المفهوم الحقيقي لختم النبوة

الحلقة الأولى من خطاب ألقاه حضرة مرزا طاهر أحمد

الخليفة الرابع لحضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود

أثناء المؤتمر السنوي للجماعة في بريطانيا سنة 1985م،

رداً على تهم باطلة ألصقتها حكومة باكستان آنذاك بجماعتنا نشرتها في

كتيب تحت عنوان «القاديانية خطر رهيب على الإسلام» أثناء حملتها الشرسة

ودعايتها الكاذبة ضد جماعتنا ومؤسسها

«تنشر أسرة التقوى ترجمة هذا الخطاب على مسؤوليتها»

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ ، آمين.

مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (الأحزاب: 41-43)

تهمة بغيضة

الكتيب الذي نشرته الحكومة الباكستانية والذي يسميه الناس بــــ «البيان الأبيض المزعوم»، أُلصِقت من خلاله تهم باطلة كثيرة بسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود والأحمدية. والتهمة الأكثر شناعةً وكذبًا وإيذاءً هي أن حضرته قد أنكر -والعياذ بالله- الآية التي استهللتُ بها خطبتي، ولم يكن يعتقد أن النبي خاتم النبيين وبالتالي فإن الأحمدية أيضًا تعتنق الاعتقاد نفسه.

هذه تهمة شنيعة وبغيضة للغاية، لا أساس لها من الصحة أبدًا. والذي لديه أدنى إلمام بكتابات سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود لن يعير لها أدنى اهتمام أبدًا. ولكن المشكلة -لسوء الحظ- إن معظم الناس ليسوا مطّلعين على كتاباته . أما الذين كان من الممكن أن تصل إليهم هذه الكتابات فقد وضعت الحكومة الباكستانية العراقيلَ في سبيلهم بمصادرة كتبنا التي من شأنها أن تؤدي مطالعتها بالمسلم العادي إلى حقيقة الأمر.

إيمان قوي بخاتم النبيين

أما فيما يتعلق بكذب التهمة السالفة الذكر فهناك أقوال كثيرة بهذا الخصوص لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود نظمًا ونثرًا، تبرهن بكل وضوح على أنه كان يؤمن إيمانًا قويًا راسخًا بكون سيده وسيدنا محمد خاتم النبيين بعمق وشمولية ومعرفة ويقين أكثر من غيره. كما تُبين هذه الاقوال أن معرفته بمفهوم ختم النبوة عميقة وشاملة لدرجة لم يبلغ معاندونا أو العلماء الآخرون عشر معشارها إطلاقًا.

يقول سيدنا الإمام المهدي ما تعريبه:

«يجب أن تتذكروا في هذا الصدد أن التهمة التي تُلصق بي وبجماعتي أننا لا نؤمن بكون النبي خاتم النبيين، إنما هي افتراء عظيم علينا. فالقوة واليقين والمعرفة والبصيرة التي بها نؤمن ونتيقن نحن بكون النبي خاتم الأنبياء، لا يؤمن الآخرون بجزء من المائة ألف منها، وذلك ليس بوسعهم أيضًا. إنهم لا يفهمون الحقيقة والسر الكامن في مفهوم ختم النبوة لخاتم النبيين . لقد سمعوا هذه الكلمة من آبائهم ولا يعرفون حقيقتها ولا يعرفون ما هو ختم النبوة وما المراد من الإيمان به. ولكننا نؤمن بكون النبي خاتم النبيين بالبصيرة التامة (التي يعلمها الله). إن الله قد كشف علينا حقيقة ختم النبوة بحيث نجد من شراب المعرفة الذي سُقينا إياه لذةً لا يتصورها أحد إلا الذين سُقُوا من هذا الينبوع.» (الملفوظات، ج1، ص342، طبعة لندن)

ثم يقول حضرته في موضع آخر ما تعريبه:

«إن ملخص ديننا ولبه هو “لا إله إلا الله محمد رسول الله” إن اعتقادنا الذي نتمسك به في هذه الحياة الدنيا، وعليه سوف نرحل من عالم الفناء هذا بفضل الله وتوفيقه هو: أن سيدنا ومولانا محمدًا المصطفى هو خاتَم النبيين وخير المرسلين الذي أُكمِل الدينُ على يده، وتمت النعمة التي بواسطتها يستطيع الإنسان الوصول إلى الله باختياره سبيل النجاة سالكاً على الصراط السوي». (إزالة الأوهام، الخزائن الروحانية ج 3 ص169، 170)

وقال ما تعريبه أيضًا:

«بما أن النبي كان أفضل الأنبياء كلهم وأعلمهم وأكملهم وأرفعهم وأجلاهم وأصفاهم في كافة مقتضيات الطهارة الباطنية وانشراح الصدر والعصمة والحياء والصدق والصفاء والتوكل والوفاء وحب الله، لذا فقد عطّره الله جلَّ شانه بعطور الكمالات الفريدة أكثر من غيره. والصدر والقلب اللذان كانا أكثر رحابة وطهارة وبراءة وعشقًا من صدور الأولين والآخرين وقلوبهم، لذا فقد استحقا بجدارة أن ينزل عليهما وحيٌ أقوى وأكمل وأرفع من وحي الأولين والآخرين جميعًا، ليكون مرآةً واسعة ونقية لانعكاس الصفات الإلهية”. (سرمه جشم آريا، الخزائن الروحانية ج2 ص71)

مثال سافر للتلبيس

الآن أتناول واحدة بعد أخرى ذكر تُهمٍ وُجهت إلى الأحمدية ومؤسسها في الكتيب المذكور. وما جاء فيه هو مثال سافر للدجل والتلبيس. ولقد قُدّمت فيه -كما سأقرأ عليكم بعض المقتطفات منه- استنتاجات خاطئة بتمويه الحق بالباطل، أو باستخراج نتائج خاطئة عمدًا من القول الحق، أو عن طريق نتائج منطقية -على قدر زعمهم- من كذباتهم التي افتروها. وهكذا أصبح البيان الأبيض المزعوم مثالاً فريدًا من نوعه للتلبيس وإخفاء الحق، فقد… جاء فيه:

