العلوم والآداب في ظل الدولة الإسلامية

العلوم والآداب في ظل الدولة الإسلامية

عيسى الحاج رحمون

قارئي العزيز: سبق وأن وعدتك بالإسهاب حول تاريخ العلوم لدى بني البشر، ثم اخترت الحديث عن تاريخ هذه العلوم في بلاد الشام والجزيرة العربية كمدخل لذلك على مدى الحلقتين السابقتين. كتبتُ بشكلٍ مبسط عن تاريخ هذه العلوم قبل الإسلام في كل من بلاد الشام والجزيرة العربية، ملزمًا نفسي بالسير معك، أيها القارئ الكريم، وفق أسسٍ واضحة ومنهجٍ زمني متسلسلٍ، وبذلك يسهل عليَّ الاستطراد فيما أود الإفاضة حوله والاختصار فيما يكفي التلميح لمعرفته.

والآن أودُّ التوقُّف معك أيها العزيز ولو للحظات قليلة كي أحدِّثك عن هذه العلوم والآداب في ظلِّ الدَّولة الإسلامية، فلعلَّ أول ما يتبادر إلى الذِّهن في هذا المقام هو موضوع الشريعة الجديدة (كتابًا سماويًّا وسنّةً مُتَّبَعة) تلك الشريعة التي وضعت للناس حينذاك قواعد وأسس حياتهم الدِّينية والدُّنيوية.

فأوَّل كلمة أُنزلتْ على محمد رسول الله هي … اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . والقراءة هي الحاجة العليا للبشريَّة وهي مقياس تقدُّم الأمم، تلك الأمم التي تُقدَّرُ قيمة الإنسان فيها بأهدافه وتقاس منزلته بأقرانه، ويُحكَمَ على ذوقه باختياره، وتقدَّر ثروته بما يملك من قلوب، وتُحسَبُ قوَّته بما يُحطِّمُ من هوى نفسه، ويُنظرُ إلى انتصاره بما يهزمه من الرذيلة، ويُعجَبُ بكثرته بمن يثبت معه حين الشدائد.

تلك الأخلاق والقيم والمبادئ التي تربى عليها المسلمون الأوائل في مدرسة محمد ، ومن ثم أرادوا أن ينقلوها لنا مسلكًا في الحياة ونبراسًا يُهتدى به، حيث لا ظَفَرَ مع البغي، ولا صحّةَ مع النهم، ولا ثناءَ مع الكِبْر، ولا صداقةَ مع الخداع، ولا شرفَ مع سوء الأدب، ولا سلامةَ مع الريبة، ولا راحةَ مع الحسد، ولا رياسةَ مع الغرور، ولا صوابَ مع ترك المشورة، ولا ثباتَ مُلكٍ مع التهاون وجهالة الأعوان.

لقد نهل المسلمون الأوائل من المدرسة المحمدية أخلاقًا ساميةً وشجاعة نادرةً وإيثارًا فريدًا وحبًّا للحق لا تشوبه شائبة. فكان القوم إذا أرادوا مناجاة خالقهم دعوه، وإذا أرادوا أن يناجيهم ربهم قرؤوا قرآنه.

بل لقد دعوا بسيرتهم وعملهم إلى حقٍّ لَهَجَ بذكره لسانهم ومقالتهم، ثم ارتفعوا فوق مطامع الدنيا بجناحي نسر لا بجناحي فراشة. فكانت لهم صولة حق استطاعت الانتصار على جاهلية كجهلِ الباطلِ الذي ساد مجتمعاتهم قرونًا وأحقابًا. وبهذه الأخلاق الفاضلة والصفات النبيلة والحميدة استطاع القوم أن يسودوا أنفسهم، فدانت لهم الدنيا طائعةً ليسودوها.

ولعلَّنا نذكر أول ما نذكر أن دستور المسلمين قديما وحديثًا وإلى يوم يبعثون هو القرآن الكريم. فكان لا بد من الحفاظ عليه في بطون الدفاتر والكتب كما هو محفوظ في صدور القوم. وأول من بدأ بجمع القرآن على عهد رسول الله وبأمر منه ، هو ابن سعد أُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وسعد بن عبيد، وأبو زيد ثابت، ومجمَّع بن جارية، وابن مسعود، وعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه. أما القرآن بشكله الحالي الذي وصل إلينا فالفضل في نقله وجمعه وتدوينه يعود أول ما يعود إلى زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله الذي أمره أبو بكر بمشورة من عمر أن يتتبع ويجمع القرآن من الرقاع واللخاف والعسب ومن صدور الرجال. وكانت مشورة عمر لخوفه من ضياع بعض القرآن لكثرة من قُتل من حُفّاظهِ يوم اليمامة. فأُودِعَت هذه الصُّحُف التي دُوِّن عليها القرآن عند أبي بكرٍ طيلة حياته، ثم حُفِظتْ عند عمر طيلة حياته، وهو من أرسل كلاًّ من معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء إلى بلاد الشّام ليعلّموا ويثقفوا أهلها بأمور دينهم. فكانت أول بعثة علمية حجازية تصل بلاد الشام. فلمّا توفٍّي عمر حُفِظَ المصحف عند بنته حفصة رضي الله عنها إلى أن تولى عثمان بن عفان  عنه خلافة المسلمين. فأمر في السنة الثلاثين الهجرية بنسخ المصحف الذي جُمع وكُتب في زمن أبي بكر الصديق وأمر بتوزيعه في الأمصار حارقا ما سواه من المصاحف التي بأيدي الناس. وممَّن تولى نسخ المصاحف العثمانية بأمرٍ من الخليفة كل من زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي حيث أُمروا بأن يكتبوا أي كلمة قد يختلفون عليها بلسان قريش لأن القرآن نزل بلسانهم.

