وصية الإسلام بحسن معاملة المرأة

 

وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (236)

شرح الكلمات: 

عرَّضتم: عرّضتَ له وبه تعريضا: إذا قلت قولا وأنت تعنيه. فالتعريض ضد التصريح من القول (الأقرب). والتعريض كلام له وجهان من صدق وكذب وظاهر وباطن (المفردات).

تعزموا: عزم الأمر وعليه: عقد الضمير عليه (الأقرب).

التفسير:

يقول الله تعالى لا حرج أن تلمّحوا لأرملة بنية الزواج منها، كأن تقولوا لها: المشورة مفيدة، وإذا احتجت إلى ذلك فأنا مستعد لأقدم لك مشورة مخلصة. فكلمة المشورة لها دلالة عامة تصلح له ولغيره. وهكذا يبقى الأمر خفيا في الظاهر ومعبّرا عنه بالتلميح. كما يقول الله تعالى إنه من الجائز أيضا أن تخفوا في قلوبكم نية الزواج من أرملة إلى أن تنقضي فترة عدتها أربعة أشهر وعشرا.

ونهى الله بقوله (ولكن لا تواعدهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا) نهيا تاما عن أن يتفق الرجل مع الأرملة اتفاقا خفيا في أثناء العدة. ولكنه سمح بقول معروف، وهذا القول المعروف لا يعني أن يطلب الإنسان الزواج منها صراحة قبل انتهاء العدة، فهذا لا يجوز أبدا، وإنما يعني أن يواسيها ويعزيها بحيث تشعر أن هذا الشخص مخلص وناصح لها، وتستطيع أن تستشيره عند الحاجة.

ويقول الله تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) أي لا يتفق هذان، الرجل والأرملة، على الزواج أثناء العدة ولا يوطدا العزم صراحة على الزواج. من قبل نصح الرجل بقوله (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم) أي لا يفصح عن نيته بالزواج من أرملة، نعم.. يمكن أن ينوي الزواج في قلبه. أما هنا فمنع الأرملة من التصريح بالموافقة إذا فهمت نية الرجل، بل عليها أن تسكت ولا تعبّر عن نية الزواج ما دامت في فترة العدة. الناس عموما لا يأخذون الحيطة في هذا الصدد، وإنما تغلبهم أهواؤهم الهائجة. لذلك يقول تعالى: لا يجوز لكم أثناء فترة العدة أن تتفقوا مع الأرامل على قرار الزواج بهن.

ثم يقول (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)..الله يعلم ما تخفونه في صدوركم وإن لم يعلمه الناس، فكونوا حذرين يقظين، ولا تتجاسروا على مخالفة أوامر الله.

ويمكن أن يكون قوله (ولا تعزموا عقدة النكاح) أمر ثانيا، ويكون قوله (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) تتمةً لقوله (ولا تواعدوهن سرا). وبيّن فيه ألا يقطعا أي عهد فيما بينهما، لأن الله يعلم ما في الصدور.

وقوله (واعلموا أن الله غفور رحيم) لا يعني أن الله سوف يغفر لكم مخالفة هذه الأوامر. كلا، بل بيّن هنا الحكمة في قوله (ولا تعزموا عقدة النكاح) فبقوله (غفور) بيّن أن الله يستر ضعف الإنسان لأنه يعلم نقاط الضعف فيه، ولذلك اكتفى بتحديد فترة العدة بأربعة أشهر وعشرا فقط، ولم يُصدر أية أحكام قاسية أخرى. وبقوله (حليم) بيّن أن الله ذو حكمة عالية، يعلم الفترة المناسبة التي يجب أن تنتظروها. وإذا لم يصدر هذه الأوامر لحدثت مفاسد كثيرة في المجتمع ولاختل نظامه. فلا تتعجلوا بالزواج بحجة أن الزواج وسيلة للتقوى، فالله أعلم بفترة الانتظار المناسبة لهذا الموضوع.

