الفتنة أشد من القتل
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (191).

التفسير:

من هنا بدأ الله بيان تعليمه فيما يتعلق بالحروب الدينية. فذكر في هذه الآية وحدها كل الشروط التي تجب مراعاتها في هذه الحروب. وقال أيها المسلمون، قاتلوا الذين يقاتلونكم من الكفار، ولكن بنيّة الجهاد في سبيل الله، وبدون أدنى شائبة للغضب من الهوى من أنفسكم، وتذكّروا ألا ترتكبوا أي عمل فيه ظلم أو تعدٍّ، لأن الله لا يحب الظالمين بأي حال.

لقد تبين من هذه الآية أن الحرب التي أُمر المسلمون بخوضها إنما هي تلك التي تكون في سبيل الله، فلا يحاربون لمطامع النفس أو لغصب البلاد، أو لبسط النفوذ.. وإنما تكون حربهم لوجه الله تعالى، أي لإزالة العراقيل التي توضع في سبيل الله أو في وجه دينه. إذا لم تكن حربا دينية فلا يمكن أن تسمّى في سبيل الله.

وقد انخدع الكتاب المسيحيون بكلمة (في سبيل الله)، وظنوا أنها تعني إكراه غير المسلمين على قبول الإسلام. ولكن هذا خطأ تماما. وإنما المعنى أنه يجوز من الحروب فقط ما يكون وفق مشيئة الله وابتغاء مرضاته. وقد وردت هذه الكلمة أيضا في الآية 263 من هذه السورة (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله)، فقد فُسرت كلمة (في سبيل الله) في الآية 266 (ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله).

وكذلك ورد: كل ما أمر الله به من الخير فهو في سبيل الله.. أي من الطرق إلى الله (لسان العرب).

وقيل: وسبيل الله عامٌّ يقع على كل عمل خالص سُلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات (النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة سُبل).

فلا يعني قوله تعالى (وقاتِلوا في سبيل الله) أن اجعلوا الآخرين مسلمين بالجبر والإكراه، وإنما معناه أنه إذا قاتلكم قوم بسبب دينكم، وحاولوا فصلكم عن عقائدكم بالجبر، فمن واجبكم أن تحاربوا العدو فقط ابتغاء مرضاة الله، ولإزالة المشاكل التي قامت في وجوهكم بسبب اتباعكم دينكم.. فليس هناك أي ذِكر لإكراه أحد على الإسلام، وإنما الأمر هنا بإزالة الجبر والإكراه الذي يفرضه الكفار ليسلبوا المسلمين حريتهم الدينية.

والشرط الثاني هو أن يحارب المسلمون فقط قوما حملوا السلاح في وجههم أولا، فقال (الذين يقاتلونكم).

والشرط الثالث أيضا يستنبط من قوله تعالى (يقاتلونكم) أي يجوز لكم قتال من يقاتلونكم، ولا تقتلوا من ليس مقاتلا في جيوش الكفار فعلا.. مثل الصغار والعجائز والنساء. وكأنه استثنى من دائرة الحرب كل المدنيين.

لقد شرح سيدنا محمد المصطفى هذا الأمر الإلهي بتعاليمه التي كان يوجهها إلى أمراء الجيوش عندما كان يرسلهم للقاء العدو. فقد ورد أن النبي عندما كان يؤمِّر أحدا على جيش فإنه ينصحه ومن معه بقوله: “اتقوا الله واغزوا باسم الله في سبيل الله، وقاتِلوا من كفر بالله” ولا يعني ذلك أن تقاتلوا كل كافر وإنما معناه أنه إذا أسلم من يحاربكم فلا تقاتلوه.. وإنما يُسمح لكم بقتال من يظل كافرًا مقاتلاً لكم.

