إصلاح الحالات الأخلاقية

كلام الإمام (3)

بعد مراجعة الترجمة العربية لكتاب “فلسفة تعاليم الإسلام”وهو خطبة لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، ننشر هذا الكتاب هدية لكل طالب حق كي يتعرف عليه ويتذوق حكمة تعاليم الإسلام بلسان من أقامه الله تعالى، وبشر بمقدمه المصطفى لإحياء الإسلام وعرض جماله وكماله على العالمين.     التقوى

 

إصلاح الحالات الأخلاقية

القسم الثاني من إصلاحات القرآن المجيد هو تحويل الحالات الطبْعية -بضبطها بشروط ملائمة- إلى أخلاق فاضلة. وهذا القسم واسع جدًّا بحيث لو أردنا ذِكره ههنا مفصلا.. أي لو أردنا سرد جميع الأخلاق الحميدة التي بيّنها القرآن المجيد.. لطال هذا المقال بحيث لن يكفي الوقت المخصص له ولا حتى لعُشره، لذلك نوجز القول ونُلِمَّ بأمثلة من تلك الأخلاق.

تقسيم الأخلاق

اعلموا أن الأخلاق قسمان: قسم يمكِّن الإنسان من ترك الشر، أي التقوى، وقسم آخر يمكنه من إيصال الخير إلى الآخرين، أي البر.

ويندرج تحت القسم الأول جميعُ الأخلاق التي يحاول بها الإنسان ألا يصيب أحدا في ماله أو عِرضه أو نفْسه باللسان أو اليد أو العين أو بأي عضو من أعضائه، أو لا ينوي به إساءةً أو إهانة.

والمراد بالقسم الثاني سائرُ الأخلاق التي يسعى بها الإنسان لنفع أحدٍ في ماله أو عرضه.. باللسان أو اليد أو المال أو العلم أو بأي طريق آخر من طرق الخير؛ أو ينوي على الأقل أن يرفع شأنه ويُظهر عزته. أو إذا ظلمه أحدٌ امتنع عن إنـزال العقاب الذي استوجبه، وهكذا ينفعه بحمايته من معاناة الأذى والتعذيب البدني والغرامة المالية؛ أو عاقَبه عقابا يكون في الحقيقة رحمة له من كل الوجوه.

أخلاق تندرج تحت ترك الشر

وليكن واضحا الآن أن الأخلاق التي قدرها الخالق لترك الشر لها أربعة أسماء في اللسان العربي الغني بكل ما يحتاج إليه من مفردات للتعبير عن جميع خواطر الإنسان وأوضاعه وأخلاقه. فالخُلُق الأول يسمى الإحصان، والمراد به ذلك العفاف الذي يختص بالشهوة الجنسية بين الذكر والأنثى. فالمحصن أو المحصنة هو من يجتنب الفجورَ أو حتى مقدماته، وهكذا يمنع نفسه عن الفحشاء التي لا تكسبه سوى الذلة واللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، بالإضافة إلى الخسارة العظيمة لأقربائه، علاوة على الفضيحة العائلية. فلا يخفى أن من ارتكب الزنى مع امرأةِ رجل آخر، أو على الأقل بدت من الاثنين مقدماتُ الزنى ومبادئه، فإن زوجها المظلوم الغيور سيضطر إلى تطليقها، لأنها فعلتْ الفاحشة أو رضيتْ بها. ثم لو وضعت مولودا منه لحدثت فتنة كبيرة. فبسبب هذا اللئيم يتكبد رب البيت هذه الخسارة كلها.

واعلموا أن صفة الإحصان أو العفاف هذه لا تُعَد خُلقا إلا متى استعصم صاحبُها مع قدرته على سوء النظر أو ارتكاب الفاحشة؛ أي أنه يتعفف عن هذه الفعلة الشنيعة مع امتلاكه من القوى الطبْعية ما يستطيع به اقترافَها. أما إذا كان الإنسان فاقدا القوى الجنسية لحداثة سنه أو لكونه عنّينًا، أو لأنه مخنث، أو عجوز فانٍ، فلا يصح عندئذٍ أن نصِفه بخلُق الإحصان أو العفاف. صحيح أن عنده حالة طبْعية من العفة، ولكن مثل هذه الحالات الطبْعية -كما قلنا مرارا- لا تسمى أخلاقا إلا إذا صَدَرت، أو تهيأت لأن تصدُر، في محلها بتوجيه العقل. لذلك فالأطفال، أو الذين بهم عُنّة، أو الذين عطلوا قواهم الجنسية بطريق أو آخر، لن يوصفوا بهذا الخُلق وإن عاشوا في الظاهر حياة عفافٍ وإحصان، بل لا تكون عصمتهم هذه في جميع الأحوال المذكورة إلا حالةً طبْعية لا غير.

