سر الخلافة (9)
  • المهدي المجدد قد بعث لإحياء الدين، فالسعداء  يصدقونه  والمتعصبون يكذبونه.

__

الباب الثاني

في المهدي الذي هو آدم الأُمّة وخَاتَم الأئمة

اعلموا أن الله الذي خلق الليل والنهار، وأبدأ الظلامات والأنوار، قد جرت عادته من قديم الزمان وأوائل الأزمنة والأوان، أنه لا يتوجّه إلى إصلاح إلا بعد رؤية كمال طلاح، وإذا بلغت الآفة مداها، وانتهت البلية إلى منتهاها، فتتوجه العناية الإلهية إلى إماطتها، وإلى خلق شيء يكون سببا لإزالتها. وأما مثله فيوجد في العالم الجسماني أمثلة واضحة ونظائر بينّة جليّة للذي اعترته شبهة أو كان من الغافلين.

فأكبر الأمثلة سُنة ربانية توجد في نزول الأمطار والمرابيع التي تنـزل لتنضير الزروع والأشجار، فإن المطر النافع لا ينـزل إلا في أوقات الاضطرار، ويُعرف وقته عند شدة الحاجة وقرب الأخطار، فإذا الأرض يبست وهمدت، واصفر كل ما أنبتت وأخرجت، ومسّت الضرّاء أهلَها والمصائب نزلت وسقطت، وظن الناس أنهم أُهلكوا، والدواهي قربت ودنت، وما بقي في الأضَى قطرة ماء، والغدر نتنت، فيُغاثون الناسُ في هذا الوقت ويُحيي الله الأرض بعد موتها، وترى البلدة اهتزّت وربَتْ، وترى كل زرع أخرج الشطَأَ وكل الأرض اخضرّت ونضرت، وصار الناس بعد الخطرات آمنين.

ولا معنى لحفاظة القرآن من غير حفاظة عطره عند شيوع نتن الطغيان، وإثباته في القلوب عند هبّ صراصر الطغيان، كما لا يخفى على ذوي العرفان والمتدبرين.

وهذه عادة مستمرة، وسُنة قديمة، بل تزيد الشدّة في بعض الأوقات وتتجاوز حد المعمولات، وترى بلدة قد أمحلتْ ذاتَ العُوَيم، وما بقي من جَهام فضلا عن الغَيم، وما بقي بُلالة من الماء ولا عُلالة من ذخائر الشتاء، وما نزلت قطرة من قطر مع طول أمد الانتظار، ولاحت آثار قهر القهار، وأحال الخوف صُورَ الناس، وغلب الخيب وظهر طيران الحواس، وصار الريف كأرض ليس فيها غير الهباء والغبار، وما بقي ورق من الأشجار، فضلا عن الأثمار، فيضطر الناس أشد الاضطرار، وكادوا أن يهلكوا من آثار اليأس والتبار؛ فتتوجه إليهم العناية، ويدركهم رحم الله وتظهر الآية، وتنضر أرضهم من الأمطار، ووجوههم من كثرة الثمار، فيصبحون بفضل الله مخصبين. ذلك مثل الذين أتت عليهم أيام الضلال، وحلّت بهم أسباب مضلّة حتى زاغوا عن محجّة ذي الجلال، فأدركهم ذاتَ بكرة وابلٌ من مُزنِ رحمته، وبعث مجدد لإحياء الدّين، فأخذ الظانّون ظنّ السوء يعتذرون إلى الله ربّ العالمين.

وآخرون يكذّبونه ويقولون ما أنزل الله من شيء، وإن أنت إلا من المفترين. فينـزل الوابل تترًا حتى لا يُبقي من سوء الظن أثرا، فيرجع الراجعون إلى الحق متندمين. وأمّا الأشقياء فما ينتفعون من وابل الله شيئا، بل يزيدون بغيا وظلما وعسفا، وكانوا قومًا ظالمين. وما اغترفوا من ماء الله وما شربوا، وما اغتسلوا وما توضأوا، وما كانوا أن يسقوا الحرث، وكانوا قوما محرومين، فما رأوا الحق لأنهم كانوا عمين، وإن في ذلك لآيات لقوم مفكّرين.