«مازال تفسير “خاتم النبيين” رائجًا في الدنيا كلها في غضون 14 قرنًا الماضية أن سيدنا محمدا كان آخر نبي من أنبياء الله، ولن يأتي بعده نبي. هذا ما فَهِمَهُ صحابة الرسول أيضاً من المصطلح القرآني “خاتم النبيين”. وبناء على عقيدتهم الراسخة هذه ظلوا متكاتفين ضد كل من أعلن النبوة. كما لم يتسامحوا قط على مر التاريخ الإسلامي مع أي شخصٍ ادعى النبوة». (الكتيب الحكومي المذكور ص24-25)

ثم يقولون:

«هناك المفكرون المسلمون الكبار من أمثال ابن خلدون، المؤرخ المعروف وصاحب الرأي القويم، والإمام ابن تيمية وتلميذه المتنور ابن القيم، وشاه ولي الله المحدث الدهلوي، والعلامة محمد إقبال الذين بحثوا في مضمون ختم النبوة من الناحية العلمية والاجتماعية والسياسية، وسوف تقرؤون لاحقًا في هذا الكتيب أفكار العلامة إقبال حول هذا الموضوع». (المرجع السابق ص 6-7)

فيما يتعلق بالجزء الثاني من قولهم عن معاملة تلقَّاها كل من ادعى النبوة في تاريخ المسلمين ونتيجتها المنطقية فسأناقشها لاحقًا، ولكنني أود أن أبيّن أولاً أن قولهم بأن صلحاء الأمة القدامى لم يزالوا يعلنون دون استثناء أن آية «خاتَم النبيين» لا تعني شيئًا إلا «النبي الأخير» فهو قولٌ باطل بديهي البطلان، بل تهمة صريحة على صلحاء الأمة القدامى.

إن موضوع خاتم النبيين واسع وعميق جدا ويحتوي على معانٍ شاملة لدرجة لو شرحنا المعاني وفسرنا كلمة «خاتَم النبيين» فقط دون دحض استدلال المعاندين لاقتضى الأمر وقتًا طويلاً في جلسة واحدة لذا سوف أقتصر اليوم على الرد على اعتراضاتهم.

هذه تهمة شنيعة وبغيضة للغاية، لا أساس لها من الصحة أبدًا. والذي لديه أدنى إلمام بكتابات سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود لن يعير لها أدنى اهتمام أبدًا. ولكن المشكلة -لسوء الحظ- إن معظم الناس ليسوا مطّلعين على كتاباته .

منزلة مفكري الإسلام

فيما يتعلق بمفكري الإسلام العظام فلا شك في منزلة سامية للمفكرين الثلاثة المذكورين في بداية القائمة أعلاه. لا شك في أنهم قد أدوا خدمات جليلة للإسلام وفلسفته. وتعترف الجماعة الإسلامية الأحمدية بتصريح الكتيب هذا وتقول إنهم كانوا فلاسفة كبارًا حقًا. أما فيما يتعلق بتقديمهم العلامة إقبال كأحد مفكري الإسلام فأقدم لكم مقتبسًا من أقوال هذا العلامة إقبال نفسه لتعلموا نوعية مفكر الإسلام هذا وحالته.

يقول العلامة إقبال في خطابه الموجه إلى السيد صوفي غلام مصطفى تبسم:

«إن دائرة معلوماتي الدينية ضيقة جدًا. لقد أمضيت معظم فترة حياتي في دراسة الفلسفة الغربية. وهذه الأفكار أصبحت فطرتي الثانية إلى حدٍّ ما. إنني أطالع حقائق الإسلام من هذا المنطلق قصدًا أو عن غير قصد مني». (إقبال نامه، الجزء الأول ص46-47، الناشر: شيخ محمد أشرف تاجر الكتب، كشميري بازار لاهور)

فمفكر الإسلام الذي يعترف بنفسه أنه يطالع القرآن متأثرًا بالمفكرين الغربيين والفلسفة الغربية، وعلاوة على ذلك معلوماته الدينية قليلة جدًا، فإن تقديمه كحجةٍ أمام الأمة المسلمة لا يليق إلا بكُتّاب هذا الكتيب ولا يمكن أن يخطر ذلك ببال شخصٍ عاقل إطلاقًا.

ختم النبوة يحيط بالكمالات كلها

أما فيما يتعلق بكون النبي “خاتَم النبيين” ومعاني الكلمة الواسعة فسأقدم إليكم من أقوال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ، ثم تتبعها أقوالٌ مماثلة لصلحاء الأمة القدامى سوف تعرفون من خلالها كيف حاول كتّاب البيان المزعوم تقديم هذا الموضوع الشامل الواسع في إطار ضيق وبصورة خاطئة. إذ يرون أن كلمة خاتم النبيين لا تعني إلا النبي الأخير من حيث الزمن، في حين قد رفضت الأمة المحمدية هذا المفهوم رفضًا باتًا. أما المعاني الواسعة والمعارف الدقيقة الأخرى العظيمة الشأن فقد أهملها أصحاب الأفكار السطحية هؤلاء.

يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ما تعريبه:

«الحق الذي لا يقبل الشك هو أنه لا أحد من الأنبياء يمكن أن يتساوى مع النبي الأكرم في كمالاته القدسية بصورة حقيقية، حتى إن الملائكة أيضًا لا يقدرون على التساوي معه في هذا المجال ناهيك عن غيرهم». (البراهين الأحمدية، الخزائن الروحانية ج1، ص268)

هذا هو مفهوم ختم النبوة الحقيقي! أي أن النبي أرفع منزلة من كافة المخلوقات ومن الملائكة أيضًا. مما يعني أن ختم النبوة والمعراج اسمان لشيء واحد.

ثم يقول حضرته ما تعريبه:

“إن فراسة نبيِّنا وفهمه أكثرُ من فراسة كافة الأمة وفهمها. إن مسلكي الذي أستطيع إثباته بالبراهين هو أن فراسة جميع الأنبياء وفهمهم لا تتساوى مع فراسة النبي الأكرم . (إزالة الأوهام، الخزائن الروحانية ج3، ص307)

أي أن ختم النبوة يشمل جميع كمالات النبوة والفراسةُ جزء منه.

