيثاً: أنزل بها الغيث أي المطرَ. وغاثَه يغوثُ غوثاً: أعانه ونصره. وأغاثَنا الله بالمطر: كشَفَ الشدة عنّا به (الأقرب).

يعصرون: عصَر فلاناً: أعطاه العطية (الأقرب).

التفسـير:

لقد اعترض القساوسة على هذه الآية قائلين: إن خِصب الأراضي المصرية لا يتوقف على مياه الأمطار وإنما على فيضان النيل، ولكن القرآن يقول هنا: سوف ينتهي الجفاف ومعاناة الناس بنزول الأمطار، مما يعني أن من أنزل القرآن كان جاهلاً حتى بهذه المعلومات الجغرافية البسيطة (ترجمة القرآن لرودول).

والجواب: لقد استخدم القرآن هنا كلمة (يغاث الناس)، و(يُغاثُ) فعل للمضارع المجهول إما مِن (غاث، يغوث) بمعنى إنزال المطر، أو مِن (غاث، يغوث) بمعنى (النُصرةُ)، أو من (أغاث، يُغيثُ) بمعنى النجدة. فالمراد من قوله تعالى (يغاثُ الناسُ) ” أنهم (1) يُمطَرون، (2) يُنصرون (3)، يُنْجَدون، أي يفرَّج عنهم كروبهم. فقولهم بأن القرآن يقصد هنا نزول المطر في مصر مغالطةً منهم للناس. فما دامت الكلمة تفيد معاني أخرى أيضًا فلماذا لا يأخذون بها ويصرون على هذا المعنى. فجوابنا الأول: إن الآية لا تخبر بنزول المطر في مصر وإنما تعني أن الناس سوف ينصرون أو يُنجدون وتفرَّج عنهم كروبهم وآلامهم.

ولو قيل: لماذا استخدم القرآن كلمة غامضة؟ فالجواب: إنه ليس فيها أي غموض ولا إشكال. فما دامت تفيد هذا المعنى أيضاً فلماذا لا يستخدمها القرآن.

ثم هناك حكمة أخرى في استخدام الكلمة ذات المدلولين ألا وهي أن القرآن حين قَصَّ ما حدث في مصر في زمن يوسف قد قصد به أيضاً أن ينبئ عمّا سيقع في زمن النبي ، إذ كان من المقدر أن يرى العرب مجاعة مشابهة في زمنه أيضاً. ولكن بفارق واحد ذلك أن الله تعالى قدّر رفع القحط في زمن سيدنا يوسف بفيضان النيل، وأما الذي كان في عصر النبي فرفعه سبحانه بالأمطار. وهكذا استخدم القرآن-الذي كل كلمة فيه مليئة بالحكم-كلمةً تنطبق على العصرين معاً. فأحد معانيها، وهو الإغاثة وتفريج الكروب، ينطبق على ما حدث في زمن سيدنا يوسف ، بينما المعنى الآخر، وهو إنزال المطر، ينطبق على زمن النبي . وهذا الأسلوب القرآني اللطيف دليل على عظمة القرآن وفضله وليس بمنقصة فيه.

أما إذا أخذنا الكلمة بمعنى إنزال المطر فهذا أيضًا لا يقدح في عظمة القرآن أبدًا، لأن الآية لا تقول بأن المطر سينـزل على أهل مصر، وإنما تقول إن المطر سينـزل لأجل الناس.  لا شكَّ أن نَضارة الأراضي المصرية ترجع إلى فيضان النيل لا إلى نزول المطر فيها، إلاّ أن فيضان النيل إنما يتوقف على الأمطار التي تهطل في المناطق التي هي منابع النيل بعيداً عن مصر. إذن فلا يستقيم اعتراضهم بأي حال من الأحوال.

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (يوسف: 51)

شرح الكلمـات:

بال: البال: الحالُ؛ القلبُ (الأقرب). والبال: الحال التي يُكترثُ بها ولذلك يقال: ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثتُ به. وقال الله تعالى: كفّر عنهم سيئاتِهم وأصلح بالهم ، وقال فما بال القرون الأولى أي حالهم وخبرهم. ويعبّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان فيقال: خطر كذا ببالي (المفردات).

