غاية إقامة البيت الحرام

غاية إقامة البيت الحرام

التحرير

بعد أن رفع سيدنا إبراهيم القواعد من البيت هو وإسماعيل عليهما السلام، والبيت الحرام كان مثابة للناس وأمنا. وأذَّن إبراهيم في الناس بالحج فأتوه رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم. وكان انجذاب العرب إلى هذا البيت انجذابًا عجيبًا. فكانوا يتكبدون مشاق السفر إلى مكة ليطوَّفوا بالبيت العتيق. وإن كانت صلاتهم في تلك الأيام ليست سوى مكاءً وتصديةً، وإن كانوا قد دنسوا البيت برجس الأوثان، إلا أنهم كانوا يظنون أنهم بذلك يتقربون الى الله زلفى. وكانوا يعظمون البيت الحرام تعظيمًا شديدًا، فلا يقتتلون فيه، وكان أمنًا وأمانًا لهم جميعًا. كل ذلك كان من بقية ما ترك إبراهيم ، ومن يرغب عن ملَّة إبراهيم إلا من سفه نفسه. ولقد كان تقديس هذا البيت قاسمًا مشتركًا بين العرب الذين مزقتهم الغزوات والحروب الأهلية. فكانوا يعقدون صلحهم ومعاهداتهم فيما بينهم فيه. وكانوا يرونه مناط العز والفخر وكل ما هو نفيس، فلقد كان أن علقوا سبعًا أو عشرًا من أجمل قصائد قالها العرب على جدار الكعبة تشريفًا لهذه القصائد ولقائليها. وكانت أفخاذ قريش تتنافس على سقاية الحجيج ورفادتهم، وإن كان في ذلك مغرمًا عظيمًا، إلا أنهم كانوا يَرَوْن أن الشرف الذي يحوزونه من ذلك لا تعدله هذه الاعباء والتكاليف المادية. ولقد كانت إرادة الله التي أرسلت ابراهيم ليضع طفله وزوجه في ذلك الوادي غير ذي الزرع، ليعيد لاحقًا بناء البيت مع ابنه إسماعيل، وليبعث بعد ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم. فكان ظهور المصطفى بالقرب من هذا البيت مؤشرًا إلى أن الله يريد أن يوحد العرب ومن ثم الناس أجمعين في توجههم إليه. وليذكِّر الناس لاحقًا بأنني أنا ربكم الواحد وأنتم أمامي جميعًا سواسية. ولقد خلقتكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا. لا فضل لجنس على جنس ولا لعرق على عرق ولا لأحد على أحد إلا بالتقوى التي انا أعلّمها وأنا أقيمها. فلا تزكوا أنفسكم فالله يزكي من يشاء. وميزان التقوى بيد الله وحده سبحانه، وليس بيد أحد آخر. فهو الذي يحكم بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون. ولقد طهر المصطفى صلى الله عليه وسلم البيت الحرام من رجس الأوثان وأعلن ظهور الحق وزهوق الباطل. وأعلن أن هذا البيت هو لمن يعبد الله الواحد ويدين بدينه الواحد، ولا مكان لآلهة من دون الله فيه. فهو بيت الله الوحيد وكل المساجد التي هي جميعًا لله وحده، تستقبله وتتوجه إليه من كل أنحاء الأرض. ولولا هذه الحكمة لجعل الله لكل أمة وشعب بيتًا خاصًّا بهم.

ولقد وقف المصطفى صلى الله عليه وسلم وخطب مقتبسًا كلمات الله قائلاً

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ،

وقال فيما قال

” كلكم لآدم وآدم من تراب ، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى”.

