قيمة العِلم التجريبي في التّصور الإسلامي

قيمة العِلم التجريبي في التّصور الإسلامي

زعيم الخير الله

 أثنى الإسلام ثناء عظيما على العلم والعلماء، وورد في هذا المجال عدد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.. تُشيد بفضل العلم والعلماء. وتتسم هذه النصوص الإسلامية بصفة العمومية، فهي لا تخص عِلما معينا، وإنما تتحدث عن العلم بمعناه الواسع الشامل.. الذي يشمل علم الدين وعلوم الحياة.

أما العلم التجريبي -محور الحديث في هذا المقال- فأصوله إسلامية وليست كما يتشدَّق الأوربيون بأنهم روّاده، وينسبونه إلى الفيلسوف الفرنسي “بيكون” فقد أثنى القرآن الكريم على العلماء التجريبين ثناء عظيما، فخصَّهم بمقام خشيته، وقال:

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: 29) (1)

وسياق هذه المِدحة العظيمة بيِّن جلي في أن المراد من العلماء المميزين بمقام الخشية هذه هم العلماء بالله، الذين عرفوه (أي تبينوا جلالَه وعظَمته وسائر صفاته الحسنى) بمعرفة آياته في خلْقِه.. معرفة تقوم على إدراك أسرار وظواهر ما خلق من أشياء، والمتأمل في موقع هذه المدحة مما سبقها.. يفهم من هم العلماء في هذا المقام.

قال عز شأنه:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر: 28-29)

وقال تعالى:

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (سورة الروم:24)

فقد خصّ العالمين بالذكر، وفي ذلك توجيه لذوي العقول المستضيئة بنور العلم إلى البحث عن أسرار آيات الله الكونية.. بهدف كشفها ورفع الحُجب عن خصائصها.. لتقع من الحياة موقعها، وينتفع بها خصائصها.. لتقع من الحياة موقعها، وينتفع منها الأحياء.. لأنها مخلوقة لأجلهم. (2)

كما أن ثقافتنا الإسلامية لم تعرف الفصلَ والقطيعة بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية.. فقد نبغ الكثير من علمائنا في كلا الحقلين.. بعكس الثقافة الأوربية التي شهدت هذه القطيعة وهذا الفصل الحاد. يقول الأستاذ محمد المبارك رحمه الله:

” أما في الثقافة الغربية في العصر الحديث، فقد خصصت كلمة Science أي علم.. للمجالات أو للأبحاث الرياضية والطبيعية، ثم أُدخل في مدلولها كل علم يقبل موضوعُه الخضوعَ للتجربة والاستقراء والمقاييس الكمية. ولا يزال إدخال علم النفس وعلم الاجتماع في هذا المدلول موضع جدل، أما بقية العلوم الإنسانية كالأدب والأخلاق وعلوم الدين المختلفة والفلسفة فما مصدره الذوق الفني أو التأمل العقلي أو الوحي الإلهي، فلا تدخل -في الاصطلاح الدقيق- في مضمون كلمة Science  أي “علم” وإن أُدخلت أحيانا فعلى سبيل التجوُّز والإطلاق اللغوي العام”. (3)

ولا بد قبل إثبات إسلامية أصول المنهج التجريبي أن نلقي ضوءًا أو فكرة عامة عن هذا المنهج الذي يُطلق عليه أحيانا “الاستقراء” أو المنهج الاستقرائي، فمن الاستقراء يتحدث الدكتور قاسم قائلا:

“معروف أن منهج البحث في هذه العلوم يقوم على المشاهدة، والملاحظة، والاستقراء، وفرض الفروض، والتحقق من صحتها بالتجارب العلمية والعملية، وبالطرق الاستقرائية المعروفة. ثم يصل الباحث إلى القانون العلمي، وهو المرحلة الأخيرة في المنهج الذي يسمى “المنهج التجريبي الاستقرائي”(4). ولكن يمكن أن نقول بملء فَمِنا أن الحضارة الإسلامية هي صاحبة هذا المنهج. وقد شهد بذلك كبار مؤرخي العلم الغربيين من أمثال: بريفولت وألدوميلي وجورج سارطون وغوستاف لوبون وغيرهم.

