في رحاب القرآن
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيـمُونَ الصَّـلاةَ وَمِمَّا رَزَقْـنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (البقرة : 4)

 شرح الكلمات:

يؤمنون: آمنَه إيمانا: أمَّنه. آمنَ به: صدَّقه ووثق به. آمنَ له: خضع له وانقاد. والإيمان التصديق. (الأقرب)

الإيمان يتعدى بنفسه كصَدَّقَ، وباللام، باعتبار معنى الإذعان، وبالباء، باعتبار معنى الاعتراف، إشارةً إلى أن التصديق لا يُعتبر بدون اعتراف. (تاج العروس)

فكلمة يُؤْمِنُونَ تدل على ثلاثة معان: التصديق والاعتراف واليقين الراسخ.

الغيب: ورد في المفردات: “الغيبُ مصدرُ غابت الشمس وغيرُها: إذا استترت عن العين… واستُعمل في كل غائب عن الحاسّة، وعما يغيب عن علم الإنسان، بمعنى الغائب… والغيبُ في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ما لا يقع تحت الحواسّ، ولا تقتضيه بداية العقول.”

وورد في لسان العرب: “قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، أي يؤمنون بما غاب عنهم… والغيبُ أيضًا ما غاب عن العيون وإنْ كان مُحصَّلا في القلوب أو غير محصل… وكلُّ مكان لا يدرى ما فيه فهو غيبٌ، وكذلك الموضعُ الذي لا يُدرى ما وراءه… وغابَ الرجل غيبًا: سافرَ أو بان.”

فالمراد- من قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ :

أنهم (1) يوقنون ويعترفون ويصدقون بكل ما هو موجود وإن كان لا يُرى بالعيون المادية وتتقاصر الحواس الظاهرة عن إدراكه، ولكنه داخل في الإيمانيات.

(2) و أنهم يعتقدون اعتقادا جازما بما سيحدث بعد هذه الحياة.

(3) ويمكن أن يراد به أنهم يؤمنون في حالة الغياب، أي وقت انفرادهم أيضًا، وليسوا ذوي وجهين كالمنافقين.

يقيمون: قام يقوم قياما: انتصب ضدُّ قعَد. قام الأمرُ: اعتدل. قام على الأمر: دام وثبت. قامت السوق: نفقت. قام الحق: ظهر وثبت. وأقام الصلاة: أدام فِعْلَها. أقام للصلاة: نادى لها. وأقام الله السوق: جعَلها نافقة. (الأقرب)

وورد في المفردات: “قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة ، أي يديمون فِعْلَها ويحافظون عليها.”

وورد فيه أيضًا: “إنما خصّ لفظ الإقامة تنبيها أنّ المقصود من فعلها توفية حقوقها وشرائطها ، لا الإتيان بهيئتها فقط”.

وورد في لسان العرب: القيام: العزم.

الصلاة: فَعْلَةٌ مِن صَلَّى، والألف منقلبة من الواو. وصلّى (يصلّي): دعا. والصلاة: عبادة فيها ركوع وسجود، ولها معاني أخرى تشير إلى حقائق، ومنها: الرحمة؛ الدين؛ الاستغفار؛ الدعاء. والصلاة من الله الرحمةُ، ومن الملائكة الاستغفارُ، ومن المؤمنين الدعاءُ، ومن الطير والهوامِ التسبيحُ، وهي لا تكون إلا في الخير بخلاف الدعاء، فإنه يكون في الخير والشر. والصلاة حسنُ الثناء من الله على الرسول . (الأقرب)

والصلاة التعظيم والبركة. (التاج)

ويسمى موضعُ العبادة الصلاة. (المفردات)

فيعني قوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة أنهم:

  1. يصلّون جماعةً،
  2. يؤدّون الصلاة وفقًا لشروطها ومواقيتها،
  3. يعمرون المساجد بحثّ الناس على الصلاة،
  4. يخلقون في قلوب الناس حبَّ الصلاة والرغبةَ فيها،
  5. يداومون عليها دون انقطاع،
  6. يحمون الصلاة من الانهيار والسقوط ويحافظون عليها.

رزَقْناهم: الرزق: العطاء. رُزقتُ علمًا: أُعطيتُه. والرزق: النصيب، قال تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون . (المفردات)

والرزق ما يُنتفع به. ورزَقه الله يرزق رزقًا: أوصلَه إليه. (الأقرب)

ينفقون: أنفق مالَه: صرَفه وأنفَدَه. أنفق التاجرُ: نفقتْ تجارته. وأنفق السلعةَ: رَوَّجَها. ونفقت المرأة أو السلعة: أي كثُر طلّابها وخطّابها. النافق: خلاف الكاسد (الأقرب). أي المال الذي يشتريه الناس فور وصوله إلى السوق.

فالإنفاق يدل على إخراج الشيء وترويجه بدون انقطاع.

التفسير:

وكما ذكرنا عند شرح الكلمات أن الإيمان يعني اليقين والطاعة، والذي ليس عنده يقين وطاعة لا يسمى مؤمنا بل منافقا، كما قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (البقرة:9)، كما يتضح من القرآن الكريم أن من ليس عنده يقين ولا طاعة فليس بمؤمن بل كافر. قال الله تعالى وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا (النمل:15).

بيد أن قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لا يعني أبدا أنهم يصدقون تصديقا أعمى. هذا المفهوم غير سليم لغويا، كما أن القرآن لا يدعمه، لأنه قد ندّد بالذين يؤمنون من دون دليل؛ إذ قال

إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ (النجم:24).

وواضح من هذه الآية أن القرآن الكريم يندد بأعداء الإسلام بأنهم يرضون بما لا يدل عليه أي كتاب سماوي ولا عقل سليم، وإنما يتبعون أهواءهم وأوهامهم.

إذن، ما دام الله تعالى لا يقبل أن يصدق الإنسان أوهامه فكيف يمكن أن يأمر المسلمين في أول القرآن بأمور لا دليل عليها، ويعتبر هذا الإيمان من تقوى القلوب؟

تؤكد آيات عديدة في القرآن الكريم على وجوب أن يكون الإيمان ثابتا على قواعد من الأدلة والبراهين، لا على الوهم والظنّ. قال الله تعالى

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (الأحقاف: 5).

والمراد من قوله تعالى اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ، أي إذا كنتم صادقين فعليكم أن تقدموا دليلا على ما أنتم عليه من كتاب سماوي قبل القرآن، أو تأتوا بحجة علمية ذكرها لكم آباؤكم، أي أن كل الأمور الوثنية لا تثبت من أي كتاب سماوي ولا بأي دليل علمي معقول. فكيف يجوز الإيمان بهذه الأمور الشركية؟

كذلك قال الله تعالى

أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (الروم: 36)،

أي هل أنزل الله تعالى أي دليل على جواز الإشراك به؟ وما دام الأمر ليس كذلك فكيف يرضون بأمر لا دليل عليه؟

كما قال الله تعالى

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (الأنعام: 149-150)،

والمراد من قوله تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ، أي قل يا محمد إن الله تعالى إنما يدعو العباد للإيمان بما يكون ثابتا بالأدلة والبراهين، فالأمر الذي ليس ثابتا بالبراهين لا يمكن أن يكون من عند الله تعالى.

وكذلك يقول الله تعالى عن المؤمنين

وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (الفرقان:74)،

أي أنهم لا يؤمنون بآيات ربهم إيمانا أعمى، بل يؤمنون بالتدبر فيها ومعرفة أدلتها.

ثم يقول الله تعالى

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف: 109)،

أي قل يا محمد للمنكرين هذه سبيلي التي أتبعها، إنني أدعو أنا ومن اتبعني إلى الله تعالى، ولكنا لا نؤمن من دون دليل، بل إن إيماننا متأسس على التفكير والأدلة القاطعة الخالية من أي شبهة أو شك. ويتضح من المعنى الذي استعمل به القرآن الكريم لفظ الغيب أنه لا يراد به الأوهام، إذ يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (الحجرات: 19). فالغيب هنا استعمل بمعنى الحقيقة؛ ذلك لأن الغيب لو كان بمعنى الوهم أو الأمر الذي لا دليل عليه لكان معنى الآية أن الله يعلم الأمور الوهمية التي لا دليل عليها، وهذا المعنى باطل بداهةً.

وكذلك يقول الله تعالى ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (السجدة: 7)، أي أن الله هو عالم الغائب والظاهر، فالغيب هنا قد استُخدم للأمور اليقينية المستترة عن الأنظار.

وكذلك يقول الله تعالى وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ… (الأنعام: 60).

هذه الآية تؤكد أيضا أن الغيب لا يعني الأوهام، بل يُطلق على كل الكنوز الخفية عن أعين الناس، ولكن الله تعالى يعلمها.

باختصار، إن قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لا يعني أن المتقين قوم يصدقون ما يقوله القرآن من دون دليل، لأن هذا المفهوم مخالف لآيات قرآنية أخرى.

كتب القسيس “ويري” في تفسيره لهذه الآية أن المسلمين إذا كانوا قد آمنوا بأسرار كتابهم، فلماذا إذن ينكرون أسرار الكتب السابقة مثل الكفارة والثالوث؟ وواضح أن وسوسته هذه ناشئة عن جهله بمعنى قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ . فالقرآن لا يأمر بالتمسك بشيء لا يدعمه دليل، بل يندد بما في الأديان الأخرى من معتقدات لا تستند إلى دليل، ويشهد أن محمدا وأتباعه لا يصدقون شيئا إلا بالدليل والبرهان.

الحق أن إنكار المسلمين للكفارة والثالوث ليس لأنها سرّ، كما يزعم القسيس (ويري)، بل لأنها أمور لا ينهض عليها دليل، بل هي مخالفة للعقل. ولو كان هناك برهان عليها لما أنكرها المسلمون.