لو أن أحدا بدأكم بالحرب ثم أسلم قبل لقائكم فلا تقاتلوه وكفّوا عنه. ثم قال: “اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا “.. أي لا تخلفوا عهودكم ولا تخدعوا، إذا وعدتم العدو بشيء فلا تخلفوه لأي عذر (ولا تمثّلوا)…لو اتبع الكفار عادتهم في التمثيل بالقتلى فقطعوا الآذن أو جدعوا الأنوف فلا تفعلوا مثلهم بقتالهم. ثم قال: (ولا تقتلوا وليدا).. أي الصغار قبل البلوغ، لأنهم لا يشتركون في الحرب)(مسلم، الجهاد). وهناك نصائح أخرى للنبي وردت في (السيرة الحلبية)، فقد جاء فيها أن الرسول كان يوجّه من يخرجون للقاء العدو: “لا تقتلوا امرأة ولا شيخا فانيا، ولا معتزلا في صومعة”.. أي نهى عن قتل المعتزلين في المعابد وإن كانوا من قوم عدو، لأنهم في عزلتهم يتعبدون “ولا تقربوا نخلا”.. أي لا تحاولوا قطعها لأن هذا يؤثر على أرزاق الناس. إنكم إنما خرجتم لدفع هجومهم وليس لتدمير مستقبلهم. ثم قال: “ولا تقطعوا شجرا “. لأن هذا يضر المسافرين والفقراء والعامة. لقد خرجتم لمحاربة العدو المقاتل وليس لحرمان القوم حتى من الظل. ثم قال: ” ولا تهدموا بناء “.. إن هدم القلاع أمر مختلف لأن هدفها إضعاف المقاتلين، ولكن لا يجوز هدم الديار وإحراقها وإخراج الناس من مساكنهم.

وهناك توجيهات نبوية أخرى، منها ألا يُفزعوا الناس. إن جيوش الدول الدنيوية عندما تدخل بلدا فإنها ترتكب المظالم وتضطهد الناس بلا هوادة، لكي يبثوا الرعب في النفوس، ولكن الإسلام لا يسمح بهذا، كذلك أمر النبي أنكم إذا دخلتم بلدا فلا تأمروا بما يشق على الناس، بل بما فيه راحتهم (السيرة الحلبية). وقال إذا تحركت جيوشكم فلا يعرقلوا طرق المسافرين. قال أحد الصحابة إن جيش المسلمين خرج ذات مرة فصعب على الناس مغادرة بيوتهم والسير في طرقهم، فأمر النبي مناديا لينادي بأن من أغلق على الناس بيوتهم أو سد طريقهم فليس قتاله جهادا.

نهى عن قتل المعتزلين في المعابد وإن كانوا من قوم عدو، لأنهم في عزلتهم يتعبدون “ولا تقربوا نخلا”.. أي لا تحاولوا قطعها لأن هذا يؤثر على أرزاق الناس. إنكم إنما خرجتم لدفع هجومهم وليس لتدمير مستقبلهم.

فحسب تعاليم الإسلام لا يجوز للمسلمين أن يقتلوا النسوة أو الصبية أو العجائز، أو يخلفوا الوعد، أو يغدروا بالعدو، أو يمثلوا بجثث القتلى، أو يتعرضوا للقساوسة والرهبان والكهان، أو يدمروا بستانا، أو يقطعوا شجرا، أو يهدموا بناء أو يحرقوا عمارة، ولقد سخط النبي أشد السخط على من يخالف تعاليمه هذه.

كانت النسوة حسب عادات العرب يشتركن في الحرب، يقاتلن ويَقتلن، فكان لا بد من قتْلهن، ولكن في إحدى المرات رأى النبي بعد الحرب جثة امرأة فبدت على وجهه الكريم أثار الغضب والحزن الشديد وأنكر ذلك (مسلم، الجهاد والسير).

وفي غزوة أحد أخرج النبي سيفه وقال: سأعطيه من يؤديه حقه. فقام كثيرون لتناوله، ولكن الرسول ناوله لأبي دجانة الأنصاري، وأثناء المعركة هاجمه عدد من المكيين الكفار، وكان أحدهم أشدهم حماسة في القتال فأسرع إليه أبو دجانة مُشهرا سيفه ثم انصرف عنه. وسأله أحد الصحابة بعد ذلك: لماذا تركت هذا المقاتل؟ فقال: عندما هجمت عليه لقتله صدر منه كلام عرفت به أنه امرأة. فقال صاحبه: لكنها كانت تحارب المسلمين على أي حال وتشترك مع جنود الكفار، فلماذا تركتها؟ فقال أبو دجانة: (أكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة) (مسلم، الفضائل، المغازي للواقدي، السيرة لابن هشام، غزوة أحد).