خطب مخاطبًا الناس إلى يوم الدين، معلنًا غاية إقامة هذا البيت الذي هو أول بيت وضع للناس، وغاية بعثته صلى الله عليه وسلم بدين الله للناس أجمعين. مؤكدًا أن هذا البيت ينبغي أن يذكّر المسلمين من كل الشعوب بتوجههم إلى إلههم الواحد، ويذكرهم باتباعهم لنبيهم الواحد خاتم النبين. ويؤكد أنه عليكم أن تستذكروا مهما تناءت بكم الديار والأهواء، ومزقتكم الفتن، ومها تفرقتهم وأصبحتم شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، أن إلهكم واحد، ونبيكم واحد ودينكم واحد، فلا تظلموا أنفسكم. ووسعوا صدوركم كما اتسع هذا البيت لكم بكل فرقكم وطوائفكم. ولا تصدوا بعضكم بعضًا عنه فهو لكم جميعًا، لأنه بيت الله الذي هو ربكم جميعًا. هذا البيت ينبغي أن يوحد توجهاتكم، ويذكركم بضرورة العمل لمصلحة الأمة بمجملها، ففيه يجب أن تنسوا خلافاتكم وتبحثوا عن عناصر وحدتكم. وكما هو معلوم فإن هذا البيت الذي هو قبلة المسلمين في صلاتهم، لا بد لمن استطاع إلى هذا البيت سبيلاً أن يتوجه إليه حاجًّا، وإلا فإنه يهدم ركنًا من أركان الإسلام في نفسه. وفي ذلك تذكير لكل المسلمين أنه مهما تعددت فرقهم وطوائفهم واختلفت اجتهاداتهم فينبغي أن يستذكروا أنهم لا يستطيعون أن ينحرفوا عن المبادئ الاساسية في الاسلام. فمن لم يستقبل قبلة المسلمين فليس منهم، ومن انحرفت به الأهواء والأفكار ولم يعظم هذا البيت ولم يستقبل تلك القبلة فليعلم انه قد انحرف عن الإسلام ولم يعد من المسلمين. أما من استقبل تلك القبلة وسعى ليحج هذا البيت فهو من المسلمين، ولا يحق لاحد ولا لفرقة أو طائفة أن تخرجه من الإسلام ما دام على هذا المنوال. وأما فصل أمره وتقوى قلبه فهو لله وحده الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

إن من بعض حِكَم إقامة البيت الحرام وفرض فريضة الحج هو أن يتسامح المسلمون فيما بينهم، وأن يتقبلوا بعضهم بعضًا على اختلافاتهم. وأن يتركوا تلك الخلافات جانبًا في هذا الموسم، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج. فينبغي أن يبحثوا عن عناصر توحيدهم في هذا الموسم، وأن لا ينغمسوا في الخلافات والجدل بينهم على مدار العام كله. فعسى إن سمع المسلم أخاه المسلم يلبي “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”، عسى أن يتسع صدره ويبادر ليحتضن أخاه، وعسى أن يشعر بالمحبة في الله في بيت الله. فهذا أخي يقول ما أقول، وأطوف أنا وهو حول الكعبة سويًا، وتتزاحم أقدامنا في سعينا بين الصفا والمروة، وترتفع أكفنا ضارعة إلى الله في عرفات أن ينصر أمتنا، ويعلي كلمته، ويحق الحق ويبطل الباطل ويقطع دابر الكافرين. وعسى أن تتسع صدور المسلمين ليستمعوا إلى بعضهم بعضًا، ويتبعون أحسن القول ولا يتبعون الهوى وما وجدوا آباءهم عليه وهم على آثارهم مقتدون. وأن يدركوا أنه ينبغي أن يكون مسعاهم في الدفاع عن آرائهم مسعى قويمًا منبعثًا من التقوى. وأن لا يظنوا أنه باستطاعتهم أن يقولوا ما لا يرضى الله من القول، وأن يفعلوا ما بدا لهم بغيرهم، من منطلق أنهم يدافعون عن دين الله. فالله أعلم بمن ضَلَّ عن سبيله ومن اهتدى. وهو الذي بيده الحساب وهو الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. فعلى المسلمين بكل فرقهم أن يتقوا الله في أنفسهم ولا يهتموا بما يعتقد به غيرهم من إخوانهم، فلا يضرهم من ضَل إذا كانوا هم من المهتدين. وعليهم أن يدعوا غيرهم إلى ما يرونه أنه الحق بالحكمة والموعظة الحسنة. فَلَو شاء الله لهدى الناس جميعًا، ولو شاء لنزَّل آية من السماء فظلت أعناقهم لها خاضعين. فينبغي ألا يكونوا من الجاهلين، فإن نصر الله آت وهو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين. فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا تتبعوا سبيل الظالمين، واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا، وتقبلوا اختلافاتهم ففيها رحمة من رب العالمين. ولتكن التقوى سبيلكم في كل شيء ولا تتبعوا سبيل قوم ضلوا وأَضَلُّوا كثيرًا فتنقلبوا على أعقابكم خاسرين. وعظموا شعائر الله فإن ذلك من تقوى القلوب، وكونوا قوامين بالقسط ولو على أنفسكم، فإنما يتقبل الله من المحسنين، واصبروا على أنفسكم واعفوا واصفحوا، واستحقوا الخيرات حيثما تكونوا يأتِ بكم الله جميعًا، فطوبى لمن لاقى الله بقلب سليم، والحمد لله رب العالمين .

Share via
تابعونا على الفايس بوك