فما هو معنى قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إذن؟ فالجواب: لقد بينا عند شرح الكلمات عن الغيب أنه ما لا تدركه الحواس الظاهرة، وإنما يحتاج إدراكه إلى الأدلة العقلية والتجريبية. وواضح أن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تعتبر مما لا برهان عليه، فإننا نؤمن بكثير من الأشياء المادية مع أنها لا تُدرك بالحواس الخمس، مثل: الذاكرة الإنسانية، الحياء، الجرأة، الحب، الكراهية، العقل، الفكر، فمن ذا الذي يدرك هذه الحقائق بالحواس الخمس، فهل ننكر وجودها لأنها لا تُدرك بالحواس؟ وهناك أخلاق عديدة لا تدرك بالحواس ولكننا نصدق بها، كالعفو الذي يزيل الحقد من القلوب، وحسن المعاملة التي تؤلف بين القلوب، يعترف بها العالم أجمع، ولكنها أمور غير ملموسة. الأم تتفانى في سبيل وليدها مع أنها لا تعرف فيما إذا كانت هذه التضحية ستأتيها بالمسرة والخير أم تسفر عن الألم والشقاء، ومع ذلك لا تنفكّ تسهر على ولدها. والمعلم الذي يُدرّس الطلاب لا يعرف ما إذا كان جهده يوصل الطلبة إلى درجات عليا أم لا، ولكنه يواصل عمله ولا يتوقف عنه. والدول تبذل كل ما في وسعها لإصلاح البلاد، ولا تدري كيف تظهر نتائجها ومتى، ولكنها تستمر في محاولتها معتمدة على أمل مقبل أو تجربة سابقة. والجنود يدخلون الحرب وهم لا يعرفون عاقبتها، ومع ذلك يضحّون بحياتهم دفاعا عن أرض الوطن. أليست هذه الأمور كلها دليلاً بيّنًا على الإيمان بالغيب؟

ملخص الكلام أن الإيمان بالغيب يعني:

1: تصديق جميع الحقائق التي لا تُدرَك بالحواس الخمس، ولكنها تُدرَك بوسائل أخرى، مثل ذات الله تعالى، فهو لا يُدرَك بالحواس الخمس، بل هناك براهين أخرى لمعرفته، وهي أدلة يقينية لا تقلّ وثوقًا عن الإدراك بالحواس الظاهرة، بل هي أوثق منها وأقوى، منها ما يتلقاه المؤمنون من كلام الله ويسمعونه، ومنها الأنباء الغيبية التي يرونها تتحقق بكل وضوح، ومنها قدراته الجبّارة العظيمة التي يرى المؤمنون تجلياتها في نفوسهم وفي سائر الكون. ومع ذلك فإن ذات الله تعالى هي وراء الوراء، ولا تُدرَك بالحواس الخمس.

والإيمان بالملائكة أيضًا من الإيمان بالغيب. فهي لا تُرى بالبصر الظاهري أو الحواس الأخرى، ومع ذلك فإن وجودها ليس وهما، بل هناك براهين قاطعة على وجودها مذكورة في مختلف آيات القرآن الكريم.

ولا يأمر القرآن الكريم بها من دون دليل، بل يسوق عليها أدلة قوية سوف نذكرها لاحقا في محلها.

2: ومن معاني قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أن المتقين لا يكتفون بالأعمال ذات النتائج العاجلة، شأن التاجر الذي لا يتعامل إلا نقدا، بل تكون حياتهم ذات طابع أخلاقي؛ فهم يؤمنون بقوة الأخلاق وثمراتها الطيبة، وإنْ تأخر عائدها. إنهم لا يتصرفون بالعقلية التجارية الفورية، وإنما يقومون بتضحيات تنهض بقومهم وبسائر العالم. وعلى سبيل المثال إن القيام بالجهاد لإرساء الأمن في العالم هو نتيجة الإيمان بالغيب، وإلا مَن ذا الذي يدري أنه سيعيش بعد الحرب وتكون عاقبته حسنة؟ فالجندي عندما يتوجه إلى المعركة لهدف سام إنما يؤكد إيمانه بالغيب، ويدرك أنه لو نجح في تحقيق هذا الهدف فنعمّا هي، أما إذا مات في هذا السبيل فأيضا تكون النتيجة خيرا لصالح الحق.

والواقع أن المنجزات العظمى لا تتحقق إلا بالإيمان بالغيب. فالجهود التعليمية، وأعمال البر، ومساعدة الفقراء، والتضحيات لأجل بناء الوطن والنهوض بالفقراء وتنظيم البلاد، كلها أنواع مختلفة من الإيمان بالغيب، ولو لم يؤمن الإنسان بالنتائج الطيبة لأعماله المستترة عن أنظاره لما استطاع تقديم هذه التضحيات أبدا. فوصفُ القرآن للمتقين بأنهم يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يشير إلى أن المتقي مع إيمانه بالعقائد الأساسية، فإنه يتمتع بجرأة عظيمة لتقديم التضحيات الأخلاقية، فيترفع عن العقلية التجارية، ولا يتشبث بالثمرات العاجلة، بل إذا أيقن أن ما يطالَب به هو عمل حسن وخير، فيبذل في سبيله كل ما أوتي من قوة مهما كانت الظروف غير مواتية، مؤمنًا بأن عاقبة العمل الخير ستكون خيرًا، وغيرَ مكترثٍ ما إذا كان سيرى ثمار جهوده أم لا.

فمَن لم يكن متعصبا إذا تدبر في الأمر أدرك أن هذا المفهوم للإيمان بالغيب يبلغ من الأهمية بحيث إن القرآن الكريم قد وضع بذلك الأساس للتضحيات لكل نوع من الرقي سواء الفردي أو القومي وللإنسانية جمعاء. إن الإيمان بالغيب هو الذي جعل أصحاب رسول الله يقومون بالتضحيات الجسيمة التي غيَّرت وجه الجزيرة العربية، وحولت مجرى التاريخ العالمي. ولو لم يكونوا مترفعين عن العقلية التجارية وغير مؤمنين بالغيب لما قاموا بتلك الأعمال الخالدة.

هذا المعنى الذي بيناه آنفا هو متعلق بالمتقين المؤمنين بالغيب من الطراز الأول، ولكن هناك معنى آخر يتعلق بالمتقين الأقل درجة، وهو أن أدنى درجات التقوى هي أن يكون الإنسان مؤمنا بالغيب، أي أن يؤمن بالله تعالى والملائكة والبعث بعد الموت بالأدلة العقلية، وإن لم يكن قد بلغ درجةً يرى فيها ربه بحواسه الروحانية. وهذه الدرجة من التقوى أساسها الأدلة وليست المشاهدة والتجربة. ويقول الله في القرآن الكريم لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (البقرة:287)، فالذي لم يبلغ بعد الدرجة العالية من التقوى ولم يتيسر له إيمان بالأمور الغيبية التي هي يقينية وقطعية ولكنها أسمى من إدراك الإنسان، ولا يكون إيمانه قد بلغ درجة المشاهدة والتجربة، فإن الله تعالى لا يطالبه أكثر مما يستطيع، ولا يقول له بأنه ما لم يتيسر لك الإيمان بالغيب من خلال المشاهدة والتجربة فلن تُعتبر مؤمنا متقيا، وإنما يطالب فقط أن يؤمن بالأمور الغيبية بالتدبر في الأدلة والبراهين التي هيأها الله تعالى لتعين على الإيمان بالغيب. وهذا يكفيه لبلوغه الدرجة العالية من التقوى.

فانظر كم هو رائع هذا التعليم الذي يسدّ حاجة السالكين ذوي الدرجات المختلفة من الإيمان، ومثل هذا التعليم هو الذي يمكن أن يقال عنه إنه نزل من الله تعالى. وهذه الدرجة الأدنى من التقوى كافية لنجاة الإنسان. بيد أنه عندما يرتقي فإنه يبلغ درجة من الإيمان بالغيب بحيث تتجلى له الأمور الغيبية عيانًا، وقد أشار النبي إلى هذا الفرق في حديث له فقال: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (مسلم، كتاب الإيمان). ومن معاني الغيب الغائبُ، وعليه فقوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني عندما يكون الإنسان غائبا عن الآخرين، أي مستترا عن أعينهم، فالمتقي يراعي تعاليم دينه وآداب عقيدته أمام الناس، ويستمسك بها وهو بعيد عن عيونهم؛ فهو لا يتظاهر بالإيمان أمام قومه وينسى إيمانه في غيبته عنهم. والقرآن يشيد بالمؤمن بالغيب فيقول: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ (الأنبياء:50). ويقول أيضًا:

وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ (الحديد:26)،

أي أن الله تعالى يهيئ أسباب الحرب والقتال ليتبين للناس من ينصر اللهَ ورسلَه من الصميم ولا يكتفي بالكلام.

وكذلك يقول على لسان يوسف: أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ (يوسف:53)، أي أنني لم أخُن سيدي في غيابه.

لقد نبّه الله بهذا المعنى أولئك القوم الذين إذا سمعوا خطابا أو حضروا مجلسا تحمّسوا، ولكنهم إذا انفردوا ضعف إيمانهم. الحق أن لا حقيقة لإيمانهم، ومثلهم كمثل الخراف، يتبعون آراء الآخرين، ولا دين لهم في الواقع. يحذر الله مثل هؤلاء، لأن مثل هذا الإيمان لا قيمة له، وإنما الإيمان هو الإيمان الذاتي الذي لا يثور برؤية حماس الآخرين. أما مَن ليس عنده إيمان ذاتي، ويخمد حماسه إذا ما ابتعد عن صحبة قومه وجماعته وأصحاب المواعظ الحماسية فلا يمكن أن يسمى متقيا، لأن إيمانه ليس ذاتيا، إنما استعارَه من الآخرين مؤقتا. ويقول الله تعالى عن مثل هؤلاء: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (البقرة: 15)، أي أن مِن الناس مَن إذا حضروا مجالس المؤمنين واستمعوا لكلامهم ورأوا إيمانهم ويقينهم تأثروا منهم وقالوا: نحن أيضا مؤمنون، ولكنهم إذا انفصلوا عنهم وحضروا مجالس أعداء الإسلام وافقوهم الرأي. ويقولون متأثرين بأفكارهم: نحن نؤمن بما تؤمنون به. أما ما قلناه للمؤمنين فمجرد استهزاء. ومثل هؤلاء لا إيمان لهم ولا مبدأ.

فقوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يبين أن المتقي إنما هو مَن لا يدّعي الإيمان بلسانه فحسب، بل يصدق الحق بقلبه من الصميم أيضا. وعندما يبتعد عن صحبة المؤمنين كأنْ يسافر إلى بلاد الآخرين، أو أن يذهب إلى مجالسهم حيث لا يجد هناك أهل ملته، فلا يتزعزع إيمانه ولا يضعف، لأنه لا يكون مقلدا لغيره، بل يكون إيمانه راسخا على الثقة واليقين. وفي هذا درس عظيم للطلبة المسلمين الذين يلتحقون بكليات أهل الأديان الأخرى، أو يسافرون للدراسة في البلدان الأخرى، فعليهم أن يفحصوا إيمانهم، فإذا كان يضعف عند ابتعادهم عن مجتمع المؤمنين فليدركوا أنهم لم يؤمنوا بدينهم عن دراسة ووعي، وأن إيمانهم ليس إيمانًا ذاتيا، بل هو صدى لمجتمعهم.

