في عالم التفسير
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (90)

شرح الكلمات:

يستفتحون– استفتح فلان: طلب الفتح واستنصر. استفتح الباب: فتحه (الأقرب).

التفسير:

قوله تعالى “مصدق لما معهم “.. التصديق على نوعين: الأول- كقولنا مثلا: زيد صادق، بمعنى أنه لا يمكن أن نعزوه إلى الكذب، والثاني-مثلا يقول زيد إن بكرًا سوف يحضر.. فيحضر بكر؛ فقد صدَّق بكر زيدا.. حيث حقّق ما قال. وهنا لا يعني قوله”مصدق لما معه” أن القرآن الكريم يصدق ويقبل كل ما ورد في التوراة، وإنما يعني فقط أنه حقق بنـزوله نبوءات التوراة الواردة في شأنه وشأن النبي الكريم .

ولإقامة الحجة على اليهود.. بين الله هنا أن القرآن هو ذلك الكتاب الذي تنبأت بظهوره كتب اليهود، ولو لم ينـزل القرآن للزم تكذيب نبوءات التوراة، ولكن جاء فصدقها. فإذا كانوا حقا مؤمنين صادقي الإيمان بكتبهم .. لوجب عليهم تصديق القرآن حتى يتم تصديقهم الفعلي بالتوراة.

وقوله تعالى “وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا” يمكن تفسيره على وجهين: الأول- أنهم كانوا يعيشون تحت سلطة الكفار، فكانوا يدعون الله أن ينصرهم عليهم: ربنا، ابعث النبي الموعود، وهيئ الأسباب لانتصارنا عليهم.

والثاني- أنهم كانوا لا يزالون يكنون لكتبهم حبا واحتراما، ولذلك كانوا يفتحون على الكفار أبواب النبوءات الواردة في كتبهم، ويخبرونهم أن الله قد وعدنا بنبي صفته كذا وكذا، وعندما يبعث سنتغلب على الكفار جميعا(السيرة النبوية لابن هشام، إنذار اليهود برسول الله)

وهذا ما حدا بأهل (يثرب) المدينة المنورة إلى تصديق النبي . فلقد هاجرت إلى يثرب قبائل يهودية واستوطنوها لأنهم علموا من آباءهم أن النبي الموعود سوف يبعث فيها أو في ضواحيها. وكانوا يذكرون هذه الأنباء لأهل يثرب ويخبرونهم أن الله سوف يبعث فينا نبيا يمحو به الكفر، ويظهر الدين الحق على غيره من الأديان. وفي بعض الأعوام ذهب سكان المدينة إلى مكة المكرمة للحج.. فسمعوا أن أحد أهلها يدعي النبوة، فتشاوروا فيما بينهم وقالوا: يقول اليهود أن نبيا سوف يبعث، ومن لم يصدقه يهلك، واليهود قوم أذكياء، ذوو مال وقوة ..عسى أن يؤمنوا به فيتغلبوا علينا، فتعالوا نؤمن به وننج من الهلاك. وعندما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بدعوة النبي فآمنوا به كلهم تقريبا (المرجع السابق، بدء إسلام الأنصار).

ولكن اليهود بدءوا يسمون المؤمنون به كفارا، مع أنهم كانوا من قبل يأتونهم بكتبهم ويقرؤون عليهم النبوءات المتعلقة ببعثة نبي موعود، ويتباهون أمامهم أننا سوف نسوي حسابنا معكم عندما يبعث هذا النبي الموعود. فلما جاءهم النبي كفروا به، وجعلوا يؤولون هذه الأنباء.

وهذا هو واقع المسلمين اليوم. كانوا ينتظرون المسيح والمهدي الموعود ليأتي ويحقق انتصارهم على الكفار، فلما جاءهم بدءوا يؤولون أنباء مجيئه ويقولون: ليس هناك أي نبأ كهذا.. إن هي إلا أفكار خاطئة تسربت إلينا من المجوس.

