شككوا في محتوى الرسالة وتجرأوا على الرسول الفهم الاستشراقي للإسلام

شككوا في محتوى الرسالة وتجرأوا على الرسول الفهم الاستشراقي للإسلام

زعيم الخير الله

الدارس للاستشراق كظاهرة لا يسعه إلا أن يشير إليها بأصابع الاتهام، فأكثر المستشرقين هم موضع ريبة وتساؤل، ونستثني القليلَ القليلَ من المستشرقين الذين كان رائدهم البحث العلمي المجرد. أما الاستشراق كظاهرة فوراءه دوافعه وغاياته، خصوصا إذا عرفنا أن معظم المستشرقين كانوا مبشرين لبسوا مسوح البحث العلمي وصاروا مستشرقين، أو يهودا تعاطفوا مع الصهيونية خصوصا بعد قيام دويلة إسرائيل. يقول الدكتور جواد علي: “إن معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين، أو من المتخرجين من كليات اللاهوت، وهم عندما يتطرقون إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام يحاولون جهد إمكانهم ردها إلى أصل نصراني. وطائفة المستشرقين من يهود، وخاصة بعد تأسيس “إسرائيل” وتحكم الصهيونية في غالبيتهم، يجهدون أنفسهم لرد كل ما هو إسلامي وعربي لأصل يهودي. وكلتا الطائفتين في هذا الباب تبع لسلطان العواطف والأهواء. (تاريخ العرب في الإسلام ج1 ص 9-11)

فهم من البداية انطلقوا في دراستهم للإسلام وتاريخه والنبي وسيرته بدوافع مسبقة وأحكام جاهزة، وأخذوا بالأخبار الضعيفة والشاذة لتثبيت أحكامهم المسبقة. يقول الدكتور جواد علي: “لقد أخذ المستشرقون بالخبر الضعيف في بعض الأحيان وحكموا بموجبه، واستعانوا بالشاذ والغريب، فقدموه على المعروف المشهور. استعانوا بالشاذ ولو كان متأخرا أو كان من النوع الذي استغربه النقّاد وأشاروا إلى نشوزه، تعمدوا ذلك لأن هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشك” (تاريخ العرب في الإسلام ج1 ص 8-11)

ونفس المعنى السابق الذي أورده الدكتور جواد علي من كون النبي أو الإسلام تأثر بالعناصر اليهودية والنصرانية يؤكده غولد تزيهر فيقول: “فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ في بني وطنه عاطفة دينية صادقة، وهذه التعاليم التي أخذها عن تلك العناصر الأجنبية كانت في وجدانه ضرورية لإقرار لون من الحياة في اتجاه يريده الله. لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل به إلى أعماق نفسه، أدركها بإيحاء قوة التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا” (العقيدة والشريعة ص 12)

ويدعي جولد تزيهر بأن النصر القرآني مضطرب ويعوزه الثبات: “فلا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقائديا على أنه نص منزل أو موحى به يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نجد في النص القرآني” (مذاهب التفسير الإسلامي ص 4)

ونلحظ الصورة القاتمة المشوهة في الغرب لمحمد ودينه من خلال ما يقوله المستشرق الفرنسسي كارادي فو: “ظل محمد زمنا طويلا معروفا في الغرب معرفة سيئة، فلا تكاد توجد خرافة ولا فظاظة إلا ونسبوها إليه.” (مناهج المستشرقين في الدراسات العبية الإسلامية ج1 ص 22)

ويتضح الفهم التبشيري الحاقد لمعاني القرآن من خلال ما قاله أحد المستشرقين في تفسير قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (النور: 43)، فيقول هذا المستشرق: “إن إله الإسلام جبار مترفع، بينما إله المسيحية عطوف متواضع، ظهر في صورة إنسان، هو الابن الإله. فعقيدة التثليث المسيحية قربت الإنسان من الإله وعقيدة التوحيد الإسلامية باعدت بينهما، وجعلت الإنسان خائفا متشائما…” (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية)

ومهما يحاول المستشرق في تحري الدقة والموضوعية فلا يستطيع أن يصل إلى نتائج صحيحة في فهمه للإسلام وتاريخه والنبي وسيرته، ولا يمكن الفصل بين الرسالة والرسول. فالشك في الرسول شك في الرسالة ففهم الرسول وسيرته هو المدخل لفهم الإسلام والرسالة، والفهم الجاد للسيرة يقتضي منهجا يقوم على شروط ثلاثة.