الخلاصة أن قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب يبين أن القرآن الكريم يسمو بالمتقين التالية صفاتهم إلى أعلى درجات الروحانية والهدى، فهو:

1: يرشد المتقين الذين يؤمنون بالعقائد الروحانية بعد انكشاف صدقها عليهم بالبراهين إيمانًا كاملا، وإنْ لم يكن إيمانهم قد تقوَّى بعدُ من خلال الخبرة والمشاهدة الذاتية.

2: يرشد أيضا المتقين الذين لا يشوب إيمانهم النفاق وتتطابق قلوبهم وألسنتهم وأعمالهم إلى درجات عليا من الهدى.

3: يرشد المتقين الذين لا يكون إيمانهم مجرد تقليد للقوم، بل يكون إيمانا ذاتيا، فليسوا من الذين يؤمنون إذا كانوا مع المؤمنين، ويكفرون إذا كانوا مع الكافرين، بل لا يتزلزل إيمانهم ولا ينحرف سلوكهم ولو عاشوا بين مجتمع مخالف وقوم معارضين.

4: يرشد المتقين الذين يوقنون يقينا كاملا بالحقائق التي لا تدرك بالحواس الظاهرة ولكنها ثابتة بالأدلة والبراهين الأخرى، ويوصلون إيمانهم إلى درجة الكمال من خلال التجربة والمشاهدة.

5: يرشد المتقين الذين يترفعون عن العقلية التجارية مؤْثرين العواقب الخلقية والدينية، وموقنين بنتائج التضحيات التي لا تبدو في الظاهر مثمرة، ولكن الرقي القومي والديني يتطلبها. ويضحون بمصالحهم الشخصية لصالح الأمة.

فالمتقون الذين يتحلون بهذه الصفات أو بعضها يستحقون أعلى درجات الهدى التي يعد بها القرآن الكريم. وبالفعل ينالون هذا الهدى.

أما قوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة . فقد سبق أن ذكرنا أن من معاني إقامة الصلاة:

1: المثابرة عليها. فالقيام على الأمر هو المداومة عليه، فقوله وَيُقِيمُونَ الصَّلاة يعني أنهم يستمرون فيها ولا يتركونها ولا مرة واحدة. لأن الصلاة التي يتخللها انقطاع فلا يعتبرها الإسلام عبادة، لأن الصلاة ليست من الأعمال المؤقتة، بل إنها لا تكتمل إلا إذا أداها المرء بعد توبته أو بعد بلوغه، ولا يتخللها انقطاع حتى مماته. فالذين يتركون بعض الصلوات فصلواتهم مردودة، فمن واجب المسلم أنه إذا وصل سن البلوغ أو إذا وفقه الله للتوبة ألا يتركها ولا مرة بعد ذلك؛ لأن الصلاة بمنزلة زيارة الله تعالى. ومَن أعرض عن زيارة حبيبه شهد على نفسه أن دعوى حبه باطلة أو زائفة.

2: ومن معاني الإقامة التعديل والتسوية، وعليه فقوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة يعني أن المتقين يؤدون الصلاة مع شروطها الظاهرة، ولا يخالفون ما وُضع لها من قواعد. فإذا كانوا بصحة جيدة وكان الماء ميسرا يتوضؤون للصلاة، مراعين ما وضعه الشرع للوضوء من شروط. ويصلون الصلاة في مواقيتها، ويحسنون ما في الصلاة من قيام وركوع وسجود وقعود.

ويقومون بالتلاوة وبالأدعية وغيرها من العبارات في مواضعها وعلى أحسن وجه.

باختصار، إنهم يوفون بكل الشروط الظاهرة للصلاة، ويؤدونها على أفضل وجه.

وليكن معلوما أن الشرع يأمر بأداء الصلاة بشروطها، ولكن هذا لا يعني أنه إذا كان هناك اضطرار ولا يستطيع الإنسان مراعاة شروط الصلاة فيمكنه تركها، كلا، بل إن أداء الصلاة مقدم على شروطها، فإذا لم يتيسر لأحد ثياب نظيفة فيمكن أن يصلي فيما تيسر من ثوب، وخاصة أن عليه ألا يترك الصلاة بناء على الوهم، فهو تصرف غير معقول، كما تفعل عندنا بعض النساء، فهنّ يتركن الصلاة بحجة أن ثيابهن ربما ليست طاهرة بسبب بول الطفل. وكثير من المسافرين يتركون الصلاة بحجة أن طهارتهم لا تكون كاملة في السفر. إنها كلها وساوس شيطانية. والله يصرح بقوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا (البقرة:287). مادام المرء يستطيع الوفاء بشروط الصلاة، فترك هذه الشروط وعدم مراعاتها إثم، ولكنه إذا لم تتوفر له هذه الشروط فلا يصح له أن يترك الصلاة بحجة عدم توفرها، فإنه لن يُعتبر معذورا في هذه الحالة، بل يعتبر تاركا للصلاة. فعلى المؤمنين أن يأخذوا الحذر بهذا الشأن خاصة.

3: ومن معاني إقامة الصلاة إقامتها من الانهيار، بمعنى أنهم يسعون دوما أن تكون صلاتهم صحيحة مستوفيةً شروطَها. وقد أُشير بذلك إلى المشاكل والعقبات التي يواجهها المبتدئ عموما والعارف بالله أحيانا، حيث تهاجمه الأفكار المختلفة وتحول دون تركيزه في الصلاة بسبب بعض العوامل الخارجية والداخلية. إن من طبيعة الإنسان أن أفكاره تتشعب وتتشتّت عموما، وتتولد فكرة من فكرة وتهيم به بعيدا إلا في بعض الحالات الخاصة التي ترتكز فيه أفكاره بشكل كامل، نتيجة صدمة أو حماس أو حب. إن ذهنه يتشتت مما يسمع من أصوات أو يرى من حركات الناس أو من رائحة كريهة أو طيبة أو صلابة المكان أو نعومته، وما إلى ذلك. وهذه المشاكل يواجهها المصلي أيضا، فإذا لم يتحكم في أفكاره فلا تزال تتشتت به هنا وهناك، فينسى بعض الأحيان موضوع الصلاة ويقع في دوامة أفكار أخرى. وإلى هذه الحالة نفسها قد أُشير في قوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة ، أي أنه إذا عانى البعض من ذلك فعليهم ألا يصابوا بالقلق، لأن الله فتح لكل إنسان طريق التقدم حسب مستواه من الإيمان.

فإذا كان أحد يعاني من تشتت الأفكار فلا يقنط ولا ييأس ولا يظن أنه لا فائدة من صلاته، ذلك لأن الله تعالى يتوقع من العباد ما يستطيعون من التضحية، فالذي تتشتت أفكاره في الصلاة إذا حاول باستمرار إقامة صلاته المنهارة بتشتت الأفكار مركزا في الصلاة فإن الله لن يضيع صلاته بل يتقبلها ويعتبر صاحبها الذي يسعى لإقامتها من المتقين.

4: ومن معاني قوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة أنهم يرغِّبون الآخرين فيها، لأن إقامة الأمر يعني ترويجه أيضا وترغيب الناس فيه. وعليه فقوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة يعني أن هؤلاء المتقين يؤدّون الصلاة، كما يحثّون الآخرين على أدائها، وينشِّطون الكسالى بترغيبهم فيها. والذين يوقظون الناس للتهجد في رمضان يندرجون في الذين يقيمون الصلاة أيضا.

5: وقبل الصلاة بالجماعة تردد كلمات الأذان بشيء من الزيادة دعوةً للإمام لأن يصلي بالناس، وهذه الكلمات تسمى إقامة. وعليه فمن معاني إقامة الصلاةِ الصلاةُ بالجماعة. وفي بلادنا يقولون: قامت الصلاة. وعليه فمن معاني قوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة أنهم يؤدونها ويجعلون الآخرين يصلّون.

لقد نسي المسلمون عموما ضرورة الصلاة جماعةً، وهو أحد الأسباب الكبرى لفرقتهم واختلافهم. لقد جعل الله تعالى في هذه العبادة بركات كثيرة فردية وقومية، ولكن المسلمين قد نسوها للأسف. إن القرآن الكريم حيثما أمر بالصلاة فقد أمر بالصلاة جماعةً، ولم يأمر بأداء الصلاة فقط، مما يبين أن الصلاة بالجماعة من أهم مبادئ الدين، بل الحق أن التدبر في آيات القرآن يكشف أن القرآن الكريم كلما أمر بالصلاة أمر بأدائها جماعةً، مما يدل أن الصلاة عند القرآن الكريم لا تُؤدى إلا جماعةً. إلا في حالة اضطرار، فمن لا يصلي جماعةً- من دون أي اضطرار؛ من مرض أو سفر أو نسيان أو عدم وجود مسلم آخر- فلا صلاة له، وإن صلى في بيته، بل يعتبر تاركا للصلاة.

حيثما أمر الله تعالى بالصلاة في القرآن الكريم قال وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ (البقرة:44)، ولم يقل صلّوا، مما يدل بوضوح أن الحكم الأساس هو أداء صلاة الفرض جماعة، ولا تجوز صلاة الفرد من دون جماعة إلا في عذر واضطرار، ومَثَلُه كمَثَل من لا يستطيع أن يصلي واقفا فيجوز له الصلاة جالسًا. وكما أن المرء يعتبر آثما حتما إذا صلى جالسا وهو قادر على أن يصلي قائما، كذلك من لم يصلِّ جماعةً مع أنه قادر على ذلك فهو آثم.

نجد في هذه الأيام كثيرا من الناس المقصرين في أداء الصلاة جماعة؛ إذ يتجاذبون أذيال الحديث حتى تفوتهم الصلاة، ثم يقولون متأسفين ها قد فاتتنا الصلاة جماعة! فعليهم أن يأخذوا الحذر لأن قليلا من الغفلة يحرم المرء الكثير من الثواب.