ومثل آخر لمرسل الخلاق وهو ليالي المحاق كما لا يخفى على الممعِن الرمّاق وعلى المتدبرين. فإنها ليال داجية الظلم، فاحمة اللمم، تأتي بعد الليالي المنيرة كالآفات الكبيرة، فإذا بلغ الظلام منتهاه، وما بقي في ليل سناه، فيعشو الله أن يزيل الظلام المركوم، ويبرز النير المغموم، فيبدأ الهلال ويملأ أمنًا ونورًا الليلَ المهال، وكذلك جرت سُنّته في أمور الدّين. فيا حسرة على أهل الشقاق، إنهم يحكمون بقرب الهلال عند مجيء ليالي المحاق، ويرقبونه كالمشتاق، ولكنهم لا ينتظرون في ظلام الدين هلالاً ولو بلغ الظلام كمالا. فالحق والحق أقول إنهم قوم حمقى، وما أُعطي لهم من المعقول حظ أدنى، وما كانوا مستبصرين.

هذا ما شهدتْ سُنّة الله الجارية لنوع الإنسان، وثبت أن الله يُري مسالك الخلاص بعد أنواع المصائب والذوبان. فلما كان من عادات ذي الجلال والإكرام أنه لا يترك عباده الضعفاء عند القحط العام في الآلام، ولا يريد أن ينفكّ نظامٌ يتبعه عطبُ الأجسام، فكيف يرضى بفكّ نظام فيه موت الأرواح ونار جهنم للدوام؟ ثم إذا نظرنا في القرآن فوجدناه مؤيدًا لهذا البيان، وقد قال الله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (1)، وإن في ذلك لبشرى لكل من تزكّى، وإشارة إلى أن الناس إذا رأوا في زمان ضرًّا وضيرًا، فيرون في آخرَ نفعا وخيرا، ويرون رخاءً بعد بلاء في الدين والدنيا. وكذلك قال في آية أُخرى لقوم يسترشدون: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (2)، فأَمعِنوا فيه إن كنتم تفكرون. فهذه إشارة إلى بعث مجدد في زمان مفسد كما يعلمه العاقلون. ولا معنى لحفاظة القرآن من غير حفاظة عطره عند شيوع نتن الطغيان، وإثباته في القلوب عند هبّ صراصر الطغيان، كما لا يخفى على ذوي العرفان والمتدبرين.

أيها الناس لا تغلوا في أهوائكم، واتقوا الله الذي إليه تُرجعون. ما لكم لا تقبلون حكمَ الله وكنتم تنتظرون؟ شهدت السماء فلا تبالون، ونطقت الأرض فلا تفكّرون. وقالوا إنا لا نقبل إلا ما قرأنا في آثارنا ولو كانت آثارهم مبدَّلة أو وضعها الواضعون؟

وإثبات القرآن في قلوب أهل الزمان لا يمكن إلا بتوسط رجل مُطهَّر من الأدناس، ومخصوص بتجديد الحواس، ومُنوَّر بنفخ الروح من رب الناس، فهو المهدي الذي يهدي من رب العالمين، ويأخذ العلم من لدنه ويدعو الناس إلى طعام فيه نجاة المدعوين. وإنما هو كإناء فيه أنواع غذاء، من لبن سائغٍ وشِِواءٍ، أو هو كنار شتاءٍ، وللمقرور أشهى أشياء، أو كصحفة من الغَربِ فيها حلواء القند والضرب، فمن جاءه أكَل الخبيص، ومن أعرض فأُخذ ولا محيص، وسيلقى السعير ولو ألقى المعاذير. فثبت أن وجود المهديين عماد الدّين، وتنـزل أنوارهم عند خروج الشياطين، وتحيطهم كثير من الزمر كهالات القمر. ولما كان أغلب أحوال المهديين أنهم لا يظهرون إلا عند غلبة الضالين والمضلين، فسُمّوا بذلك الاسم إشارة إلى أن الله ذا المجد والكرم طهّرهم من الذين فسقوا وكفروا، وأخرجهم بأيديه من الظلمات إلى النور، ومن الباطل إلى الحق الموفور، وجعلهم ورثاء علم النبوة وأعطاهم حظا منه، ودقّق مداركهم وعلّمهم من لدنه، وهداهم سبلا ما كان لهم أن يعرفوا، وأراهم طرقا ما كان لهم أن ينظروا لولا أن أراهم الله، ولذلك سُمّوا مهديين.