يقول الدكتور عماد الدين خليل: يجب أن نلاحظ أن الفهم الجاد للسيرة يقتضي منهجا يقوم على طبقات أو أدوار أو شروط ثلاثة، وإن افتقاد أو تهديم أي واحد منها يلحق ضررا فادحا في مهمة الفهم هذه. فأما الطبقة الأولى الأساسية فهي الإيمان، أو على الأقل احترام المصدر الغيبي للرسالة، وحقيقة الوحي الذي تقوم عليه. أما الطبقة الثانية فهي اعتماد موقف موضوعي بغير حكم مسبق تجاوز كل الإسقاطات التي من شأنها أن تعرقل عملية الفهم. وأما الطبقة الثالثة فهي تقنية صرفة تقوم على ضرورة الإحاطة جيدا بأدوات البحث التاريخي: بدءًا باللغة وجمع المادة الأولية، وانتهاءً بطرائق المقارنة والموازنة والنقد والتركيب.. إلى آخره، وإذا كان الغربيون قد بلغوا حد التمكن والإبداع في هذه الدائرة الأخيرة، فإنهم في نهاية الأمر لم يستطيعوا أن يقدموا أعمالا علمية بمعنى الكلمة لواقعة السيرة، ولا قدروا حتى على الاقتراب من حافة الفهم، بسبب أنهم كان يعوزهم التعامل الأكثر علمية مع الدائرتين الأوليين: احترام المصدر الغيبي والموقف الموضوعي..” (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية ج1 ص 118)

فالذي يدرس السيرة أو الإسلام لا بد وأن يؤمن بنبوة نبي الإسلام أو على الأقل احترام المصدر الغيبي لرسالة النبي على حد تعبير الدكتور عماد الدين خليل الآنف الذكر، وإلا إذا تم التجاوز على هذه النقطة فسيتعامل مع النبي باعتباره فاتحا من الفاتحين كالاسكندر ونابليون، وللرسالة على أنها الوسيلة لتجميع الناس حوله من أجل تحقيق طموحاته. وهذا ما وقع فيه أكثر المستشرقين الذين كتبوا في السيرة. وبهذا المنطق يتحدث فويلز عن الرسول فيقول: “بأن محمدا رجل دفعته طموحاته ووساوسه في سن الكهولة إلى تأسيس دين ليعد في زمرة القديسين. فألف مجموعة من عقائد خرافية وآداب سطحية، وقام بنشرها في قومه فاتبعها رجال منهم..” (الإسلام والثقافة العربية في مواجهة الاستعمار ص 239)

وفهموا حروبه وغزواته فهما لا يختلف عن تصرفات القادة العسكريين والفاتحين. ففسر بروكلمان مهاجمة النبي ليهود بني النظير لا على أنهم أخلوا بشروط الذمة ونقضوا العهد، بل فسرها على تعويض لهزيمة أُحد. يقول بروكلمان – قاتله الله: “كان على محمد أن يعوض خسارة أُحُد التي أصابت مجده العسكري، من طريق آخر، ففكر في القضاء على اليهود، فهاجم بني النظير لسبب واه”. (تاريخ الشعوب الإسلامية ص 52)

وفسر بروكلمان شجار النبي مع اليهود على أنه حسد النبي لليهود لتفوقهم علميا:

“لم يطل العهد بمحمد حتى شجر النزاع بينه وبين أحبار اليهود. فالواقع أنهم على الرغم مما تم لهم من علم هزيل في تلك البقعة النائية كانوا يفوقون النبي الأمي في المعلومات الوضعية وفي حدة الإدراك…” (تاريخ الشعوب الإسلامية ص 47)

