الثقافة والأدب في بلاد الشام والجزيرة العربية

الثقافة والأدب في بلاد الشام والجزيرة العربية

عيسى الحاج رحمون

حداء الشرق (1)

…عباقرة من شرقنا الحبيب سُطرتْ أسماؤهم على صفحة الخلود، فكانوا ممن إذا تكلَّموا صمتت البلاغة، وإذا كتبوا جفت الأقلام.

قد كان بتواصلي الروحي مع الجماعة الإسلامية الأحمدية أكبر الأثر في تنوير ظلمات نفيس وإثراء ذاكرتي بما هو نافع لي في أمور حياتي وعقيدتي إلى الدرحة التي وعقيدتي إلى الدرجة التي أيقظَت فيها مشاعري من سباتها، فرحتُ أكتب نظمًا ونثرًا، فكانت جلُّ كتاباتي تعبِّر عن حالة من الوجه والرُّحي والمحبَّة الصَّادقة. والآن أجد لزامًا عليَّ أن أكتب في أمور أخرى تهمُّ شريحة أوسع من إخوتي في الإنسانية والعقيدة. فالثقافة ركنٌ أساسي وعامل مُهم في بناء تهذيب نفوسنا البشريَّة، فلسوف أحاول وضع لبنة في هذا البناء وفاء منِّي للمثل التي تعلمتها من الأحمدية والتي من بديهيَّاتها محبَّة جميع خلق الله. ولعلَّكم تعرفون أنَّ البدويَّ في بلادي حين يقود راحلته على رمال الصَّحراء في هدأة الليل يكون أشدَ حاجة لإطلاق العنان لحنجرته في غناء حزين يتناغم مع صوت هذه الرّاحلة وهي تتهادى مثقلة بأحمالها، فيهدهد ظلمة ليله ويؤنس وحشة نفسه.ثم لعلَّك تسألني عن اسم هذا الغناء فأقول إنَّه الحداء. وأنا ذلك البدوي الآتي من الشرق لأنقل لحضراتكم في عَتمة هذه الغربة الفكريَّة والضياع الإنساني حداء من نوع خاص. وليكن مدادي وأوراقي بثابة تلك الراحة، فتتناغم معها أفكاري وصرير قلمي في لحنٍ خافت، مما يدفعني بأن ألزم نفسي بكتابة زاوية شهريَّة لأبناء لغة الضاد.. ولتكن تحت عنوان “حداء الشرق” على أن تتضمَّن سلسلة مواضيع ثقافيَّة وأدبيَّة وتاريخيَّة ونتاج الفكر العلمي التكنولوجي الإنساني. ولتكن محطَّتي الأولى حول الثقافة والأدب في بلاد الشام والجزيرة العربيَّة بالمفهوم الشامل.

لقد كان البشر قبل ظهور الأديان السماويَّة يستخدمون علوم الدُّنيا للدُّنيا، فلما جاءت الأديان المعروفة تغيَّر الشكل وبقيت العانية بالعلوم رهنًا باختلاف الأصقاع والدُّول والحاجات. أما الآداب فالَّذي كانت العرب تعرفه منها، هو ما يحسِّن الأخلاق ويدعو إلى المكارم، والَّذي نقله لنا التاريخ عن الأمم السابقة يقودنا لليقين بأنَّه كلَّما توغَّلت أمَّة في مضمار المدنيَّة، كلَّما كانت نظرتها إلى علوم الدِّين والدُّنيا نظرة واحدة وخصَّت منها بالشَّرف الرفيع ما تشتدُّ حاجتها إليه. فليس غريبًا إذًا أن نجد في شوارع وساحات ومتاحف الغرب من التماثيل الَّتي أُقيمت لرجال العلم أضعاف ما أقيم في كنائسهم وبيعهم من تماثيل لرجال الدين. وبذلك انتقلت أوربَّا إلى وضع اللبنات الأولى لبناء ثورتها الصِّناعيَّة. أما في صدر الإسلام فقد اقتصرت العلوم على ما هو ديني، ثمَّ تسرَّبت بعد ذلك علوم الدُّنيا فأقبل الناس عليها. في البدء كان الإقبال على علوم القرآن والسنَّة، ثمَّ تمت العناية بعلوم الفقه نظرًا لما اقتضته حالة الزَّمن وكذلك بسبب ما خالطا حياة النَّاس من مشاكل وخصومات ومعضلات ناجمة عن اتِّساع رقعة الدولة الإسلامية.

بعد ذلك أقبل النَّاس على علم الكلام حين صادفت فلسفة القدماء من يناصرها بل ويعشقها أحيانًا: تلك الفلسفة التي دفعت بالبعض إلى المناظرة في أمور فقهيَّة. ولما كثرت وشاعت بقيَّة العلوم الدنيويَّة في المدن العربيَّة في الوقت الذي لم تكن فيه التُّربة مهيَّأة بعد لنموِّها بدأت هذه العلوم بالضَّعف والإضمحلال في القرن العاشر للهجرة لتعود للتطوُّر من جديد في أواخر القرن الثالث عشر.

والعوامل التي ساهمت في اضمحلال العلوم الدنيويَّة في ديار الإسلام تعود أوَّل ما تعود لزهد الحكام والأمراء بها واشتغال العامَّة بالفتن والدسائس والقمة العيش.. وليس ببعيد عن ذلك أنَّ العلماء الذين انبروا لتعلُّم علوم الدِّين طمعًا بالمال والجاه أهملوا بقيَّة العلوم فضعفت بذلك علوم الدين والدُّنيا، بل لقد أقيم للعلم مأتمٌ يوم أصبح السلطان والقيادة بيد المخرِّقين والمعطِّلين والهوسين. وليس هذا فحسب بل إنَّ علوم الحكمة هُجرت ولم يشفع لها شرفها ومقاصدها النبيلة.