كان النبي يأمر دائما باحترام النسوة مما شجع الكافرات على الإكثار من إلحاق الضرر بالمسلمين، ولكنهم تحملوهن رغم ذلك. هناك امرأة شاركت في حروب الكفار كلها ضد المسلمين منذ البداية واشتهرت بالتمثيل بجثث شهداء المسلمين، هي هند زوجة أبي سفيان وهي الوحيدة التي أمر الرسول بقتلها عند فتح مكة، ولكنها اختفت في مجموعة من النسوة وبايعت النبي وأسلمت، فلم يعاقبها النبي وقال: إن توبتها قد محت ذنوبها (السيرة الحلبية، فتح مكة).

والشرط الرابع هو (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين). حتى وإن كان العدو هو البادئ بالقتال.. فالتزموا بقتال المقاتلين ولا توسعوا نطاق الحرب لا من حيث المناطق، ولا من حيث وسائل القتال. وبيَّن السبب وقال (إن الله لا يحب المعتدين).. أو بعبارة أخرى: إن الذين يتعدون الحدود لا يمكن أن ينالوا حب الله. الحق أن مثل هذا المعتدي لا يمكن أن يحب الله طبعا، لأنه يتجاوز الحد في المطالبة بحقه، فمثلا لو أن شخصا غضب ولطم غيره فهذا ولا شك خطأ يجب أن يعاقَب عليه. ويكون العقاب بأن نؤنبه ونلومه: لماذا لطمت فلانا؟ ولكن هناك طبائع لا تكتفي بمثل هذا اللوم ولا ترضى حتى تقطع المعتدي إرْبا إرْبا، وربما لا تكتفي بهذا، بل تريد أن يُلقي به الله في نار جهنم في الآخرة ويعذبه عذابا لا يعذبه أحدا! ولكن الله رحيم كريم لا يحب الذين يتجاوزون الحدود ولا يحبونه سبحانه وتعالى.

هناك قوى عظمى في هذا الزمن تدعي بأنها تراعي منتهى العدل والإنصاف في المعاملات، ولكنها في الحرب تلجأ إلى كل صنوف الكذب والظلم والخداع والغدر. وما لم تمزق عدوها وتسحقه لا تخمد نيران قلوبها. وأحيانا يستخدمون الغازات السامة لإهلاك عدوهم، وأحيانا يضعون أسرى العدو أمامهم وقاية، وأحيانا يموهون باستخدام زي جنود العدو وشعاراته في الهجوم، وأحيانا يخرقون عهود الصلح والهدنة. كل هذه أمور محرمة ومخالفة لتعاليم الإسلام.

يُستنبط من الآيتين السابقتين هذه الأمور الستة:

أولا – أن العمل الجائز يصبح حراما إذا اتبع الإنسان طرقا غير شرعية لإنجازه فقال: من حقكم أن تدخلوا بيوتكم متى شئتم، ولكنكم لو دخلتموها بتسلق الجدران، فهذا ليس من البر، ولا يعتبر حسنة عند الله. بضرب هذا المثال بيّن الله أنه قد وضع لكل عمل طريقا، فإذا أنجز الإنسان العمل باتباع هذا الطريق اعتُبر عمله حسنة وبِرًا. أما إذا كان العمل صالحا وكان الطريق لإنجازه غير شرعي لم يُعتبر صالحا. فمثلا أداء الصلاة عمل صالح. ولكن لو صلى الإنسان بدون وضوء، أو صلى أولا ثم توضأ، أو صلى في غير وقتها.. فإنه وإن أدى عبادة الله إلا أنه لا يمكن أن يرضي الله بها، وإنما يعتبر مرتكبا سيئة.