لقد اطلعنا على هذه المعاني السامية بفضل سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . وهناك من الصلحاء القدامى الذين ذكروا أفكارًا مماثلة لها من قبل. أما فيما يتعلق بعمق الموضوع وشموليته فأقوال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عن مكانة النبي، خاتم النبيين عميقة وشاملة جدًا. يقول حضرته ما تعريبه: “الحق الذي لا يقبل الشك هو أنه لا يتساوى أحد من الأنبياء مع النبي الأكرم بصورة حقيقية في كمالاته القدسية. حتى الملائكة أيضًا لا يقدرون على التساوي مع النبي في هذا المجال ناهيك عن غيرهم.” (البراهين الأحمدية، الخزائن الروحانية ج1، ص268)

ليس من ناحية الفراسة فقط، بل من ناحية القوة القدسية أيضًا كان النبي قد جمع في شخصه الطاهر القوة القدسية لكافة الأنبياء والملائكة. فبناءً على ذلك سُمي خاتم النبيين. كنتُ قد أوردت هذا المقتبس من قبل ولكن رأيت من الأنسب شرح الموضوع من هذا المنطلق الجديد أيضًا.

ثم يقول حضرته ما تعريبه:

“لقد بلغت جميع النبوات والرسالات كمالها عند وصولها ذروتها، أي في شخص سيدنا وإمامنا محمد “. (فلسفة تعاليم الإسلام، الخزائن الروحانية ج10، ص367)

أي لم تتمركز فيه ميزات كافة الأنبياء السابقين بصورة عادية فقط بل بلغت ذروتها. هذا هو كلام المعرفة العميقة عن ختم النبوة والتي وهبها الله لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . يقول حضرته في موضوع آخر ما تعريبه: “إن نبينا الأكرم جامع لجميع الكمالات المختلفة كما قال الله سبحانه وتعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ، أي اقتد كل نوع من الهدى الذي أُعطي للأنبياء السابقين كلهم. فمن الظاهر أن الذي سيجمع في نفسه هدايات متفرقة يكون أكمل وأفضل من الأنبياء كلهم.” (عين المسيحية، الخزائن الروحانية ج20، ص381)

هنا ذكر سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود صفة “خاتم النبيين” من ناحية التعليم والهدى، إذ جُمعت في تعليم النبي الجزء الأمثل من جميع التعاليم التي جاءت إلى الدنيا على مرّ العصور. ثم يقول حضرته ما تعريبه: “النبوات والكتب التي جاءت من قبل لا حاجة للاقتداء بها على حدة، لأن النبوة المحمدية تشمل جميعها. (وهذه نتيجة طبيعية لإعلان ورَدَ في مقتبس سابق) والسبل الأخرى ما عدا هذه النبوة مسدودة كلها. ففيها كل نوع من الحقائق التي توصل إلى الله تعالى. لن يأتي بعدها حقائق أخرى كما ليست هناك حقائق كانت موجودة من قبل ولا توجد فيها. لذا فقد خُتمت بها النبوات كلُها، وهكذا كان من المفروض أن يكون” (الوصية، الخزائن الروحانية ج20، ص311)

إذن فلم تعد هناك حاجة للاقتداء بالنبوات والكتب السابقة على حدة، وهذا أيضًا من مقتضيات ختم النبوة. لو بقي جزء من النور أو الحقائق خارج دائرة نبوة محمد لكانت هناك حاجة للاقتداء بها على حدة. ولكن إذا جمع كل حقيقة ونور في مجال ختم النبوة وتجلى بلمعان جديد وبلغ ذروة الكمال، فالنبي الذي أغنى الباحث عن الخيرات من كل باب (غير بابه) سُميَ بخاتم النبيين.

كذلك يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في أبياته:

لا شك أن محمدًا خيرُ الورى

رَيقُ الكِرام ونُخبةُ الأعْيانِ

.

تمَّت عليه صفاتُ كلِّ مزيةٍ

خُتمت به نعماءُ كلِّ زمانِ

.

هو خيرُ كلِّ مقرَّبٍ ومقدَّمٍ

والفضلُ بالخيرات لا بزمانِ

.

يا رب صلِّ على نبيك دائمًا

في هذه الدنيا وبعثٍ ثانِ

(مرآة كمالات الإسلام، الخزائن الروحانية ج5، ص592-593)

ثم يقول في أبيات باللغة الفارسية ما تعريبه: “الرسول الذي اسمه محمد نتمسك بوجوده الطاهر دائمًا. هو خير الرسل وخير الأنام وختمت به كل نبوة. الماء (الروحي) كله نشربه منه، وكل من يرتوي إنما يرتوي بفضله. وبفضله نحصل على كل نور وكمال، ويستحيل الوصول إلى المحبوب الأزلي إلا بواسطته. هذا هو عشقي لمحمد ، والقلب يطير إلى المصطفى مثل الطير دائمًا.” (سراج منير، الخزائن الروحانية، ج12، ص95)

مفهوم عميق لـ “خاتم النبيين”

هنا يبيّن حضرته مفهومًا جديدًا لخاتم النبيين، وهو أن ختم النبوة لا يكتفي بجمع درجات الكمال في نفسه بل يوسع دائرة بركاتها إلى الآخرين أيضًا. حتى يظل كل تلميذ مخلص لخاتم النبيين حاصلاً على الكمالات على مر العصور. يوضح حضرته هذا الموضوع في مكان آخر في بيت من شعره ما تعريبه:

“لقد صِرنا خيرَ الأمم بفضلك يا خيرَ الرسل! ولقد تقدمنا إلى الأمام نتيجةً لتقدمك”.