قوله تعالى: “فلعنة الله على الكافرين” يمكن أن يكون قولا عاما، ولكنه عندي خاص بهؤلاء الكفار الذين كانوا قبل بعث النبي يبتهلون إلى الله تعالى أن يبعث رسوله الذي يظهر دينه على الأديان الباطلة كلها، ولما جاءهم ورأوا بالآيات أن الحق بدأ يغلب الباطل، وأن غلبته الكاملة وشيكة ..كفروا به. فكفرهم به –برغم رؤية الحق واضحا، وبعد قيام الحجة عليهم وبعد ابتهالاتهم –إنما يدل على أن لعنة الله قد حلت بهم، وإلا كيف يمكن أن يكفروا بالحق الذي حصحص وتبين هكذا من دون أي مبرر؟

الواقع أننا حين ننظر إلى العرب –الذين كانوا يحسبون موسى وغيره من أنبياء إسرائيل كذابين مفتريين- كيف بدءوا –بسبب إيمانهم بالنبي – يحبونهم ويحترمونهم كالصادقين..حينما نرى هذا نتعجب من سلوك اليهود مع النبي فماذا أصابهم حتى سبقوا كفار العرب في عداوتهم وإيذائهم لهذا المحسن إليهم ؟

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ. (91)

شرح الكلمات:

اشترى– يأتي بمعنى الشراء والبيع كلاهما (الأقرب).

التفسير:

قوله تعالى “بئسما اشتروا به أنفسهم” يتضمن موضوعا واسعا جدا، وهاك بيانه بإيجاز. يتبين من القرآن الكريم أن إيمان العبد بربه عز وجل صفقة تتم بينهما بحسب قوله تعالى:” إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة” (التوبة: 111).. ولا ينال العبد الجنة إلا بعد مماته، لذا لابد -كما يحدث في المعاملات المالية-من تقديم ’الإيصال‘ أو الصك كمستند يدل على حصول هذه الصفقة. وقد آتى الله هذا الصك للعبد في قوله “يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي.وادخلي جنتي”(الفجر:28-31). وكان رضوان الله عن العبد، ورضا العبد عن ربه في الدنيا..هو الصك، لأن التراضي بين البائع والمشتري هو الدليل على صحة أي صفقة. وكان مقام العبودية المذكور في قوله تعالى(فادخلي في عبادي).هو تلك ’التذكرة‘ التي يدخل بها المؤمن جنة الله.

وأيضًا قال الله” فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام “(الأنعام:126).. أي من يرد أن يكتب له النجاح ويدخله الجنة يشرح صدره لقبول الإسلام. والإسلام يرادف الإيمان هنا.. فكان انشراح الصدر أيضًا ’تذكرة‘ لدخول الجنة. والحق أن العبودية وانشراح الصدر شيء واحد، لأن التعبد يعني التذلل والانقياد وقبول نقش الآخر. والعبد الكامل من يقبل نقش الله، وهذا هو معنى انشراح الصدر أيضًا.

وإذن، فمن المتحقق أن المؤمن يعقد صفقة الإيمان بالله، ومن جانبه يسلم إليه كل ماله ونفسه فيؤتيه الله الجنة مقابل ذلك. وحيث إنه لا يحصل على الجنة إلا بعد الممات، لهذا يعطى في هذه الدنيا بطاقة دخولها وكيف يعرف أنه سوف يدخلها أم لا؟ البطاقة الدالة على الدخول هي انشراح الصدر للإسلام والعبودية. وهنا قد يتساءل بعضهم: ما هو طريق فسخ هذه الصفقة لمن أراد ذلك ؟ والجواب أن الله تعالى سوف يقول له رد إلي تذكرة الجنة وخذ مالك.

إن قوم موسى عندما آمنوا بالله تمت صفقتهم مع الله وحصلوا على بطاقة دخول الجنة. وكذلك تمت هذه الصفقة بين الله وأتباع عيسى عندما آمنوا به وكان الشعبان مؤمنين في زمنهما. وكذلك فعل المسلمون وعقدوا مع الله الصفقة وأتاهم بطاقة الجنة. ولكن اليهود لحماقتهم فسخوا هذه الصفقة وردوا بطاقة الجنة التي أعطاهم الله إياها. ردوا الإيمان والإسلام، واستردوا أموالهم وأنفسهم، فقال الله تعالى ” بئسما اشتروا به أنفسهم “. الصفقة الأولى كانت صفقة مباركة، ولكن الثانية خاسرة ومهلكة جدا. لقد كان ما أتاهم في الصفقة الأولى خيرا مما أخذ منهم.