 

 لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (237)

شرح الكلمات: 

المُوسِع: أوسع الرجل: صار ذا سعة وغنى. وأوسع الله على فلان: أغناه (الأقرب).

المقتِر: أقترَ على عياله: قلَّ ماله وافتقر. وأقتر الله رزقه: ضيقه وقلّله (الأقرب).

التفسير:

لقد ذكر الله هنا أحكاما أخرى عن الطلاق. فالنوع الأول من الطلاق المذكور من قبل هو ما يقع بسبب شدة الخصومة بين الزوجين، ولكن يحدث الطلاق أحيانا حتى قبل أن يجتمع الزوجان. فمثلا يظهر بعد عقد القران شهودٌ يذكرون ما يفسخ الزواج بينهما، أو ما يجعل الزواج أمرا مكروها في تلك الظروف.. كأن يشهد أحدٌ بأن الزوجين أخوان في الرضاعة. هذه الشهادة وإن كانت ناقصة ضعيفة.. فقد تُكرِّه الزوج بالزواج. وفعلا تظهر مثل هذه الشهادات أحيانا بعد عقد الزواج، وفي هذه الحالة يضطر الإنسان إلى الطلاق قبل أن يمس الزوجة. وفي بعض الأحيان يبلغ خبر الزواج كبارَ الأسرتين الذين لم يكونوا على علم به، فيقررون أن الظروف بين الأسرتين لا تسمح بهذا الزواج، فالأفضل أن يطلّقها. وهكذا يحدث الطلاق حتى قبل أن يتماسا.

وقوله تعالى (أو تفرضوا لهن فريضة) يدل على أن القِران الذي لم يحدّد فيه المهر جائز، ولكن كما صرح الفقهاء.. فإنه يقرّر فيه مهر المثل، أي يُؤخذ فيه بالنظر إلى مهور نساء الأسرة ويقدّر المهر بحسب ذلك (الهداية وشرح البداية، كتاب النكاح).

وقوله تعالى (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين).. أي إذا طلقتم النساء قبل الدخول بهن أو قبل أن تفرضوا لهن مهرا، فمن واجبكم في كلا الحالين أن تعاملوهن بالحسنى وتسرِّحوهن بمنحهن بعض المال بما يليق. فميسور الحال يُعطي بحسب ميسرته، والفقير يُعطي بحسب مقدرته. وهذا ليس عملا تطوعيا وإنما حق على المحسنين. أي يجب على أصحاب التقوى والصلاح أن يودّعوا مطلقاتهم بمعاملة حسنة.

وَرَدَ في الحديث الشريف أن أنصاريا تزوج امرأة بدون أن يعيّن لها مهرا، ثم طلقها قبل أن يمسّها، فلما رُفع الأمر إلى النبي سأله أن يعطيها شيئا إحسانا منه بالمعروف. قال: إنني لا أملك شيئا. فقال: متعها بقلنسوتك (البحر المحيط).. أي إذا لم يجد شيئا تمنحها إياه فأعْطِها ولو غطاء رأسك. ومن هنا يمكن أن يقدّر الإنسان شدة وصية الإسلام بحسن معاملة المرأة عند تسريحها، حتى أن الإنسان إذا لم يكن يملك شيئا فليحسن إليها بعمامته ولا يفارقها دون أن تأخذ شيئا.

ولكن إذا حدث شجار بينهما فقد قدم القرآن تعليما مبدئيا آخر، وأمر برفع الأمر إلى القاضي ليتحرى الأحوال ويرى ما إذا كان الزوج قد أعطاها شيئا مناسبا بحسب مقدرته أم لا.

 

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (238)

التفسير:

في الآية السابقة بيّن كيفية التعامل في حالة عقْد القران بدون تعيين المهر واضطرار الرجل إلى الطلاق، وهنا يبيّن كيفية التعامل إذا حصل الطلاق بدون دخول على الزوجة، ولكنه قد عيّن لها مهرا، فقال: عليه أن يؤدي نصف المهر.