6: ومن معاني قوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة أنهم يؤدونها بنشاط، لأن الغفلة والكسل يشتتان الأفكار، فيُحرم المصلي من لبّ الصلاة. لذلك نهى رسول الله أن يقف الرجل مسترخي الرجلين أو مستندا لشيء (مسلم، كتاب الصلاة، باب كراهة الاختصار في الصلاة). أو أن يفترش ذراعيه في السجود افتراش الكلب (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الاعتدال في السجود). وأمر أن يركع مستقيم الظهر (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء فيمن لا يقيم صلبه). وأنْ يكون مستقيم الرِّجلين وهو قائم أو راكع، وأن يسجد على القدمين والركبتين واليدين والجبهة. (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في السجود على سبعة أعضاء). وأن يفرِّج في السجود بين بطنه وخاصرتيه. (النسائي، كتاب افتتاح الصلاة، باب صفة السجود). وإذا جلس للتشهد افترش رجله اليسرى ونصب رجله اليمنى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته. (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في كيف الجلوس في التشهد). ذلك لأن هذه الأمور كلها تبعث على التيقّظ وتدفع عن المصلي النوم والنعاس والغفلة والكسل، لذلك أمر الإسلام بالوضوء قبل الصلاة، لكي تتنشط أعصاب الرأس والجوارح ببلة الماء وبرده.

إن هذه المفاهيم التي بينتُها مستنبِطا من المعاني اللغوية لقوله تعالى وَيُقِيمُونَ الصَّلاة يؤيدها القرآن والحديث؛

1: فكان المفهوم الأول أنهم يواظبون على الصلاة ولا يتركونها أبدا، ويؤيده قوله تعالى عن المؤمنين الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (المعارج:24)

2: المفهوم الثاني هو أنهم يحسنون أداء الصلاة، ويؤيده قوله تعالى عن المؤمنين الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (المؤمنون:3)، أي أنهم يراعون كل الأحكام الظاهرة والباطنة لأداء الصلاة.

3: المفهوم الثالث أنهم يسعون لإصلاح صلاتهم وتكميلها، ويؤيده قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (المؤمنون:10)، أي يبذلون جهدهم لتكون صلاتهم أفضل وأكمل.

4: أنهم يحثّون الآخرين على الصلاة ترويجا لها، ويؤيده قوله تعالى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (طه:133)، أي عليك أن تحث أهلك على أداء الصلاة ولا تنسَ هذا الحكم بل اجعله لزاما عليك.

5: أنهم يؤدون الصلاة جماعةً، ويؤيده قوله تعالى

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ (النساء:103)،

أي إذا كنت مع المسلمين خلال الحرب وصليت بهم إماما فيجب ألا يشتركوا جميعا في الصلاة وراءك، بل يجب أن يصلي وراءك طائفة منهم، وليتقلدوا أسلحتهم. فقوله تعالى فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ (النساء:103) يدل بوضوح على الصلاة بهم جماعةً.

6: أنهم يؤدون الصلاة بنشاط وتيقظ، ويدل عليه قوله تعالى

فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (الماعون:5-6)،

أي أنهم يصلون ولكن لا يصلون بنشاط ورغبة تامة. ويشير إليه أيضا قوله تعالى وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى (التوبة:54) وأيضا قوله تعالى يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (الأعراف:32)، ومن معاني أخذ الزينة الوضوء والنشاط. وأيضا قوله تعالى

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون (النساء:44)،

أي: أيها المؤمنون إن كانت أفكاركم مشتتة فلا تقتربوا من الصلاة، بل صلوها عندما تدركون ما تقولون، لأن المرء لا يعرف ماذا يقول في حالة الكسل وتشتت الفكر، فيفسد صلاته، فلا تنفعه مطلقا.

ليس المراد من هذه الآية أن الإنسان إذا كان مشتت الفكر فعليه ألا يصلي، بل المراد أن عليه أن يقوم بما يزيل ما يعكر فكره وينشط عقله، وتحقيقا لهذا الهدف أمر الإسلام برفع الأذان قبل الصلاة بوقت حتى يسمعه المسلمون ويتركوا أعمالهم ويستعدوا للصلاة. كما أُمرنا بالوضوء قبل الصلاة وأداء السنن في المسجد أو البيت قبل الفرض، ثم الانهماك في ذكر الله تعالى في المسجد قبل أن يحضر الإمام. فكل هذه الأمور تزيل الكسل الظاهري والباطني، ذلك لأن تشتت الأفكار والكسل إنما سببه انشغال المرء بأمر آخر. ولكن الذي يترك عمله قبل الصلاة فإن أفكاره المشتتة بسبب عمله وتجارته أو مشاغل بيته سوف تتركّز بالتدريج وتتوجه إلى الصلاة. ثم إذا حضر المسجد وأدى السنن واشتغل بذكر الله تعالى انصرف فكره إلى العبادة والصلاة كليةً، وتيسرت له كل الأسباب الدافعة إلى التركيز في الصلاة. ودفعًا لتشتت الفكر نهى رسول الله أيضا أن يصلي المرء وهو يدافع الأخْبَثينِ؛ بل عليه أن يقضي حاجته أولاً ثم يصلي (أبو داود، كتاب الطهارة، بَاب أَيُصَلِّي الرَّجُلُ وَهُوَ حَاقِنٌ). كما أمر رسول الله إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ (البخاري، كتاب الأذان، باب إذا حضر الطعام وأُقيمت الصلاة). وفي ذلك إشارة إلى أنه إذا وُضع الطعام أمام الإنسان فسيظل يفكر فيه لو بدأ الصلاة، فعليه أن يأكل أولا ثم يصلي حتى يركز في الصلاة.

علما أن رسول الله قد ذكر هنا وجبة العَشاء خاصة: (1) لأن وجبة الغداء لا تتصادم مع وقت الظهر كثيرا كما تتصادم وجبة العشاء مع صلاة العشاء. (2) لأن رسول الله قد حثّ هنا على تناول العشاء قبل النوم بوقت كافٍ، حتى لا يصاب الإنسان بالسهر والأرق وسوء الهضم، لأن الإسلام يحث على النوم بعد صلاة العشاء فورا لكي يسهل أداء صلاة التهجد. أما إذا أخّر المرء في تناول العشاء بعد صلاة العشاء فلا يستطيع التهجد، كما أن صحته تتدهور من سوء الهضم.

لقد ذكرنا عند شرح الكلمات أن من معاني الصلاةِ الدعاءُ والرحمة والدين والشريعة والاستغفار والتعظيم والبركة وعبادة المسلمين. فالصلاة من الله الرحمةُ والبركةُ، ومن العباد الدعاءُ والدين والشريعة والاستغفار والتعظيم والعبادةُ عموما، أو العبادةُ الإسلامية المعروفة. والمراد من الصلاة على النبيّ الدعاء والبركة والتعظيم، أي أن المؤمن يسأل الله تعالى أن يرفع مدارج سيده محمد وإنزال البركات عليه وتعظيمه. وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى

إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (الأحزاب:57)،

أي أن الله ينزل بركاته على رسوله، وأن ملائكته يدعون له ويعظمونه، فأيها المؤمنون عليكم أن تدعوا له وتعظموه وتطيعوه في كل ما يأمركم به. أما الصلاة بمعنى الاستغفار فقد وردت في قوله تعالى

وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ (التوبة: 103)،

أي: أيها الرسول، إذا حصل تقصير من المؤمنين الصادقين فاستغفر لهم، لأن استغفارك يجلب السكينة لهم. وأما الصلاة بمعنى الدعاء فذلك في قوله تعالى

وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ (التوبة :99)،

أي أن من البدو من يؤمن بالله واليوم الآخر حقا ويعتبر ما ينفقه في سبيل الله سببا لقربه من الله ولدعاء الرسول له، فليعلم هؤلاء أن عملهم هذا سيؤدي إلى قرب الله تعالى حتما، وأن الله تعالى سيدخلهم في رحمته لحسن نيتهم بسبب أدعية الرسول لهم.

وعندما تُطلق كلمة الصلاة على العبادة فهي إضافةً إلى الإشارة إلى الصلاة الإسلامية المعروفة فهي تشير أيضا إلى أن الصلاة دعاء وتحقق لبّ الدين وغاية الشريعة، ويسأل فيها العبد ربه العفو عن خطاياه ويرجو رحمته وبركته، فقال الله تعالى

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (العنكبوت :46)،

أي اتلُ القرآن الكريم وأدِّ الصلاة، فلا شك أن الصلاة تمنع المرء من السيئات المتعلقة بشخصه والمعاصي التي تشقّ على المجتمع. لقد تبين من هذه الآية أن الصلاة ليست مجرد طقس، بل هي عبادة لا بد أن تكفل للإنسان كراهية السيئة، والطهارة الباطنة. لقد بين الله تعالى بوصف الصلاة بهذه الميزة بأن الذي لا يكره السيئة مع أدائه للصلاة فليعلم أنّ صلاته ناقصة حتما. وبقوله وَيُقِيمُونَ الصَّلاة (البقرة:4) بين الله تعالى أن المتقي لا يؤدي الصلاة كطقس، بل يسعى جاهدا أن تقوم صلاته، أي أن تكون سندا لروحانيته. وكما أن الأعمدة إذا ثبتت ورسخت في مكانها حملت السقف، كذلك إذا صارت الصلاة كاملة صارت سندًا لتقوى المتقي، فعلى المرء ألا يطمئنّ لمجرد أنه يصلّي، بل عليه أن يقيم صلاته لتكون سندًا تقوم عليه تقواه.

الصلاة الإسلامية:

لقد جاء الأمر بالصلاة هنا لأول مرة، لذلك أوجز هنا بيان كيفية الصلاة الإسلامية، لكي يطلع عليها من يقرأ هذا التفسير من غير المسلمين.