فما هو السبب في فسخ صفقتهم يا ترى ؟ تفسخ الصفقات لسببين: إما أن يكون المال المأخوذ أسوأ من المدفوع، أو يكون الثمن المدفوع أكثر من القيمة الحقيقية للبضاعة المشتراة. والآن، إذا بحثنا عن سبب فسخ اليهود بيعهم مع الله تعالى..

وجدنا أنه ليس ثمة سبب من هذين السببين وراء فسخهم البيع، وإنما فعلوا ذلك بغيا وشرا، حيث قالوا: لماذا أعطى الله الآخرين من هذه البضاعة؟ فما أدل قولهم هذا على حمقهم وغبائهم! هل يجوز لأحد أن يعترض على تاجر ويقول له: لماذا تتاجر مع أحد سواي؟

وقد ذكر الحديث هذا التفكير اليهودي الخاطئ، حيث ضرب النبي مثلهم كمثل الذي استأجر عمالا.. فعمل بعضهم من الصبح إلى الظهر، وبعضهم من الظهر إلى العصر، وبعضهم من العصر إلى المغرب.. و أعطى الجميع أجرة متساوية. فقال الذين عملوا من الصباح إلى الظهر أو من الظهر إلى العصر لصاحب العمل: إن الذين عملوا ما بين العصر والمغرب لم يبذلوا مثل جهدنا، ومع ذلك أعطيتهم مثل أجرنا، هذا ليس عدلا! فقال: أنا حر في ذلك. ما انتقصت حقكم، فعلام تعترضون؟ وقال النبي إن هذا هو حال اليهود والنصارى والمسلمين.(البخاري، مواقيت الصلاة) فما أن رأى اليهود والنصارى أن الله تعالى قد تفضل على المسلمين بالنعم التي أوتوها من قبل.. قالوا حسدا وغيظا: لماذا أوتي المسلمون هذه النعم مع أنهم جاءوا بعدنا؟ ولماذا نالوا الجنة التي كان من المفروض أن ننالها وحدنا؟ بل وفتح أبواب النجاة والجنة لكل أمة تدين بدينهم. وتبين الآية أنهم هكذا جلبوا على أنفسهم غضبا مضاعفا.. حيث رفضوا الإسلام وآثروا الكفر وحرموا من الإيمان من ناحية، ومن ناحية أخرى ماتوا حسدا وكمدا. وكأنهم فسخوا البيع بغيا وحسدا، صارفين النظر عن مصلحتهم.

وباعتبار” اشتروا” بمعنى باعوا.. يكون” بيع النفس لشيء” بمعنى الانهماك فيه.

ويكون المراد من قوله تعالى “بئسما اشتروا به أنفسهم” أنهم انهمكوا في الكفر بشكل خطير، وكل ذلك حسدا على نيل المسلمين النبوة.

قوله تعالى “فباءوا بغضب على غضب” يبين أن الله صبّ على اليهود غضبه صبا متواليا كأنما صار الغضب خاصا بهم. فقد ورد في الحديث الشريف أن النبي لما سئل عن ” المغضوب عليهم” المذكورين في سورة الفاتحة قال: هم اليهود”الترمذي ومسند أحمد “.. ذلك لأنهم عارضوا الأنبياء باستمرار، فنـزل عليهم الغضب باستمرار.

وكلمة”غضب على غضب” تشير إلى غضب مضاعف، حيث إنهم جعلوا غضب الله عليهم المرة الأولى بكفرهم بالمسيح الناصري، والمرة الثانية بإنكارهم النبي .

ويبين قوله تعالى” وللكفرين عذاب مهين” أن لا بد أن يكون مصير الحاسدين الخزي والهوان. فمعارضة الإنسان لدين ما بنية صالحة شيء وارد، أما اليهود فقد عرفوا صدق النبي بناء على النبوءات الواردة في كتبهم، ومع ذلك أصروا على إنكاره. والذي يكفر بالحق متعمدا فلا بد أن يلقى الخزي والهوان، بل لو آمن فيما بعد فلا مفر له من أن يخزيه الناس ويعيروه بأنه آمن وقد كان يكفر من قبل.

 

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمنوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (92).