هذه بضع نماذج من مفاهيم ختم النبوة من نَواحٍ مختلفة قدمتُها إليكم. غير أن هناك كنزًا كبيرًا مكنونًا في أقوال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود حول موضوع خاتم النبيين. ولقد صدق حين قال: إن المعاندين لا يدركون ولا يفهمون جزء من المائة ألف من المفاهيم المكنونة لكلمة “خاتم النبيين”. أفكارهم وتصوراتهم لا تسمو إلى منزلة النبي السامية التي عرفها سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . ولو قرأ شخص عادل وذو قلب حساس أقواله بِتأنٍ وتأمُّلٍ لتوصل إلى النتيجة نفسها لا محالة. وكذلك الصلحاء الأسلاف أيضًا ذكروا الأمور نفسها بصورة متفرقة وقد جمعها سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في كتبه. إذن فكما كان النبي خاتم النبيين كذلك كان سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود خاتم عشاق النبي . ليس هناك جانب واحد من أوصاف الرسول الطاهرة التي ذكرها الآخرون بصورة متفرقة ولم يجمعها الإمام المهدي في كتاباته. كما أنه ليس ثمة جانب واحد من مفاهيم ختم النبوة ذكره الآخرون ولم يذكره حضرته بصورة أفضل وأجلى وأرفع وأكمل من غيره.

يقول الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن الحكيم الترمذي المتوفى 308 هـ: “ومعناه عندنا أن النبوة تمت بأجمعها لمحمد ، فجُعل قلبُه بكمال النبوة وعاءً عليها ثم خُتم” (كتاب ختم الأولياء، ص341، المطبعة الكاثوليكية بيروت 1965 م)

لاحظوا الفرق!! يقول فضيلة الشيخ: إن الكمالات كلها قد جمعت ثم ختمت. يضم هذا الكلام مفهوم الإغلاق أيضًا. في حين يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود أنه لا شك أن الكمالات كلها قد جمعت في شخص سيدنا محمد . الكلام إلى هنا لا بأس فيه، ولكن لا يصح القول إن الرسول حصرها على نفسه ولم يوسعها إلى الآخرين. إن النبي جامع للكمالات والبركات كلها، ولكنه لا يحصرها في نفسه بل يوسعها للآخرين أيضًا.

يقول الإمام فخر الدين الرازي المتوفى 544 هـ:

“فالعقل خاتم الكل، والخاتم يجب أن يكون أفضل. ألا ترى أن رسولنا لمـّــا كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء.” (التفسير الكبير للإمام الرازي، ج6، ص31)

تأويلات حكيمة لمفكري الإسلام

أما فيما يتعلق بمفكري الإسلام الذين يعترف بهم الكتيب الحكومي أيضًا كمفكري الإسلام الكبار. فيقول أحدهم وهو العلامة عبد الرحمن بن خلدون المغربي المتوفى 808 هـ:

“ويمثلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنبوة ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائزًا للمرتبة التي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزًا للمرتبة التي هي خاتمة النبوة.” (مقدمة ابن خلدون للإمام عبد الرحمن محمد بن خلدون ص300، المكتبة العصرية، بيروت 1988 م)

أي أنه ليس المقصود من “خاتم” الأخير من حيث الزمن، بل المراد الأعلى منزلة ومكانة وإلا سوف تختفي الولاية إلى الأبد -والعياذ بالله- والأمة ستُحرم من الولاية نهائيًا.

يقول سلطان الأولياء حضرة أبو سعيد مبارك بن علي المحزومي المتوفى 513 هـ وهو المرشد الروحاني لحضرة عبد القادر الجيلاني رحمه الله:

“والأخيرة منها أعني الإنسان إذا عَرَجَ ظهر فيه جميعُ المراتب المذكورة مع انبساطها ويقال له الإنسان الكامل. العروج والانبساط على الوجه الأكمل كان في نبيّنا ولهذا كان خاتم الأنبياء.” (تحفة مرسلة)

ويقول مولانا الرومي رحمه الله في منظوماته الفارسية ما تعريبه: “إن النبي سُمي بـ خاتم النبيين لأنه لم ولن يكون له مثيل من ناحية إضفاء الفيوض الروحانية إلى الآخرين.”

هنا يبين الرومي الموضوع نفسه الذي بينه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود بأن سيدنا محمد يوسّع دائرة فيوضه ويفيضها إلى الآخرين.

“.. وعندما يصل الصانع الخبير ذروةً في صنعه ألا تقول له يا ترى : “خُتمت عليك الصنعة” ؟” (المثنوي لمولانا الرومي الجزء السادس)

كذلك يقول المولوي محمد قاسم النانوتوي وهو من كبار الفرقة الديوبندية التي قد عقدت العزم في هذه الأيام على تشويه مفهوم خاتم النبيين: “يكون الأنبياء بسبب إبلاغهم الأوامر نائبين لله تعالى كما يفعل الولاة وغيرهم، لذا يجب أن يكون لهم الحكم.. فكما أن الولاية أو الوزارة هي أعلى المراتب التابعة للملك، والمراتب الأخرى كلها تكون خاضعة لها. فالوالي أو الوزير يستطيع أن يتجاوز عن أوامر غيره ولا يستطيع أحد أن يتجاوز عن أوامره. والسبب أن درجات المراتب تُختم عليه. كذلك لا توجد مرتبة أو درجة في مراتب النبوة فوق مرتبة “خاتم النبيين”، بل تكون المراتب الأخرى كلها خاضعة لها.” (مباحثة شاهجهان بور ص34)

ختم النبوة أرفع من حدود الزمن

الكلام المذكور أعلاه أيضًا يتناول موضوع الكمال المعنوي أو الاختتام المعنوي ولا علاقة له بالاختتام من حيث الزمن. كذلك شرح مختلف العلماء كلمة “خاتم النبيين” بمعنى الزينة والخاتم الذي يلبس في الإصبع، وإضفاء الفيض والبركة، بمعنى أن الخاتم يُستعمل للتصديق. فكان النبي مصدقًا للفضائل كلها من هذا المنطلق. ويبين سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود هذا الموضوع كَمِنّة النبي على الأنبياء السابقين. وكما ذكرت سابقًا أن كلمة “خاتم النبيين” لا تتعلق بالزمن بل هي أرفع من حدود الزمان والمكان. يقول حضرته ما تعريبه:

