مناظرة سيدنا إبراهيم والملك نمرود.. فبهِت الذي كفر
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (سورة البقرة: 259)

شرح الكلمات:

حاج– حاجّه: خاصمه (الأقرب)، كلما وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم جاءت بالمعنى السيء إلا في مكان واحد. ويقول اللغويون أنها لا تأتي بمعنى حسن. فمعناها: الاعوجاج في البحث؛ المجادلة؛ المكابرة.

الملك– الحكم؛ البلد (الأقرب).

يُحيي– الإحياء أن ينفخ الحياة في شيء أو يسره، أو يزوده بقوة النمو، أو يعمّر المكان (الأقرب).

يميت– الإماتة جعْل الشيء يموت، أو يحزنه، أو ينزع منه قوة النمو (الأقرب).

بهت– فُقع لونه؛ فزع؛ انغلق فمه ولم يستطع الجواب (الأقرب).

التفسير:

يقول المفسرون عن هذه الآية أنها تتحدث عن نقاش كان بين إبراهيم وبين الملك الكافر “نمرود” حول وجود الله تعالى. قال إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت؛ وقال الملك: أنا أيضاً أحيي وأميت؛ ودعا ببعض السجناء المحكوم عليهم بالإعدام.. فعفا عن بعضهم وأعدم البعض. وعندما رأى إبراهيم أن دليله الأول لم ينفع، فكر في دليل آخر.. قال: ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبُهت الذي كفر. وتغلب إبراهيم عليه (الدر المنثور).

ولكنني أرى أن هذا التفسير غير صحيح.. لأن الاثنين سكتا وبُهتا.. بُهت إبراهيم في المسألة الثانية.. ولذلك لا أرضى بهذا التأويل. وما دام الملك كذاباً وجريئاً لدرجة أنه يعتبر نفسه إلهاً.. فكان الممكن أن يرد على الحجة الثانية لإبراهيم قائلاً: أنا الذي آتي بالشمس من المشرق؛ فقل لإلهك أن يأت بها من المغرب. ولكنه لم يقل ذلك؛ ويحكي القرآن أنه بُهت وسكت. وهذا يدل بصراحة على أن المراد غير ما قاله المفسرون. وإلا فإن الناس لا يكفون عن البحث عند الجدال، وإنما يستمرون فيه حول أمور لا جدوى منها، حتى إنهم لا يزالون يجادلون إلى اليوم هل الإنسان موجود أم لا!! ولكن هذا الملك صمت، مما يعني أن هناك موضوعاً آخر سكت عنه، وقال: لو أجبتُ عنه لوقعتُ في مشكلة أخرى فلا بد لي من السكوت. وقد ذكرت الموسوعة اليهودية هذا البحث كما يلي:

مَثَلَ إبراهيم أمام ملك اسمه نمرود، فقال الملك له: ألا تعلم أني أنا الإله أحكم العالم، وأنا أحيي وأنا أميت؟ ولما كان الملك وقومه يعتبرون الشمس أكبر الآلهة، وكانوا يعتبرونها سيدهم، فقال له إبراهيم: لو كنت إلهاً وحاكماً على الكون فأت بالشمس من المغرب بدلاً من المشرق، وإذا كنت إلهاً وحاكماً على الكون فأخبرني ماذا في قلبي الآن، وماذا يكون مصيري بعد ذلك، فبُهت نمرود ولم يستطع الجواب. واستمر إبراهيم في كلامه، فقال: أنت ابن “كونس”، وستفنى كما فني أبوك. إنك لم تملك أن تُنجي أباك من الموت، ولا تملك نجاة نفسك من الموت (Jewish Encyc تحت كلمة إبراهيم).

كذلك ذُكر هذا الموضوع في التلمود. وهناك فرق بين بيان القرآن الكريم والتلمود. يذكر القرآن موضوع الإحياء والإماتة أولاً، ثم يذكر موضوع الشمس، ولكن التلمود يذكر أنه عندما مثل إبراهيم أمام الملك قال الملك: لماذا لا تعبد الأصنام؟ قال إبراهيم: لماذا أعبدُ ما تحرقه النار؟ فقال الملك: اعبد النار إذن. فقال: لماذا أعبد ما يخمده الماء؟ قال الملك: اعبد الماء. قال: الماء تأتي به السحب. قال: لماذا لا تعبد السحب؟ قال: الريح تحرك السحب وتذهب بها. فقال: لماذا لا تعبد الريح؟ قال: الإنسان يستطيع الاحتماء منها ولا يستطيع الريح التغلب عليه. قال الملك: إذن اعبدني، فأنا إله للناس. قال إبراهيم: أنت لا تملك شيئاً.