التفسير:

هنا يؤكد الله تعالى أن سبب كفر اليهود هو غضبهم لأنه أرسل رسوله من غيرهم، فإذا قيل لهم آمنوا بما نزل في القرآن الكريم قالوا: لا نؤمن إلا بما نزل علينا. وهم كاذبون في قولهم هذا، لأنهم لو كانوا صادقين في إيمانهم بكتاب موسى عليه السلام ما رفضوا النبوءات الواردة في كتبهم بشأن النبي . فإنكارهم لنبوءات كتبهم دليل قاطع على أنهم كاذبون في دعواهم “نؤمن بما أنزل علينا “. لو كانوا أمناء لفكروا أنهم بكفرهم بالنبي قد أساءوا إلى دينهم هم، لأن كتبهم تنبئ بمجيء نبي جديد وكتاب جديد، وأن علامات ذلك الرسول وذلك الكتاب تنطبق حرفيا وتماما على النبي الكريم وعلى القرآن المجيد. وإذا فليس كفرهم إلا كفرا بكتبهم، وسلوكهم يبين أن تلك العلامات المذكورة علامات باطلة عندهم، ويمكن أن توجد أيضًا في مدع كذاب، أو أن الشيطان أيضًا-والعياذ بالله- يظهر الناس على الغيب، وأنه ذكر للأنبياء السابقين في شأن ظهور ذلك النبي الموعود علامات يمكن تحققها في الكذابين أيضًا.

ومن قولهم: نؤمن بما أنزل علينا” يستنبط أيضا أن الله عندما يتكرم على أحد بنعمة يتمتع بها كل القوم.. فكأنه تكرم بها على القوم جميعا. فنرى أن التوراة لم تنـزل على اليهود، بل على موسى عليه السلام، ولكنهم يقولون:”ما أنزل علينا”.. ذلك لأن اليهود كلهم استفادوا منها كشعب.

وللأسف الشديد أن المسلمين اليوم يقولون: لماذا نقبل الإمام المهدي والمسيح الموعود.. بعد إيماننا بالقرآن؟ فكأنهم قد أصبحوا مصداقا لقول ” نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه”.

ويعني قوله “وهو الحق مصدقا لما معهم” أن ما أنزلنا على هذا النبي (القرآن الكريم) حقيقة أبدية لن تزول، بل لا بد أن تتحقق. هذا لأن الكلمات التي تعبر عن الصدق في العربية كلها تتضمن معنى الدوام. فقوله هو الحق يبين أنه حقيقة أبدية لا مناص من تحققها.. فما الذي يجديكم إنكارها؟ لماذا لا تؤمنون بها الآن؟

الحق أن النبوءات الواردة في التوراة في شأن النبي الكريم قد تحققت كلها بالقرآن الكريم، وبوجوده ثبت صدقها. ويحاول المسيحيون تطبيق بعض هذه النبوءات على المسيح الناصري، ولكن العلامات المذكورة فيها تبين خطأهم. فالنبوءة الأولى وردت في سفر التثنية، وهي من الوضوح والجلاء بحيث يتعذر تطبيقها على المسيح بأي صورة. تذكر التوراة أنه عندما ذهب موسى ببني إسرائيل إلى جانب الطور طفق البرق يلمع في السماء في صورة مستمرة، وصاحبه أصوات شديدة فخاف بنو إسرائيل وقالوا لموسى:

“اذهب أنت وتكلم مع الرب، أما نحن فلا نريد سماعه ولا نسمعه أولادنا”. فقال الله تعالى لموسى عليه السلام: “قل لهم إني سمعت كلامهم، وسوف أعاملهم حسبما يريدون”..أي لن أبعث فيهم بعد ذلك نبيا صاحب شريعة، بل سوف أبعثه من بين إخوانهم(تثنية18 ،17-19).

ومن المستحيل أن ينطبق هذا النبأ على المسيح الناصري عليه السلام، إذ لو حاولنا ذلك لوجب أن نسلم بأنه مثيل موسى عليه السلام، وهذا خطأ..لأن موسى نبي ذو شرع جديد، بينما عيسى ليس له شرع جديد؛ والدليل على ذلك قوله:

“لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم.. إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل “(متى5: 17 ،18).

ولو سلمنا جدلا أن المسيح نبي ذو شرع جديد لما كان أيضًا مثيلا لموسى، لأنه- حسب عقيدتهم- اعتبر الشريعة لعنة، وهو بنفسه صار ملعونا- معاذ الله!