“لقد صار حضرته خاتم الأنبياء، ولكن ليس بمعنى أنه لن يُستمدّ منه الفيضُ الروحاني في المستقبل، بل بمعنى أنه صاحب الخاتم، فلن توهب لأحد بركة إلا بفضل خاتَمِه . ولن يغلق باب المكالمة الإلهية ومخاطبتها على هذه الأمة إلى يوم القيامة. وليس هناك نبي صاحب الخاتم إلا هو .  وهو الوحيد الذي يمكن أن توهب بفضل خاتَمِه النبوةُ التي لا بد أن تكون من الأمة. ” (حقيقة الوحي، الخزائن الروحانية ج22، ص 29-30)

ثم يقول حضرته ما تعريبه:

“إنني أؤمن بنبيه بصدق القلب، وأعلم أن النبوات كلها قد خُتمت عليه. وشريعته خاتمة الشرائع إلا إن هناك نبوة لم تنقطع، أي النبوة التي توهب نتيجة الاقتداء الكامل به، والتي تستنير بمصباحه، فإنها لم تنقطع لأنها نبوة محمدية أي ظلُها وهي بواسطتها ومنها تستفيض.” (عين المعرفة، الخزائن الروحانية ج23 ص340)

وعلاوة على ذلك يقول سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في موضع آخر بأن الأنبياء كلهم مدينون لخاتم النبيين لأن صدقهم قد تحقق بسبب تصديقه إياهم بهذا الخاتم. ولو لم يصدق النبي الأنبياء الآخرين لما كنا من المؤمنين بصدقهم. فهذا فضل بحت من النبي أنه ما مَنَّ على الأنبياء السابقين كلهم فقط بل على الأنبياء المبعوثين في كل مكان من العالم بتصديقه إياهم. فبركة كونه خاتم النبيين تعود إلى الوراء كما تمتد إلى الأمام في آن واحد من حيث الزمان والمكان.

واسمعوا الآن قولاً آخر يبين معنى كون النبي خاتم النبيين وهو قول أحد من الأقطاب وأولياء الله الكبار حسب اعتقاد كل من الديوبنديين والبريلويين وأهل السنة وغيرهم، وهو الإمام الرباني، مجدد القرن الثاني عشر، حضرة الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المتوفى 1034هـ، يقول حضرته ما تعريبه:‎

“إن حصول المتبعين على كمالات النبوة عن طريق الاتباع والوراثة بعد بعثة النبي خاتم الرسل عليه وعلى جميع الأنبياء والرسل الصلوات والتحيات، لا ينافي كونه خاتم النبيين، فلا تكن من الممترين”. (المكتوبات: رقم301،ص432،ج1)

بعثة نبي من الأمة لا تنافي ختم النبوة

أين الآن إعلان الكتيب الحكومي القائل بأن صلحاء الأسلاف متفقون دون أي استثناء على أن كلمة خاتم النبيين لا تعني شيئا إلا أن النبي كان آخر الأنبياء من حيث الزمن ولن يأتي بعده نبي من أي نوع أبدًا. ثم اقرؤوا موقف الإمام الباقر رحمه الله إذ يقول حضرته:

“..في قول الله : فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما. جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمة، فكيف يُقرٍّون في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمد “.(الصافي، شرح أصول الكافي، الجزء الثالث ص119)

إليكم مرة أخرى ترجمة ما قاله مولانا الرومي رحمه الله في بيت شعره:

“حاول للخدمة في سبيل الحسنة لدرجة تحصل فيها على النبوة في الأمة”.(المثنوي لمولانا الرومي الدفتر الخامس، ص42 طبعة كانبور بالهند)

فماذا يفتي به الآن معاندو الأحمدية عن كل هؤلاء العلماء؟ وكيف يغضون الطرف عن تلك الأقوال كلها؟ ألم يُفتضح كذبهم حين قالوا بأن صلحاء الأمة وعلماءها جميعهم متفقون على أن كلمة “خاتم النبيين” لا تعني شيئا إلا الأخير من حيث الزمن؟ فإننا عندما نطالع أقوال الصلحاء والأقطاب بتأمّل وتأنِّ نجد الأمر على عكس ما يقوله معاندونا تماما. ومن المستحيل أن تضم اللجنة الضخمة، التي كلفتها حكومة باكستان للتحقيق في هذا الموضوع، جُهَّالا فقط لا يعرفون حتى بوجود الأقوال المذكورة. لا أشك في أنهم كانوا على علم بها ولكنهم تعمِّدوا التلبيس وقصدوا الكذب.

وفي أي معنى يعتقد سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إمكانية النبوة في الأمة المحمدية؟ إليكم موقفه معربًا من الأردية:

“لا يمكن أن ننال أبدًا أية مرتبة من مراتب الكمال والشرف والعز والقرب دون اقتداء كامل لنبينا . كل ما نحصل عليه يتم بفضله وبصورة انعكاسية”. (إزالة الأوهام، الخزائن الروحانية ج 3 ص170)

ثم يقول ما تعريبه:

“لقد منحت هذا الشرف بسبب اقتدائي الكامل لسيدنا محمد . لو لم أكن من أمته لما نلت شرف المكالمة والمخاطبة أبدا وإن كانت أعمالي مثل سائر جبال الدنيا. لأن النبوات كلها قد انقطعت ما عدا النبوة المحمدية. لا يمكن أن يأتي نبي بالشرع الجديد، ولكن يمكن أن يكون نبي بغير الشريعة بشرط أن يكون من الأمة أولا. فبناء على ذلك أنا نبي ومن الأمة أيضا”.(التجليات الإلهية، الخزائن الروحانية ج20، ص 411،412)

ثم يقول ما معناه :

“يا قليلي الفهم! ويا عديمي البصيرة! إن نبينا وسيدنا ومولانا قد سبق جميع الأنبياء من حيث بركاته الروحانية، لأن بركات الأنبياء السابقين قد انقطعت عند حد  معين. فهؤلاء الأقوام وتلك الأديان ميتة الآن لا حياة فيها، إلا أن بركات رسولنا الروحانية مستمرة إلى يوم القيامة. فليس ضروريا أن يبعث المسيح من الخارج رغم استمرار بركات النبي ، بل إن تربية شخص عادي في ظل حضرته صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تجعله مسيحا كما جعلتني أنا الضعيف”. (عين المسيحية، الخزائن الروحانية ج20، ص398)