الوضوء أو التيمم فرض قبل أداء الصلاة، والوضوء هو الأصل، والتيمم يقوم مقامه. (المائدة: 7)

ويتم الوضوء بالماء، حيث يغسل المرء يديه أولا، ثم ينظف فمه بالمضمضة، ثم ينظف أنفه بالاستنثار، ثم يغسل وجهه، ثم يديه إلى المرفقين، ثم يمسح شعر رأسه إلى ثلثه أو ثلثيه بيدين مبللتين، ثم يمسح باطن أذنيه بسبابتيه المبلّلتين، ويمسح ظاهر أذنيه بإبهاميه المبلّلين. ثم يغسل قدميه إلى الكعبين. (البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثا، والنسائي، كتاب الوضوء، باب مسح الأذنين مع الرأس). وعند غسل الساعدين والقدمين يجب أن يبدأ باليمين أولا. (النسائي، كتاب الوضوء، باب بأي الرجلين يبدأ بالغسل). وغاية الوضوء صرف تيار الأفكار من الأعمال الأخرى إلى العبادة، كما أن هذا العمل يساعد على الطهارة الظاهرة، لأن الأعضاء التي تُغسل تتعرض للغبار عادةً، لكونها مكشوفة. إن غسل هذه الأعضاء أو تبليلها مفيد وضروري في تركيز الأفكار، لأن تشتت الأفكار راجع إلى حدّة أماكن الحواس الخمس، وأماكن الحواس الخمس هي الأذن والأنف والفم والوجه والجسم، فالمضمضة تبلل الفم وتولد فيه قوة التركيز. وتنظيف الأنف بالاستنشاق يبرده، وبغسل الوجه تبلل العيون، وبمسح باطن الأذنين بالأصابع وتمرير الإبهام على ظاهرهما يزيل تشتت قوة حسّ الأذن. أما لإزالة تشتت حسّ الجسم فتُغسل الأيدي والأرجل. والثابت بالتجارب الطبية أن غسل الأيدي والأقدام أو تبليلها يكفي لإزالة حرارة الحمى من الجسم كله. وإن حرارة الرأس تشتت أفكار الإنسان جدا، ولذلك أُمرنا بمسح الرأس الذي يبرده ويزيل حرارته ويساعد على تركيز الفكر.

لقد أثبت المتخصصون في علم الأعصاب بتجاربهم أنه يمكن تغيير مجرى تيار الأفكار بتبريد أنامل اليد والقدم؛ فقد أثبت علماء المسمرية (التنويم المغناطيسي) أنه لو وضعت أيدي المريض وأرجله في الماء فيمكن منع ضياع قوة دماغه الكهربائية التي لو استمرت بعد عملية التنويم لأصابت المريض بضعف وإرهاق شديدين. إذن، بغسل الأيدي والأرجل يمكن صرف الأفكار التي تجول في عقل الإنسان قَبل الصلاة وتوجيهها إلى العبادة وذكر الله.

إذن، فالأمر بالوضوء أمر حكيم جدا، وقد أكّدت التجربة وعلم الأعصاب نفع كل جزئية من الوضوء. وقد ورد الأمر بالوضوء في القرآن الكريم في الآية (7) من سورة المائدة.

وإذا لم يتيسر الماء، أو كان المرء مريضا، أو كان هناك خطر مرضه إذا توضأ، فيأمره الإسلام بالتيمم. (المائدة: 7، والنساء: 44). وطريقته أن يضرب يديه بالتراب أو بشيء نظيف عليه غبار ويمسح بهما وجهه وساعديه. (البخاري، كتاب التيمم، باب التيمم للوجه والكفين). ووراء هذا الحكم أيضا نفس الحِكَم، لأن التجربة أثبتت أن التراب النظيف والطاهر يقوم مقام الماء، ومن أجل هذه الحكمة نفسها كان النسّاك الهندوس قد بدأوا مسح أجسادهم بالرماد منذ زمان، ولكن فاتهم أن هذه أدنى طريقة للنظافة، ولا تصلح إلا إذا لم يتيسر الماء أو لم يمكن استعماله، وإلا فإن استعمال الماء هو الطريقة الفضلى. وحكم التيمم أيضا موجود في القرآن الكريم في الآية (44) من سورة النساء.

وهناك حكم إضافيّ للزوجين بعد الجماع، وهو أن يغتسلا قبل الصلاة، والحكمة في هذا أن هذا الفعل يؤثر على الجسم كله كما تدل عليه التجربة، ويولّد هيجانا في الطاقة الكهربائية في كل جزء من الجسم. ولا بد من تهدئة الجسم بإيقاف هذه الطاقة وتشتت الأفكار من أجل العبادة على وجهها وللاتصال بالله تعالى. وقد ورد هذا الحكم في الآية (44) من سورة النساء، ولكن كما أن التيمم يُجزِئ عن الوضوء في حالة المرض أو عدم تيسر الماء، كذلك يجزئ التيمم عن الغسل في هاتين الحالتين. فبعد قيام المسلم بالوضوء أو التيمم فهو مأمور إذا كان آمنًا وعلى الأرض أن يستقبل القبلة ويرفع يديه حتى شحمتي إذنيه موجهًا كفيّه نحو القبلة، ثم يكبِّر ناويًا أن يبدأ في عبادة الله تعالى، ثم ينهمك فيها متخليًا عن كل الأفكار الأخرى. ومن حِكَم رفع اليدين هكذا التركيزُ، كما أن هذه العملية تعبير طبيعي عن التخلي عن الأمور الأخرى، فكأن المسلم يعبر بهذه الحركة أنه قد توجّه إلى ربه منقطعا عن كل فكرة وعمل دنيوي. وقد أشار الشاعر “ميرزا غالب” في بيت شعر له إلى ما في حركة هذه اليد من مفهوم، حيث قال ما معناه: حبيبي يسلّم عليَّ لامسًا أذنيه، مشيرًا إليّ بأنني لا أعرفك.

فكأن المؤمن يريد أن يقول أنه قد تبتّل إلى مولاه وانقطع إليه معرضًا عن الدنيا وما فيها. كما أن هذا يبعث فيه النشاط والتيقظ.

وبعدها يضع المسلم يديه على صدره (ابن خزامة، رواية وائل بن حجر)، وكأنه يقف أمام الله تعالى في منتهى التعظيم، ثم يقول: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، النسائي، كتاب الافتتاح، باب نوع آخر من الذكر)، أي: إلهي، أنت بريء من كل ما لا يليق بك، ومتصف بكل ما يليق بك، واسمك جامع للبركات، وعزتك متعالية، ولا معبود سواك.

ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: إلهي أستعيذ بك من تأثير كل روح شريرة تُبعِدني عن عتبتك حتى لا أكون من الذين ينحرفون عنك.

ثم يقرأ الفاتحة (النسائي، كتاب الافتتاح، باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة)، ثم يقرأ سورةً من القرآن الكريم أو شيئا منه بقدر ثلاث آيات. ثم يكبّر ويركع بحيث يكون رأسه في الركوع في استواء مع ظهره، وتكون يداه على ركبتيه، ورجلاه مستقيمتين دون انحناء (النسائي، كتاب الافتتاح، باب الاعتدال في الركوع).

ثم يردد في الركوع ثلاث مرات أو أكثر وترًا: سبحان ربي العظيم، أي أن ربي العظيم بريء من كل عيب (الترمذي، أبواب الصلاة، باب التسبيح في الركوع).

ثم يقف قائلا: سمع الله لمن حمده، أي أن الله يستجيب لدعاء كل مَن يحمده بصدق القلب.

ثم يقف مستقيمًا مسبل اليدين ويدعو الله تعالى: “ربَّنا لك الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فيه” (النسائي).

ثم يكبّر ويسجد على الأرض على سبعة عظام وهي: الجبهة كلها، والكفّان وهما نحو القِبلة، والركبتان والقدمان وأصابعهما نحو القِبلة. (مسلم، كتاب الصلاة، باب أعضاء السجود). ويردد في السجود: “سبحان ربي الأعلى” ثلاث مرات أو أكثر وترًا. (الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود).

ثم يكبّر الله ويقعد بحيث يفرش قدمه اليسرى تحته، بينما ينصب قدمه اليمنى وأصابعُها نحو القبلة. وفي هذه القعدة يدعو الله تعالى: اللّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي (أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين). والمراد من “وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي”، أن اهدني إلى كل الحقائق واحمني من كل العيوب وارزقني من الحلال الطيب.

وقد ورد في بعض الروايات: “واجبُرْني”، وفي بعضها: “وارفعني”، ومعناه: ربِّ، نجِّني من كل النقائص واحمني من كل ضرر، واجعلني أتقدم وأرتقي باستمرار.

ثم يكبّر ويسجد مرة أخرى ويدعو كما فعل في السجدة الأولى، ثم يكبّر ويقف. وهكذا تكتمل الركعة الأولى.

ثم بعد ذلك يؤدي الركعة الثانية كالأولى بفارق أنه لا يبدأها بدعاء: “سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ… “، وإنما يبدأها بالفاتحة فقط.

وبعد الانتهاء من الركعة الثانية يجلس للتشهد جلسته ما بين سجدتي الركعة الأولى ويردد الكلمات التالية: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. السَّلامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (البخاري، الصلاة، التشهد)، أي أن كل كلمات التعظيم التي يمكن أن ينطق بها أحد، وكل العبادات التي يمكن أن يقوم بها الإنسان، وكل التضحيات المالية التي يمكن أن تقدَّم لأي ذات مقدسة، إنما هي حق الله وحده. وسلام الله عليك ورحمته وبركاته أيها النبي، وكذلك سلام الله علينا نحن المصلين وعلى عباد الله الصالحين الأولين والآخِرين أجمعين. وأشهد أن الله أحد، وأن محمدا عبده ورسوله.

ثم بعد ذلك يصلّي على النبي ، وقد وردت الصلاة على النبي بكلمات مختلفة، وإن أكثرها اختصارًا ما يلي: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب اتخذ الله إبراهيم خليلا)، أي: اللهم أنزلْ فضلك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى من ينتمي إليه كما أنزلتَها على إبراهيم وعلى من انتموا إليه.

ثم يردد بعض الأدعية المأثورة عن النبي منها: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ (أبو داود، كتاب الصلاة، باب الاستعاذة)، أي: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ مِن مصيبة تسبب لي الذعر، وَأَعُوذُ بِكَ مِن سيطرة الأحزان علي، ومن أن أفقد أسباب العيش، أو أفقد طاقاتي اللازمة لتحقيق أهدافي وحاجاتي، وأَعُوذُ بِكَ مِن ألا أستغلّ أسباب الرقيّ والكفاءات المتوفرة نتيجة إهمالي، وَأَعُوذُ بِكَ مِن الأمراض الخُلقية كالبخل والجبن، وَأَعُوذُ بِكَ من أن تتراكم عليّ الديون فلا أقدر على تسديدها فأذلّ وأخزى، وَأَعُوذُ بِكَ من أن يتسلط عليّ أناس يهضمون حقي ويعيقون تقدمي الذي قدّرته بفضلك لكل إنسان.

يردّد المصلّي في هذه الجلسة هذا الدعاء وما شابهه من الأدعية المأثورة عن النبي إضافةً إلى ما يراه ضروريا بحسب حاجاته. ثم يتوجه يمينًا، ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، ثم يسارًا ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، وهكذا تنتهي صلاته.