ونفس الحال بالنسبة للتعبير عن الغضب. إن إظهار الغيرة حسن عند الله، فهو أيضا غيور، ويغضب على السيئات، ولكن لو عبّر أحد عن غيرته في محلها بطريقة خاطئة، فإن غيرته وغضبه بهذه الطريقة سوف تُعتبر إثما، لأنه ما اختار الطريق الصحيح للتعبير عنها. لقد بين الشرع أن من أساليب التعبير عن الغيرة والغضب أن يترك المؤمن المكان الذي يستهزأ فيه بآيات الله مثلا. فلو لم يترك المؤمن المكان وشرع يتقاتل معهم، اعتُبر آثما أمام الشريعة.

ثانيا- أن الحسنة اسم للتقوى.. أي القيام بالعمل الحسن بطريق حسن. فمن واجب المؤمن أن يدخل البيت من بابه، أي ينجز كل عمل صالح بالطريق الذي حدده الله لإنجازه، والذي لا ينجز العمل بهذا الطريق لا يعتبر بارًا صالحا.

ثالثا- إن اتباع الطريق الذي وضعه الله لإنجاز العمل يُرضي الله، فضلا عن أن في اتباعه نجاح الإنسان وفلاحه في عمله.. فقال (لعلكم تفلحون) أي أننا لم نأمركم بهذه الأوامر عبثا، بل رقيكم ونجاحكم منوط باتباعها. وتوقُّف النجاح في عمل على اتباع الطرق الصحيحة لأمرٌ واضح. ولو أراد الإنسان الدخول في بناية، ودخلها بالطريق المجهز لذلك فسوف يدخلها بسهولة وبدون أذى، ولكنه لو ترك هذا الطريق وتسلق الجدران فسوف يعاني مشقة وأذى. كما يشتهر بين الناس بالغباء.

رابعا-أن الشريعة الإسلامية ترى الهجوم على أحد بظلم خروجا عليها. تقول الآية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم).. أي يجوز أن تدافعوا عن أنفسكم لو هاجمكم أحد للقضاء عليكم، ولكن لا يجوز أن تكونوا البادئين في الهجوم.

خامسا-أنه يجوز لكم الدفاع ما دام داخل الحدود التي حددها الله. أي أن الإنسان ليس حُرًّا في الدفاع أيضا. بل عليه أن يلتزم عندئذ ببعض القيود والشرائط، وإذا تجاوزها وقت الدفاع فعمله حرام وغير جائز. فمثلا لو لطم أحد غيره لطمة، فلا يجوز للمعتدي عليه أن يشجَّ رأسه عقابا على لطمه.

سادسا-أنه عند الانتقام.. لو تجاوز أحد المظلومين هذه الحدود التي عيَّنها الله، فمع كونه مظلوما سوف يسقط من نظر الله. يقول تعالى (إن الله لا يحب المعتدين).. أي إذا اعتديتم في الدفاع والانتقام وتجاهلتم الحدود التي وضعها الله فسوف تُحرَمون من حب الله تعالى وتفقدون نصرته.

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(192)فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (193)

 

شرح الكلمات:

الفتنة –العذاب؛ الابتلاء؛ اختلاف الناس في الآراء؛ وما يقع بينهم من قتال (الأقرب).

التفسير:

يقول أعداء الإسلام إن هذه الآية تعلّم المسلمين أن يقتلوا الكافر حيثما وجدوه. ولكن الأمر ليس كذلك أبدا، وإنما يندرج من الكفار تحت قوله تعالى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) مَن ذُكروا من قبل، والذين هم بادئون بالعمليات الحربية ضد المسلمين. وليس هناك أي اعتراض أخلاقي أو شرعي في المضي في محاربة هؤلاء. لقد وجه النظر بقوله (حيث ثقفتموهم) إلى وجوب محاربتهم في مكان المعركة الذي يصطدمون بكم فيه، وليس أن تقتلوا كل كافر تجدونه هنا وهناك. يجب أن يكون القتال مع جيش الكفار، سواء كانوا هم القوة التي بدأتكم بالقتال، أو قوة أخرى ملحقة بهم وتساعدهم.