فلما فتح العرب بلاد الشام ونقلوا إليها دينًا يُبعدُ عن الشركِ وعبادةِ الأصنام، كما نقلوا إليها بلاغةً وشعرًا وخطبًا كانت مغروسة ًفي طباعهم، وفِطرةً سليمةً جُبلتْ عليها نفوسهمْ. فاقتبس الفاتحون من بلاد الشام مَدَنيةً عامرةً تمثلوها وهضموها في أقصر مدة، وأَتوا بعدها بما هو جديد. ثمَّ قاموا بمثل ذلك في بغداد ومصر وفارس والأندلس، وأظهروا وهم في أوجِ قوَّتهم وعزِّهم من التسامح مع السكان ما دُهش لهُ المخالفون واستغربهُ الموافقون. فلا غروَ بعد ذلك إذا فتح هؤلاء القوم صدورهم لنهل العلوم بعد أن قال لهم ربهم:

هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ،

وبعد أن قال لهم رسولهم الكريم: “طلبُ العلم فريضة على كلِ مسلم ومسلمة”. و “تَعلَّموا العلم ولو في الصين”. وبذلك فُتحَ لهم الباب على مصراعيه لنهل العلوم بلسان أهلها، ولترجمة ما يمكن ترجمته إلى لغتهم.

فما أن حلَّ القرن الأول للهجرة حتى نبغ من شعراء الأمويين الكثير من أمثال جرير والفرزدق والأخطل الذي هابه لهجائه الملوك، وكرَّمه لمدحه الخلفاء، ممن غالى جُلُّهم في الحرص على إكرام الشعراء يستثنى من ذلك الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز ، وهو الذي أقصى الشعراء عن مجلسه بسبب ارتكابهم المطاعن والتشبيه فيما قالوه من شعرٍ، وليس هذا فحسب بل فضَّل عليهم علماء زمنه. وهو الذي كتب إلى واليه على حِمْص قائلا: انْظُرْ إلى القوم الذين نصّبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المساجد في طلب العلم، فأَعْطِ كلاًّ منهم مائة دينار من بيت مال المسلمين ليستعينوا بها على ما هم عليه.

لكن الشعراء عُدُّوا في ظلِّ الدولة الإسلامية اللسانَ الناطق باسم قبائلهم والسجل المدون لمفاخر هذه القبائل.

أما الفقهاء والمحدِّثون فقد نشأ منهم جملة صالحة كالصحابي عبد الرحمن بن غنم بن سعد الأشعري والصحابي فُضالة بن عُبيد الذي تولى لمعاوية قضاء دمشق ومنهم أبو الدرداء الخزرجي الزاهد الحكيم المقري الذي وُلِّيَ قضاء دمشق في خلافة عثمان.

وأوّل من أحدث رواية القرآن بالشام هشامُ بن اسماعيل، وفي فلسطين الوليد بن عبد الرحمن.

أما من العلماء فيُذكَر أبو ذرٍّ جندب بن جنادة الغفاري، والصحابي الشاعر أوس بن أوس.

وأول من دوَّن التاريخ بالشام عبيد ابن شرية الجرهمي الذي كان عارفًا بأحاديث العرب وأيامها. ومن العلماء فقيه الشام وقاضيها أبو إدريس الخولاني، والفقيه المحدث عمرو البكالي، وعالم بني مروان بشير بن الوليد الأموي. كما يذكر من العلماء باهليُّ دمشق المدعو محظور أبو سلامة الحبشي، والمحدث شهر بن حوشب  الأشعري، وبلال بن أبي الدرداء الأنصاري، وزاهد الفيحاء وشيخها أبو مسلم الخولاني، ومالك بن دينار، وحُجةُ الله على أهل الشام غيلان بن مروان الدمشقي، ومؤدب الملوك اسماعيل بن عبد الله بن أبي مهاجر.

أما من  الكُتّابِ فنشأ في دمشق عبد الله بن أوس الغساني وأسود بن قيس الحميري. وفي الفلسفة والحساب والفلك اللاهوت نبغ أسقف قِنسريِّن اليعقوبي المدعو ساويرا سابوخت، مثلما نبغ في زمنه يعقوب الرُّهاوي.