ثم إن النبوءة الواردة في سفر التثنية تقول إن النبي الموعود سوف يبعث من بين إخوتك، ولكن الإنجيل يقول إن المسيح من نسل داود. ولو طبقنا النبوءة على المسيح لوجب أن نقول إنه ليس من نسل داود، ويكون بوسع المسلمين أن يخطئوا إنجيلهم. والتاريخ أيضًا يؤكد أنه عليه السلام كان من بني إسرائيل وليس من بني إسماعيل إخوة بني إسرائيل، فليس بنو إسرائيل مصداقا لنبأ “من إخوتك”وإنما إخوتهم بنو إسماعيل.

وأيضًا لو كان المسيح هو المراد من النبوءة.. للزم أن يعلن أنه هو مصداقها، ويدعي أنه مثيل موسى. ولكن الإنجيل لا يذكر أبدا أن عيسى قد ادعى بمثل هذه الدعوى.. في حين أن القرآن أعلن أن محمدا هو مثيل موسى حيث قال:”إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا” (المزمل:16).

وذكر مثيل موسى هذا في قوله تعالى: “قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين “(الأحقاف:11).. أي قل: يا من لا تتدبرون القرآن، أخبروني؛ إذا كان هذا الكلام من عند الله وكفرتم به من دون تدبر.. فماذا تكون النتيجة، مع أن شاهدا من بني إسرائيل –وهو موسى- قد شهد على مثيل له، فآمن هو، ولكنكم استكبرتم؟ ألا فاعلموا أن الله لا يهدي القوم الظالمين طريق الفلاح.

تشير هذه الآية القرآنية إلى نفس نبوءة موسى الواردة في التثنية 18، وقد ذكرها القرآن هنا تدليلا على صدق النبي ، وبين أنه مثيل لموسى. ولكن عيسى لم يقل أبدا بكونه مثيلا لموسى، بل إنه أنكر كونه مثيلا له حيث جاء: فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تأتى أوقات الفرج من الرب. ويرسل يسوع المسيح المبشَّر به لكم من قبل. الذي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر. فإن موسى قال للآباء إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم. له تسمعون في كل من يكلمكم به. ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب. وجميع الأنبياء أيضًا من صموئيل فما بعده جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبئوا بهذه الأيام. أنتم أبناء الأنبياء والعهد الذي عاهد به الله آباءنا قائلا لإبراهيم وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض. إليكم أولا إذ أقام الله فتاه يسوع أرسله يبارككم برد كل واحد عن شروره (أعمال19:3-26).

يتضح من هذا أنه لن يأتي يسوع المسيح مرة ثانية ما لم تتحقق جميع النبوءات التي تنبأ بها موسى. كما أن كلمات: ويرسل المسيح المبشر لكم قبل الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسيين منذ الدهر، فإن موسى قال للآباء إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم .. هذه الكلمات تؤكد أن مثيل موسى كان ليبعث بعد البعث الأول للمسيح وقبل نزوله ثانية. وقد بعث المسيح أولا قبل مبعث مثيل موسى، ولن ينـزل مرة ثانية ما لم يتحقق كل ما تنبأ به موسى في شأن مثيل له.

كذلك ورد في سفر الثنية بلسان موسى: فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى مع عشرة آلاف قدوسي،[1]* وعن يمينه نار شريعة لهم (تثنية2:33).

وتشمل هذه النبوءة التوراتية عدة علامات تختص بالنبي الموعود وهي:

أولا-أنه تلألأ عليهم من جبل فاران. ويقع هذا الجبل في منطقة مكة المكرمة.

ثانيا-أنه يأتي مع عشرة آلاف قدوسي. وهو إشارة إلى حادث فتح مكة حيث كان مع الني عشرة آلاف صحابي، ولم يجتمع هذا العدد الكبير مع أي نبي في مكان واحد. ويدل على كون الصحابة قدوسين قول الله تعالى”رضي الله عنهم ورضوا عنه”(التوبة:100).. في حين أنه لم يتجاوز عدد حواريي المسيح الناصري اثني عشر، ورغم ذلك العدد القليل فإن أحدهم باع المسيح بثلاثين دينارا وساعد أعداه في القبض عليه(متى4:26-16).