والآن إليكم قول واحد من صلحاء الأمة الذي يعتبره الكتيب الحكومي أيضا من مفكري الإسلام. أقصد إمام الهند، مجدد القرن الثاني عشر، المتكلم العظيم والصوفي المعروف، ولي الله المحدث الدهلوي. يقول حضرته:

“امتنع أن يكون بعده نبي مستقل بالتلقي”. (الخير الكثير، مكتبة القاهرة، دار الطباعة المحمدية بالأزهر، الطبعة الأولى 1974م ص 87)

وهذا عين ما قاله سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود . وعلاوة على ذلك تنعدم بالعبارة المذكورة أعلاه إمكانية مجيء المسيح الناصري نهائيا إذ يقول حضرته بأنه لا يمكن أن يكون نبي لم يقتبس من بركات النبي مباشرة، ومن المعروف لدى الجميع عن المسيح الناصري أنه لم يقتبس من بركة النبي مباشرة كما لا يمكن له أن يفعل ذلك. فالسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو أنه عندما يأتي المسيح الناصري ، يكون درس التوراة والإنجيل سابقا لا القرآن والحديث، فهل يتخذ أحدًا من الناس أستاذا له أو يتلمذ لدى أحد من المشائخ لدراسة القرآن والحديث؟

يقول البعض ردًا على هذا السؤال: لا! بل سوف ينزل الله عليه كلامه مباشرة من جديد.. أي سينزل القرآن عليه من جديد مما نزل على محمد من قبل، كذلك ستنزل عليه الأحاديث أيضا بصورة الوحي. فإذا كان الأمر هكذا فهل يعني هذا أنه يكون حاصلا على كل هذه البركات مباشرة ومستقلا دون واسطة نبينا الأكرم ؟علما أنه كان نبيًا مستقلا في حد ذاته ولم تكن له علاقة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم. لأنه كان قد نال البركة من نبي آخر ثم بقي في السماء -حسب زعمكم- إلى ألفي سنة ثم نال النبوة مباشرة.

ثم يبين سيدنا الإمام المهدي معنى آخر لختم النبوة وهو أنه لا يمكن أن يأتي نبي بشريعة جديدة لأن ختم النبوة يعني جمع الكمالات والصفات الحسنة كلها. فإذا حازت شريعة ما الكمال ولم يبق كمال أو فضيلة خارجها فلا ينشأ سؤال شريعة جديدة إلا إذا مسخت أو حُرِّفت الشريعة الراهنة. فإذا كان القرآن مضمونًا بحفظه أيضًا فالنتيجة المنطقية والطبيعية للأمرين هي أن يحتوي على الشريعة الأخيرة، لأن الكتاب النازل على محمد بصفته خاتم النبيين قد أحاط بسائر الكمالات. وبالإضافة إلى ذلك فقد وعد الله أن حكمه سوف يمتد إلى يوم القيامة. وقال رسول الله : أنا والساعة كهاتين، وجمع بين إصبعيه .. أي لن يأتي أحد إلى يوم القيامة ينسخ شريعتي. هذا هو المفهوم الذي بينه الإمام المهدي والمسيح الموعود ، والذي يؤلم هؤلاء الناس أكثر من غيره، فيعترضون عليه تكرارا ويقولون إن الأحمديين من ناحية أننا نؤمن بكون النبي خاتم النبيين، ومن ناحية أخرى يفتحون بابًا لنبي بُعث في الأمة ويقولون إن محمدًا هو آخر الأنبياء من ناحية الشريعة، أما فيما يتعلق ببعثة الأنبياء دون شريعة فليس النبي آخرهم.

لا شك أن الجماعة الإسلامية الأحمدية تعتنق الاعتقاد المذكور، لكن اسمعوا ما يقوله الإمام المهدي والمسيح الموعود ما تعريبه:

“لقد أُعطي سيدنا محمد شرفًا خاصًا أنه خاتم النبيين بمعنى أن كمالات النبوة كلها قد خُتمت عليه.  هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لن يبعث نبي بشرع جديد أو من خارج أمته . بل كل من يتشرف بالمكالمة الإلهية إنما يتشرف بها بفضله وبواسطته صلى الله عليه وسلم ، ويدعى من الأمة وليس نبيًا مستقلا”.(تتمة عين المعرفة، الخزائن الروحانية ج 23 ص 380)

ويقول أيضا ما تعريبه:

“النبوات كلها قد انقطعت ما عدا النبوة المحمدية. لا يمكن أن يأتي نبي بالشرع الجديد. وإنما يمكن أن يكون هناك نبي دون الشريعة ويكون من الأمة أوَّلا….”. (التجليات الإلهية، الخزائن الروحانية ج20، ص412)

ثم يبين سيدنا الإمام المهدي معنى آخر لختم النبوة وهو أنه لا يمكن أن يأتي نبي بشريعة جديدة لأن ختم النبوة يعني جمع الكمالات والصفات الحسنة كلها. فإذا حازت شريعة ما الكمال ولم يبق كمال أو فضيلة خارجها فلا ينشأ سؤال شريعة جديدة إلا إذا مسخت أو حُرِّفت الشريعة الراهنة. فإذا كان القرآن مضمونًا بحفظه أيضًا فالنتيجة المنطقية والطبيعية للأمرين هي أن يحتوي على الشريعة الأخيرة، لأن الكتاب النازل على محمد بصفته خاتم النبيين قد أحاط بسائر الكمالات. وبالإضافة إلى ذلك فقد وعد الله أن حكمه سوف يمتد إلى يوم القيامة.