وبنفس السياق الذي تحدث به محمود القاسم يتحدث الدكتور ماهر عبد القادر محمد علي عن عناصر المذهب التجريبي فيقول:

“فعناصر المنهج التجريبي هي الملاحظة، والتجربة، والفرض، وتنقسم كل واحدة إلى أقسام مثل الملاحظة العادية والملاحظة العلمية، والفرض العلمي والفرض الوصفي.. إلخ ” (5)

أما الدعوى بأن أصول هذا المنهج إسلامية قرآنية.. فلأن هذا المنهج قائم على المشاهدة والملاحظة التي تُستخدم فيها الحواس، وخصوصا السمع والبصر. وعن هذا الموضوع يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي:

هذا الأصل -المشاهدة أو الملاحظة- هو السبيل الذي يسلكه البحث العلمي في العلوم الطبيعية للوصول إلى مقدمات صحيحة. ولولاه ما اتسعت العلوم الطبيعية هذا الاتساع، ولا نمت هذا النمو، ولا كشفت من أسرار الخلق. فالمشاهدة أصل علمي عظيم، وهي أيضا أصل قرآني عظيم. (6)

ففي القرآن الكريم تحدثت آيات كثيرة عن استخدام النظر والتفكر والاستدلال، ومن هذه الآيات قوله تعالى:

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (سورة العنكبوت: 21)

أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (سورة الغاشية 19،18)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا (سورة الحج: 47)

بعد أن عرفنا إسلامية أصول المنهج التجريبي ننتقل إلى سبق المسلمين في معرفة هذا المنهج وممارسته العملية على يد العلماء المسلمين فقد عرف المسلمون خطوات هذا المنهج منذ فترة مبكرة.. سواء عن طريق علم الرواية، أو علم الأصول، أو عن طريق تأسيس علم الكيمياء على يد جابر بن حيان، أو عن طريق تأسيس علم الفيزياء عند الحسن بن الهيثم. ولكن

تأسيس العلم التجريبي تحقق في صورته النهائية على يد أبو المعالي الجويني.. عن طريق الفصل بين مبدأي الهوية والعِلِّية. (7)

وعن هذه الطريقة الاستقرائية التجريبية يتحدث جابر بن حيان قائلا:

“ويجب أن تعلم أننا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه.. بعد أن امتحنَّاه وجربناه؛ فما صحَّ أوْرَدناه، وما بطُل رفضناه” ويقول الحسن بن الهيثم:

“إن للاعتبار في العلم وظيفتين:

إحداهما – أنه الوسيلة لاستقراء الحقائق العلمية والأحكام العامة. وثانيهما – أنه الوسيلة للتحقق من نتائج القياس التي تُستخرج بالبرهان من تلك الأحكام.. هل هي مطابقة للواقع الموجود أم غير مطابقة فتنبذ، بعد تمحيص مقدمات القياس المستقرأة من المشاهدة والاعتبار” (8)

بهذا عزيزي القارئ أنهي هذا الموضوع الممتع على أمل أن تكون لنا عوده إليه إن شاء الله تعالى.

مراجع الكاتب

  • القرآن والكون / د. محمد عبد الله الشرقاوي ص15
  • القرآن العظيم / الشيخ محمد صادق عرجون ص267
  • الإسلام والفكر العلمي / محمد المبارك ص16
  • المنطق الحديث ومناهج البحث / محمود القاسم 100
  • المنطق ومناهج البحث / د. ماهر عبد القادر محمد علي.
  • الإسلام في عصر العلم / محمد الغمراوي ص39
  • الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي / د. محمد ياسين عريبي ص18 بتصرف
  • الحسن بن الهيثم – بحوثه وكشوفه / مصطفى نظيف، نقلا عن المرجع (1)

شكرًا للسيد الخير الله مساهماته الطيبة، بأسلوبه الرصين، وخطه الجميل، وغيرته الواضحة على الإسلام، ونحيطه علما أن من المسلمين الأحمديين الذين فهموا الإسلام حق الفهم، وعملوا به حق العمل.. من أحيوا هذا الجانب العلمي في أمة الإٍسلام، وتبوأوا مكانة سامية في هذا المجال. فالعالم المسلم الوحيد الذي حصل على جائزة نوبل في العلوم التجريبية (الفيزياء النووية) هو البروفسور عبد السلام – أنعم الله عليه بالصحة والعافية، وأكثر من أمثاله في أمة المصطفى .

هذا، ونأمل أن نتلقى من الأستاذ الخير الله مساهمات تتعلق بوجهة نظره عن الأحمدية بلا حرج.. فإنه لا حياء ولا مجاملة في الحق. وسوف ينتفع بها الجميع إن شاء الله تعالى.

وبهذه المناسبة.. ندعو أبناء الإسلام من العرب، من ذوي النفوس الشريفة، المحبة للإسلام، الطالبة للحق، أن يكتبوا للتقوى ويجروا معها الحوار اللطيف، وهو السبيل الأمثل للوصول إلى المعارف والحقائق. التقوى

Share via
تابعونا على الفايس بوك