طرق العفة والإحصان

وبما أن هذا الفعل القبيح ومقدماته يمكن أن يصدر من المرأة كما يمكن صدوره من الرجل، لذلك أرشد الله تعالى كلا الجنسين في كتابه العزيز بقوله:

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ (النور: 31-32)،

وقوله:

وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور: 32)،

أي على المؤمنين أن يكُفّوا عيونهم عن رؤية المحارم، ولا يحدقوا بالنساء اللواتي ربما كن مثارا للشهوة، وأن يتعودوا في هذه المناسبات على غضّ البصر، أي النظر بطرف فاتر، ويستروا عوراتِهم قدر الإمكان. وكذلك يجب أن يصونوا آذانهم، فلا يسمعوا أغاني الأجنبيات وألحانهن، ولا يصغوا إلى أحاديث جمالهن، فإن ذلك أفضل طريق لطهارة العيون ونـزاهة القلوب.

ثم يأمر النساء بمثل ذلك ويقول: قل لهن أيضا أن يحمين عيونهن من رؤية غير المحارم؛ وكذلك يحمين آذانهن منهم.. أي لا يسمعن أصواتهم المثيرة للشهوة؛ وأن يسترن أماكن الستر منهن، ولا يكشفن مواضع الزينة لهم؛ وأن تضع المرأة خمارها على رأسها بحيث يغطي الجيبَ مع الرأس.. أي يستر الجيب والرأس والأذن والصدغ؛ وأن لا يضربن أقدامهن بالأرض كالراقصات. هذا هو التدبير الذي إذا اتخذه الإنسان يمكن أن ينجو من العثار.

والتدبير الثاني هو أن يتوبوا إلى الله تعالى، ويبتهلوا إليه ليحميهم من العثار وينجيهم من الزلل.

ثم يقول الله :

وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا (الإسراء: 33)..

أي ابتعدوا عن كل ما يدفعكم حتى إلى التفكير في هذه الفاحشة، ولا تسلكوا طرقًا فيها خطرُ الوقوع في هذه المعصية، فإن الذين يرتكبون الزنى يبلُغون السيئةَ ذروتَها. إن سبيل الزنى سيّء جدا.. إذ يحول دون غايتكم ويُشَكل خطرا شديدا على هدفكم الأخير.

وقال الله تعالى:

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا (النور: 34)..

أي أن على الذين لا يجدون فرصةً للزواج أن يحافظوا على عفتهم بطرقٍ أخرى، كالصيام أو التقليل من الطعام أو استهلاك القوى في أعمال بدنية شاقة.

الرهبانية مناقضة للفطرة

وقال سبحانه وتعالى:

وَرَهْبَانِيةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا (الحديد: 29)..

أي أن هناك أناسا ابتدعوا بأنفسهم طُرقا لذلك: كأن كَفّوا عمدًا عن الزواج إلى الأبد، أو عطلوا قواهم الجنسية بطرقٍ مصطنعة ليكونوا كالمصابين بالعُنّة، أو ترهبوا بأي طريقٍ آخر؛ ولكنا لم نفرض ذلك عليهم، ومِن ثَم فشلوا في العمل بهذه البدعات تماما.

وقوله تعالى إننا ما كتبنا على الناس أن يترهبوا.. يشير إلى أننا لو كنا فرضناه عليهم لاستطاع الجميعُ العملَ بها؛ وبالتالي لأدى ذلك إلى القضاء على أهل الدنيا من زمن بعيد بانقطاع النسل الإنساني.