ويضرب فلهاوزن على نفس الوتر والحقدُ على النبي والإسلام يقطر من كلماته: “لم يبق الإسلام على تسامحه بعد بدر، بل شرع في الأخذ بسياسة إرهاب في داخل المدينة. وكانت إثارة مشكلة المنافقين علامة على ذلك التحول.. أما اليهود فقد حاول أن يُظهرهم بمظهر المعتدين الناكثين للعهد. وفي غضون سنوات قليلة أخرَجَ كل الجماعات أو قضى عليها في الواحات المحيطة بالمدينة حيث كانوا جماعات متماسكة كالقبائل العربية، وقد التمس لذلك أسبابا واهية” (الدولة العربية وسقوطها ص 15-16)

ويظهر مرغليوث -هو الآخر- عطفه على اليهود فيقول: “عاش محمد هذه السنين الست ما بعد هجرته على التلصص والسلب والنهب، ولكن نهب أهل مكة قد يُسوّغه طرده من بلده ومسقط رأسه وضياع أملاكه، وكذلك بالنسبة إلى القبائل اليهودية في المدينة، فقد كان هناك -على أي حال- سبب ما، حقيقيا كان أم مصطنعا، يدعو إلى انتقامه منهم؛ إلا أن خيبر التي تبعد عن المدينة كل هذا البعد، لم يرتكب أهلها في حقه ولا في حق أتباعه خطأ يعتبر تعديا منهم جميعا، لأن قتل أحدهم رسول محمد لا يصح أن يكون ذريعة للانتقام. وهذا يبين لنا ذلك التطور العظيم الذي طرأ على سياسة محمد. ففي أيامه الأولى في المدينة أعلن معاملة اليهود كمعاملة المسلمين، لكن الآن (بعد السنة السادسة للهجرة) أصبح يخالف تماما موقفه ذاك. فقد أصبح مجرد القول بأن “جماعة ما غير مسلمة” يُعَدُّ كافيا لشن الغارة عليها. وهذا يفسر لنا تلك الشهوة التي أثرت على نفس محمد والتي دفعته إلى شن غارات متتابعة، كما سيطرت على نفس الإسكندر من قبل ونابليون من بعد.. إن استيلاء محمد على خيبر يبين لنا إلى أي حد قد أصبح الإسلام خطرا على العالم”. (Mohammad and the rise of Islam ص 262-263)

وينفث نولدكه حقده على محمد متمنيا لو أن القبائل كانت يدا واحدة لتوقف زحف محمد عليها: “لو أن القبائل العربية استطاعت أن تعقد بينها محالفات عربية دقيقة ضد محمد للدفاع عن طقوسهم وشعائرهم الدينية والذود عن استقلالهم إذن لأصبح جهاد محمد ضدهم غير مجدٍ. إلا أن عجز العربي عن أن يجمع شتات القبائل المتفرقة قد سمح له أن يخضعهم لدينه القبيلةَ تِلو الأخرى، وأن ينتصر عليهم بكل وسيلة، فتارة بالقوة والقهر، وتارة بالمحالفات الودية والوسائل السلمية” (تاريخ العالم لمجموعة من المؤرخين ج8 ص11)

ورغم هذا الحقد والعداء للرسول وللإسلام إلاّ أن بعضهم كان منصفا أمثال الإنكليزي توماس كارليل وغيره والذين هم قليل. يقول توماس كارليل في كتابه “البطل وعبادة الأبطال”: “لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر أن يُصغي إلى القول بأن دين الإسلام كذب، وأن محمدا خداع مزور. فإن الرسالة التي أداها ذلك الرجل مازالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لمئات الملايين من الناس أمثالنا خلقهم الله الذي خلقنا”.

بهذه العقلية وبهذه المواقف المسبقة تناول المستشرقون تاريخنا وحضارتنا، وحتى الذين حاولوا أن يكونوا منصفين وموضوعيين وقعوا في أخطاء جسيمة في نتائج بحوثهم لأنهم انطلقوا من منطلقات غير صحيحة ومقدمات فاسدة وافتراضات موهومة. نسأل الله أن يكون هذا الجهد المتواضع وسيلة لكشف اللثام عن بعض ما تناوله المستشرقون لينتبه بعض ناشئة المسلمين الذي انبهروا بما كتبه المستشرقون.

Share via
تابعونا على الفايس بوك