التفسـير:

أراد الملك الإفراج عن يوسف  بعد ما رأى  أن الكهنة الذين هم على دينه قد فشلوا في تفسير رؤياه، بينما أتى سيدنا يوسف بتأويل رائع مقرون بعلاج للمصيبة التي تنتظرهم، كما سمع الملك من ساقيه أنه سبق  أن تحقق ما ذكره يوسف من تعبير لما رآه هو وصاحبه في السجن من أحلام.  ولكن حمية يوسف أبت  أن يخرج من السجن إلاّ بعد أن تُبرَّأ ساحته مما رُمي به. ويبدو أنه فكّر في نفسه أنه لو خرج منه دون أن تُعلن براءته من التهمة فلربما يثير البعض القضية نفسها أمام الملك في المستقبل، فيصدّقهم. فالأفضل أن تُرفع إليه القضية الآن لكي يتحرى فيها  ويطمئن، حتى لا يستغلها أحد للتآمر عليه فيما بعد.

ويبدو من قوله (ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن) أنه قد حدث فعلاً شيء ما يمكن أن نعتبره كقطع الأيدي، فإما أن إحداهن جرحت يدها بالسكين حقاً، أو أنهن ما لبثن أن قلن عندئذٍ: لقد قطعنا أيدينا باتهامنا هذا الشخصَ، وإلى حادث الجرح هذا أو إلى هذا القول منهن يشير سيدنا يوسف بقوله (اللاتي قطَّعن أيديهن ). أما لو كان القرآن يقصد بقوله (أَكْبَرْنَه وقطّعن أيديهن) التعبيرَ عن شدة حَيرتهن فقط، لما وصفهن يوسف بقوله (اللاتي قطّعن أيديهن).

أود أن أذكر هنا كلمة حكمةٍ لا يتذكرها الناس عموماً، ألا وهي أن اعتبار العمل حسنًا أو سيئاً يتوقف على اختلاف وجهات النظر. فأحياناً يكون هناك أمران متعارضان تماماً فيما يبدو، ولكن باختلاف زاوية النظر إلى كل منهما ينقلب هذان الأمران إلى حسنتين أو سيئتين. وما فعله سيدنا يوسف  أيضاً يندرج تحت هذا القبيل من الأفعال. فعندما دعاه الملك كان أمامه خِياران اثنان فقط: إما أن يخرج من السجن دون تردد، أو أن يُثبت براءته أولاً ثم يخرج. وهذان أمران متعارضان في الظاهر، ولكن يمكن اعتبار كل واحد منهما حسنًا أو سيئًا بتغيير زاوية النظر إليه.

ذلك أنه لو امتنع عن الخروج من السجن بسبب الغطرسة والزَهْو قائلاً: لن أخرج منه ما لم يعترف القوم بخطئهم لعُدَّ عمله هذا معصيةً. كذلك لو أنه خرج من السجن على الفور مؤْثرًا راحةَ نفسه على مصلحةٍ دينيةٍ، لكان هذا إثماً. ولكن الواقع أنه لم يرفض الخروج من السجن استكباراً وتعاليًا، وإنما سببه- كما ذكره هو  نفسه – ألا يتوهم سيده أنه خانه في أهله أثناء غيابه. هكذا فإن نيته الطيبة جعلت رفضه من أفضل الأعمال الصالحة.

ولكن هناك زاوية نظر أخرى تجعل خروجه الفوري من السجن من أفضل الأعمال، وهي النظر إلى أهمية أداء الواجب. ذلك أن النبي مأمور أن يبلغ الناس رسالة الله، ومهمّته هذه تفرض عليه أن يضحي في سبيل ذلك بكل غالٍ ورخيص حتى بكرامته وشرفه. أما لو بقي النبي مسجوناً فإما أنه لن يقدر على تبليغ رسالة الله أو أن نطاق دعوته يكون محدودًا وضيقًا جدًا. فلو نظر سيدنا يوسف من هذا المنظور وخرج من السجن دون تبرئة ساحته من التهمة، مُؤْثراً أداء واجبه على الحفاظ على كرامته وشرفه، لكان ذلك تضحية عظيمة منه. ومن هذه الزاوية نظر الرسول الكريم إلى حادث يوسف حيث فَضَّل الخيار الثاني قائلا: “لو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف لأجبتُ الداعي”. (البخاري، الأنبياء) وفي رواية عن أبي هريرة :” لأسرعتُ الإجابة وما ابتغيت العذرَ”(مسند أحمد ج2 ص346).