وفي الكيمياء نذكر غاليميكوس البعلبكي ذلك المهندس الذي اخترع النار اليونانية المركبة من النفط والكبريت والقطران. كذلك فأَبوه قُرَّه أوَّل كاتبٍ ديني نصراني كتب بالعربية. وفي مؤلفات اللاهوت نذكر القديس يوحنا الدمشقي، وفي مجال الترجمة والنقل والتدوين خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي الملقب حكيم آل مروان.. ذلك النابغة الذي زهد في خلافةٍ أقامها جدُّه معاوية استمرت ألف شهر، لينشئ بعلمه مملكة باقية بقاء الدهر، وله يعود الفضل بإحضار من قام بنقل كتب الصنعة في الكيمياء من اليونانية والقبطية إلى العربية، في الوقت الذي تُرجِمَ له فيه الكثير من كتب الطب والنجوم. فمن آثاره الكتب والرسائل العديدة التي تدلُّ على علمه وبراعته في هذه العلوم. ليس هذا فحسب بل إنه شاعرٌ مجيد وأديبٌ بارع من مؤلَّفاته “كتاب الحرارات” وكتابا “الصحيفة الكبير” و”الصحيفة الصغير”، وكتابٌ آخر يحمل وصيته إلى ابنه في علم الصنعة.

لقد ترك خالد بن يزيد لأمته شرفًا لا يمكن أن يبلى على مرِّ الأيام والفضل في ذلك يعود لعلمه وأدبه ونجابته. ولعلَّنا نذكر في هذا المقام أنَّه أُنشئ في دمشق أول دار كتبٍ في العالم العربي. كما أنَّ دمشق أول عاصمة أُشيد فيها دار ترجمة. وفيها أُقيمت أوَّل دولة عربية متمدنة، كما كان فيها أول سوق لبيع صناعة العلم والأدب.

ولعل البعض يتساءل قائلا: وأين فخر العرب في هذا لأنهم حين جاءوا إلى هذه البلاد وجدوا أمامهم مدنيَّة يونانية راسخة في جميع الأقطار التي داهموها مثل الشام ومصر والعراق، فاقتربوا بذلك من المملكة البيزنطية التي بدا لهم من وراء مدنيتها نبوغ اليونان، كما تجلى لهم من الفرس مدنيات قديمة ضاربة في أعماق الهند والصين على النحو الذي وجدوه في بلاد كنعان ومصر متمثِّلاً بتذكارات وأوابد لأمم قديمة لا تزال عليها مسحة الأجيال العريقة في القدم.

فلمّا بلغت الدولة العربية غاية عزِّها أصبح دينها ولسانها وقوانينها المعمول بها واحدة في الأرض الممتدة من ا لسند شرقًا إلى أعمدة هرقل غربا، مما وحَّد هذه الشعوب ذات الديار المختلفة. فأخذوا يقتبسون بعضهم عن بعض من خلال تبادل التجارة وسياحة الأفراد وتنقل الجيوش والأمم، وانتشار المعتقدات والأخلاق والأفكار إلى الدرجة التي راحت فيها هذه الحضارات تتصادم وتتمازج وتتَّحد وتتداخل في وقتٍ راح فيه كل شعب ينقل للآخر عاداته وتقاليده وتاريخه وملكاته. فالمدنية التي ينسبها العرب لأنفسهم هي نتاج عمل هذا العدد الكثير من المؤازرين المختلفين وليست هي عربيَّة صرفة بل هي بحسب النماذج التي تشبعت بروحها وبحسب المحيط الذي ترعرعت وكبرت فيه. فهي حضارة يونانية وفارسية وشامية ومصرية وإسبانية وهندية.

حينئذٍ أقول لهذا البعض بأنه إذا وجب أن يُذكَرَ لكلٍّ قسطٌ من هذه الحضارة فإنه لا يسع المنصف إلا أن يقر بأن قسط العرب من هذه الحضارة أعظم من قسط غيرهم، كونهم ليسوا واسطة لنقل هذه المدنية فحسب، بل إنَّهم عملوا على نقل معارف الشرقين الأقصى والأدنى وعلومهما واختراعاتهما إلى الشعوب الجاهلة حينذاك في كل من أفريقيا واسبانيا وأوروبا، وحسَّنوا استخدام تلك المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذه المواد المختلفة التي صبت في بوتقة واحدة فتمازجت تمازجًا متجانسا أبدعوا مدنية حيةً مطبوعةً بطابع قرائحهم وعقولهم، وبفضلهم تيسَّرَ للحضارة الإسلامية في القرون الوسطى أن تكون ذات وحدة موصوفة. فالتقليد في تلك الحضارة محسوس ولكنه تقليد غير أعمى. وسلطة الأساتذة الأقدمين لم تكن لتحول دون الأبحاث العلمية والاختراعات التي تلتها بقديمها وحديثها. في ذلك الشرق فقط نشأت هذه المدنية وكانت دمشق إحدى مراكزها ومنبعث أنوارها.

(يُتبع)

Share via
تابعونا على الفايس بوك