وما ورد في التلمود عن هذا الموضوع يشكل بنفسه دليلاً عن أن ذكر الحديث عن الشمس لم يدُر أولاً وإنما بعد ذكر الإحياء والإماتة. لأنه لو دخل في النقاش عن الشمس لم يستطع أن يمضي فيه، لأنهم كانوا يعتبرون الشمس أكبر الآلهة، والباعث الحقيقي الأول لكل نجاح وفشل، ورقي وانحطاط عندهم. فقد ورد أن “ميري داك” كان إلههم الأول، وكان يُعتبر شعاعاً من الشمس أو ضوءاً للنهار، وكانوا يعتبرونه باعثاً حقيقياً لرقي وانحطاط الناس (موسوعة نلسن Nelson، تحت كلمة بابلونيا).

ثم إن العقل يؤكد صحة ما قاله القرآن، أولاً: لأن البحث يستمر من الأدنى إلى الأعلى، فكان لا بد أن يكون النقاش أولاً عن الموت والحياة، ثم يتطرق إلى الشمس. وثانياً: إن سكوت نمرود يدل على أن الحديث عن الشمس كان في آخر الأمر. وثالثاً: إنما جيء بإبراهيم إلى نمرود في جريمة كسر الأصنام، ويبدو أن ادعاء نمرود بالألوهية جاء في معرض النقاش، وإلا يكون الكلام بدون ترابط. القرآن يقول أن النقاش كان يدور حول ربّه.. أي ربه الواحد الأحد، وأثناء النقاش قال الملك: سأقتلك وأدمرك لأني أنا الحاكم، فقال إبراهيم: إن الله تعالى هو الذي يملك الحياة والموت. قال: لا، أنا أملك الحياة والموت. فأسرع إبراهيم وأوقعه في ورطة بحسب عقيدته وقال: فالشمس- وهي أكبر الآلهة عندك – عبث إذن.  فبُهت الذي كفر. هناك بعض الفروق بين الأسماء المذكورة في هذا الحادث، ولكن تبين جلياً مما ورد في كتب اليهود – أن القرآن الكريم يشير إلى نفس الحادث، ويؤكد ذلك أيضاً قوله تعالى: (ألم ترَ)، فالله يشير بهذه الكلمة إلى حادث له وجود وأثر. إلا أن هناك تقديماً وتأخيراً في ذكر بعض الأحداث في البيان اليهودي كما هو المعتاد عندهم.

وقد جاء في التلمود أن هذا الحوار بين إبراهيم ونمرود كان قبل أن يقيم إبراهيم في كنعان. وأرى أن قول إبراهيم لنمرود (ربي الذي يحيي ويميت) لا يعني الموت والحياة في الظاهر، وإنما يعني النجاح والفشل، والعزة والذلة، والعمران والدمار. لقد وعده الله بأرض كنعان وبازدهار أولاده، لذلك قال إبراهيم (ربي الذي يحيي ويميت).. أي هو سبحانه متصف بصفتي الإحياء والإماتة.. يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويجعل النجاح لمن يشاء والفشل لمن يشاء، ويكتب الغلبة لمن يشاء ويلحق الهزيمة بمن يشاء. فقال الملك (أنا أحيي وأميت) أي في يدي هذا الخيار أيضاً، أعز من اشاء وأذل من أشاء. وكما ذكر سابقاً أنهم كانوا يعتبرون الشمس أكبر آلهتهم، وكان الملك نفسه يعبدها.. لذلك رد عليه إبراهيم بأن لله قانوناً يحكم الشمس، فيأتي بها من المشرق.. فإذا كنت تملك نفع الدنيا وضرها.. فها هي الشمس بازغة أمامك تسير نحو الغرب، فأرجعها من الغرب إلى الشرق، ليكون ذلك دليلاً على قدرتك على التصرف في أمور العالم وفي الشمس أيضاً. أي إذا كنت أنت الذي تملك زمام هذا العالم نفعاً وضراً، فماذا تفعل الشمس إذن؟ وإذا كانت الشمس تنفع وتضر الناس فدعواك بأنك تملك التصرف في العالم باطلة. وكما يذكر التاريخ فإن نمرود بُهت عندئذ ولم يُحِرْ جواباً. لأنه لو أجاب فإما أن يقول: إنني لا أملك النفع والضر، ولكن الشمس هي التي تملك ازدهار الناس وانحطاطهم. ولو قال ذلك لبطلت دعواه (أنا أحيي وأميت). وإما إن يقول: أنا الذي أتصرف في نفع الناس وضرهم لا الشمس.. فيثور قومه على هذا القول، لأنهم يعبدونها، وهو أيضاً كان يعبدها. ولهذا قال القرآن الكريم (فبُهت الذي كفر).

وبهذا الحادث دلل ربنا سبحانه على صدق قوله (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)، وبين كيف أنه عز وجل ينجي عباده من المشاكل، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم من الفشل إلى النجاح.

Share via
تابعونا على الفايس بوك