ثم إن الاستعفاف بِبَتْر عضو التناسل ليس إلا اعتراضًا على الصانع الحكيم الذي خلق ذلك العضو. ثم إن الثواب كله يتوقف على وجود قوة الشهوة أولا، وعلى مقاومة الإنسان المستمرة لنـزعاتها الفاسدة خشيةً من الله، وعلى استفادته من تلك القوة.. لينال نوعين من الثواب. وما دام الأمر كذلك، فمن البديهي أن بتر العضو يحرم الإنسان من الثوابين، لأن الثواب إنما يتحقق بوجود الشهوة الثائرة وقمعها. فأين الثواب إذا انعدمت تلك الشهوة وأصبح الإنسان كالطفل؟ وهل يُثاب الطفل على عفافه؟

خمسة طرق للعفاف

إن الله تعالى لم يشَرع في الآيات المذكورة تعليما ساميا يُكسب الإنسان خُلُق الإحصان أي العفاف فحسب، بل وصف خمسة علاجات أيضا لذلك، وهي: غضّ البصر؛ أي صرْفُه عما لا يحل له رؤيته؛ وحفظُ السمع عن صوت غير المحارم، وعدمُ الإنصات إلى أوصاف جمالهن؛ ومنعُ النفس عن كل ما يؤدي إلى هذا الإثم؛ والصومُ وما شابهه في حالة العزوبة.

وهنا نعلنها مدوّيةً أن الإسلام وحده يمتاز بهذا التعليم الأسمى الشامل لكافة التدابير اللازمة، والمذكور في القرآن المجيد.

ثَمّة حكمةٌ جديرة بالذكر، وهي أن الحالة الطبْعية التي هي منبع الشهوات، والتي لا يتحرر منها الإنسان إلا بعد تحول كامل.. إنما تتمثل في أن نـزعاته الشهوانية لا تلبث أن تضطرم عندما تُصادف مواقعَ الإثارة، أو بألفاظ أخرى: إنها تصبح في خطر شديد عندئذ.. لذلك لم يُبِح الله لنا أن ننظر إلى المحارم بلا حرج، ونتطلع إلى زينتهن، ونشاهد رقصهن وما إلى ذلك حتى بالنظر الطاهر؛ وكذلك لم يَسمح لنا أن نسمع من الأجنبيات الشابات الغناء والموسيقى، أو نستمع لقصص حسنهن وجمالهن ولو بنية صالحة. كلا، بل وصانا ألا ننظر إلى غير المحارم وإلى أماكن زينتهن أبدا، لا بالنظر الطاهر ولا بالنظر الخبيث؛ وألا نسمع كذلك أصواتَهن ذات الألحان والغناء وألا نصغي إلى قصص جمالهن، لا بالنية الصالحة ولا بغيرها، بل علينا أن ننفر من كل ذلك كما ننفر من الجيفة.. لكيلا نعثر، لأنه لا بد وأن نتعرض يوما للعثار بسبب هذه النظرات الطليقة. فبما أن الله يريد أن تبقى أبصارنا وقلوبنا وخواطرنا جميعها مصونةً، لذلك فقد أرشدنا لهذه المبادئ السامية. فأي شك في أن التحرر المطلق يؤدي إلى العثار والسقوط؟ أوَليس من الخطأ الفاحش أن نضع أمام الكلب الجائع أرغفة ناعمة.. ثم ننتظر منه أن لا يمر بباله أي خاطر عن الرغيف؟ لذلك فقد أراد الله تعالى ألا تتاح للقوى النفسانية فرصةُ نشاط خفي أيضا، وأنْ لا يتعرض الإنسان لموقف يهيج خواطرَ السوء فيه.

الحكمة من الحجاب الإسلامي

هذه هي الحكمة من الحجاب الإسلامي. وهذه هي الهداية الشرعية فقط. لم يقصد كتابُ الله بالحجاب اعتقالَ النساء وحبسهن كالأسرى، ذلك ظن الجهلة الذين لا يعلمون عن المبادئ الإسلامية شيئا. إنما المقصود من الحجاب الإسلامي كفُّ النساء والرجال جميعا عن إلقاء نظراتٍ حرة، وكشفِ زيناتٍ للجانب الآخر، وتبرُّجِ الجاهلية.. لأن في الكف عن كل ذلك مصلحةَ الجنسين.