تأويل الجهلة

إذن هذا هو مفهوم خاتم النبيين الذي بينه سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود والذي يهاجمه الأعداء بشدة متناهية. هذا الجزء من مفهوم خاتم النبيين هو الأكثر إثارة لاعتراضهم حيث يقولون عنه إن الأمة المحمدية لم ولن تسكت عنه أبدا، وبأن الصلحاء مازالوا يكتبون ضده على الدوام ويبينون أن النبي هو آخر الأنبياء من حيث الزمن والشريعة معًا. فلا يمكن أن يبعث نبي بعده أيًا كان نوعه. هذا ما يقولونه اليوم تعصبا ولكن ماذا قال صلحاء الأمة في هذا الصدد؟ هاكم ما قاله الصوفي المعروف أبو عبد الله محمد بن علي حسين الحكيم الترمذي (المتوفى عام 308هـ):

“يُظن أن خاتم النبيين تأويله أنه آخرهم مبعثًا! فأي منقبة في هذا؟ وأي علم في هذا؟ هذا تأويل البُلْه الجهلة”.(كتاب ختم الأولياء، المكتبة الكاثوليكية، بيروت عام 1965م ص341)

هذا هو تأويل البُلْه الجهلة الذي تريد حكومة باكستان أن تفرضه على المسلمين في العالم بأسره. إذا قلنا لهم إنكم من ناحية تقولون إنه لن يبعث بعد الرسول نبي أيًا كان نوعه، فما معنى انتظاركم إذَنْ المسيح الناصري ؟ فأقلعوا عن فكرة انتظاركم إياه واستريحوا فقد سُدّت جميع السبل لمجيء أحد في هذه الأمة. فيردّون علينا: بل الأمر هو أن الرسول كان آخر الرسل مبعثًا، ومَن حصل على النبوة قبله فلا حرج في مجيئه مرة أخرى ولو كان ظهوره في الدنيا بعد النبي .

هذه هي حجتهم الوحيدة، ثم يقولون: هذا ما اعتقد به الصلحاء القدامى أيضا. ولكن قولهم هذا كذب صريح وشنيع في الوقت نفسه. ولو قبلنا هذا التأويل لكان تأويل الجهلة البُلْه إذ لا يضيف إلى عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا. وإليكم الآن ما قاله الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي (المتوفى 638هـ):

“فالنبوة سارية إلى يوم القيامة في الخلق وإن كان التشريع قد انقطع. فالتشريع جزء من أجزاء النبوة”. (الفتوحات المكية ج3 ص 159 دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة عام 1994، مكتب البحوث والدراسات)

أقول لمعارضينا: وجِّهوا الآن سهم تكفيركم إلى الشيخ الأكبر الذي يقول أيضًا:

“إن النبوة التي انقطعت بوجود الرسول إنما هي نبوة التشريع، لا مقامها، فلا شرع يكون ناسخًا لشرعه ، ولا يزيد في شرعه حكمًا آخر. وهذا معنى قوله إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي. أي لا نبي يكون على شرع يخالف شرعي، بل إذا كان، يكون تحت حكم شريعتي. ولا رسول.. أي لا رسول بعدي إلى أحد من خلق الله بشرع يدعوهم إليه. فهذا هو الذي انقطع وسُدّ بابه، لا مقام النبوة “.(الفتوحات المكية ج3 الباب الثالث والسبعون ص 4 في معرفة ما يحصل من الأسرار للمشاهد، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، مكتبة البحوث والدراسات، الطبعة 1994م)

لقد ألقى الشيخ الأكبر رحمه الله ضوء على هذه المسألة بوضوح تام ويستغرب الإنسان كيف يتعامى المعارضون عنه؟

أقول مرة أخرى: إنهم يقومون بما ينافي مقتضى التقوى نهائيا بحيث لا يمكن أن يجهلوا كل هذه الأقوال التي قدمتها الأحمدية أكثر من مرة. وعلاوة على ذلك إنهم بأنفسهم يُعتبرون من العلماء في بادي الرأي.

وبالإضافة إلى ما سبق ذكره يقول حضرة الشيخ بالي الأفندي (المتوفى 960 هـ):

“خاتم الرسل الذي لا يوجد بعده نبي مشرع”. (شرح فصوص الحكم، ص56)

من الواضح أن الشيخ لا ينكر بعثة نبي غير مشرع، وإنما ينكر مجيء نبي مشرع إذ يقول: “لا يوجد بعده نبي مشرع”. ونورد الآن مقتبسًا من كتاب “اليواقيت والجواهر” ج2ص35، للإمام الوهاب الشعراني، وكتابه هذا يحتل مكانة مرموقة في صلحاء الأمة، فيقول: “اعلم أن النبوة لم ترتفع مطلقًا بعد محمد ، إنما ارتفعت نبوّة التشريع فقط”. (اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر للإمام عبد الوهاب الشعراني، الجزء الثاني ص 35، دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت، لبنان، الطبعة الثانية عام 1900م)

ويقول السيد عبد الكريم الجيلاني:

“فانقطع حكمُ نبوة التشريع بعده وكان محمد خاتَم النبيين، لأنه جاء بالكمال ولم يجئ أحد بذلك”. (الإنسان الكامل ج1، ص76 طبعة مصر)

وقال الشيخ عبد القادر الكردستاني:

«إن معنى كونه خاتم النبيين هو أنه لا يُبعث بعده نبي آخر بشريعة أخرى». (تقريب المرام ج2 ص233)

من الواضح أن لهذا الكلام معنين: أنه لا يبعث نبي بشريعة أخرى سابقة غير شريعة محمد ولا يبعث أحد بشريعة جديدة بعد شريعة محمد . فمن هذا المنطلق يغلق باب مجيء عيسى أيضًا لأنه كان -حسب القرآن الكريم- «رسولاً إلى بني إسرائيل»، وكان تابعًا لشريعة موسى .

أين الثرى والثريا؟

يقول حضرة ولي الله المحدث الدهلوي مجدد القرن الثاني عشر:

«خُتم به النبيون.. أي لا يوجد من يأمره الله سبحانه بالتشريع على الناس». (تفهيمات إلهية، ج2،ص 72،73)

هذا رأي مجدد القرن الثاني عشر الذي يعتبره الكتيب الحكومي قمةً بين مفكري الإسلام.