هذا إذا كانت الصلاة ركعتين، أما إذا كانت أكثرَ من ذلك، فعليه أن يكبّر ويقف بعد قراءة الشهادتين في جلسة التشهد. فإذا كانت الصلاة ثلاث ركعات فيجب أن يجلس في الركعة الثالثة جلسةَ التشهد ثانيةً ويخرج من الصلاة بالتسليم. وإذا كانت أربع ركعات، فعليه أن يجلس في الركعة الرابعة جلسة التشهد ثانيةً ويسلّم.

وفي الركعتين الثالثة والرابعة لا يُقرأ شيء من القرآن الكريم بعد سورة الفاتحة.

وهناك خمس صلوات هي فرضٌ على المسلمين يوميا، أُولاها: صلاة الفجر، ويبدأ وقتها بطلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيجب أداؤها قبل طلوع الشمس. وهي ركعتان.

ثم صلاة الظهر التي يبدأ وقتها بزوال الشمس، ويمتدّ إلى ثلاث ساعات إلا ربعًا تقريبا، وفي بلادنا (الهند) يمتدّ وقتها حتى ثلاث ساعات تقريبا في أيام الصيف. وهي أربع ركعات.

ثم يبدأ وقت الصلاة الثالثة، وهي العصر، ويمكن أداؤها حتى اصفرار الشمس. وهي أربع ركعات.

ثم صلاة المغرب ويبدأ موعدها بعد غروب الشمس حتى غياب الشفق. وهي ثلاث ركعات.

ثم صلاة العشاء، ويبدأ وقتها في بلادنا الهند بعد غروب الشمس بساعة ونصف تقريبا، ويستمر حتى منتصف الليل، ويرى البعض أنه ممتد إلى ما بعده أيضا. وهي أربع ركعات.

ويصلّي المرء صلاة الفرض بهذا العدد من الركعات إذا كان مقيمًا بين أهله أو حيث يقيم إقامة دائمة. أما إذا كان في سفر فيقصر الظهر والعصر والعشاء ويصليها ركعتين، أما الفجر والمغرب فلا قصر فيهما، بل هما ركعتان وثلاث في كل حال.

يظن البعض خطأً أن الصلاة في السفر صارت نصفًا، ولكن الصحيح عكس ذلك، فعن عائشة رضي الله عنها أنه لما فُرضت الصلاة كانت الظهر والعصر والعشاء ركعتين، فأُقرّتْ في السفر ركعتين، وزيدَ في الحضر فصارت أربع ركعات (الموطأ، كتاب قصر الصلاة في السفر).

وفي صلاة الفجر جماعةً يقرأ الإمام سورة الفاتحة جهرًا، ويرددها المقتدون دون الجهر بها، أما ما يقرأ سواها مما تيسر من القرآن الكريم فيستمعون له فقط صامتين. أما سائر كلمات الصلاة فيقرأها الإمام والمأموم دون جهر، غير أن الإمام يجهر بالتكبيرِ وبِـ “سمع الله لمن حمده” عند القيام من الركوع، وبالتسليمِ الأخير عند انتهاء الصلاة.

أما في صلاتي الظهر والعصر فلا يجهر الإمام ولا المقتدون بقراءة الفاتحة ولا ما يُقرأ بعدها من القرآن، وإنما يقرأون كل شيء في قلوبهم.

أما صلاة المغرب فيجهر الإمام بالقراءة في الركعتين الأُوليين، فيردد المقتدون الفاتحة وراءه دون جهر، وأما ما يقرأ بعدها من القرآن فيستمعون له صامتين. أما الركعة الثالثة فيقرأ فيها الإمام والمقتدون الفاتحة فقط، ودون جهر.

أما صلاة العشاء فيصلي الإمام والمقتدون ركعتيها الأُوليين كما يصلّونهما في المغرب، أما في الركعتين الثالثة والرابعة فيقرأ فيهما الإمام والمقتدون الفاتحة فيها فقط، ودون جهر.

في الصلوات كلها يجهر الإمام بالتكبيرات وبقوله “سمع الله لمن حمده” عند انتهاء الركوع، وبالتسليمِ الأخير عند نهاية الصلاة، وذلك لكي يأخذ معه المصلين وراءه.

وإضافةً إلى هذه الصلوات الخمس، التي هي فرض، هناك صلاة أخرى تسمى صلاة الوتر، وهي ثلاث ركعات كصلاة المغرب، والفارق بينهما أنه:

أولًا: صلاة المغرب لا يُقرأ في ركعتها الثالثة شيء من القرآن بعد الفاتحة، أما صلاة الوتر فتُقرأ في ركعتها الثالثة سورة قصيرة أو بضع آيات من القرآن بعد الفاتحة. (الترمذي: أبواب الوتر، باب ما جاء ما يقرأ في الوتر)

وثانيًا: يمكن تقسيم صلاة الوتر جزأين، أي يجوز أن يسلّم المصلي بعد التشهد في الركعة الثانية، ثم يصلي الركعة الثالثة وحدها، وذلك خلاف صلاة المغرب (النسائي: كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف الوتر بثلاث، وباب كيف الوتر بواحدة).

ويمكن أداء صلاة الوتر بعد صلاة العشاء أو بعد صلاة التهجد التي سنذكرها لاحقًا.

وإضافة إلى صلوات الفرض وصلاةِ الوتر، هناك سنن، أي صلوات قد داوم النبي على أدائها، ولكنه لم يفرضها على المسلمين غير أنه حثّهم عليها وأكّدها. وهي ركعتان قبل فريضة الفجر، وأربع قبل الظهر وأربع أو ركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان أو أربع بعد العشاء (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنّة، وباب ما جاء في الركعتين بعد الظهر). وبعد أداء هذه السنن تؤدى صلاة الوتر المذكورة أعلاه.

ثم هناك صلاة تسمى صلاة التهجد، التي يمكن أداؤها في أي وقت ما بين منتصف الليل وطلوع الفجر. ولكن كما هو ظاهر من معنى التهجد، فينبغي أداؤها بعد الاستيقاظ من النوم. ومع أنه إذا لم يستطع المرء النوم لسبب ما في ليلة وانتصف الليل، فيجوز له أن يصلي هذه الصلاة، ولكن نظرًا إلى اسم “التهجّد” الذي أطلقه القرآن على هذه الصلاة، ونظرًا لما هو ثابت من أسوة الرسول ، فمن الأفضل أن ينام المرء بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ ويؤدي هذه الصلاة. إن صلاة التهجد وثيقةُ الصلة بالترقيات الروحانية، وقد حثّ عليها القرآن الكريم بوجه خاص (المزّمِّل: 1-6).

ثم هناك سننٌ أخرى هي غير مؤكدة، أعني أن الرسول لم يحثّ ولم يؤكد عليها، غير أنه قد صلاها كلما استطاع. ومنها صلاة “الضحى”، وتؤدى بعد ارتفاع الشمس قدر رمح أو ضعفيه. كما أن هناك نوافل أخرى أيضًا.

لا تجوز الصلاة وقتَ طلوع الشمس وغروبها ولا عندما تكون في منتصف النهار، كما أن الصلاة غير محبذة حين اصفرار الشمس.

وأُمرنا أن نؤدّي الصلوات في مواقيتها المحدّدة، ولكن يجوز الجمع بين صلاتين لاضطرار مثل مطر أو سفر أو صعوبةِ اجتماع المصلّين مرة بعد أخرى، أو عملٍ ديني أو قومي مشترك لا يمكن تركه دون إنجازه.

ويرى البعض أنه عند الجمع يعفى المرء من أداء السنن الواقعة بين الصلاتين، ويرى الآخرون أنه يعفى من السنن كلها، وأرى أن الرأي الأخير هو الصواب.

وتُجمع الظهر مع العصر، أو المغربُ مع العشاء فقط، ولكن لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر، أو بين العصر والمغرب، أو بين العشاء والفجر، اللهم إلا في حالة خطر على الحياة، كأن يكون القوم في قتال، فلو بدأوا يصلّون تاركين القتال لقَتَلَهم العدو، أو أن تحلّ بهم كارثة طبيعية كأن يتهدم سد نهر أو قناة فيحاولوا سده أو ينشب حريق فيحاولوا إطفاءه، فهي كوارث تهلك الناس وتدمر المدن.

وكذلك يجوز لمن يغشى عليه جمعُ الصلوات التي لا تجمع عادةً، فمثلًا لو أغميَ عليه وقت العصر ولكنه أفاق وقت العشاء فيجوز له جمع العصر مع المغرب. ففي إحدى الحروب صلى النبي الظهر والعصر والمغرب والعشاء كلها بالليل (السيرة الحلبية، باب ذكر مغازيه ).

ومع ذلك مَن تعمّدَ ترْكَ الصلاة في موعدها فلا يجوز له أداؤها بعد ذلك، أعني أن مثل هذه الصلاة غير مقبولة عند الله تعالى، إنما السبيل لتلافيها التوبةُ والاستغفار.

غير أنه لو ترك المرء الصلاة ناسيًا أو فاتته الصلاة وهو نائم فيجوز له أن يؤديها حين يتذكر أو يستيقظ، شريطة ألا يصلي في وقت ممنوع فيه الصلاة، فمثلًا لو فاتته الصلاة وهو نائم وحين استيقظ والشمس تطلع، فعليه أن ينتظر طلوعها جيدًا ثم يصلّي.

ثم هناك صلاة الجمعة التي تؤدَّى يوم الجمعة مكان صلاة الظهر. ويبدأ الإمام صلاة الجمعة بخُطبة يبيّن فيها مسألة إسلامية مهمة أو يحث على ضرورة دينية أو قومية بحسب الظرف، ثم يصلي بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة خلاف صلاة الظهر.

ثم هناك صلاتان أُخريان هما صلاة عيد الفطر الذي يكون بعد انقضاء شهر رمضان في الأول من شوال، وصلاة عيد الأضحى الذي يكون في اليوم التالي للحج أي في العاشر من ذي الحجة، حيث يصلي الإمام بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة.

وتقام صلاة العيد في الجزء الأول من النهار. تقام صلاة عيد الفطر مؤخَّرةً قليلاً، أما صلاة عيد الأضحى فتقام باكرًا.

وهناك خطبة يلقيها الإمام في صلاة العيد، غير أنها تكون بعد أداء الركعتين، وذلك خلافًا لخطبة الجمعة التي تسبق الركعتين. وليس هناك نداء إقامة الصلاة قبل صلاة العيد.