كما يجب أن نتذكر أيضا أن غضّ البصر في لغة العرب هو أن ينظر الإنسان بعين فاترة.. بحيث يصون نظرَه عما لا تحِلّ رؤيته، ولا ينظر إلا إلى ما يجوز النظر إليه. وكل من يريد تزكية نفسه لا ينبغي له أن ينطلق ببصره كالحيوان حيث يشاء من دون قيد ولا ضابط، بل عليه أن يُعوّد نفسَه غضَّ البصر في هذه الحياة المتمدنة، وبهذا السلوك المبارك تتحول عادته الطبْعية هذه إلى خُلقٍ عظيم دون أن يتعارض ذلك مع ضرورات حياته الاجتماعية شيئًا. وهذا هو الخلق الذي يسمى الإحصان والعفة.

خُلُق الأمانة   

والقسم الثاني من أقسام ترك الشر.. هو ذلك الخُلُق الذي يُعرَف باسم الأمانة.. أي تجنب إيذاء الغير بالاستيلاء على ماله بسوء النية وابتغاء الشر.

وليكن واضحا أن صفةَ الأمانة حالةٌ من حالات الإنسان الطبْعية، حتى أن الطفل الرضيع ذا السذاجة الطبْعية لصغر سنه، والذي لم يأخذ بعد في العادات القبيحة.. ينفر من مال غيره لِدَرجة أنه قَلما يرضع من غير أمه إلا بصعوبة بالغة، وإذا لم يُرضَع من مرضِع أخرى وهو صغير لم يَعِ بعد، فإنه استرضاعه من غير أمه بعد ذلك يصعب جدا، ويعاني مشقة عظيمة لدرجةٍ قد يُشرف بها على الموت، ويَكرَه مع ذلك رضاعة الغير؛ فهو ينفر بطبعه من أن يترك ما عند والدته إلى ما عند سواها. فما هو السر في هذا النفور الشديد يا ترى؟

وإذا نَظَرْنا في عادة الرضيع هذه وأمعنا في تأملها وتدبرها لاتضح لنا بجلاء أن نفوره الشديد مما هو مُلكٌ لغيره بحيث يعاني بسببه مشقةً بالغة.. إنما هو المنبع الأول لصفة الأمانة. ولن يكون الإنسان صادقا في خُلُق الأمانة ما لم يجد في نفسه -كالطفل- كراهية تامة ونفورا حقيقيا مما هو للغير.

غير أن الطفل لا يستعمل هذه العادة في محلها، ويتكبد بجهالته معاناةً شديدة، فليست عادته هذه إلا حالةً طبْعية يُظهرها بلا روية ولا اختيار، ولذلك فهي لا تُعتبر من الخُلُق في شيء، وإن كانت هي المـَنْشأ الأول للأمانة في الفطرة البشرية. فكما أنه لا يجوز أن يُدعى الطفل أمينا ذا تدين بسبب عادته الطبْعية الفطرية، كذلك لا يجوز أن يوصف بالأمانة مَن لا يتصرف في طبيعته هذه بمقتضى الحال. إن الاتصاف بالأمانة أمر عظيم جدا، ولن يكون الإنسان أمينا حتى يستوفي جميع شروط الأمانة من كل الوجوه.

ونقدم فيما يلي -كمثال- آياتٍ أرشدنا الله بها إلى طرق الأمانة وآدابها.. يقول :

وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَّكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا (النساء: 6-7).

ويقول عزَّ مِن قائل:

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُريَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (النساء: 10-11)..