وهكذا استخدم القرآن-الذي كل كلمة فيه مليئة بالحكم-كلمةً تنطبق على العصرين معاً. فأحد معانيها، وهو الإغاثة وتفريج الكروب، ينطبق على ما حدث في زمن سيدنا يوسف ، بينما المعنى الآخر، وهو إنزال المطر، ينطبق على زمن النبي . وهذا الأسلوب القرآني اللطيف دليل على عظمة القرآن وفضله وليس بمنقصة فيه.

وكل عاقل يدرك أن ما يفضّله النبي هو الأفضل، إذ لا جرم أن حفاظ الإنسان على كرامته وشرفه عملٌ حسنٌ عظيم، ولكنه لو ضحّى به لوجه الله تعالى، معرِّضًا نفسه للاتهام والطعن، بغيةَ تبليغ رسالة الله، أو لتحقيق مصلحة دينيةٍ أو قوميّة لكان أفضل من أن يهتم  أولاً بالحفاظ على شرفه وكرامته، ولو بنيّة طيبةٍ.

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَـصَ الْحَقُّ أَنَـا رَاوَدْتُهُ عَـنْ نَفْسـِهِ وَإِنَّهُ لَـمِنَ الصّـَادِقِـينَ (يـوسف: 52)

 شرح الكلمـات:

خطبكنَّ: الخطبُ: الشأنُ؛ الأمرُ صغُر أو عظُم؛ سببُ الأمر، يقال: ما خطبك أي ما شأنك الذي تخطبُه وما الذي حملك عليه (الأقرب). والخطبُ: الحالُ؛ الأمرُ الذي يقع فيه المخاطبة (التاج).

حَصْحَص الحق: بان بعد كتمانه (الأقرب).

التفسـير:

يبدو أن الملك عندما سمع التفسير الذي ذكره سيدنا يوسف أيقن على الفور بطهارته وورعه، وأدرك -حتى من قبل الفحص والتحري- أن التهمة الموجهة إليه باطلة، ولذلك خاطب النسوة وقال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه . كما يتضح من الآية أنهن اشتركن فيما بعد مع امرأة العزيز للتآمر على يوسف ليقع في فخها، لأن قول الملك هذا يوحي بأن خبر الحادث كان قد بلغه. ولكن الأكيد أن النساء لم يراودنه لأنفسهن وإنما لامرأة العزيز. فربما قالت له النساء: عليك بالرضوخ لرغبتها وإلا سوف تلقيك هي وراء قضبان السجن. أمّا لو كن يحاولن مراودته لأنفسهن لكان القرآن صرَّح بذلك.

ويبدو من قول الملك أن هذا الحادث كان جزءاً من الحادث السالف نفسه، وأن النسوة أدركن عندما خاطبهن الملك بهذا الأسلوب أَنه سوف يؤيد يوسف في موقفه، وأن إخفاء الحق أكثرَ من ذلك سوف يعرّضهن للخطر، فأتين بالحق، ولكن بكلمات تبرئ ساحة يوسف وفي الوقت نفسه لا تعرِّض امرأة العزيز لأي اتهام. أما هي فأصابها الفزع  وأدركت أن الفضيحة موشكة، وأنهن سوف يكشفن سرها الآن، فعليها أن تبادر بالاعتراف بجريمتها هي بنفسها لتنجوَ من العقاب الذي قد ينزله الملك بها، فقالت دون أن يسألها  الملك: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين .

Share via
تابعونا على الفايس بوك