(وأخْرِجوهم من حيث أخرجوكم) هذه الكلمات تتضمن نبأ بأنه سيأتي زمن ينال فيه المسلمون من القوة ما يستطيعون به الدخول إلى المكان الذي اضطُروا للخروج منه مع النبي .. ويعودون إليه غالبين فاتحين بأمر من الله تعالى. المسلمون عرضة الآن لاضطهاد الكفار، ولكن سيأتي وقت يتوسل فيه الكفار إلى المسلمين ويسترحمونهم. وقد أُشير إلى هذه الغلبة والفتح في قول الله (براءةٌ من الله ورسولِه إلى الذين عاهدتم من المشركين)(التوبة: 1).. أي كان مشركو مكة يقولون إن محمدا يدعي بأنه النبي المبعوث في مكة مصداقا للنبأ الإبراهيمي، ولكن ها هو قد هاجر من مكة إلى المدينة، فكيف يمكن اعتباره مصداقا لهذا النبأ حقًّا؟ يرد الله عليهم: ها قد مَكَّنتُ محمدا من فتح المناطق العربية الأخرى، لأنه بدون ذلك لا يمكن أن يدخل في مكة: وها إني قد دحضتُ حجتكم هذه، وبرأته وأصحابه من هذا الطعن. ثم قال (فسيحوا في الأرض أربعَة أشهر، واعلموا أنكم غيرُ معجزي الله) (التوبة: 2).. يمكن أن تنطلقوا في أنحاء الجزيرة العربية في رحلة لمدة أربعة أشهر، وتروا وتعرفوا أنكم لا تستطيعون أن تعجزوا الله. أي أنكم سوف تعرفون بهذا السفر أن الإسلام قد تغلّب على بلاد العرب، وثبت بطلان مطاعنكم.

فقوله هنا (أخرجوهم من حيث أخرجوكم) إنما هو نبأ بهذه الغلبة التي تمت فيما بعد، وأمر الله به المسلمين أنهم كما أخرجوكم من هذه البلاد ظلما وعدوانا كذلك عليكم أن تقضوا على حكمهم فيها. فـ(أخرجوهم) لا يعني الطرد الظاهري، وإنما يعني القضاء على حكمهم وتصرفهم، لأن الرسول لم يُخرج مشركي مكة منها، وإنما سمح بنفسه لأولادهم بالإقامة فيها. كان أبو جهل أكبر المشركين وأعداء الإسلام، وعند فتح مكة فَكَّر ابنه عكرمة في الفرار إلى الحبشة وخرج من مكة، ولكن زوجته استأذنت واستأمنت النبي له، فعاش في مكة حرا (السيرة النبوية لابن هشام، فتح مكة). وهكذا شرح الرسول بعمله معنى (أخرِجوهم) وبيّن أنه لا يعني إكراه الكفار على الخروج من بيوتهم، وإنما يعني القضاء على سلطانهم ونفوذهم، أو يعني-على الأكثر –طرد الأشرار منهم الذين يحيكون المؤامرات ضد المسلمين ، وكل حكومة في الدنيا تطردهم ولا ترى في ذلك بأسا.

هناك قوى عظمى في هذا الزمن تدعي بأنها تراعي منتهى العدل والإنصاف في المعاملات، ولكنها في الحرب تلجأ إلى كل صنوف الكذب والظلم والخداع والغدر. وما لم تمزق عدوها وتسحقه لا تخمد نيران قلوبها. وأحيانا يستخدمون الغازات السامة لإهلاك عدوهم، وأحيانا يضعون أسرى العدو أمامهم وقاية، وأحيانا يموهون باستخدام زي جنود العدو وشعاراته في الهجوم، وأحيانا يخرقون عهود الصلح والهدنة. كل هذه أمور محرمة ومخالفة لتعاليم الإسلام.

