حقيقة النسك والضحايا في الإسلام

يَا عِبَادَ اللهِ.. فَكِّرُوا في يَوْمِكُمْ هذا يَوْمِ الأَضْحَى، فَإِنَّهُ أُودِعَ أَسْرَارًا لأُولِي النُّهَى. وَتَعْلَمُونَ أَنَّ في هذا الْيَوْمِ يُضَحَّى بِكَثِيرٍ مِنَ الْعَجْمَاوَاتِ، وَتُنْحَرُ آبَالٌ مِنَ الْجِمَالِ وَخَنَاطِيلُ مِنَ الْبَقَرَاتِ، وَتُذْبَحُ أَقَاطِيعُ مِنَ الْغَنَمِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ رَبِّ الْكَائِنَاتِ، وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ مِن ابْتِدَاءِ زَمَانِ الإِسْلامِ، إِلَى هذِهِ الأَيَّامِ، وَظَنِّي أَنَّ الأَضَاحِي في شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الإِحْصِاءِ، وَفَاقَتْ ضَحَايَا الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مِنْ أُمَمِ الأَنْبِيَاءِ، وَبَلَغَتْ كَثْرَةُ الذَّبَائِحِ إِلَى حَدٍّ غُطِّيَ بِهِ وَجْهُ الأَرْضِ مِنَ الدِّمَاءِ، حَتَّى لَوْ جُمِعَتْ دِمَاؤُهَا وَأُرِيدَ إِجْرَاؤُها، لَجَرَتْ مِنْهَا الأَنْهَارُ، وَسَالَتِ الْبِحَارُ، وَفَاضَتِ الْغُدْرُ وَالأَوْدِيَةُ الْكِبَارُ.

وَقَدْ عُدَّ هذا الْعَمَلُ في مِلَّتِنَا مِمَّا يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَه، وَحُسِبَ كَمَطِيئَةٍ تُحَاكِي الْبَرْقَ في السَّيْرِ وَلُمْعَانَه؛ فَلأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ الضَّحَايَا قُرْبَانًا، بِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تَزِيدُ قُرْبًا وَلُقْيَانًا، كُلَّ مَنْ قَرَّبَ إِخْلاَصًا وَتَعَبُّدًا وَإِيمَانًا. وَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ نُسُكِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِالنَّسِيكَةِ. وَالنُّسُكُ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ في اللِّسَانِ الْعَرَبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ لَفْظُ النُّسُكِ بِمَعْنَى ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ. فَهذا الاشْتِرَاكُ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ الْعَابِدَ في الْحَقِيقَةِ، هُوَ الَّذِي ذَبَحَ نَفْسَهُ وَقُوَاهُ وَكُلَّ مَنْ أَصْبَاهُ لِرِضَى رَبِّ الْخَلِيقَةِ، وَذَبَّ الْهَوَى حَتَّى تَهَافَتَ وَانْمَحَى، وَذَابَ وَغَابَ وَاخْتَفَى، وَهَبَّتْ عَلَيْهِ عَوَاصِفُ الْفَنَاءِ، وَسَفَتْ ذَرَّاتِهِ شَدَائِدُ هذِهِ الْهَوْجَاءِ. وَمَنْ فَكَّرَ في هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ الْمُشْتَرَكَيْنِ، وَتَدَبَّرَ الْمَقَامَ بِتَيَقُّظِ الْقَلْبِ وَفَتْحِ الْعَيْنَيْنِ، فَلا يَبْقَى لَهُ خِفَاءٌ وَلا مِرَاءٌ، في أَنَّ هذا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُنْجِيَةَ مِنَ الْخَسَارَةِ، هِيَ ذَبْحُ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ، وَنَحْرُهَا بِمُدَى الانْقِطَاعِ إِلَى اللهِ ذِي الآلاءِ وَالأَمْرِ وَالإِمَارَةِ، مَعَ تَحَمُّلِ أَنْوَاعِ الْمَرَارَةِ، لِتَنْجُوَ النَّفْسُ مِنْ مَوْتِ الْغَرَارَةِ. وَهذا هُوَ مَعْنَى الإِسْلامِ، وَحَقِيقَةُ الانْقِيَادِ التَّامِّ. وَالْمُسْلِمُ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ نَحَرَ نَاقَةَ نَفْسِهِ وَتَلَّهَا لِلْجَبِينِ، وَمَا نَسِيَ الْحَيْنَ في حِينٍ.

فَحَاصِلُ الْكَلامِ.. أَنَّ النُّسُكَ وَالضَّحَايَا في الإِسْلامِ، هِيَ تَذْكِرَةٌ لِهذا الْمَرَامِ، وَحَثٌّ عَلَى تَحْصِيلِ هذا المَقَامِ، وَإِرْهَاصٌ لِحَقِيقَةٍ تَحْصُلُ بَعْدَ السُّلُوكِ التَّامِّ. فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَّمُؤْمِنَةٍ كَانَ يَبْتَغِي رِضَاءَ اللهِ الْوَدُودِ، أَنْ يَفْهَمَ هذِهِ الْحَقِيقَةَ وَيَجْعَلَهَا عَيْنَ الْمَقْصُودِ، وَيُدْخِلَهَا في نَفْسِهِ حَتَّى تَسْرِيَ في كُلِّ ذَرَّةِ الْوُجُودِ، وَلا يَهْدَأ وَلا يَسْكُن قَبْلَ أَدَاءِ هذِهِ الضَّحِيَّةِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَلا يَقْنَع بِنَمُوذَجٍ وَقِشْرٍ كَالْجُهَلاءِ وَالْعُمْيَانِ، بَلْ يُؤَدِّي حَقِيقَةَ أَضْحَاتِهِ، وَيَقْضِي بِجَمِيعِ حَصَاتِهِ وَرُوحِ تُقَاتِهِ، رُوحَ الْقُرْبَانِ. هذا هُوَ مُنْتَهَى سُلُوكِ السَّالِكِينَ، وَغايَةُ مَقْصِدِ الْعَارِفِينَ، وَعَلَيْهِ يَخْتَتِمُ جَمِيعُ مَدَارِجِ الأَتْقِيَاءِ، وَبِهِ يَكْمُلُ سَائِرُ مَرَاحِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالأَصْفِيَاءِ، وَإِلَيْهِ يَنْتَهِي سَيْرُ الأَوْلِيَاءِ.

(الخطبة الإلهمية)

Share via
تابعونا على الفايس بوك