أي أنه إذا كان بينكم صاحب مال ضعيف العقل.. كأنْ يكون يتيما لم يبلغ سن الرشد، وخشيتم أن يضيع ماله بسفاهته.. فعليكم -كأمناء على أموالهم- ألا تضعوا في أيدي مثل هؤلاء الحمقى كل رأس المال الذي هو قوام المعيشة ومدار التجارة، وأعطُوهم منه بقدر ما يحتاجون إليه للطعام والكسوة، وقولوا لهم قولا معروفا مما يُنمي عقولَهم وشعورهم ويربيهم بما يلائم أحوالهم حتى لا يبقوا جاهلين عديمي الخبرة. فمن كان منهم ابن تاجر مثلا فعلموه طرقَ التجارة، ومَن كان أهله أصحاب صناعة فدربوه على ما يناسب هذه الصنعة، ولا تدَعوهم هكذا بل قوموا باختبارهم وامتحانهم بما علمتموهم من حين لآخر. حتى إذا ما أدركوا سن البلوغ -وهو العام الثامن عشر من عمرهم تقريبا- وشعرتم أنهم أصبحوا أهلا لتدبير أموالهم بالعقل والحزم.. فادفعوا إليهم أموالهم. ولا تنفقوا أموالهم بالإسراف، ولا تضيعوها خوفا من أن يكبروا فيستردوها. ومن كان غنيا فلا ينبغي له أن يأخذ أجرًا على كفالته. أما إذا كان الكفيل فقيرا فليأخذ من أموالهم بحسب المعروف. كان من عادة العرب عندئذ أن الكفلاء إن ابتغوا شيئا من أموال الأيتام حاولوا قدر الإمكان أن يأخذوا لأنفسهم قسطا مما ربحته تجارةُ تلك الأموال، وألا يستهلكوا رأس المال بتاتا. ويشير الله هنا إلى نفس هذه العادة ويأمر باتباعها.

ثم قال: فإذا دفعتم إليهم أموالهم فافعلوا ذلك بمحضر من الشهود، ومن حضره الموت وكان له أولاد ضعاف غير بالغين فلا يحق له أن يوصي بما يجحف بحقوقهم.

فانظروا كم من آداب الأمانة بيّنها الله تعالى ههنا! فالأمانة الحقيقية هي تلك التي تستوفي جميعَ هذه الشروط.. وإلا فإن الأمانة التي لا تُراعى فيها جميعُ هذه الشروط بحذر تام، لا بُد من أن تتسرب إليها أنواع الخيانات الخفية.

ثم يقول الله في موضع آخر:

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ الناسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 189)..

أي لا تستولوا على أموال الناس بغير الحق، كما لا تقدموا أموالكم لأصحاب السلطة كرشوة لاغتصاب أموال الناس بمساعدة الحكام.

ويقول تعالى:

إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا (النساء: 59).

ويقول تعالى:

إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (الأنفال: 59).

ويقول تعالى:

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (الإسراء: 36)..

أي إذا كِلْتم الأشياء فكيلوها بميزان وافٍ مستوٍ لا خلل فيه.

ويقول تعالى:

وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (الشعراء: 184)..

أي لا تضروا بأموال الناس بأي طريق، ولا تسيروا في الأرض بنية الفساد.. أي السرقة أو الإغارة أو اختلاس أموال الناس بانتشال ما في الجيوب أو بأي طريق آخر.

ويقول :

وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ (النساء: 3) ..

أي لا تعطوا الرديء مكان الجيد، بمعنى: أنه كما لا يحل لكم أن تغتصبوا أموال الناس بغير الحق، كذلك لا يحل لكم أن تبيعوهم المغشوش من الأشياء، أو أن تعطوهم الرديء بدل الجيد.

لقد بين الله تعالى في الآيات المذكورة أعلاه طرقَ الخيانة كلها، وقد جاء بكلامٍ وافٍ بحيث ما ترك طريقا من طرق الخيانة إلا ذكره. لم يكتف بأن قال “لا تسرقوا”.. لئلا يفهم الجاهل أن السرقة وحدها حرام، وأما سواها من أساليب الحرام فهو في حل منها. كلا، بل إن الله حرم بهذا البيان الجامع كل أسلوب غير شرعي، وهذا هو البيان الحكيم. إذن، فالذي لا يتخلق بالأمانة مع هذه البصيرة، ولا يراعي فيها جميعَ هذه الجوانب والشروط.. لن يُعتبر فعله من الأمانة في شيء، وإن تَظَاهر بالأمانة في بعض الأمور، فما هي إلا حالة طبْعية خالية من التمييز العقلي والبصيرة.

 

Share via
تابعونا على الفايس بوك