ويقول (والفتنة أشد من القتل) أي أن إيقاع أحد في الفتنة بسبب دينه أشد وأكبر إثما من القتل والحروب، فلا تفعلوه أبدا لأنه دأب الكفار. والمراد من الفتنة هنا فترة الابتلاء التي كان المسلمون يمرون بها، والتي ذُكرت من قبل بأن الكفار –بدون مبرر، وبسبب الاختلاف العقائدي فقط –يضربون المسلمين ويخرجونهم من ديارهم. يقول الله إن إيذاء قوم وإخراجهم لاختلاف في الدين أخطر وأهول من الحروب السياسة الأخرى التي تنشب على حقوق قومية؛ لأنه لا وزن للدنيا أمام الدين. والفتنة هنا أيضا تعني تعذيب المؤمنين لصرفهم عن دينهم، فقال إن تعذيب المؤمنين هكذا أشد من قتل نفس. ذلك أن النفس أيضا لا أهمية لها إزاء الدين، وأيضا لأن هذه المظالم تؤدي إلى فساد كبير في الأرض، وتسلب الحرية العقلية، وتولد البغض والعناد في القلوب. فقال إنَّ قتل المسلمين لهؤلاء الظالمين ليس ظلما، لأن القتال صار جائزا للمسلمين بعد أن بدأ هؤلاء بالقتال، ولا يزالون يتدخلون في حرية المسلمين الدينية ويعذبونهم بسبب اختلافهم في العقيدة.

كما أن قوله (والفتنة أشد من القتل) يشير إلى أن القتل عمل شنيع بلا شك، ولكن بثّ الفتنة أشنع وأسوأ من ذلك، لأن الفتنة في بعض الأحيان تؤدي إلى إزهاق الآلاف بل الملايين من الأرواح. إن القتل يؤدي إلى إزهاق نفسٍ أو بضع نفوس، ولكن قد تدفع كلمة من فم فتّان الأممَ إلى حروب تقع آلاف الأرواح ضحية لها، وتؤدي بالجماعات إلى الفرقة والشقاق. إن أصحاب الفتنة يزعمون أنهم قالوا كلمات بسيطة، ولكن كلماتهم هذه في الحقيقة سمٌّ له تأثير بعيد. صحيح أن الفتنة تبدو في بادئ الأمر عملا هيّنا ولكن عاقبتها وخيمة خطيرة. ولقد نهى الإسلام عن القتل، ولكنه نهى عن الفتنة نهيا أشد.

وللأسف أن الناس عموما يسعون لتجنب جريمة القتل، ولكنهم لا يسعون لاجتناب الفتنة.. مع أنهم ما لم يدركوا أن الفتنة أشد من القتل وأشنع.. لا يمكن أن يستتب الأمن في العالم.

ثم يقول (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) لأن ذلك سوف يعرقل قيام الناس بالعمرة والحج. (فإن قاتلوكم فاقتلوهم). نعم، إذا بدءوا الحرب في المسجد الحرام فأنتم مضطرون لرد هجومهم. (كذلك جزاء الكافرين) أي أن الذين يرفضون تعاليم مبنية على المنطق والعدل يستحقون هذا الجزاء وهذه المعاملة.

وهنا نصح الله المسلمين ألا يحولوا بين الناس وبين أدائهم طقوسَهم وفرائضهم الدينية. وما لم يبدأ العدو قتالكم في مكان يعطِّل القتالُ فيه عبادةَ الناس فلا تحاربوهم فيه. لكن إذا اتخذ العدو مِن هذه الأماكن ميدانا للحرب فقتاله فيه يُعد أمرا اضطراريا. وهكذا نبّه إلى ضرورة تجنب القتال حول أماكن العبادة، دعْك من الهجوم على المعابد أو هدمها. ولكن لو اتُّخِذت هذه المعابد قلاعا للحرب وبدأ العدوان منها.. فإن مسئولية إلحاق ضرر بها تقع على المعتدي.

قوله (فإن انتهوْا فإن الله غفور رحيم).. أي لو عاد العدو إلى صوابه وارتدع عن عدوانه فإن الله غفور رحيم.. أي لو بدأ العدو القتال من أماكن عبادته، ثم تنبّه إلى النتائج الخطيرة لعدوانه، وخرج من معابده إلى مكان آخر لحربكم، فلا تلحقوا الضرر بمعابده بحجة أنه بدأ القتال منها فتهدموها. كلاّ، بل يجب على الفور أن تتجهوا إلى حربه حيث اتجه، واحفظوا لهذه الأماكن المقدسة احترامها وحرمتها.

Share via
تابعونا على الفايس بوك