وهناك صلاة هامّة أخرى هي صلاة الجنازة، وهي فرض كفاية، بمعنى أنه إذا مات مسلم وصلّى عليه بعض المسلمين كان في ذلك كفاية، ولكن إذا لم يصلِّ عليه أحد فيأثم كلُّ الذين علموا بوفاته ولم يصلّوا عليه. مما يعني أن صلاة الجنازة ليست مسؤولية فردية بل هي مسؤولية القوم كلهم.

وليس في صلاة الجنازة ركوع ولا سجود، بل يصلّيها الناس قائمين (البخاري، أبواب الجنائز، باب سنة الصلاة على الجنائز). ويصلّون الجنازة والميتُ موضوع أمامهم، وهذه هي الحكمة في خُلوّ هذه الصلاة من ركوع ولا سجود، إذ قد يظن البعض بأن هؤلاء يركعون ويسجدون للميت، بل قد تنتاب هذه الفكرة الخادعة بعض المصلين أنفسهم من ذوي الطبائع الضعيفة خاصة إذا كان الميت أحد كبار الصالحين. فمنعًا للشرك، قد أزيلَ الركوع والسجود من صلاة الجنازة.

وهذه الصلاة أربعة أجزاء: يقف الإمام والمصلون مستقبلي القبلة، ثم يرفع الإمام يديه مكبرًا بدون أذان ولا إقامة، ثم يضع يديه على صدره، ويقرأ هو ومن وراءه سورة الفاتحة دون جهر، وبعدها يكبّر الإمام التكبيرة الثانية ويصلي هو ومن وراءه على النبي بالصلاة الإبراهيمية دون جهر، ثم يكبر الإمام التكبيرة الثالثة ويدعو هو والمقتدون لمغفرة الميت -إذا كان بالغًا- ولكافة المسلمين عمومًا، ذكورًا وإناثًا صغارًا كبارًا، ولورثة الميت خصوصًا، أما إذا كان المتوفى غير بالغ فيدعون لأبويه بالصبر والسلوان ونِعْمِ البدل، وأن يكون سببًا لنزول الرحمة والمغفرة عليهم يوم القيامة، كما يدعون بما يشاءون بلغتهم بالإضافة إلى الأدعية المأثورة. وبعدها يكبر الإمام التكبيرة الأخيرة، وبعد هنيهة ينهي الصلاة بالتسليم يمينًا وشمالا.

وهناك أنواع أخرى للصلاة في الإسلام؛ منها صلاة الاستسقاء التي يصلّونها طلبًا للمطر عند الجفاف مخافة القحط والمجاعة، وصلاةُ كسوف الشمس وخسوف القمر، وصلاةُ الحاجة التي يصليها المرء طلبًا لكشف مصيبة أو شكرًا على زوالها. ولكنها صلوات يصلّيها المرء نادرًا، ولذا لا أكتب بشأنها المزيد، ومَن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب الفقه.

في كل الصلوات التي تقام جماعةً يجب أن يقوم الإمام أمام المصلين، فيقفون وراءه صفًّا صفًّا بحيث يسهل على الجميع السجودُ. وقد حثّ النبي على تسوية الصفوف خاصةً (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في إقامة الصفوف). وفي القرآن الكريم ما يُستدل به على الاهتمام بتسوية الصفوف.

يؤدي المرء كل جزئيات الصلاة واقفًا إلا السجود والقعود، أما المريض فيجوز له أن يصلي جالسا، وإن لم يستطع فبالإشارة مستلقيا.

وممنوع في الصلاة الالتفاتُ أو الكلام أو الاستماع لصوت خارج الصلاة وما إلى ذلك من أمور تخلّ بها (أبو داود، كتاب الصلاة، باب الالتفات في الصلاة، وباب النظر في الصلاة، وباب تشميت العاطس في الصلاة). وممنوع أيضا السعال أو الحركة من دون داعٍ. كل هذا ممنوع بدءًا من التكبيرة الأولى إلى التسليم.

أما الصلاة في حالة الخوف، أي حين يستحيل أداؤها باطمئنان، كأن يكون المرء في ساحة القتال والعدو يجهز للهجوم، أو يكون هناك خوف هجومه، فيمكن قصرُ الصلاة بِعدّة طرق. ومِن الطرق المسنونة أن تصلي طائفة من المسلمين ركعتين وراء الإمام، أو ركعةً إذا كان الخوف شديدا، بينما تقف طائفة أخرى مواجهة للعدو، وإذا صلّت الطائفة الأولى الركعتين أو الركعة، ينصرفون لمواجهة العدو، وتأتي الطائفة الأخرى ليصلّوا وراء الإمام. وإذا كان العدو في جهة القِبلة فكلتا الطائفتين تتوجه إليه (مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف).

ولصلاة الخوف أحد عشر شكلاً مختلفًا بحسب درجة الخوف، ولا حاجة لبيانها هنا. المهم أن صلاة الخوف جماعةً تختلف شكلاً باختلاف نوعية الخطر وفقًا لسنة النبي (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة إلى الراحلة). وقد ذكر القرآن صلاة الخوف في الآيتين 102-103 من سورة النساء.

وإذا كان الخوف شديدًا واضطر المرء لمواجهة العدو أو الانسحاب راكبًا أو ماشيا، فيجوز له الصلاة راكبًا أو ماشيا، كما يجوز له أن يصلي بسرعة. وقد ذُكر هذا في الآيتين السابقتين من سورة النساء أيضا.

ويصلي المسلم مستقبِلَ القِبلة، أي أنه يصلي ووجهُه ناحية الكعبة في مكة المكرمة، حيثما كان. وهكذا ينصبّ تركيز المسلمين في كل مكان في العالم إلى مركز واحد.

والمسلمون لا يتوجهون إلى الكعبة لعبادتها وتأليهها، بل قد بيّن القرآن الكريم سبب ذلك في سورة البقرة كما سنتناوله بالتفصيل لاحقًا، وهو أنه كان لا بد أن يؤمر المسلمون بالتوجه إلى جهة من الجهات في الصلاة جماعةً، ولو لم تُحدّد لهم هذه الجهة ولم يستطيعوا الصلاة صفا صفا في مكان لتوجّهوا إلى جهات مختلفة، فلم تعُدْ صلاتهم بالجماعة عبادةً في الحقيقة، فأمرهم الله تعالى أن يصلّوا مستقبِلي الكعبة التي أخبر الله تعالى أنها أوّل بيتٍ بُني للناس لعبادة الله (آل عمران: 97). وقد بُني هذا البيت قبل إبراهيم بزمن، ولكنه كان قد تهدَّم، فأمره الله تعالى أن يعيد بناءه من جديد بمساعدة ابنه إسماعيل (البخاري، كتاب بدء الخلق).

وكان إبراهيم قد ترك إسماعيل وهو طفل صغير مع أُمّه في مكة لعمران هذا المكان ولذكرِ الله تعالى (البخاري، كتاب بدء الخلق). وأخبره الله تعالى أن هذا المكان سيصبح مركزا للعابدين الصادقين كلهم (البقرة: 125، والحج: 26). وحيث إن الله تعالى قد حقق هذه النبوءة على يد الرسول (البقرة: 129، والجمعة: 3)، فقد جعلها الله مركزا لاجتماع المسلمين الظاهري، لكي يتذكروا ذلك الهدف -الذي حدّده الله تعالى منذ زمن إبراهيم- مِن وراء إنشاء جماعة المسلمين.

ومما يدلّ على أن الكعبة لم تُبنَ لتُعبَد وأنها ليست إلا سببا للاجتماع والوحدة أن المسلم إذا كان في سفينة أو على راحلة فيكفيه أن يبدأ الصلاة مستقبِلَ القبلة، ولا بأس لو تغيرت جهة السفينة والراحلة بعد ذلك (الترمذي، أبواب الصلاة، باب الصلاة على الراحلة، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب التطوع على الراحلة).

لا يُعفى المرء من الصلاة إذا لم يعرف جهة القِبلة، بل عليه أن يصلي حيثما توجّهَ (الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القِبلة في الغيم).

وإذا لم يستطع الوضوء ولا التيمم فعليه أن يصلي في هذه الحالة أيضًا ما دام قادرا على الصلاة. فمثلا لو كان يركب سفينة فغرقتْ، فقفز في البحر لابسًا سترة النجاة ولم يجد من ينقذه لوقت طويل، ولكنه لا يستطيع أن يتوضأ أو يتيمم، فيمكنه أن يصلي بالإشارة، وهذا يكفيه. أما الفقهاء الذين يرون أنه ما دام في الماء فهذا وضوءه، لأن جميع أعضائه قد غُسلت، فهو عندهم على وضوء، لذا عليه أن يصلي.

الحكمة في هيئات الصلاة

يبدو لأول وهلة أنّ هيئات الصلاة وحركاتها من قيام وركوع وسجود وقعود إنما هي طقوس فارغة. والحق أن في هذه الهيئات حِكمًا عظيمة لا بد منها لتكميل الصلاة، وهي لا تجعل الصلاة مجرد طقوس، إنما تكمل ما في الصلاة من روحانية. الواقع أن الإنسان قد خُلق بحيث إن الروح والجسم يتفاعلان، إذ نرى أنّه إذا تباكى جرت الدموع من عينه بعد قليل، واستولى عليه الهمّ، وإذا جلس الناس مع شخص حزين وضحكوا وأضحكوه خَفَّ حزنه. وعلى النقيض نرى أنّ ما في قلب المرء من همٍّ أو سرور يُرى أثره على وجهه وأعضائه الأخرى، حتى إن بعض الناس قد ابيضّ شعرهم في ليلة واحدة نتيجة صدمة شديدة. وطبقًا لهذا القانون الطبعي قد جعل الإسلام في العبادة بعض الهيئات والحركات الجسمانية لكي تتفاعل روحه مع هذه الحركات الظاهرة الدالة على الأدب والتعظيم وتُشحن بمشاعر مماثلة.