وأما المهدي الموعود الذي هو إمام آخر الزمان، ومنتظَر الظهور عند هبّ سموم الطغيان، فاعلم  أن تحت لفظ المهدي إشارات لطيفة إلى زمان الضلالة لنوع الإنسان، وكأنّ الله أشار بلفظ المهدي المخصوص بالهداية إلى زمان لا تبقى فيه أنوار الإيمان، وتسقط القلوب على الدنيا الدنيّة ويتركون سبل الرحمن، وتأتي على الناس زمان الشرك والفسق والإباحة والافتتان، ولا تبقى بركة في سلاسل الإفادات والاستفادات، ويأخذ الناس يتحركون إلى الارتدادات والجهلات، ويزيد مرض الجهل والتعامي، مع شوقهم في سير المعامي والموامي، ويُعرضون عن الرشاد والسداد، ويركنون إلى الفسق والفساد، وتطير جراد الشقاوة على أشجار نوع الإنسان، فلا تبقى ثمر ولا لدونة الأغصان. وترى أن الزمان من الصلاح قد خلا، والإيمان والعمل أجفلا، وطريق الرشد عُلِّق بثريّا السماء. فيذكر الله مواعيده القديمة عند نزول الضرّاء، ويرى ضعف الدين ظاهرًا من كل الأنحاء، فيتوجّه ليُطفئ نار الفتنة الصمّاء، فيخلق رجلا كخلق آدم بيدَي الجلال والجمال، وينفخ فيه روح الهداية على وجه الكمال. فتارة يُسميه عيسى بما خلقه كخلق ابن مريم لإتمام الحجة على النصارى، وتارة يدعوه باسم مهدي أمين بما هو هُدِيَ من ربه للمسلمين الضالين، وأُخرجَ للمحجوبين منهم ليقودهم إلى رب العالمين. هذا هو الحق الذي فيه تمترون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. أحيا عبدًا من عباده ليدعو الناس إلى طرق رشاده، فاقبلوا أو لا تقبلوا، إنه فعل ما كان فاعلا. أأنتم تضحكون ولا تبكون، وتنظرون ولا تبصرون.

أيها الناس لا تغلوا في أهوائكم، واتقوا الله الذي إليه تُرجعون. ما لكم لا تقبلون حكمَ الله وكنتم تنتظرون؟ شهدت السماء فلا تبالون، ونطقت الأرض فلا تفكّرون. وقالوا إنا لا نقبل إلا ما قرأنا في آثارنا ولو كانت آثارهم مبدَّلة أو وضعها الواضعون؟ أيها الناس انظروا ههنا وهُنا، فاتركوا الدَخَن واقبلوا ما بان ودنا، ولا تتبعوا الظنون أيّها المتقون. قد عدل الله بيننا فلا تعدلوا عن عدله، ولا تركنوا إلى الشقاء أيها المسلمون. يا ذراري الصالحين.. لا تكونوا في يدَي إبليس مرتهَنين، ما لكم لا تتطهرون. واعلموا أن لله تدلّيات ونفحات، فإذا جاء وقت التدلّي الأعظم فإذا الناس يستيقظون، وكلّ نفس تتنبّه عند ظهوره إلا الفاسقون. ولكلّ تَدَلٍّ عنوانٌ وشأنٌ يعرفه العارفون. وأعظم التدليات يأتي بعلوم مناسبة لأهل الزمان، ليطفئ نائرة أهل الطغيان، فينكرها الذين كانوا عاكفين على أصنامهم فيسبّون ويكفرون، ولا يعلمون أنها فايضة من السماء، وأنها شفاء للذين تَنفّروا من قول المخطئين الجاهلين وكانوا يتردّدون، فينـزل الله لهم علومًا ومعارف تناسب مفاسد الوقت فهم بها يطمئنون، كأنها ثمر غضٌّ طريٌّ وعين جارية، فهم منه يأكلون ومنها يشربون.

Share via
تابعونا على الفايس بوك