أما أصحاب النبي فكانوا من الوفاء والفداء بحيث إنهم لم يخذلوه أبدا حتى في أحلك الظروف، بل دافعوا عنه بأرواحهم.

ثالثا-أن يكون في يمينه نار شريعة. ولو اعتبر المسيح مثيل موسى للزم بطلان هذه النبوءة.. لكون المسيح لم يأت بشرع جديد.

وقد سمي الشرع القرآني هنا”نار شريعة”.. لأن في النار فائدتين: الإحراق والإنارة. فالماء الحار أو الحديد الحار يمكن أن يحرق ولكن لا ينير، أما النار فتحرق وتضيء أيضًا. فكان في تسمية القرآن “نار شريعة ” إشارة إلى كونه نارا ونورا. فهو نار لأنه يحرق كل السيئات والمفاسد، وهو نور يستنير به الخلق. فهذه النبوءة تنطبق على النبي الذي كان في رفقة عشرة آلاف صحابي يوم فتح مكة، وهو وحده الذي جاء بشرع جديد بعد موسى.

وهناك علاوة على هاتين النبوءتين –أنباء أخر ى أيضًا تصدق تماما على النبي ، وقد وردت في الأسفار التالية: اشعيا14:8 –16 ،13:9-17 ،9:28-13 ،3:35-8 ،9:40-12 ،9:42-13 ،5:49-9 ،2:62-4، نشيد الإنشاد 10:5-16،متى 42:21، 44.ودانيال7.

فخلاصة القول أن الله تعالى يبين أن تعليم القرآن صدق وحق من ناحية، والإيمان به تصديق لنبوءات الكتب السابقة، وكفر أهل الكتاب به يؤدي إلى كفرهم بكثير مما ورد في كتبهم.

لقد قدم الله في هذه الآية ثلاثة أدلة على صدق هذا التعليم القرآني:

أولا-أن الله تعالى هو الذي أنزله

ثانيا-لا يمكن للعالم مقاومته، بل لا بد أن ينتشر ويسود الدنيا.

ثالثا- أنه يصدق ويحقق ما ورد في كتبكم من نبوءات في شأن النبي الموعود وكتابه، ولئن كفرتم به كفرتم بكتبكم أيضًا ولن تعودوا مؤمنين بها.

ولكن انظروا كيف أن اليهود كانوا ينتظرون النبي الموعود حتى أنهم كانوا يسمون أولاد هم باسم محمد، رجاء أن يبعث النبي الموعود فيهم (أسد الغابة، ذكر محمد بن أحيحة). ولكن لما بعث النبي الموعود كفروا به قائلين: كيف يمكن أن يبعث من بين بني إسماعيل..وكان المفروض أن يأتي ويزيدنا نحن قوة وشوكة؟ وقال النصارى: بل المراد به قوة الكنيسة. وهكذا جعلوا يؤولون نبأ مجيئه بتأويلات سخيفة شتى، مع أنهم لو آمنوا بالرسول لازدادوا قوة ونجوا من الدمار.

وفي قوله تعالى “فلم تقتلون أنبياء الله من قبل” تأنيب لليهود بأنكم لو كنتم حقا صادقين في قولكم بأنه لو بعث النبي من بيننا لآمنا به، فلماذا لم تؤمنوا بالأنبياء الذين بعثوا من بينكم، بل عارضتموهم وحاولتم قتلهم. فلا شك أنكم تكذبون. والحقيقة أن المرء يكفر بالحق لفساد إيمانه، وهذا هو السبب لكفركم بهذا الكلام، إذ يدل سلوككم أنكم دائما وأبدا عارضتم وعاديتم الرسل. وقد أشار المسيح الناصري عليه السلام إلى هذه العادة القديمة في اليهود فقال:

“يا أورشليم يا قَتَلَة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها”(متى 37:23).
[1] حرفوا هذه الكلمات  في بعض الطبعات الجديدة خاصة العربية، ولكنها موجودة في الطبعة الأردية  British And Foreign Bible Society لاهور 1908 و1922. وفي الطبعة الإنجليزية  “Oxford Univ. Press London New york , Toronto “و هناك صورة لها في آخر الكتاب
Share via
تابعونا على الفايس بوك