ويقول المولوي محمد قاسم النانوتوي:

«العامة يرون كون رسول الله خاتَم النبيين بمعنى أن زمنه كان بعد الأنبياء السابقين وهو آخر نبي». أقول: ما يعتبره مؤلفو الكتيب الحكومي رأيَ العلماء، يقول عنه مؤسس المدرسة الفكرية ”ديوبند“ أنه رأيُ عامة الناس. أما رأي العلماء وأهل الفهم فهو -عنده- كالتالي:

“غير أنه يكون من الواضح على أهل الفهم أنه ليس للتقدم الزمني أو تأخره أيةُ أفضلية في حدّ ذاته. ففي هذه الحالة كيف يصح أن يكون قوله تعالى: ”ولكن رسول الله وخاتم النبيين“  مَدْحًا؟ إما إذا لم نعتبر الوصف المذكور مدحًا ولم نعتبر هذه المنزلة مقام القدح، عندها قد يصح أن يكون مفهوم خاتم النبيين بمعنى التأخر الزمني”.

أي لا يمكن أن يُستمَد هذا المعنى من كلمة “خاتم النبيين” دون إهانة الرسول . وذلك إذا قلتم -كما تزعمون- إن الآية المذكورة ما نزلت في محل المدح بل في محل الذم (والعياذ بالله). على أية حال يضيف حضرته ويقول:

«ولكنني أعرف أن هذا الكلام لن يروق لأحد من أهل الإسلام». (تحذير الناس ص3)

مَن هم أهل الإسلام الذين لا يروق لهم هذا الكلام؟ نحن الأحمديين أم أنتم أيها المعاندون؟ هذا الذي تعتبرونه من كبار مرشديكم وهو بالإضافة إلى ذلك مؤسس المدرسة الفكرية «ديوبند».. يقول: إن الذي يرى أن الرسول آخر الأنبياء من حيث الزمن، لا يُعد من أهل الإسلام، في حين أن الاعتقاد نفسه هو من معتقداتكم الأساسية.

وأقدم الآن رأي عالم آخر من علماء الفرقة البريلوية أو أهل السنة، اسمه السيد أبو الحسنات عبد الحي اللكنوي الفرنغي محلي، يقول في كتابه دافع الوساوس ص16، وهو يشرح موقفه من ختم النبوة فيقول:

«لا يستحيل وجودُ نبي في زمن النبي أو بعده، بل يمتنع أن يكون بشريعة جديدة».

ويقول العالِمُ نفسه: إن ما ذكرته آنفًا ليس اعتقادي أنا فحسب بل ما زال علماء أهل السنة أيضًا يصرحون بذلك. فيقول في موضع آخر:

«ما زال علماء أهل السنة يصرِّحون أنه من المستحيل أن يكون في عصر الرسول نبي بشريعة جديدة وأن نبوته نبوة عامة. فالنبي الذي يكون في عصره يكون تابعًا للشريعة المحمدية». (مجموعة الفتاوي للمولوي عبد الحي ج1 ص17)

أما فيما يتعلق بكتيب نشرته حكومة باكستان بعنوان: “القاديانية، الخطر الرهيب على الإسلام”، فمن التصريحات الواردة فيه قولهم:

«ما زالت فكرة “ختم النبوة” (أي كون النبي آخِرَ الأنبياء زمنًا حسب زعمهم) من مبادئ الإسلام الأساسية عبر تاريخ الإسلام كله. وكان طابع هذه الفكرة عميقًا جدًا في رؤية المسلمين وتصرفاتهم ومشاعرهم». (الكتيب المذكور ص5)

السؤال هو أنه فيما يتعلق بدراسة التاريخ الإسلامي فلا نجد ذكر هذه الفكرة وآثارها كما لا نرى لهذا الطابع أثرًا على صلحاء الأمة والأقطاب الذين احتلوا مكانة مرموقة في الأمة. إذن فمن أين أخذ معاندونا هذا الطابع؟ بحثتُ كثيرًا عن مصدره -رغم أنني كنت على يقين أنهم لم يأخذوه من صلحاء الأمة المحمدية- حتى وجدتُ أن القرآن قد بيّن مصدره مسبقًا حيث، يخبر الله في كلامه المجيد:

وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (غافر: 35،36)

فتبيّن لي من القرآن أن الله تعالى يطبع على قلوب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان. إذن هذا هو مصدر طابعهم المذكور. يقول تعالى: هذا ما فعلتم زمن يوسف أيضًا. ما دام يوسف حيًّا يرزق ظل يقدم حججه، ولكنكم ما أصغيتم إليه بل بذلتم قصارى جهودكم في المعارضة، وإذا هلك قلتم: لن يبعث الله بعده رسولاً. وهكذا خرجتم من طاعة يوسف بسبب رفضكم إياه، ومن ناحية ثانية خلعتم نير طاعة النبوة على الدوام بسبب اعتقادكم أنه لن يبعث الله رسولاً في المستقبل. إذن فهذا الاعتقاد الخاطئ كان سائدًا منذ زمن سيدنا يوسف وليس بدعًا في الأمة المحمدية.

“إن النبوة التي انقطعت بوجود الرسول إنما هي نبوة التشريع، لا مقامها، فلا شرع يكون ناسخًا لشرعه ، ولا يزيد في شرعه حكمًا آخر. وهذا معنى قوله إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي. أي لا نبي يكون على شرع يخالف شرعي، بل إذا كان، يكون تحت حكم شريعتي. ولا رسول.. أي لا رسول بعدي إلى أحد من خلق الله بشرع يدعوهم إليه. فهذا هو الذي انقطع وسُدّ بابه، لا مقام النبوة “

من الممكن أن يقولوا بأن القانون كان سائدًا إلى زمن النبي ثم جاء بعده قانون جديد. ولكن القرآن الكريم يسد طريق كل خطر فلا يسع أحدا أن يتغلب عليه بفضل قوته وعقليته المعقدة. فيبيّن الله تعالى الموضوع في آية أخرى حيث يقول:

.. وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (الجن: 5-8)

يتضح من هذه الآيات أنهم كانوا يزعمون في تلك الأيام -أيام الرسول – أيضًا حمقًا وغباوة منهم أن لن يبعث الله أحدًا. ولكن في زمننا هذا يقول معارضونا إن سنة الله قد تغيرت فعلاً، والآن لن يُبعث أحد في الحقيقة. أقول إذا كان الأمر هكذا فلماذا ضرب الله مَثَلَ غباوةِ هؤلاء الناس وحمقِهم، ولأي سبب بيّن ذلك لنبيه ؟

Share via
تابعونا على الفايس بوك