وهناك اختلاف حول المسّ في قوله (من قبل أن تمسوهن) فقال البعض: المسّ هو أن يرى الزوجان بعضهما البعض ويجلسا معا، ولكن بدون أن يحدث لقاء جنسي بينهما (التفسير المظهري للعثماني).

ويقول البعض الآخر إن المراد من المس هو حدوث علاقة خاصة بينهما.. .لأن كلمة “مس” تعني أيضا المباشرة الزوجية أو الجماع (إملاء ما منّ به الرحمان). وهناك حديث للرسول يشرح هذا الموضوع، فعندما تم فتح الجزيرة العربية وأخذ الإسلام في الانتشار جاء شاب إلى النبي ممثلا قبيلته كِندة، وكانت معه أخته واسمها أسماء أو أميمة ولقبُها الجونية أو بنت الجوْن، سأل الشاب النبي أن يتزوج من أخته الأرملة، وهي على قسط طيب من الجمال والكفاءة. ولما كان من أهداف النبي توحيد القبائل العربية قَبِل طلبه هذا وأعلن قرانه عليها بمهر قدره اثنتا عشرة أوقية من الفضة. فقال الشاب للنبي: يا رسول الله نحن من عِلية القوم، وهذا المهر قليل. فقال النبي: لم تمهَر أي من زوجاتي أو بناتي بأكثر من ذلك. فقَبِل الشاب، وتم عقد القران، وطلب النبي أن يرسل أحدا ليأتي بالزوجة. فبعث النبي أبا أُسيْد فذهب، ودعته الجونية في بيتها، فقال: لقد نزل الحجاب على أزواج النبي. فسألته عن أمور أخرى فذكرها لها. ثم أركبها بعيرا وجاء بها إلى المدينة. فأُنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شَراحيل ومعها خادمة لها. وفي بلادنا أيضا يبعثون أحد الخدم مع العروس حتى لا تلقى صعوبة من أي نوع. ولما كانت هذه المرأة شهيرة بجمالها، وبالنساء فضول للتعرف على العروس، توجهت نسوة من المدينة لرؤيتها. ويبدو أن إحدى النسوة قالت لها يجب أن تشتدي على زوجك، فإذا جاءك رسول الله فتمنَّعي وقولي: أعوذ بالله منك، فيحبك أكثر، ولا غرابة في ذلك، فلعل أحد المنافقين أثار هذه الفتنة عن طريق زوجته أو قريبته. فجاءها النبي في خباء ضُرب لها. يقول راوي الحديث: فلما دخل عليها النبي قال: هِبي نفسك لي. فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى بيده عليها لتسكُن، فقالت: أعوذ بالله منك! فقال: قد عُذت بمعاذ. وفي رواية: لقد عُذتِ بعظيم. ثم خرج علينا، وقال: يا أبا أُسيْد اكْسُها رازِقِيّتين، وأَلْحِقْها بأهلها (البخاري، كتاب الطلاق، مسند أحمد جزء 3 ص 498).

فأخذها أبو أسيد إلى أهلها. فشق ذلك على قبيلتها ولاموها كثيرا، ولكنها أصرت على أن هذا من شقاوتي وأن هناك من غرّر بها وقال لها: إنه عندما يأتيك النبي فأظْهري البُعد عنه والنفور منه، فهذا سوف يخيفه. وسواء كان هذا ما حدث بالضبط أم لا فإنها أظهرت النفور فتركها النبي وسرَّحها.

فعلاوة على المهر أعطاها النبي رداءين إحسانا منه، عملا بقوله تعالى (ولا تنسوا الفضل بينكم) فهذا الحكم فيما يتعلق بالمرأة التي لم يمسّها زوجها.

ويتبيّن من هذا الحديث أن المراد من المسّ ليس المسّ الظاهري، وإنما العلاقات الزوجية الخاصة، وإلا فإن النبي قد وضع يده عليها ومسَّها ظاهريا.

من هو الذي بيده عقد النكاح في قوله تعالى (إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح)؟ قال البعض إنه الزوج، لأنه بعد عقد القران تكون بيده عقدة النكاح. والمراد من عفو الزوج ألا يكتفي بإعطائها نصف المهر، وإنما يعطيها المهر كاملا. ويقول البعض إن الذي بيده عقدة النكاح هم أولياء المرأة، وقد خُيّروا هنا ألا يأخذوا نصف المهر إذا شاءوا. ومعنى كون عقدة النكاح بيدهم أن زواج المرأة لا يتم إلا بإذنهم.

وقد اعترض البعض على المعنى الأول وقالوا: إن على الزوج أن يؤدي المهر، والذي يؤدي لا يقال عنه إنه عفا (تفسير الرازي). ولكن هذا الاعتراض يدل على عدم إلمام باللغة العربية لأن العفو لغة يعني الزيادة أيضا، فيقال: عفا فلان الشعر: أطاله (اللسان). وجاء في الحديث: أعْفوا اللِّحى أي أطيلوها (مسلم، الطهارة). وكان من عادة العرب أن يؤدوا المهر قبل الزواج. والعفو من الزوج ألا يسترد النصف الذي أعطاه. فالمعنى أنكم إذا طلقتم النساء قبل المسّ فزيدوا على النصف، أو إذا كنتم قد دفعتم المهر كاملا أو نصفه فلا تستردوه. وقد فسر السلف العبارة بهذين التفسيرين.. قال القاضي شريح: أنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرِهْن (البحر المحيط). والواقع أنه لا مجال للكراهية أو عدمها من قِبَل المرأة في قول القاضي شريح وإنما المراد أنه إذا لم تستطع المرأة أن تعفو مثلا كأن تكون دون سن الرشد ولا تستطيع التصرف في أموالها، فيمكن لوليها أن يعلن هذا العفو، وهو عفو من قِبَل المرأة نفسها ولا حاجة أن تُسأل عن ذلك.

ومما يؤكد عفو الزوج أيضا ما جاء في الأثر: فقد تزوج الصحابي جبير بن مطعم فتاة، فلما طلقها أعطاها المهر الذي عيّنه مع الزيادة، ثم قال: أنا أحق بالعفو (الكشاف).

وفي قوله (وأن تعفوا أقرب للتقوى) وجّه الخطاب إلى أولياء المرأة وأقارب الزوج، وبيّن هنا مبدأ هاما بأن التخلّي عن الحقوق أفضل من المطالبة بها وهذا هو مقتضى التقوى. وللأسف أن الناس لا يعملون بهذا التعليم، بل يطالبون بحقوقهم دائما ويتخاصمون عليها، بدلا من أن يُقْدموا على الإحسان إلى الطرف الآخر، مع أن الله يوصي بكلمات صريحة أن العفو أقرب للتقوى.

والمعنى أن على المرأة أن تفكر أنها ما دامت لم تسكن في بيت الرجل، فما الحرج لو عفت عن المهر له؟ كذلك يفكر الرجل: صحيح أنها لم تسكن في بيتي، ولكنها قد نُسبت إليّ، فعليّ أن أعطيها بعض الزيادة. وكذلك على الأولياء أن يرضوا بما لا يبقى معه فتنة.

وقوله تعالى (ولا تنسوا الفضل بينكم). النسيان هنا لا يعني النسيان العام، ولكنه بمعنى الترك والتخلي، كما قال في موضع آخر (نسوا الله فنسيهم) (التوبة:67).. أي أنهم تركوا الله فتركهم. والمراد من الفضل هنا العمل الذي يفضل به الإنسان الآخرين. وبهذا يوصي الله تعالى أن يسعى كل فرد أن يزيد عن صاحبه برا ومروءة في المعاملات وأن يسبقه في أعمال الخير.

(إن الله بما تعملون بصير).. أي تذكروا أن الله يرى أعمالكم، ولا يترك حسنة إلا ويجازيكم عليها بأحسن ما عملتم. فاعملوا بهذه الأوامر لتنالوا رضوان الله.

Share via
تابعونا على الفايس بوك