ونرى في العالم أشكالًا مختلفة للتعبير عن غاية الاحترام والتعظيم، فبعضهم يقفون أمام كبارهم رابطين أيديهم على صدورهم تعظيمًا لهم، وبعضهم يرون أن الوقوف سابلي الأيدي هو منتهى التعظيم، وبعضهم يعدّون الركوع أفضل أنواع التعظيم، وبعضهم يرون الخرور ساجدين ذروة التعظيم، وبعضهم يعتبرون الجلوس على الركب منتهى الأدب، ولذلك نجد هذه الهيئات المختلفة في عبادات شتى الأمم؛ فالفُرس كانوا يقفون مربوطي الأيدي أمام مَلِكِهم الذي اعتبروه مظهرًا لله ، كما كانوا يقفون مسبلي الأيدي في بعض الحالات. أما الأمم الغربية فتعدّ الجلوس على الركب غاية التذلل، وأما أهل الهند فيرون الركوع أفضل تعبير عن الأدب والتعظيم، كما أنهم يخرّون ساجدين أمام صلحائهم وأصنامهم. ولما كان الإسلام قد جاء للأمم كافة فجمع في عبادته كل هذه الأشكال والهيئات لكي تتولد في قلوب المسلمين من مختلف الأمم الخشيةُ المطلوبة في العبادة، ذلك لأن كل قوم منهم سوف يتأثرون في الصلاة من هيئتها الخاصة بهم لاعتيادهم إياها، كما أنهم يتأثرون أكثر في كل هيئة من هذه الهيئات بحسب كيفيتهم القلبية، لأن الملاحَظ أن الإنسان يتخذ هيئات جسمانية مختلفة بحسب حالته الباطنة المختلفة؛ فحينًا يركع من شدة الحب والتعظيم، وحينًا يجلس على الركبتين، وحينًا يقف قائما، وحينا يخرّ ساجدا. فالمصلي يجد في العبادة حماسًا أكثر ومتعة أكثر بحسب كل هيئة تنسجم مع حالة قلبه في مختلف مراحل الصلاة.

كما أن هذه الهيئات المختلفة تترك أثرا مختلفا في قلب الإنسان بالنظر إلى كيفياته الجسمانية علاوة على كيفياته الباطنة؛ فمثلا: المصاب بالزكام يعاني في السجود، ولا يجد خشوعًا كاملا وهو ساجد، ولكنه إذا وقف أو قعد وجد حماسًا شديدا للدعاء، لأن هيئة الوقوف أو القعود أكثر ملاءمة لحالته الصحية. أما الذي يشعر بضعف في رجليه مثلًا فيخشع في السجود أكثر.

باختصار، لما كان الإسلام قد اعتبر العبادة عملًا جَماعيا، وأراد جمع كافة الأمم وتوحيدها، فقد جمع في عبادته كل تلك الهيئات والحركات التي تعبّر بها شتى الأقوام عن حبها وتعظيمها، والتي تثير في ذوي الطبائع المختلفة في حالات مختلفة مشاعر الحب والاحترام، وإن الصلاة الإسلامية تبلغ من الشمول والكمال بحيث لا تباريها عبادةٌ في أي دين، ولذلك قد أمر الإسلام بالصلاة جماعةً، لأنه إذا صلّى أصحاب الطبائع المختلفة معًا في مكان واحد فلا بد أن تؤثّر حالةُ قلب الواحد على الآخر، ولا بد أن يشعر الضعيفُ منهم بتأثير قوة إيمان القويّ عليه.

ولما كان الإنسان يشعر برغبة عارمة للعبادة على انفراد، فحثّ الإسلام على أداء النوافل إضافةً إلى الفرائض، مثل صلاة التهجد، وهكذا قد شفى هذا الغليل الطبعي في الإنسان.

والخلاصة أن الصلاة الإسلامية جامعة لكل الطرق الموجودة عند مختلف الأقوام لخلْق الحماس والخشوع في القلب، وهو ضروري للعبادة، فجُمع في هذه الصلاة كلّ ما يعمل على إصلاح القلب وخلق الحماس الصادق للعبادة عند كل فرد وكل قوم. والهيئات الجسمانية التي اعتبرها الإسلام ضرورية للصلاة لا تقلّل من عظمتها، بل تساعد على كمالها وتدل على أفضليتها على عبادات الملل الأخرى.

وإضافةً إلى هذه الحركات الظاهرة فإن في الصلاة من المعاني الكثيرة السامية من تسبيح الله وتحميده وتعظيمه ما يليّن أشد القلوب قسوةً، وفيها من الأدعية ما يرفع بفكر الإنسان عاليا، ويسمو بأهدافه، ويثير فيه مشاعر الصلاح والتقوى، ويذكي فيه نار حب الله تعالى. وهذه المعاني السامية هي الجزء الروحاني من الصلاة، ولو قارنّا بين صلاة الإسلام وعبادات الملل الأخرى في هذا المجال لوجدنا أن بينهما ما بين الثريا والثرى. لقد جعل الإسلام عبادته خالية من كل الإثارات المادية الموجودة في العبادات الجماعية للملل الأخرى عمومًا من غناء وموسيقى وغيرهما، إذ يقف عباد الله المسلمون في عبادتهم بجِدّيّةٍ يعبّرون عن حبهم لربهم ويسألونه حبّه. ثم إن الإسلام لا يأمرهم بالصلاة مرةً في الأسبوع، كما هو حال الديانات الأخرى، بل يأمرهم بأدائها خمس مرات على الأقل يوميا، ومع ذلك تجد في هذا العصر الذي سادت فيه اللادينية أن المسلمين الذين يصلّون الخمس يوميا يفوق عددُهم عددَ أتباع الأديان الأخرى كلها الذين يصلّون مرة في الأسبوع، وهذا الأمر الواقع لدليل بيّن على ما في الصلاة من جاذبية روحانية.

في معابد الأمم الأخرى تُعزف الموسيقى، وتُغنّى الأغاني، وتُقدَّم للناس المقاعد والكراسي ليجلسوا عليها براحة خلال العبادة، ويُدعون مرةً واحدة كل أسبوع، ومع ذلك يتهربون من عبادتهم، أما الذين خاطبهم الله تعالى ويُقيمونَ الصَّلاةَ فيجتمعون يوميًّا في المساجد خمس مرات بشوق ولهفة للسجود على الأرض الصلبة، ويجدون في عبادتهم الخالية تمامًا من أية وسائل للإثارة المادية والراحة لذةً وسرورا تتضاءل أمامها نِعم الدنيا كلها. ومن ذا الذي يسعه القول بعد مشاهدة هذا الأمر الواقع بأن العبادة الإسلامية ليست إلا مجرد مجموعة طقوس جسمانية فارغة، وأنها تركز على الحركات البدنية أكثر من الروحانية. إن علم النفس والواقع والخبرة كلها تؤكد أن ظاهر العبادة الإسلامية إنما هو بمنـزلة القشر، أما لبُّها فهي تلك المضامين الرفيعة والمعارف السامية التي يرددها المصلي وتلك الأدعية العظيمة التي يقوم بها، وتلك الابتهالات الحارة التي يبتهل بها.

يعترض البعض: لماذا أمر الله تعالى العباد بالعبادة؟ هل هو بحاجة إلى عبادتهم؟ لا يفرح بالتعظيم والتكريم إلا الجهلاء، ويجب أن يكون الله تعالى أرفع من هذا.

والجواب أن العبادة لا تزيد من عظمة الله شيئا، وإنما غايتها خلْق اتصال بين الله والعبد بحيث يقتبس من نوره سبحانه وتعالى. ومن الحقائق التي لا يمكن إنكارها أن الفكر وحده لا يخلق في الإنسان تلك العاطفة الجياشة التي تجعله يتفانى في ذات البارئ تعالى، إنما تُخلق هذه العاطفة بالحب الكامل الذي لا يتولد إلا بانكشاف منن المحسن انكشافا تاما، والصلاة تحقّق هذا الهدف، لأن فيها ما يجلّي للعبد عظمة الله الحقيقية.

ولو قيل: من أراد حب الله تعالى فسوف يهيئ لنفسه الفرصة لذلك، فلا داعي لتعيين خمسة مواعيد لأداء الصلاة جماعةً؟

والجواب أن هذا الاعتراض يدل على قلة تدبر صاحبه، فإن مِن طبيعة المرء أنه يركن إلى الغفلة والكسل إذا لم يُذكَّر بهدفه من دون انقطاع، وقد أمر الله تعالى بأداء الصلاة جماعةً للوصول بالضعيف والقوي إلى هذا المقام السامي، حيث تتاح للضعفاء مع الأقوياء فرصة لتطهير قلوبهم واجتذاب تلك التأثيرات الروحانية الخفية الصادرة من قلوب أقوياء الإيمان مما يساعد على طهارة قلوبهم.

يقول البعض: لماذا نؤمر بأداء الصلاة خمس مرات يوميا، مع أن هذا العصر قد كثرتْ فيه المشاغل بحيث يتعذر التفرُّغ لخمس صلوات؟

والجواب: ما دام هدف الصلاة إذكاء حب الله تعالى في قلب العبد تسهيلًا له لأن يتصبغ بصبغة صفات الله تعالى، فالحاجة إلى الصلاة تزداد ولا تقلّ في الزمن الذي كثرت فيه المشاغل الدنيوية. الواضح أنه إذا قلّت الأسباب التي تشغل الإنسان عن غايته قلّت الحاجة إلى تذكيره بها، ولكن كلما كثرت الشواغل عن هدفه اشتدت الحاجة إلى تذكيره به. لو كانت الصلاة مجرد تعبير عن العقيدة والإيمان لكان هذا الاعتراض ذا وزن، ولكن ليس هدف الصلاة الإقرار بعبودية الله فقط، إنما هدفها تأهيل النفس البشرية لأن تخرج من الدنيا المادية وتحلّق عاليًا في سماء العالم الروحاني، وألا يظلّ عقله متخبطًا في الأهواء المادية، بل يسعى للتحلي بالأخلاق السامية، كما أشار الله إلى ذلك في قوله إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ (العنكبوت 46)، أي أن الصلاة ليست إقرار المرء بعبوديته لله تعالى فحسب، بل إنها تنقّي قلبه وتساعده على تجنّب المعاصي والمنكرات، فتجعله فردًا نافعا لبني جنسه ولملته وقومه؛ والعملُ الذي يحقق هذه الغايات السامية تشتد الحاجة إليه أكثر في زمن كثرة الشواغل عنه، ولا تقل. والحقّ أن أنواع الفتن التي تسود هذا العصر مِن فساد وأنانية وحروب وخروج أمم بعضها على بعض، إنما سببها تقصير الناس في العبادة الحقّة. ولو أنهم عبدوا الله تعالى بطريقة صحيحة لازدادوا إيثارًا وتضحيةً نتيجة اتصالهم بخالقهم المحسن بدلاً من البغض والكراهية.

Share via
تابعونا على الفايس بوك