والذين يُولَعون بالعلم للعلم في عالمنا قلائل جدًا، فإن وُجِدوا فهم أهل نبوغٍ وعبقرية، وهم من ذهبوا بفضل الشهرة في الأرض حيث تشهد لهم أعمالهم بعد موتهم أحقابًا ودهورا. ومن هذا الفريق أنجبت الشام وجزيرة العرب قديمًا وحديثًا جماعةً يفتخر بهم حيث كانوا بمثابة الكتلة الصَّالحة التي أثَّرت إيجابًا في العلم والعلم المدنيَّة.

ورغم أنَّ من دوَّن لنا التاريخ من المتقدمين والمتأخرين كَثُرَ، فإنَّ هذا التاريخ أهمل أن ينقل لنا تراجم الكثير من القوم. رغم قلَّته كان مما يُدخِل البهجة والسُّرور على القلوب فقد عرفنا الكثير عن علمائنا مهندسين ونقَّاشين ومصوِّرين وموسيقيين وبنَّائين وغيرهم ممن خلَّدوا بأعمالهم مدينيَّة عصرهم.

ورغم أنَّ الشَّام في جميع أدوار تاريخها كانت ممرًا للفاتحين يطمع فيها جيرانها قبل البعيدين عنها لتوسطها بين برِّ آسيا وأفريقيا وأوروبا، فإنَّ القَدْرَ اليسير الذي عرفناه عن تاريخ رسوخ العلم فيها كان كافيًا ولا شك لإنشاء مدنيَّة صالحة وبخاصَّة إذا دعمها ما انهال عليها من علوم أهل العراق والجزيرة ومصر والأندلس وفارس.

ولا يفوتنا في هذا المضمار التَّطرُّق إلى أنَّ الغرب في قرونه الوسطى وقُبيلَ عهد النهضة الذي اشتد بإرهاق الأفكار الحرة وأقام ديوان التفتيش الديني لزهق الأنفس البشريَّة بالعشرات محاولة منه للقضاء على الفلسفة والتَّحديث أنجب من القوم من انبرى غير آبه بالتبعات لتناول ما بدأه سلفه من علوم ممن تعرَّضوا للهلاك بتهم الإلحاد والخروج عن مألوف القوم.

حدث ذلك في الوقت الذي رأينا فيه شرقنا العزيز أناسًا كان نصيبهم من الحياة ضرب كان نصيبهم من الحياة ضرب أعناقهم لا لشيء سوى نزعتهم إلى التجديد والإبداع، ومن سَلِمَ عنقه عاش في خمولٍ وتقية ورُعِبَ إلى الدَّرجة التي جاء زمن ليس ببعيدٍ عنَّا أصبح الناس فيه ينكرون البديهات في العلم ويحرِّمون ما أحلَّ الله، فغارت ينابيع العلم والمعرفة من أرضنا لتفيض في الغرب بما ينفع أهله ونحن نحترق حسرة وأسى.

وحين سقطت هيبة العلم في شرقنا الحبيب كان الغرب يبني بعلمه وبعبره  التي استفادها من تفاشلنا وتجاهلنا وانحطاطنا وضيعنا لمدنَّية أجدادنا حضارةً حديثةً مدهشةً. فلعلَّنا ندرك الآن أن العلم ابن بار للحرية وأنَّ الأدب ربيبٌ للتَّسامح. وقد عرفنا عن أجدادنا الذين عاشوا في هذه الدِّيار مثالًا صالحًا في هذا الباب رغم اختلاف العصور والمذاهب. وكان العرب في مختلف أدوارهم يمثِّلون أجمل صورة من هذا القبيل.

فإن كانت بيروت وأنطاكيه عاصمتي الحكمة والأدب والشَّرائع قبل الإسلام فقد امتازت بعدهما دمشق وحمص وحلب وطرابلس والمعرَّة بهذه الخصائص لأن العلم بضاعة ثمينة لا تزدهر ولا يُروَّج لها إلَّا في ظلِّ السَّلام وصلاح السُّلطان، وكذلك حال الأدب الذي هو منظوم الكلام ومنثوره خطبًا ورسائل. ولعلَّنا نذكر غيضًا من فيض من قليل القليل الذي وصل إلينا حين نشير إلى بعض من ساهموا بنتاجهم في إثراء حياتنا الأدبية والثقافية والفقهيَّة. فها هو عبد الحميد بن يحيى الذي وضع لنا أسس علم الكتابة المرسلة وذاك الخليفة الرَّاشد الخامس عمر بن عبد العزيز الذي كان يسطِّر الكتاب في الإدارة أو السِّياسة أو القضاء أو في أي أمر مهم من أمور الدولة فيما لا يزيد عن سطرين أو ثلاثة أسطر تتضمَّن آيات من البلاغة والفصاحة، حيث لا تكلُّف ولا إسهاب. وهناك آثارٌ خالدة من البلاغة التي سطَّرها ينا الحجَّاج بن يوسف الثقفي، وزياد ابن أبيه، وعبد الحميد الكاتب وعلى رأس هؤلاء وقبلهم جميعًا نقف بإجلال واحترام أمام بلاغة وفقه وأدب وعلم الخليفة الرَّاشد الربع حضرة علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه.

هذه السطور عُجالة مما نُقِلَ لنا ومما قرأناه عن عباقرة من شرقنا الحبيب سُطِّرت أسماؤهم على صفحة الخلود فكانوا ممن إذا تكلَّموا صمتت البلاغة، وإذا كتبوا جفَّت الأقلام.

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك